في الحلقة الأخيرة من كتاب "عشت في زمن عرفات .. أحمد عبدالرحمن يتساءل : هل أضاع أبو عمار فرصة السلام؟

في الحلقة الأخيرة من كتاب "عشت في زمن عرفات .. أحمد عبدالرحمن يتساءل : هل أضاع أبو عمار فرصة السلام؟
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

في الفصل الأخير يتناول أحمد عبد الرحمن تفاصيل ما بعد فشل كامب ديفيد , وحقيقة ضياع فرصة السلام النهائي من يد ياسر عرفات ..

في النهاية .. توجّه في دنيا الوطن الشكر الجزيل للسيد أحمد عبدالرحمن الذي خصّ دنيا الوطن بكتابه الذي عاش معه القاريء ذكريات من الزمن الجميل خطتها ذاكرة أحمد عبد الرحمن ..


الفصل الثامن والعشرون:

هل أضاع أبو عمار فرصة السلام؟ 


يوم وقف أبو عمار على منصة عصبة الأمم في جنيف في 13  كانون أول 1988 ليعلن أمام العالم اعترافه بحق إسرائيل في الوجود، ويدين العنف والإرهاب، ويقرر اعتماد الوسائل السلمية والمفاوضات لإيجاد حل للصراع مع إسرائيل على أساس قرارات الشرعية الدولية وخاصة قراري مجلس الأمن 242 و 338، في تلك اللحظة التاريخية، وضع أبو عمار الأسرة الدولية أمام مسؤولياتها للاعتراف بدولة فلسطين، التي نص على قيامها قرار التقسيم (181) الصادر في 29 تشرين الثاني 1947، والذي قسم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. وفي ذلك الوقت حظيت إسرائيل بالاعتراف الدولي، وأما فلسطين فقد سقطت من التاريخ ومن الجغرافيا في رمال الشرق الأوسط.  وحتى لا تبدو مطالبة مستحيلة التحقيق أعلن أبو عمار أنه يريد قيام دولة فلسطينية في حدود عام 67 وليس حدود عام 47.  والمطلوب لإقامة هذه الدولة الصغيرة، وعلى مساحة لا تتعدى 22% من فلسطين التاريخية - وليس 44% كما نص قرار التقسيم- أن تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن الدولي بالانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة في عام 1967 وحل قضية اللاجئين وفق القرار 194 الخاص بحق العودة. وكان أبو عمار قد أعلن بنفسه وقبل شهر واحد في 15تشرين الثاني 1988 قيام دولة فلسطين أمام المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. وفي الحقيقة، أن ما أعلنه أبو عمار في جنيف هو النص الحرفي للشروط الأميركية من أجل بدء الحوار بين المنظمة وأميركا.  وهذه الشروط تتعلق بإسرائيل فقط ولا علاقة لها بأميركا. وكان هنري كيسنجر قد وضع هذه الشروط التي التزمت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة من إدارة ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر وحتى إدارة رونالد ريغن.  وقد فرضت هزيمة حزيران، وقرارات قمة الخرطوم بموافقة عبد الناصر لإزالة آثار العدوان واستعادة الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، على أبو عمار، الذي يقود الثورة والمنظمة، أن يقوم بمراجعة للبرنامج السياسي للمنظمة الذي نص عليه ميثاقها الوطني، بعد أن أجبرت هزيمة حزيران النظام العربي على التخلي عن شعار تحرير فلسطين إلى شعار إزالة أثار العدوان واستعادة الأراضي المحتلة عام 1967.

وبدأت عملية المراجعة السياسية بعيدا عن " تابو" الميثاق الوطني والمبادئ والأهداف بإصدار "فتح" فكرة الدولة الديمقراطية من باريس عام 1969، حيث يعيش أتباع الديانات السماوية الثلاث في دولة ديمقراطية علمانية واحدة.  وحمل هذا الإعلان ضمنيا أول اعتراف فلسطيني بوجود اليهود في فلسطين. ورفضت إسرائيل هذا الإعلان لأنه يقضي على حق اليهود بإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين، كما نص على ذلك  وعد بلفور الذي تعهدت بريطانيا فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد تضمن صك الانتداب هذا الوعد الذي أصبح حقيقة مادية وسياسية بصدور قرار التقسيم 181 في 29 تشرين الثاني 1947. وبالطبع، كان أبو عمار وراء إعلان باريس. ورغم رفضه من إسرائيل إلا أنه أثار الكثير من الاهتمام الدولي، وأسقط حملة الدعاية الصهيونية حول فرية إلقاء اليهود في البحر، التي ألصقوها برئيس المنظمة الأول أحمد الشقيري. وبعد الرفض الإسرائيلي لإعلان الدولة أصدر فاروق القدومي وثيقة سياسية بعنوان "إقامة السلطة السياسية في الضفة والقطاع " إلا أن هذه الوثيقة بقيت في أوساط القيادة ولم يجر تداولها، حيث كان الحديث بعد هزيمة حزيران عن قيام سلطة أو دولة فلسطينية في الضفة والقطاع يعادل الخيانة العظمى. إلا أن إعلان فكرة الدولة الديمقراطية من باريس، وصدور هذه الوثيقة السياسية عن "فتح" عام 1969 كان يتم بعلم أبو عمار ودعمه. وهذه الوثائق كانت تبدو وكأنها مبادرات شخصية ولا أحد يجرؤ على تقديمها للرأي العام الفلسطيني، بحيث تصل إلى قواعد الثورة وجماهير المخيمات التي كان من المستحيل الاقتراب منها بغير شعارات الكفاح المسلح والتحرير الكامل والقضاء على إسرائيل، وفي ضوء الغطرسة الإسرائيلية التي أعقبت عدوان حزيران، ما كان ممكنا أن يكون هناك أي تداول لأفكار مثل الدولة الديمقراطية ( العلمانية ) أو إقامة السلطة السياسية في الضفة والقطاع.

 الإسرائيليون جامحون في مواقفهم وتصريحاتهم. وأذكر تصريح دايان الذي قال فيه: إن حدود إسرائيل مع مصر هي قناة السويس، ومع الأردن حدودها نهر الأردن. وكان القرار الأول لحكومة إسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية ضم القدس الشرقية تحت ادعاء أنهم وحدوا مدينتهم "أورشليم "التي كانت في يد الأغيار "على مدى ألفي سنة، وهي عاصمة داود وسليمان وفيها جبل صهيون وهيكل سليمان.  ورغم غطرسته، فإن موشيه دايان كان من أزال علم إسرائيل عن المسجد الأقصى، بعد ساعات من رفعه بعد أن هددت تركيا بقطع علاقاتها بإسرائيل وأعاد دايان المسؤولية والإشراف على هذه الأماكن المقدسة للأوقاف الإسلامية.  إلا أن القوة الفائضة لدى إسرائيل دفعتها إلى الغطرسة المطلقة بعد حرب خاطفة خلال ستة أيام ضاعفت مساحة إسرائيل ثلاث مرات.

وكذلك كان دور الصعود الهائل للثورة الفلسطينية بعد هزيمة الأنظمة في حزيران، جعل من المستحيل أن يكون هناك صوت للعقل. وقد صدرت أصوات في إسرائيل وفي فلسطين تدعو إلى الحل السياسي الواقعي والعملي منذ البداية.  كان هناك (اريه الياف ) في إسرائيل والمحامي ( عزيز شحادة) في فلسطين. إلا أن هذه الأصوات سرعان ما اختفت أمام احتدام الصراع وحرب الاستنزاف على قناة السويس، واشتداد ساعد الثورة الفلسطينية برعاية جمال عبد الناصر.  وعلى جبهة ممتدة من جنوب لبنان وحتى وادي عربة في الأردن كانت قواعد الثورة تنفذ العمليات الفدائية سواء في العمق أو على خطوط المواجهة.  إلا أن الواقع السياسي في دول الطوق الأردن وسوريا ولبنان يختلف عن الوضع في مصر. فهذه الدول أخذت تضيق الخناق على الثورة، خوفا على أنظمتها وسلطتها أمام انتشار سريع لقواعد الثورة في هذه الدول، وخوفا كذلك من عمليات الانتقام الإسرائيلية ردا على العمليات الفدائية.

صمدت مصر بقيادة عبد الناصر في "حرب الاستنزاف" رغم الضربات الإسرائيلية في العمق المصري. وهذا ما عجزت عنه دول الطوق في المشرق، أو فيما كان يسمى الجبهة الشرقية. ومع وفاة عبد الناصر المفاجئة في أيلول 1970، بدأت الثورة الفلسطينية رحلة التراجع والانحسار.  فخسرت قاعدتها الرئيسة في الأردن واستعاد النظام سيطرته وموقعه، ومنع حافظ الأسد العمل الفدائي بعد سيطرته على الحكم في سوريا.  ولم يبق للثورة غير ثلوج جبل الشيخ وقاعدة العرقوب التي أطلقت عليها إسرائيل تسمية "فتح لاند".  وتبادل نظام حافظ الأسد وإسرائيل الأدوار طول 12 عاما حتى تمكنا أخيرا من تقاسم النفوذ في لبنان، وطرد هذا اللاعب الدخيل وأعني به الثورة الفلسطينية.  وقد بدأ تدخل نظام حافظ الأسد وإسرائيل بعد فشل القضاء على الثورة بواسطة القوى المحلية اللبنانية، حيث بدأ نظام الأسد تدخله في حزيران 1976 وسيطر على كل المناطق، وحاصر بيروت الغربية حيث قيادة الثورة.  وفي نيسان 1978 تدخلت إسرائيل واحتلت جنوب لبنان في تقاسم صارخ للنفوذ بين إسرائيل ونظام الأسد.  

وفي عام 1982 جاء دور إسرائيل لإخراج الثورة من لبنان كليا بعد حصار الثورة في بيروت الغربية مدة 88 يوما. وفي عام 1983 جاء دور نظام حافظ الأسد لإخراج الثورة من مناطق نفوذه، وهذه المرة جرى التدخل تحت يافطة انشقاق ضباط من حركة "فتح" ضد القيادة الشرعية بذريعة التمسك بالثوابت الوطنية.  ووقعت معركة طرابلس والشمال من أيار وحتى تشرين الثاني 1983، وانتهت بإخراج أبو عمار وقواته من كل شمال لبنان. وخلال هذه السنوات العجاف لم تكن البوصلة السياسية لتغيب عن عقل أبو عمار.  فهو من جهة يخوض معركة بقاء الثورة والمنظمة حتى يكون لقضيته العادلة صوت مسموع في العالم. ومن جهة أخرى عليه أن يبدد الاتهامات الباطلة بأن منظمة التحرير هي منظمة إرهابية ولا مكان لها في الشرق الأوسط.

في ظل هذه المعادلة عرف أبو عمار كيف يحقق التوازن المطلوب بين الوجود الفاعل والمؤثر في الأحداث، وبين تقديم رؤية سياسية تفتح الأبواب الدولية المغلقة أمام القضية الفلسطينية منذ عقود، وكان عليه أن يحمي وحدة الثورة وقرارها المستقل. وحين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة في حزيران 1974، وبعد حرب تشرين الأول، برنامج النقاط العشر الذي أقر لأول مرة إقامة السلطة الوطنية على الأراضي المحتلة عام 1967، دخل أبو عمار الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني 1974، وسط ترحيب وتصفيق، وعادت القضية الفلسطينية إلى الحياة بصدور قرار الجمعية العامة 3236 الذي أكد على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير، وحق اللاجئين في العودة. وكان رد نظام حافظ الأسد وإسرائيل هو طرد  الثورة من لبنان في حروب متصلة من عام 1976 وحتى نهاية عام 1983، لأن المطلوب شطب الرقم الفلسطيني من معادلة الحرب والسلام في الشرق الأوسط.

بعد خمس سنوات، وبالتحديد يوم 15 تشرين الثاني عام 1988، كان أبو عمار يقف على منبر المجلس الوطني في الجزائر ليعلن قيام دولة فلسطين في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وكان يستند إلى الانتفاضة الأولى التي أثارت اهتمام العالم، وكذلك إلى مقدرته الفذة  في الصمود في ممر الماراثون، وفي حمايته للثورة والمنظمة من محاولات أطراف النظام العربي احتواء الثورة وسرقة قرارها كما حدث في عام النكبة 1948.  ومن هذا الصمود والحنكة السياسية والقدرة  القيادية التي وحدت الشعب الفلسطيني وفصائله خلف هذا الرقم الصعب، تمكن أبوعمار من إسقاط التلاعب بقضية شعبه، وقدم للعالم برنامج الواقعية السياسية الذي أدى إلى الاعتراف العالمي بالمنظمة دون أن يترك ساحات الصراع لأعدائه. إنه قوة فاعلة ومؤثرة على الأرض، وليست لديه أوهام بأن الموقف السياسي، دون فعل على الأرض، يمكن أن يحقق شيئا للشعب الفلسطيني.  ولهذا دعم الانتفاضة بكل قدراته وطاقاته، وظل يواصل إرسال المقاتلين إلى المخيمات في لبنان حتى استعاد مواقع الثورة في مخيمات الجنوب، ثم بيروت، بعد وقت قصير من حروب المخيمات التي استمرت خمس سنوات وكان وراءها حافظ الأسد. 

وفي هذه السنوات أوائل التسعينات، انهار الاتحاد السوفييتي، وأعلن الرئيس جورج بوش الأب قيام النظام العالمي الجديد.  وترافق مع هذا الحدث الدولي دعوته لعقد مؤتمر مدريد للسلام بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت. ورغم أن أميركا كانت قد فتحت الحوار في كانون الأول 1988 مع المنظمة لبعض الوقت، إلا أن الشروط الأميركية للمشاركة في عملية السلام كانت إملاء إسرائيليا كاملا على الإدارة الأميركية. فالمنظمة إرهابية لا يمكن قبول مشاركتها، ولا يمكن قبول مشاركة فيصل الحسيني في الوفد الفلسطيني الذي يمثل الداخل، لأنه من القدس، والقدس ضمتها إسرائيل واعتبرتها العاصمة الأبدية لها.

كان هذا الموقف الأميركي أصعب ما واجهه أبو عمار في كل تاريخه السياسي.  فهو الذي قضى عمره يصارع مختلف الأعداء من أجل الاعتراف العربي والدولي بالمنظمة باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ومن أجل حماية القرار الفلسطيني المستقل، وها هو يجد أنه لن يُدعى ولن يشارك في مؤتمر مدريد للسلام الذي يرأسه الرئيس جورج بوش والرئيس غورباتشوف، وهناك في المؤتمر إسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل، ضمن الزعماء والقادة الحاضرين مؤتمر مدريد للسلام - والغائب الوحيد أبو عمار.  وبصراحة لو كان قرار أبو عمار النهائي عدم مشاركة أي وفد فلسطيني في مؤتمر مدريد فلن يذهب أحد إلى هذا المؤتمر مخالفا قرار أبو عمار.  إلا أن أبو عمار من أجل أمل ضئيل بتحقيق عودة قضية شعبه ووطنه إلى المسرح الدولي قال: "كل فلسطيني يمثلني وكل فلسطيني عضو في المنظمة ".

يمكن لأي إنسان قريب من أبو عمار أن يرى الألم الذي يعتصره وهو يرى المساس بمكانته وقيادته وبدوره التاريخي، ويبقى بعيدا عن الأضواء في مدريد قابعا في تونس والحدث الدولي يتحرك بعيدا عنه. ويومها كان أبو عمار قد انتدبني للمشاركة في وفد المنظمة برئاسة د. نبيل شعث إلى مدريد لمتابعة ما يجري في المؤتمر. وبعد إعداد خطاب فلسطين الذي سيلقيه د. حيدر عبد الشافي في المؤتمر، فوجئنا أن معركة إسرائيل وأمريكا ضد أبو عمار لا تقف عند عدم دعوته أسوة بالدول والأطراف الأخرى، بل طلب وزير الخارجية جيمس بيكر من حنان عشراوي عدم الإشارة لأبو عمار ولمنظمة التحرير في الخطاب، حتى لا ينفذ شامير تهديده ويغادر المؤتمر.  وقال بيكر هذه أمور شكلية يجب عدم الوقوف عندها، ويجب أن تتحلوا بالمرونة حتى لا تتحملوا مسؤولية إفشال المؤتمر.  وكان لا بد من العودة إلى أبو عمار الذي قال لنا ولوفد الداخل هذه الجملة دون إن يحتج أو يغضب. "قرروا ما فيه مصلحة شعبكم ".

وبالفعل قمنا بإلغاء النص الذي أرسلناه لأبو عمار ووافق عليه، وفيه إشارة مقتضبة للمنظمة ورئيسها وغصن الزيتون الذي يلوح به أبو عمار منذ خطابه في الأمم المتحدة عام 1974.

وحين بدأ الدكتور حيدر عبد الشافي بإلقاء خطاب فلسطين، سيطر على القاعة هدوء غريب، وتسمر الجميع في مقاعدهم يستمعون لهذا الرجل الوقور الذي نطق كل كلمة وعرض كل موقف، بأدب وكبرياء جعلت الجميع ينحنون احتراما لهذا الرجل الكبير ولشعبه ولقضيته. وأما اسحق شامير فقد بقي جالسا، وإن كان يبدي اعتراضه وهو يستمع للخطاب، ويرى صائب عريقات يجلس في مقاعد الوفد الفلسطيني وعلى رقبته الحطة الفلسطينية التي ترمز لأبو عمار.

فهل كان أبو عمار ــ وهو يخضع لكل هذه الشروط التي استبعدته واستبعدت المنظمة من المشاركة ــ  كان يسعى إلى قيام دولة فلسطينية متواضعة في الضفة والقطاع والقدس، أم أنه، كما ادعى الإسرائيليون والأميركيون، أنه يريد دولة في كل فلسطين التاريخية ؟ وهل كانت موافقة أبو عمار على الوفد المشترك الأردني – الفلسطيني في مؤتمر مدريد دليلا آخر، على أنه لا يريد السلام وأن منطق التسويات غريب عن ثقافته؟ ألم تكن هذه الموافقة على الوفد المشترك إلى مؤتمر مدريد تعبيرا عن استعداده لتحقيق السلام وإزالة الذرائع من يد إسرائيل وأميركا لعزل الفلسطينيين وإبعادهم عن مؤتمر السلام؟ إن أبو عمار الذي وافق على تغييبه وتغييب المنظمة عن مؤتمر مدريد للسلام هو الذي انتزع في الرباط قرار القمة بأن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

 قد كان من بين الشروط الأميركية – الإسرائيلية ألا يلتقي وفدنا الفلسطيني القادم من الداخل مع وفد المنظمة القادم من تونس  في مدريد، والأخطر أنه ممنوع على وفد الداخل  لقاء أبو عمار وقيادة المنظمة، واللقاء الذي جرى في تونس كان سريا، ولم تنشر وسائل الإعلام خبر اللقاء حرصا على عدم إغضاب الأميركيين، وكذلك اللقاء الثاني في الجزائر كان لقاء سريا ولم تنشر وسائل الإعلام أخبار هذا اللقاء حتى لا يغضب الأميركيون. وهذه السرية الشديدة وعدم تسريب أية أخبار كانت بتعليمات مشددة من أبو عمار شخصيا حيث طلب التعتيم الكامل على هذه اللقاءات. وحين جرى اللقاء الأول العلني بين الوفد وأبو عمار، وكان ذلك في عمان ، أعلن الأميركيون أنهم ضد هذا اللقاء، وهدد إسحق شامير بمنع الوفد الفلسطيني من مغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 بدأت المفاوضات في واشنطن في 18/12/1991 بعد أن ربح وفدنا معركة التمثيل المستقل، وانتهت صيغة الوفد المشترك الأردني – الفلسطيني، وانقسم الوفد المشترك إلى وفدين. أردني وفلسطيني. وعلى مدى شهرين رفض الأميركيون دخول صائب عريقات قاعة المفاوضات عقابا له حين وضع الحطة الفلسطينية على كتفيه تعبيرا عن انتمائه ووفد الداخل للمنظمة ورئيسها ياسر عرفات.  ولم تصل هذه الجولات التفاوضية على مدى ثمانية أشهر بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي إلى أي نتيجة. فالفترة الانتقالية لا تغير شيئا في واقع الاحتلال واستمرار الاستيطان. والذي يقوله الياكيم روبنشتاين، رئيس الوفد الإسرائيلي من مواقف إسرائيلية  (كما كانت ترد في تقارير وفدنا في واشنطن إلى لجنة متابعة المفاوضات في تونس التي يرأسها أبو مازن وكنت عضوا فيها) كان بالفعل يصيبنا بالجنون. فهو يقول: تسمون أنفسكم وفد فلسطين وأنا أتعامل معكم باعتباركم أعضاء في الوفد الفلسطيني – الأردني المشترك، وتقولون أنكم شعب فلسطيني ولكن ليس هناك وضوح في وجود شعب فلسطيني. وضرب مثلا عن مطلبنا بالاستقلال بوضع الأكراد في العراق.  وقال: الاستقلال العرقي ليس بالضرورة أن يؤدي إلى استقلال سياسي.  وحول القدس قال روبنشتاين: هناك موقف إسرائيلي يهودي موحد بأنها عاصمة دولتنا الأبدية. والقدس خارجة عن أي نقاش معكم، وأما قرار 242 فلا ينطبق على هذه المفاوضات. والدولة الفلسطينية المستقلة خطر مميت على حياتنا ووجودنا. وقال حول الاستيطان: إن لليهود حرية السكن في أي مكان في أرض إسرائيل، والقرار 194 لا يمكن بحثه، وإعادة التاريخ إلى الوراء شيء مستحيل.

هذه المواقف التي عبر عنها روبنشتاين هي قليل من كثير، وقد تكررت طوال ثمانية أشهر، والغريب أن روبنشتاين بقي رئيسا للوفد الإسرائيلي حتى بعد سقوط شامير ونجاح رابين في الانتخابات، ومن المفارقات أن إسحق شامير، حين سئل عن رأيه في موقف وانتماء روبنشتاين قال أنه من "الليكود" ولكن عند التصويت في الانتخابات يصوت للمفدال.  وهو من أكثر الأحزاب الدينية الإسرائيلية تطرفا ويمينية، ويرفض التنازل عن أرض إسرائيل - أرض الميعاد وأرض الآباء والأجداد. وقد لا يكون هناك جديد في هذه المواقف الإسرائيلية. والسؤال كيف كان يتصرف أبو عمار وهو يقرأ هذه التقارير الواردة من واشنطن؟ وكيف كانت لجنة المتابعة ترسل الردود لوفدنا بعد الاجتماع مع أبو عمار والاستماع إلى تقديره للموقف؟  وللتاريخ أقول أنه كان أكثرنا حرصا على استمرار المفاوضات، ويقول: عليكم بالصبر وطول النفس، فحضورنا في مؤتمر مدريد للسلام كرس وجودنا وحقوقنا، "وكثير مما سمعت منكم هذا المساء له هدف وحيد أن يغادر وفدنا طاولة المفاوضات".   ولكن لا مصلحة لشعبنا في ذلك. مصلحتنا أن نستمر حتى النهاية، ولا بد أن يحصل شعبنا على استقلاله وإقامة دولته والقدس عاصمتها.

 وعندما قدم د. حيدر عبد الشافي استقالته من رئاسة وفدنا لم ينم أبو عمار تلك الليلة حتى أجرى الاتصال مع د. حيدر، وكان يقضي عطلة نهاية الأسبوع عند ابنته التي تعيش في أمريكا، وألح عليه أبو عمار أن يتحرك على الفور إلى تونس، وعرض أن يرسل له طائرته الخاصة "وأنت الأمل فيك كبير يا د. حيدر وأنت ضمير هذا الشعب وأنا بانتظارك يا خويا. " ويرد د. حيدر بكل أدبه ودماثة أخلاقه ولطفه. يا أخ أبو عمار لا فائدة من هذه المفاوضات إنها مضيعة للوقت بدون وقف الإستيطان.

 _ يا دكتور أنا فاهم عليك ولكن علينا أن نحاول.

وبعد وصوله إلى تونس يكون أبو عمار في انتظاره وكعادته يعانقه ويحتضنه ويشد على يده ويقول: - أنت رفعت راسنا يا دكتور وأنت خير من يدافع عن هذا الشعب أمام هذا المتطرف روبنشتاين.  ويظل أبو عمار يلح على الدكتور حيدر حتى يسحب استقالته، ودون تأخير يغادر إلى واشنطن.

وحين أقدم رابين على إبعاد قيادات "حماس" إلى مرج الزهور، أثناء الجلسة الثامنة للمفاوضات في واشنطن، لم يجد أبو عمار مناصا من الموافقة على وقف المفاوضات.  فهناك أكثر من أربعمائة قيادي فلسطيني مبعدين إلى لبنان، تحت البرد القارص في مرج الزهور. إلا أن وقف المفاوضات لا يعني قطعها، بل كان يضغط بهذا القرار على الجهات الإقليمية والدولية لإعادة المبعدين حتى يتم العودة للمفاوضات.  والرأي العام الفلسطيني لا يقبل عودة الوفد المفاوض إلى واشنطن في ظل الإبعاد. وبالفعل، نجح أبو عمار بإعادة خمسين مبعدا من الشخصيات الوطنية إلى البلاد، وعودة مبعدي مرج الزهور، وكان أبو عمار بحملته الضارية ضد قرار الإبعاد  حصل على قرار من مجلس الأمن الدولي يدين الإبعاد، ويدعو إلى إعادة المبعدين الأربعمائة  إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.

وحين استؤنفت المفاوضات في جولتها التاسعة، وبعدها العاشرة، لم يتزحزح روبنشتاين عن مواقفه حول مفهومه للفترة الانتقالية وقراري مجلس الأمن 242 و 338، وأنهما لا ينطبقان على الأراضي الفلسطينية، والقدس ليست موضع بحث، والصلاحيات ليست أكثر من صلاحية بلديات تحت الاحتلال.  وبالفعل كان حيدر عبد الشافي أمام عقدة الاستيطان، قد أرسل تقريرا يقول فيه أنه: "لا جدوى من الاستمرار في هذه المفاوضات. بعد عشر جولات، لم نحقق فيها تقدما على صعيد وقف الاستيطان، وبدون وقف الاستيطان لا معنى لأي اتفاق".

ومن المصادفات الغريبة أن أبو علاء (أحمد قريع)، وهو رئيس الجانب الفلسطيني في المفاوضات المتعددة، كان قد أخبرني قبل عدة أشهر أنه التقى في لندن بحضور فيصل الحسيني وحنان عشراوي مع أكاديميين إسرائيليين، هما هير شفيلد وبونداك، وأنهما طرحا عليه سؤالا حول استعداد منظمة التحرير للحوار والمفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة  التي يرأسها إسحق رابين ووزير خارجيتها شمعون بيريس.  وقال لي أبو علاء أنهما عرضا أن تكون اللقاءات سرية في النرويج بدعوة من معهد للدراسات يديره شخص اسمه تيري رود لارسن.  وقلت لأبو علاء، عليك أن تطرح هذا الموضوع على أبو عمار وأبو مازن، وإنني لا أرى فائدة من هذه الجولات التفاوضية في واشنطن، وأن المطروح الآن كما فهمت منك، مفاوضات بين المنظمة وحكومة إسرائيل، وهذا العرض إذا كان جديا، يعني أن حكومة رابين تعترف بالمنظمة، وبالتالي فالمفاوضات ستؤدي إلى حل سياسي وتعترف إسرائيل في النهاية بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

ارتاح أبو علاء لترحيبي بهذا العرض الإسرائيلي المفاجئ، والذي ينسف تاريخا من الإنكار لوجود الشعب الفلسطيني، ويعتبر منظمة التحرير إرهابية. وكانت لجنة متابعة المفاوضات، قد بحثت في وقت سابق تسمية أحد الأخوة ليتولى مسؤولية المفاوضات المتعددة. وفي تلك الجلسة طرح حسن عصفور اسم د. نبيل شعث الذي يشرف على المفاوضات الثنائية في واشنطن، ولهذا قلت في تلك الجلسة أرى أن يبقى د. نبيل شعث مشرفا على المسار الثنائي في واشنطن. واقترحت أن يتولى مسؤولية المفاوضات المتعددة أبو علاء (أحمد قريع).  وبررت هذا الاقتراح بأن أبو علاء هو مسئول "صامد" ورجل اقتصاد والمفاوضات المتعددة تتناول هذه القضايا. وقد وجدت من الضروري، أن أطرح هذا الاقتراح على أبو عمار، باعتباره صاحب القرار الأخير.  وفي النهاية وافقت لجنة متابعة المفاوضات على تعيين أبو علاء وأصدر أبو عمار قرارا بذلك.

مضت عدة أشهر على هذا الحوار. وبحكم طريقتي في العمل سواء مع أبو عمار أو مع أبو مازن في لجنة متابعة المفاوضات، فإنني لست "حشريا" بمعنى أنني لا أحب الاستفسار عن شيء أو تحرك يقع أمامي وأرى أن صاحب القرار يتجنب طرحه معي ولا يريد إطلاعي عليه.  وبحكم تواجدي الدائم في مقر القيادة ولجنة متابعة المفاوضات، فكنت ألاحظ غياب أبو علاء ومعه حسن عصفور. ولم أعلق يوما على هذا الغياب ولو لمرة واحدة.

لكن وبحكم مشاركتي في لجنة متابعة المفاوضات حضرت، وبمحض الصدفة، جلسة بين أبو مازن والدكتور أحمد الطيبي، وكان معه لائحة أسئلة يصل عددها إلى (120) سؤالا مصدرها جهة إسرائيلية. وقد استمعت لبعض هذه الأسئلة وإجابات أبو مازن عليها. وربما تدخلت مرة أو مرتين. وبعدها غادر أبو مازن ومعه أحمد الطيبي لعقد لقاء خاص مع أبو عمار.  وفيما بعد عرفت من أبو مازن أن الأسئلة كانت موجهة من إسحق رابين شخصيا - وبالطبع هذا الكلام جاء قبيل التوقيع على اتفاق أوسلو- أما الذي أردت الوصول إليه من هذه الواقعة فهي تتعلق بالدور الذي كان يضطلع به أبو عمار من أجل أن يصل إلى انتزاع حقوق شعبه وتحقيق السلام، حيث تابع مفاوضات أوسلو بنفس الجدية والصبر والدأب الذي تابع به مفاوضات واشنطن، وحين لاحت فرصة جديدة لاختراق مأزق المفاوضات في واشنطن وألقى بكل ثقله لإنجاح هذا المسعى. ولا أنفي هنا أن وضعنا العام، بعد كارثة صدام حسين في الكويت، وكارثة أم المعارك، كان يفرض على أبو عمار، قبل غيره، أن يجد مخرجا من هذا الوضع. فقد تم فرض الحصار السياسي والمالي المفروض على المنظمة من الأشقاء العرب، والمقاطعة الأوروبية الرسمية  وأصبحنا بين ليلة وضحاها من "دول الضد " حسب التعبير الكويتي!!!، أي الدول التي صوتت في اجتماع قمة القاهرة ضد طلب التدخل الأميركي.  ولولا الانتفاضة العظيمة لانتهت المنظمة. فقد شكلت الانتفاضة الرافعة التاريخية لإنقاذ المنظمة وإنقاذ القضية الفلسطينية من الضياع. وبفعل هذه الرافعة الوطنية الكبرى عادت المنظمة إلى الحياة وإلى السياسة الإقليمية والدولية، في ظل النظام الدولي الجديد الذي أعلنه الرئيس جورج بوش - الأب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتسلم الولايات المتحدة قيادة العالم.

وفي هذا الوضع، كان أبو عمار يسابق الزمن ليعود وشعبه وحقوقه الوطنية إلى دائرة الحدث الإقليمي والدولي، مسلحا بفعل الانتفاضة التي فضحت الاحتلال الإسرائيلي وببرنامجها السياسي المتطابق مع برنامجه.

وجاءت المفاجأة الكبرى حين جرى التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق في أوسلو بين أبو علاء وشمعون بيرس.  وقد قلب هذا التوقيع التاريخي السياسات والقرارات والتوقعات في الشرق الأوسط. وحتى لدى الأميركيين والأوروبيين الذين كانوا يديرون ظهورهم للمنظمة ورئيسها وأخذوا يتوافدون على تونس.  فماذا بقي لديهم من اعتراضات على المنظمة ورئيسها ما دامت إسرائيل توقع اتفاق أوسلو مع المنظمة التي يرأسها ياسر عرفات؟ وهؤلاء يعرفون عن يقين أن القوة الدافعة وراء هذا الاتفاق كان أبو عمار قبل أي شخص آخر، دون أن ننتقص من جهد الآخرين. إنه صاحب القرار الأول والأخير، حيث كان دائما يرفع قلمه الأحمر أمام الجميع ويقول، بدون هذا التوقيع لا شيء يمر باسم شعبنا ومنظمته.  وعادت الأضواء تغمر أبو عمار في تونس بهذا السيل المتدفق من الوفود والوزراء والأكاديميين من أوروبا وأنحاء العالم. وانتهت عزلة أبو عمار.  واستطاع أن يعيد الحرارة إلى علاقات المنظمة مع مصر والسعودية والأردن التي استاءت لعدم إطلاعها على مفاوضات أوسلو.  ولم يجد الأسد مفرا من مصالحة ياسر عرفات بعد أن أثبت أبو عمار أنه الرقم الصعب أمام أسد سوريا على حد تعبير باتريك سيل المدافع الشهير عن نظام الأسد.

وأعترف أنني حين قرأت اتفاق أوسلو لم أكن متحمسا له أبدا. وقال لي أبو عمار: يا أحمد يا خويا هذا برنامج السلطة الوطنية الذي أقره المجلس الوطني منذ عام 1974.

وفي الحقيقة، لم أجد ما أقوله أمام هذا الإصرار، وهذه اللهفة في كلماته وفي صوته.  إلا أن الاتفاق يخلو من الكلمات السحرية التي قضينا كل هذه السنوات من أجل نقلها من عالم الأحلام إلى أرض الواقع. لم أجد كلمة الانسحاب، ولم أجد اقتلاع الاستيطان، ولم أجد قضية اللاجئين، ولم أجد القدس بل وجدت في اتفاق أوسلو أن هذه الكلمات – الأهداف قد أبعدت تحت عنوان "قضايا الوضع النهائي "ويجري التفاوض حولها بعد مرور سنتين من الفترة الانتقالية المقررة بخمس سنوات.

ولا أدعي أنني قد أدركت سلبيات ونواقص اتفاق أوسلو، بينما أبو عمار لا يرى هذه السلبيات والنواقص.  وفي هذه الحالة من الإرباك الداخلي، رحت أغرق في صمت عميق أمام أجهزة الإعلام وأنا مسئول الإعلام، والناطق الرسمي باسم المنظمة، ورئيس تحرير المجلة المركزية "فلسطين الثورة".   ولا أجد ما أقوله دفاعا عن هذا الاتفاق. إلا أن ثقتي المطلقة بوطنية أبو عمار، تفرض عليّ احترام قرارات هذا الرجل في هذا الوضع الصعب، حيث المنظمة تعاني من حصار خانق سياسي ومالي. وفي هذا الوقت أخذ عدد من الفدائيين، يترك القوات في الجزائر وليبيا والسودان، ويطلب اللجوء السياسي إلى الدول الأوروبية. وقد كانت صدمة كبيرة لي حين علمت أن ثلاثة مناضلين من حراسات أبو عمار قد تركوا تونس، وطلبوا اللجوء السياسي في السويد.

وفي هذه الحالة الصعبة للمنظمة و"فتح" والثورة، يمكنني أن أراهن على أبو عمار للخروج من المأزق وله سوابق في إبداع الطرق للخروج من المآزق العديدة التي مرت بها الثورة.

فهل كان أبو عمار يخفي نواياه العدائية تجاه إسرائيل، وبأنه يريد القضاء عليها وهو يوقع اتفاق أوسلو بكل شروطه المجحفة؟ وبعد ذلك يدخل فلسطين وعلم إسرائيل فوق معبر رفح؟ إن الذين يرددون هذه الادعاءات يتجاهلون الأسباب الحقيقية لفشل قمة كامب ديفيد، وهي أسباب أميركية وإسرائيلية وليست فلسطينية أبدا.

إسرائيل، بعد اغتيال اسحق رابين، لم تعد قادرة على تحقيق السلام مع الفلسطينيين، فقد وقعت في قبضة اليمين الإسرائيلي. وبعد الأشهر الستة التي حكم فيها شمعون بيريس وبعد اغتيال رابين، لم يصل إلى الحكم في إسرائيل رئيس وزراء يؤمن بالسلام، وبالحل التاريخي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وقد كان هناك إجماع دولي على استحالة تحقيق أي تقدم لعملية السلام، في حكم نتنياهو وحزب الليكود الذي فاز في الانتخابات في أيار 1996. إلا أن الخديعة الكبرى كانت ايهود باراك، الذي فاز في انتخابات أيار 1999.

ولكن، قبل أن نتناول أفعال باراك في كامب ديفيد، فإنه من المهم فضح الصورة الكاذبة والتي جرى ترويجها ضد أبو عمار لتحميله مسؤولية فشل كامب ديفيد.  وهنا أروي بعض المواقف لأبو عمار قبل توقيع اتفاق أوسلو بزمن طويل، حول قرار التقسيم 181 الذي صدر في 29 نوفمبر من عام 1947 . قال أبو عمار: كان هذا القرار الدولي ظالما ولكنه قرار يحمل الشرعية الدولية، وقد خرجنا صفر اليدين، لأن القرار الفلسطيني كان مصادرا، لم يكن قرارنا بأيدينا، ومن هنا قاتلنا دائما ضد أي محاولة لسرقة قرارنا الوطني المستقل.  ولكن، لا فائدة من التحسر على الماضي. المهم ألا نضيع مرة أخرى، ويسقط شعبنا من التاريخ والجغرافيا في الشرق الأوسط.  وعن الحاج أمين الحسيني قال: كان وطنيا عظيما ولكنه أخطأ في حساباته. وكانت تحكمه صراعات داخلية كان يمكنه احتواؤها، وكان زعيما يفتقر إلى القوة على الأرض.  والقوة العربية التي دخلت فلسطين لتحريرها كانت ضحية الأنظمة العميلة للاستعمار، ولا تنس الأسلحة الفاسدة و"ماكو أوامر" ومذكرات عبد الله التل، وتجريد الجهاد المقدس من سلاحه على يد "غلوب باشا "، وطرد المفتي وأحمد حلمي رئيس حكومة عموم فلسطين من غزة على يد الملك فاروق .

أما على الصعيد الدولي، فكان أبو عمار يقيم أقوى العلاقات مع قادة الاشتراكية الدولية: برونو كرايسكي وويلي براندت وأولف بالمه.  فهل كان يدعوهم لمساعدته في القضاء على إسرائيل، أم أنه كان يبحث عن الحل الوسط التاريخي والممكن، وهو قيام دولة فلسطين الصغيرة إلى جانب دولة إسرائيل الكبيرة؟

وهل كان هؤلاء القادة الأوروبيون ضد السامية، أم أنهم كانوا الأكثر حرصا على وجود وبقاء وأمن إسرائيل؟ ويحملون في أعماقهم وعلى ألسنتهم موقفا سياسيا وأخلاقيا حول حق إسرائيل في البقاء كدولة، بعد أن عاشوا بأنفسهم مأساة اليهود في أوروبا على يد النازية، وقد اقتنعوا أن أبو عمار رجل سلام ويسعى إليه في ظروف بالغة التعقيد تحيط بشعبه في عموم الشرق الأوسط، بعد أن خسر الفلسطينيون وطنهم وكيانهم السياسي وقرارهم المستقل؟

وقد أدرك قادة أوروبا في وقت مبكر أن الاعتراف بالمنظمة وأبو عمار هو الطريق السوي لتحقيق السلام العادل والدائم على أساس قيام دولتين.  دولة إسرائيل ودولة فلسطين. وأدت هذه العلاقة بين أبو عمار وهؤلاء القادة إلى قبول "فتح" عضوا في الاشتراكية الدولية. وكان ولا يزال ممثل "فتح" في الاشتراكية الدولية  ايلان هاليفي، وهو مناضل من حركة "ماتسبين" ويحمل الجنسية الإسرائيلية، ويحمل الجواز الدبلوماسي الفلسطيني، واختير أخيرا عضوا في المجلس الثوري، إلى جانب البروفيسور يوري ديفيز الذي انتخبه المؤتمر السادس لفتح عضوا في المجلس الثوري، وكان أبو عمار قد عينه عضوا في المجلس الوطني عن حركة "فتح" في الدورة التاسعة عشرة في عام 1991. وقد حدثني أبو عمار عن لقاء مع اسحق رابين، وهو يحاول إقناعه بزيادة أعضاء المجلس الإداري – الذاتي من 24 إلى 82 عضوا، حيث قال لرابين أنه ينوي أن يضم ممثل  للطائفة السامرية إلى عضوية المجلس التشريعي. وأن رابين رد الموافقة على ذلك قائلا: هذا طموح وحلم للمستقبل البعيد. وبعد انتخاب المجلس التشريعي أضاف أبو عمار، بالفعل، ممثلا للطائفة السامرية لعضوية المجلس.

وهنا يجب التأكيد أن عملية السلام بقيادة رابين وأبو عمار قد حققت نتائج ايجابية للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.  إلا أن اغتيال رابين في الرابع من تشرين الثاني 1995،  وضع حدا لأي تقدم مستقبلي. وبقي أبو عمار وحده طوال تسع سنوات يحاول حماية عملية السلام، في مواجهة قوى اليمين الإسرائيلي التي حكمت إسرائيل منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.  والفاصل القصير الذي عاد فيه باراك باسم حزب "العمل" إلى الحكم، كان الحاضنة التي مهدت الطريق أمام اليمين الإسرائيلي خاصة في آخر ولاية كلينتون الثانية.

قد يكون مضى وقت طويل على مفاوضات قمة كامب ديفيد. ولكن ما يفرض علينا وعلى كل عاقل ومنصف أن نعود إلى هذه القمة هو تحميل ياسر عرفات مسؤولية فشل القمة.  وبالطبع، يمكن أن نفهم لماذا ايهود باراك حمّل أبو عمار مسؤولية الفشل حين انكشف القناع عن الوجه الحقيقي لباراك، الذي خدع العالم بأنه رجل سلام.  إنه الذي دمر عملية السلام قبل كامب ديفيد حين أطلق العنان للمستوطنين، وحين رفض تنفيذ الانسحابات المقررة في مذكرة "واي ريفر" . وأما الرئيس كلينتون، فقد اعتبر كامب ديفيد كفارة أخطائه في حياته الخاصة - كما يقول وليم كوانت- وبعد هذا الموقف من الرئيس كلينتون ضد أبو عمار وتحميله مسؤولية فشل المفاوضات في كامب ديفيد انهالت الاتهامات على أبو عمار من دنيس روس ومن كثير من الأكاديميين الذين يأتمرون بأمر اللوبي الصهيوني في واشنطن.  وما دامت الآلة الإعلامية والدعائية الأميركية تردد هذه الاتهامات، وتسبغ على مطلقيها الهالة الأكاديمية والموضوعية، فإن أي نقض لهذه الاتهامات لن يجد آذانا صاغية مهما بذلنا من مجهود.  إلا أن حقائق التاريخ لا يمكن تزويرها إلى الأبد، خاصة أن الافتراء ضد أبو عمار، حتى بعد استشهاده، يظل يتردد لتبرير عدم إحداث أي تقدم في عملية السلام حتى بعد أن انتهت انتفاضة الأقصى، ومضت سبع سنوات وعملية السلام تدور في حلقة مفرغة. فهل هناك شبح أو كابوس اسمه أبو عمار يجبر إسرائيل على استمرار احتلالها واستيطانها رغم كل القرارات والمواقف الدولية؟ إن إسرائيل بقيادة غلاة اليمين في عام 2012، كما في عام 2000، ليست مستعدة لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف (الشرقية) عاصمتها، أي في جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.  وهنا يكمن السبب الحقيقي لفشل قمة كامب ديفيد. وأبو عمار عندما ذهب إلى كامب ديفيد كان على يقين بأن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه ولكنه بالمقابل لا يستطيع أن يقبل أي حل آخر غير هذا الحل.  والسبب أن أبو عمار ومعه كل الفلسطينيين والعرب كان يعتقد أنه قد قدم الثمن المطلوب، وهو الاعتراف بدولة إسرائيل، مقابل قيام الدولة الفلسطينية على 22% من مساحة فلسطين التاريخية، مقابل سيطرة إسرائيل على 78% علما أن قرار التقسيم 181 يعطي دولة فلسطين 44% ودولة إسرائيل 46% و 10% لتدويل منطقة القدس.

ولهذا لم يكن أبو عمار مستعدا لتقديم المزيد من التنازلات في كامب ديفيد. فباراك يطلب ضم 10 -13% من أراضي الضفة لإسرائيل، ويطلب سيطرة دائمة على غور الأردن، ويطلب سيادة إسرائيلية على القدس، ويتكرم بإعطاء ممر للفلسطينيين للوصول إلى الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. وحين جرى الحديث عن المسجد الأقصى والحرم القدسي، ظهر هيكل سليمان وكأنه حقيقة مادية مجسدة على الأرض. علما أنه على مدى أكثر من ألفي عام لا يوجد أثر للهيكل. وكل الحفريات لا تثبت واقعا ماديا لما ورد في التوراة، التي تشكل المعتقد الديني عند اليهود. وفي مواجهة هذا المأزق بسبب المعتقد الديني فإن أبو عمار وافق أن يكون حائط المبكى وحارة اليهود وأجزاء من الحي ألأرمني يتبع السيادة الإسرائيلية، مقابل موافقة باراك على السيادة الفلسطينية على المسجد الأقصى والمقدسات المسيحية والإسلامية، وكل القدس الشرقية التي احتلت عام 1967 وحتى خط الرابع من حزيران الذي كان قائما في القدس والضفة من عام 1948، وحتى الخامس من حزيران 1967. وقد رفض باراك هذا العرض الذي قدمه أبو عمار حتى لا تنهار عملية السلام. وبالنسبة للمستوطنات فقد اشترط أبو عمار ألا تزيد عملية تبادل الأراضي من 2 -3% على أن تكون بالقيمة والمثل، وأن يتم مقابل ذلك إخلاء المستوطنات والبؤر الاستيطانية خلال ستة أشهر وليس خلال ست سنوات. وحول عقدة الأمن الإسرائيلية، وافق أبو عمار على تواجد قوات دولية أو أميركية في غور الأردن، وحتى على الخط الأخضر.  وقد رفض باراك ذلك. وبالمقابل وافق أبو عمار على ثلاث مراكز للرادار للإنذار المبكر ولكن مع وجود ضابط ارتباط فلسطيني.  وأما الأحواض المائية فإسرائيل تصر على السيطرة الكاملة عليها. وأما قضية اللاجئين فإسرائيل ترفض القرار الدولي 194 الخاص بحق العودة، ولا تتحمل أية مسؤولية سياسية أو أخلاقية عن مأساة اللاجئين.  وكل ما تستطيع تقديمه هو المساهمة في صندوق دولي لتعويض اللاجئين عن وطنهم وبيوتهم وأملاكهم التي استولت عليها إسرائيل.

ويدعي بعض المدافعين عن إسرائيل ومواقفها أن فشل قمة كامب ديفيد سببه تمسك أبو عمار بحق العودة الكاملة لأكثر من أربعة ملايين لاجئ إلى إسرائيل، وبالتالي تنتهي دولة إسرائيل كدولة يهودية. وفي الحقيقة هذا الطرح لم يحدث إطلاقا، بل كان الموقف الذي عبر عنه أبو عمار في كامب ديفيد يقوم على ضرورة إعتراف إسرائيل بحق العودة وبمسؤوليتها الأخلاقية والسياسية.  أما مسألة العدد الذي يعود إلى إسرائيل فهذا يخضع لمحددات بحيث لا يخل بالوضع الديمغرافي فيها.  وفي وقت لاحق ولفضح ادعاءات إسرائيل، وافق أبو عمار على قرار قمة بيروت 2002 حول قضية اللاجئين، الذي نص وبالحرف الواحد: "حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين " وهذا القرار جاء في صلب مبادرة السلام العربية، التي أقرتها القمة العربية ورفضتها إسرائيل. وأقصى ما وافقت عليه في كامب ديفيد "توحيد العائلات خلال عشرات السنين لأسباب إنسانية" لمن بقي على قيد الحياة من اللاجئين الذين أجبروا بالقوة على مغادرة وطنهم. أما أسرهم وأولادهم فلا تعترف إسرائيل بأي حق لهم. وأخذت تطرح حين جرى بحث تشكيل صندوق دولي للتعويض للاجئين الفلسطينيين قضية اليهود الذين غادروا البلاد العربية، وجاءوا إلى إسرائيل، وطالبت بالتعويض لهم.

إلا أن الرئيس كلينتون رد على هذا الطلب بالقول: "لقد جاء اليهود إلى إسرائيل التي اعتبروها وطنهم ودولتهم. أما اللاجئون الفلسطينيون فقد طردوا من وطنهم إلى اللجوء في المخيمات والشتات، وبالتالي لا يمكن المقارنة بين الحالتين.

أما الدولة الفلسطينية المستقلة التي توافق عليها إسرائيل فهي "دولة منزوعة السلاح. "وفي اقتراحاته استخدم كلينتون المصطلح التالي: "دولة محدودة التسليح." وهذه الدولة لديها فقط قوة شرطة، ويخضع وضعها الأمني لمراقبين دوليين للتحقق من تطبيق الدولة لهذا الاتفاق لتبقى دولة منزوعة السلاح. وأقصى ما قدمه كلينتون 95% من أراضي الضفة، وبعض هذه النسبة يخضع للتبادل بالقيمة والمثل، وبعضه الآخر للاستئجار لمدة 99 عاما. والأراضي التي تبرع كلينتون بضمها لإسرائيل ستضم أكثر من مائة ألف فلسطيني وقراهم وأراضيهم لإسرائيل، والأهم تصر إسرائيل على فتح شارع بين القدس ونهر الأردن يقسم الضفة الغربية إلى قسمين مقابل الممر الآمن بين الضفة وغزة. وفي الحقيقة فإن الضفة الغربية تكون مقطعة الأوصال بين شمالها ووسطها وجنوبها في حال بقاء هذه الكتل الاستيطانية الأربعة.  وهذا كله لا علاقة له بمستوطنات القدس، التي عزلت القدس الشرقية عن محيطها عزلا تاما. ولهذا لم يكن أمام أبو عمار غير رفض هذه الحلول الوهمية، في قمة كامب ديفيد. وحتى الاقتراح الأخير الذي قدمه كلينتون يوم 23/12/ 2000 وهو يودع البيت الأبيض لم يلبِّ الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية (الشريف). واعتبر باراك، ومن ورائه كلينتون أن فرض هذا الحل الإسرائيلي على الفلسطينيين هو التطبيق والترجمة الوحيدة لقرار مجلس الأمن 242، وبالتالي، ينهي الصراع ويسقط أية مطالب فلسطينية في المستقبل. وبالطبع، استطاعت الآلة الدعائية الإسرائيلية والأميركية أن تصور أبو عمار بأنه رفض عروضا سخية وتنازلات غير مسبوقة قدمها باراك وكلينتون. وفي السنوات اللاحقة كتب شلومو بن عامي يقول: في كامب ديفيد لم تكن هناك فرصة للسلام أضاعها ياسر عرفات". أما جلعاد شير فكتب يقول: "اقتربنا من تقديم عرض للسلام، ولكن لم نقدمه".

ومن المعروف أن شلومو بن عامي وجلعاد شير كانا المفاوضين الرئيسيين لباراك في كامب ديفيد وفي طابا، المحطتين الأهم للتوصل إلى تسوية دائمة على أساس حل الدولتين. إن النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذه الدراما الطويلة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أن إسرائيل في الإستراتيجية الأميركية هي مركز الكون. وبدون أن تتغير هذه الرؤية الأميركية فلن يتحقق السلام في فلسطين. فإسرائيل في الجوهر تتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني في أي جزء من أرض فلسطين التاريخية.

المساومة التاريخية في أوسلو وقيام السلطة الوطنية أدى إلى دفع رابين حياته ثمنا لها على يد يغئال عمير المستوطن المتطرف.  كما دفع ياسر عرفات حياته ثمنا لتلك المساومة التاريخية على أساس حل الدولتين، بعد أن  هيأ باراك المسرح أمام شارون لفرض الحصار على أبو عمار في المقاطعة في رام الله لمدة عامين، في ظل تواطؤ أميركي وصمت أوروبي وغياب عربي يجلله العار. ولا يبدو في الأفق أن إسرائيل بهذا الموقف الأميركي، مستعدة للتوقف عن ابتلاع الأرض الفلسطينية والقدس في مقدمتها، وإنكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود في وطنه فلسطين في دولة مستقلة وذات سيادة سواء في ظل ياسر عرفات أو محمود عباس.

إنه حقا مأزق تاريخي واستراتيجي ووجودي بعد أن قدم أبو عمار، لإسرائيل وللمجتمع الدولي ولأمريكا، الفاتورة السياسية المطلوبة، من أجل قيام دولة فلسطينية صغيرة ومتواضعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، إلى جانب دولة إسرائيل على أساس التعايش السلمي والاعتراف المتبادل.

وأمام هذا المأزق، الذي يهدد وجودنا الوطني، يجب الحفاظ على السلطة الوطنية وتعزيز دورها وطنيا ودوليا.  فالسلطة تحظى بالاعتراف العربي والدولي. والسلطة على الأرض تجسد الكيان السياسي للشعب الفلسطيني في طور التكوين، وصولا إلى قيام الدولة المستقلة. وبهذه الصفة وهذا الدور فإن السلطة هي العائق السياسي والمادي الأكبر أمام جهود إسرائيل المحمومة لإلغاء الوجود الوطني الفلسطيني، من خلال خطتها المتواصلة في التهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية.

يجب التمسك الدائم ببرنامج السياسة الوطنية الواقعية والقائم على الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية، ومواصلة العمل في الهيئات الدولية عاما بعد آخر، لتأكيد التمسك الدولي بهذه القرارات، وممارسة الضغوط السياسية والدبلوماسية. ورغم غياب البعد العملي لقرارات الشرعية الدولية، إلا أن البعد الأخلاقي لا يقل أهمية.  ومنذ خطاب أبو عمار في الأمم المتحدة عام 1974 وحتى خطاب أبو مازن في أيلول 2011، فإن عزلة إسرائيل تشتد رغم طغيان سيطرة أمريكا على القرار الدولي. وحين تصوت أكثر من (130) دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح الحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا يقف ضد هذه القرارات غير أمريكا وإسرائيل وميكيرونيزيا، فإن ما يشير إليه هذا الإجماع الدولي، أن إسرائيل "دولة منبوذة "، والسبب الوحيد وراء هذه الوضعية لدولة إسرائيل هو تنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني واستمرارها في احتلال أرضه، وخروجها السافر ضد قرارات الشرعية الدولية.  وجاء قبول فلسطين في منظمة "اليونسكو" بعضوية كاملة أسوة بباقي الدول مؤشراً لا يخطئ على التحول الكامل على الصعيد الدولي للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة .

ولهذا، فبقاء السلطة الوطنية الفلسطينية حقيقة مادية وسياسية وكيانية من حقائق الشرق الأوسط، ويشكل العائق الأكبر أمام إسرائيل دون أن نتجاهل دور السلطة في الإحياء والبناء الوطني. ومن الخطأ القول بأن المنظمة الأم - منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الوطن المعنوي والممثل الشرعي والوحيد، يمكنها أن تملأ الفراغ وتقوم بذات المهام التي تؤديها السلطة الوطنية. وفي حالتنا الراهنة في ضوء هذا الصراع المديد وهذا المأزق فإن المنظمة تبقى ضرورة وطنية، والسلطة الوطنية ضرورة وطنية ودولية.  فهي النواة المادية على الأرض للدولة الفلسطينية التي يدفع المجتمع الدولي باتجاه قيامها على أرض فلسطين وبحدود عام 1967 والقدس الشرقية عاصمتها.

 وقد تكون المواقف  الإسرائيلية، منذ استشهاد أبو عمار في 11 تشرين الثاني 2004، بقدر ما ألحقته من تدمير مخطط للسلام بين الشعبين ولحل الدولتين، قد فضحت ما قاله باراك وكلينتون بعد قمة كامب ديفيد.  فقد أثبتت هذه السنوات أن إسرائيل تملك من القوة والحماية الأميركية ما يمكنها من رفض الحل التاريخي على أساس الدولتين.  والأخطر من هذا الرفض أنها تواصل مشروعها الاستيطاني الطويل الأمد معتمدة على الحماية الأميركية.  إلا أن التاريخ لا يتوقف، وإن كان في حالتنا يتقدم ببطء شديد.  والشرق الأوسط، حيث السياسة فيه كرماله المتحركة، يفرض علينا أن نتمسك بالإنجاز التاريخي الذي حققه ياسر عرفات، وأعاد فلسطين إلى وضعها الطبيعي حقيقة راسخة من حقائق الشرق الأوسط.  حقيقة أبدية غير قابلة للزوال، فلا عودة إلى الوراء، والتقدم إلى الأمام حتمي.

الفصل السابع والعشرون


الفصل السادس والعشرون

الفصل الخامس والعشرون

الفصل الرابع والعشرون


الفصل الثالث والعشرون


الفصل الثاني والعشرون


الفصل العشرون


الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات