دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة:سقوط الوصاية والأوهام

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة:سقوط الوصاية والأوهام
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الخامس :

سقوط الوصاية والأوهام 


في منتصف آذار 1972، أطلق الملك حسين مشروعه السياسي "المملكة العربية المتحدة" لاحتواء الشعب الفلسطيني، وجاء هذا الإعلان في ذروة قطيعة تامة بين فتح والنظام. فقد رفعت فتح شعار إسقاط النظام بعد أيلول والأحراش، وبعد اغتيال أبو علي إياد في عجلون واغتيال وصفي التل في القاهرة. وكان إعلان الملك حسين مناسبة لتعرية دور النظام كشريك لإسرائيل في ضياع فلسطين. وقد استعنت بكتاب أنيس صايغ "الهاشميون وقضية فلسطين " في حملة التشهير من الإذاعة، وكذلك لقاءات الملك عبد الله مع الياهو ساسون واغتياله في المسجد الأقصى في 20 تموز 1951. وكيف منع النظام عودة الحاج أمين إلى القدس، والخلاف بين الشقيري والملك حسين قبل حرب حزيران، وإغلاق مكتب المنظمة في القدس وطرد رئيس المنظمة أحمد الشقيري، ولم أكن أتلقى من القيادة أية تعليمات سواء لتخفيف الحملة على الملك حسين ومشروعه أو لتصعيدها، وكانت كلمات أبو عمار دائما: أرسل حكيما ولا توصه، أو على بركة الله. وفي هذا الجو المحموم من العداء بين الثورة والنظام دعا أبو عمار لعقد المجلس الوطني في دورة استثنائية وعلى هامشه عقد مؤتمر شعبي. وقد حضرت هذا المؤتمر الشعبي الفضفاض على عكس المجلس الوطني الذي كان صغير العدد ولا يشارك فيه غير الأعضاء وأما الضيوف فيحضرون جلسة الافتتاح العلنية.

في المؤتمر الشعبي 1992 كان هناك إجماع أن مشروع الملك حسين يرمي الملك من وراءه إلى احتواء القضية ولإعادة فرض الوصاية بعد أن تمكنت فتح والثورة من إسقاط الوصاية والاحتواء والتبعية وأصبح قرار الشعب الفلسطيني في اليد الفلسطينية. وجاء بيان المجلس الوطني بالمضمون نفسه دون التطرق لمستقبل الضفة الغربية. وأدركت أن ارتباط الفلسطينيين بفلسطين التاريخية هو استحواذ أبدي لا فكاك منه. ولا ينفع في مواجهته حجج العقل والمنطق والواقعية وحديث موازين القوى والوضع الدولي الذي أقام إسرائيل ويقدم لها الدعم الكامل. وبدأت بالفعل أراجع أفكاري التي قدمتها في المؤتمر الثالث لحركة فتح. ولولا لطف الله لقدمني زملائي في المؤتمر الثالث لفتح لمحكمة عسكرية تقضي بإعدامي بتهمة الخروج على المبادئ والأهداف. وقررت أن أبحث عن أحمد بهاء الدين، الصحفي المصري الشهير، الذي اقترح قيام دولة فلسطينية. وبالفعل كانت علاقاتي مع مجلة الطليعة ولطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وميشيل كامل قوية منذ أيام عملي في صوت العاصفة حتى نيسان 1970. أحمد بهاء الدين هادئ ورزين وقليل الكلام، وهو يحرص على الاستماع أكثر مما يتكلم، وهو متابع مثابر للشأن الفلسطيني منذ زمن بعيد. وحين سألته عن حديثه القديم عن قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، قال وبالحرف الواحد: موازين القوى ليست لصالح الفلسطينيين والعرب.  وأنت تعلم ما جره التصريح المنسوب زورا إلى الشقيري من ويلات على الفلسطينيين والعرب، اليهود بعد الحرب العالمية مشكلة عالمية أخلاقية وسياسية والقضاء على دولة إسرائيل لا يمكن تحقيقه في المدى القريب أو البعيد.  العالم تغير، لا يمكن القضاء على دولة موجودة، وخاصة إذا كانت دولة لليهود.  وتحدث بألم وحزن على ما حصل للثورة في الأردن وما يجري في لبنان وإغلاق الحدود العربية في وجه الفدائيين.  وتساءل إن كنت أرى أملا في إدراك الثورة وفتح خاصة لحقيقة الواقع العربي والدولي. وذكرت له ما كنت أعلنته من إذاعة صوت العاصفة في درعا عن إلغاء اتفاق أريحا وإلغاء وحدة الضفتين وأن أبو عمار لم يرفض ما قلته في ذلك الحين، وإن كان في المؤتمر الثالث بقي صامتا مع أنه اعتبر أن من حق أي عضو في المؤتمر أن يقول رأيه دون مقاطعة من أحد.  وأضفت لأحمد بهاء الدين أن ما قلته من أن الجعبري سيكون وطنيا أكثر منا قد استفز الكثيرين في المؤتمر لأن الجعبري هو من وقع اتفاق أريحا وضم الضفة الغربية "شرق فلسطين" إلى الأردن.

وودعني أحمد بهاء الدين وهو يقول: القضية قضيتكم أولا وأخيرا ويجب أن يبقى القرار الفلسطيني في الأيدي الفلسطينية.  ولكن لا تصدقوا من يقول لكم أنه مع التحرير الكامل. وآمل أن تدرك قيادتكم حقائق الواقع السياسي الذي تعمل فيه، وأن تكف عن شعارات إسقاط هذا النظام أو ذاك، ولماذا لا تدرك قيادتكم أن الوضع العربي انقلب رأسا على عقب بعد وفاة عبد الناصر؟

وقد رافقت احمد بهاء الدين وكامل زهيري من القاهرة إلى بغداد لحضور اجتماع لنقابة الصحافيين العرب وبقينا معا لمدة ستة ايام في الفندق نفسه ونحضر الاجتماعات معا. وقد انتخبنا أحمد بهاء الدين نقيبا للصحفيين العرب وهناك في أوساط حزب البعث بزعامة أحمد حسن بكر وصدام حسين كانت الشعارات الثورية والقومية تتردد أصداؤها في المؤتمر وفي الشارع وفي الإذاعة وفي اللقاءات مع أقطاب الحزب الذين لا يطرحون غير شعار الوحدة والتحرير الكامل لفلسطين من شذاذ الافاق الصهاينة. وكانت هناك دعاية مركزة لإظهار أن كل انجازات تمت في العراق هي من صنع حزب البعث. وكنا مستمعين جيدين، إلا أنني فوجئت بأحد الشباب في الفندق يحدثني عن الأكراد وقضيتهم في العراق وضياع حقوقهم الوطنية والقومية وهناك حرب مستمرة في المناطق الكردية في شمال العراق.  وجن جنون البعثيين حين سألت عن وضع الأكراد في العراق. وأحضر أحدهم خريطة جغرافية وقال إن مصدرها تنظيم كردي، وفيها أن الأكراد يعتبرون بغداد حدودا للدولة الكردية التي يريدونها. وبالطبع رفضت هذا الطرح. وأكدت لهم أن العراق عربي منذ أقدم العصور حتى هدأت نفوسهم.  إلا أن هذا الشاب الكردي لم يتركني وشاني. وحين كنا في زيارة لمدينة بابل قال لي بصوت خافت: هنا لا يستطيع البعثيون الادعاء أنهم قد بنوا بابل والحدائق المعلقة وأدركت من يومها أن العراق يواجه مشكلة بدا حلها مستحيلا في ذلك الوقت.

عدت إلى درعا لمواصلة عملي مسؤولا لصوت العاصفة. وفي اليوم الثاني مباشرة لعودتي من بغداد وكان ذلك أواخر أيار 72 وقعت مشكلة لأبو عمار في أحد القواعد الفدائية وكان مسؤولها حسين الهيبي وهو من القبائل البدوية في شمال فلسطين، حيث حاصرت قوة تابعة للهيبي المكان الذي تواجد فيه أبو عمار وكانت الذريعة عدم انتظام التموين للقاعدة الفدائية.  وقد أطلق حسين الهيبي النار على أحد مرافقي أبو عمار الذي استشهد على الفور، ويمكن القول إن هذا العمل كان كمينا لأبو عمار.  ولكن حنكته أنقذته من موت محقق حين لبى كل المطالب وأمر بتنفيذها على الفور. ولكن هذا الكمين المدبر لم يمر دون تفسيرات وتأويلات. وانتشر بين الفدائيين أن الكمين كان من تدبير المخابرات السورية حيث هناك علاقة بين الهيبي والمخابرات السورية.  وقيل كذلك أن الهدف من وراء قتل مرافق أبو عمار هو إنذاره حتى لا يعود ثانية للأراضي السورية، ويتوقف عن القيام بعمليات في الجولان بين فترة وأخرى رغم أمر العمليات السورية بمنع الفدائيين من القيام بعمليات سواء ضد إسرائيل أو ضد الأردن، حيث انتشر الجيش السوري على طول الحدود مع الأردن.

وكان بركات زلوم، مقدم البرامج في الإذاعة، يسكن في درعا بعيدا عن مبنى الإذاعة، ويتنقل بالباص بين الإذاعة ومسكنه، وحصل أن جلس بجانبه أحد الشباب وراح يسأله عن قصة الكمين الذي لم تتناوله الإذاعة بتاتا بتعليمات من أبو عمار. وأعطى بركات زلوم لنفسه الحق أن يقول للشاب أن الكمين مؤامرة دبرها حافظ الأسد ضد ياسر عرفات لإجباره على مغادرة الأراضي السورية، ومعروف أن حسين الهيبي يعمل مع المخابرات السورية.  ولم يحضر بركات زلوم في اليوم التالي إلى الإذاعة لتقديم البرامج وانقطعت أخباره.  وأرسلت من يسأل عنه حيث يسكن فقالوا لا نعرف أين ذهب.  جاء شباب وخرج معهم ولم يعد منذ مساء أمس ولم ينم في المنزل. وقمت بإبلاغ القيادة في ال "23" باختفائه المريب، وسألوني إن كان غادر إلى الأردن، فاستبعدت هذا الاحتمال، لأن بركات معروف لهم في الرمثا وسيعتقلونه لحظة وصوله. وفي اليوم الثالث لاختفائه جاءني اتصال غريب وقال المتحدث انه الرائد نديم مسؤول مخابرات درعا. وقال بكل تهذيب: لو تتفضل عندنا، قلت له: على الفور. وهنا أدركت أن الموضوع يتعلق باختفاء بركات زلوم. وقد ساورني القلق على حياته. استقبلني الرائد نديم بكل ترحيب واحترام وكذلك بقية الضباط والأفراد، وتناولنا القهوة معا. وفي الأثناء قال لي الرائد نديم: لا شك أنك قلق على زميلك بركات زلوم، وقلت له إن اختفاءه أمر غريب ولا أدري أين هو الآن.  قال نديم أنه معتقل عندنا هنا في المخابرات، وفوجئت فعلا من أقواله ورحت أسأله، ولماذا تعتقلونه؟

وحدثني الرائد  نديم عن رحلة الباص المشؤومة التي أدت إلى اعتقال بركات.  وقال لي: لا أريد تضخيم هذه القضية وتحويل بركات إلى دمشق، وأنا واثق أنك لا تقبل هذا التصرف، وأعدك أنني سألغي محضر التحقيق معه، وأمر بإحضار بركات زلوم الذي كان في غاية الارتباك وقدم اعتذاره للرائد نديم.  وعند المغادرة قال نديم: قل لصاحبك أن يعرف أين يجلس ومع من يتحدث، فحديثه كان مع عنصر مخابرات، وصافحته وغادرنا مبنى المخابرات.

وفي حزيران عام 1972 تخلت فتح عن الإعلام المركزي وجرى تشكيل الإعلام الموحد برئاسة كمال ناصر، والذي ضم الأجهزة الإعلامية المركزية وتأسست وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وصدرت مجلة "فلسطين الثورة" الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية وكان الهدف توحيد الإعلام الفلسطيني ومشاركة كل الفصائل في الإعلام الموحد.  وبالطبع كان هذا أمرا مستحيلا.  لكن الذي تحقق فعلا أن أجهزة فتح الإعلامية صارت هي المعبرة عن المنظمة وعن الموقف الرسمي الفلسطيني. وعادت المنظمات والفصائل لإصدار مطبوعاتها لتعكس أعمالها ومواقفها السياسية، أما الموقف الفلسطيني فأصبح يصدر حصرا عن الإعلام الموحد.

ولدى تأسيسه شاركت في بعض الاجتماعات وقابلت كمال ناصر أكثر من مرة، لكن قضية التوحيد ظلت قضية بعيدة عن الإذاعة وظلت إذاعة فتح المسماة صوت العاصفة تعمل كالمعتاد.  ولم يكن هناك تقليد لأن يوجه المركز في بيروت أو دمشق وحتى عمان في البداية خطاً إعلاميا، حيث كان يصلنا الاحتجاج بعد أن يكون قد سبق السيف العذل. فالكلمة كالرصاصة إن خرجت فإنها لن تعود أبدا. وقد ظهر واضحا في أحد الاجتماعات برئاسة كمال ناصر أن هناك تباينا  في تناول الإذاعة لموضوعات الساعة واستشراف المستقبل وبين ما  يصدر في الإعلام المكتوب، ففي المجلة المركزية كان يجري التأكيد على التحرير الكامل ورفض الحلول الانهزامية والتأكيد على الكفاح المسلح باعتباره الطريق الوحيد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح. ولم يكن لدي اعتراض على هذه الثوابت والأهداف والمبادئ لكني وجدت أن ما بدأت تنشره جريدة "الحرية" في عام 1972 حول الدولة الفلسطينية وحول منع الأردن من العودة ثانية للتحكم بالشعب الفلسطيني خدمة للصهيونية يتقاطع تماما مع ما تحدثت عنه في مؤتمر فتح الثالث ولم يسمعني أحد سواء من الجهة التي كنت أعتبرها محافظة وإن بدأت تتفكك والجهة التي كنت اعتبرها تعبر عن الموقف القومي ولا ترى خصوصية الوضع الفلسطيني، ولا ترى كذلك أن نقيض البعد القومي ليس فتح بل الكيانات القطرية والتي لا سبيل للتخلص منها وانتصار الوحدة القومية القادرة على تحرير فلسطين. وحرصت في الحوارات التي كنت أشارك فيها على القول أن الموقف الذي أعبر عنه هو الموقف الوطني بما يعبر عنه القرار الوطني المستقل والمسؤولية الوطنية قبل أي مسؤولية أخرى عن وطننا فلسطين.

 كنت بهذا الطرح أحاول الاقتراب من القضية المحرمة قضية الدولة الفلسطينية والأرض الفلسطينية التي كانت في عهدة مصر والأردن وأتساءل هل الأرض فلسطينية أم لا؟ وهل الشعب فلسطيني أم لا؟ لم يوافق أبو ميزر وحنا مقبل وأبو نضال غطاس ومي صايغ ومنير شفيق وناجي علوش على الموقف الوطني الواقعي، وقالوا إنهم يتمسكون بالموقف الثوري وبالمبادئ والأهداف والأساليب التي حددتها فتح يوم انطلقت في الفاتح من يناير 1965.

أما القيادة العليا وهي اللجنة المركزية فقد تباينت مواقفها من طرح نايف حواتمة ومجلة الحرية فالبعض أخذ يطرح المرحلية.  وكان أبو إياد أول من تحدث عنها. أما أبو اللطف فقد ظل بعيدا عن هذه القضية في تصريحاته ومواقفه العلنية.  أما أبو صالح فقد عاد للاتصال معي بعد فترة انقطاع دامت عاما لأنه كان مشغولا بترتيب الأمور في قوات العاصفة حيث أصبح عضوا في قيادتها.  وكمال عدوان، حصر نشاطه في القطاع الغربي. وماجد أبو شرار، كان المفوض السياسي العام، ومع تأييده للموقف الوطني والقرار الوطني المستقل فإنه كان دائما حريصا على أن تبقى علاقاته وجسوره مفتوحة وقوية مع الجميع داخل فتح ومع الفصائل، وكان موهوبا في إدارة هذه العلاقات العامة لعدم إحداث قطيعة مع أصحاب الرأي المخالف على قاعدة القول الشائع "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. "

كان عام 1972 هو عام المعركة الفكرية والسياسية ضد الوصاية الأخوية العربية على الثورة. وبالمناسبة ليس الأردن وحده من فرض الوصاية على الشعب الفلسطيني. فحامل الوثيقة، وثيقة اللاجئ واللجوء، إنما يحمل في الواقع وثيقة اتهام لشخصه وشعبه ولوطنه. فاللاجئ في لبنان أو سوريا لا يستطيع أن يقطع الحدود بوثيقته. فمن يعترف بوثيقة اللاجئ؟ أنت لاجئ وفي مخيم اللاجئين تولد وتعيش وتموت. وفي مصر إذا خرج اللاجئ حامل الوثيقة من مصر، فلا يستطيع أن يعود إليها إلا بعد الحصول على تصريح دخول مجددا. إنما المصري أو السوري أو اللبناني حامل الجواز فإنه يسافر ويعود دون مساءلة.  وكان من بين فضائل فتح والثورة أنها حطمت هذه السجون التي تسمى مخيمات في الأردن وسوريا ولبنان وإن لفترة وجيزة عن طريق التحرك الحر وبورقة الإجازة بين هذه الأقطار الثلاثة. وللتغلب على قيود الأنظمة كان لدينا دائرة لتزوير الجوازات ولشراء الأختام وشراء التواقيع الرسمية وحتى الجوازات بأحدث أرقامها.

وأذكر ذات مرة أن هذه الدائرة أمنت لي جوازا دبلوماسيا أردنيا وكنت في رفقة محمود درويش إلى دمشق نعود بعدها الى بيروت، وكان محمود مديرا لمركز الأبحاث الفلسطيني، وعند عودتنا قدمنا جوازي السفر في المصنع لختمها وكانت المفاجأة المذهلة أن جوازي المزور كان شرعيا وختمه الموظف بسرعة، أما جواز محمود درويش الشرعي فاعتقد الموظف أنه مزور والفيزا مزورة وتدخلت وقمت بتعريف الموظف بصاحب الجواز، إنه محمود درويش الأشهر من نار على علم، فخجل الموظف وسلمني الجواز. الثورة تعني القضاء على الظلم. ومن أهم انجازات الثورة الفلسطينية بقيادة فتح أنها كسرت  قيود المذلة والمهانة من قبل الشقيق  قبل العدو. وكانت إذاعة صوت العاصفة تكرر ألف مرة في اليوم النشيد الأشهر "أنا قد كسرت القيد قيد مذلتي ."

فشل مشروع المملكة العربية المتحدة فشلا ذريعا.  فالشعب الفلسطيني في الثورة والمخيمات والوطن رفض هذا المشروع وفضح أهدافه. والدول العربية لم تجرؤ على تأييده. فبعد أيلول والأحراش واغتيال أبو علي إياد في الأحراش واغتيال وصفي التل في مدخل فندق شيراتون بالقاهرة، أحاقت العزلة بنظام الملك حسين في الساحة العربية.  إلا أنه نجح في إخراج الثورة من الأردن وأغلق أطول حدود عربية في وجه الفدائيين. وهنا لا بد من القول إن شعار إسقاط النظام في الأردن لم يلق قبولا في أوساط الشعب الأردني، خاصة بعد التصدع الذي أصاب علاقات الشعبين من عام 1968 وحتى عام 1971. وزاد الطين بلة، لجوء فتح والفصائل إلى تدبير عمليات عسكرية لقلب النظام. وقد تولى مكتب شؤون الأردن هذه المسؤولية الخطيرة. ومن المفارقات المضحكة المبكية أن هذا المكتب كلف أحد الشباب بإلقاء قنبلة على مكتب الجوازات في الزرقاء، وأصيب نتيجة ذلك (24)  فلسطينيا، ولم يصب مسؤول واحد.

كانت المحاولة التي بلغت الذروة من حيث سيطرة روح المغامرة، هي محاولة السيطرة على مقر مجلس الوزراء الأردني في عمان آذار 1973، وقد فشلت واعتقل قائدها أبو داوود وحكم ومن معه بالإعدام. وعفا الملك حسين عنهم قبل حرب أكتوبر. كما فشلت كذلك محاولة الانقلاب العسكرية التي تزعمها الضابط رافع الهنداوي وعدد من الضباط بينهم أخي الضابط "عدوان" وقد حكموا بالإعدام وعفا عنهم الملك حسين.

وهكذا على صعيد صراع الثورة والنظام.  فقد فشلت الثورة، في إسقاط النظام بعد استحالة التوافق بينهما. وفي المقابل فشل النظام في إعادة وصايته على القضية الفلسطينية. وانتهت حقبة من التاريخ تعرض فيها الشعب الفلسطيني للنكبة والإلغاء والاحتواء. وإذا كان العدو قد احتل كل فلسطين التاريخية، فإن محاولة تذويب الشعب الفلسطيني وطمس هويته وكيانه قد فشلت فشلا ذريعا.

أما المعركة الأخرى التي كان الهدف منها التعويض عن سقوط القاعدة الآمنة في الأردن، فكانت الحرب الفلسطينية الإسرائيلية في الساحة الخارجية، إنها حرب المخابرات والجواسيس. وقد كانت أوروبا ساحتها الرئيسة. وقد استهدفت الفريق الرياضي الإسرائيلي في الألعاب الأولمبية في مدينة ميونخ الألمانية في أيلول 1972. وقصفت إسرائيل المخيمات والقواعد في سوريا ولبنان واغتالت وائل زعيتر في روما ومحمود الهمشري في باريس وحسن أبو الخير في قبرص، واغتالت قبل ذلك غسان كنفاني في بيروت ( 8 تموز 1972) ،  واستخدمت الطرود الملغومة التي انفجرت في المرسلة إليهم: مدير مركز الأبحاث أنيس الصايغ، بسام أبو شريف رئيس تحرير الهدف، أبو خليل ممثل فتح في الجزائر. وخطف الفدائيون الطائرات، ومنهم علي طه، إلى مطار اللد. وخطفت طائرة لوفتهانزا إلى مقديشو وقتل مسؤول المخابرات الإسرائيلية في مدريد، وقد استولى الفدائيون على سلاحه وأوراقه الشخصية، وعثر فيها على صورة  د. عصام كامل ممثل حركة فتح في مدريد. واكتشف الأمن الايطالي محاولة لإطلاق صاروخ على طائرة "ال عال "وهي تقلع من مطار روما، واعتقل المجموعة التي كان يقودها أمين الهندي. كما فشلت محاولة أخرى لاغتيال الملك حسين في المغرب وكان يقودها أمين الهندي وأبو هشام وفي أوائل عام 1973 هوجمت سفارة إسرائيل في بانكوك، واقتحمت مجموعة أخرى السفارة السعودية في الخرطوم ( نيسان 1973) وقتلت السفير الأمريكي وبعض الدبلوماسيين الأوروبيين، إلا أنها لم تمس السفيرين السعودي والأردني.

وجاء الرد الإسرائيلي على عملية الخرطوم وغيرها من العمليات في نيسان 1973 بعملية فردان التي استهدفت أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان. ونسفت مكاتب الجبهة الديمقراطية في الفاكهاني. إلا أنها تراجعت عن اقتحام مقر ال (17) مقر أبو عمار بسبب الحراسة المشددة عليه والعدد الكبير من الفدائيين حول المبنى. إلا أن هذه العملية الإسرائيلية في قلب بيروت قد هزت النظام اللبناني من جذوره، وفجرت الصراعات الداخلية واستقالت الحكومة، وتحركت القوى الوطنية ضد هذا التخاذل في مواجهة إسرائيل.

وشعر رئيس لبنان سليمان فرنجية أن الفدائيين قد أصبحوا قوة مؤثرة في الصراع الداخلي، ولهذا أمر الجيش بتطويق المخيمات بعد اقل من شهر على جريمة شارع الفردان. ففي ( 2 أيار 1973) وصلت دبابات الجيش إلى دوار الكولا الذي يشكل بوابة منطقة الفاكهاني، وتصدى الفدائيون للدبابات وفشل الهجوم على مقر القيادة. وواصل الجيش قصف المخيمات ولكنه فشل في اقتحام أي منها، ما عدا مخيم (ضبية) المعزول شرق بيروت. وكان الوضع العربي غير موات بالمرة لهذا الهجوم اللبناني على الثورة، خاصة وان دروس أيلول 1970 في الأردن كانت المرآة المكبرة لكل ما جرى مع الثورة ومع الفلسطينيين في لبنان حتى عام 1982، يوم توحدت القوى والمصالح، ولم تكن إسرائيل تخشى أحدا في الشرق الأوسط. فمصر تلملم جراحها بعد اغتيال السادات في ( 6 أكتوبر 1981) والأسد تلقي تطمينات من قبل أطراف عربية وأوروبية وأمريكية بان إسرائيل لن تتجاوز مسافة ال (45) كم التي اعتبرها كيسنجر المجال الحيوي لإسرائيل.  وحين تجاوزتها وصدقت نظرية أبو عمار حول الأكورديون ويعني الإطباق على الثورة من الجنوب وشرق بيروت، وتواطؤ شارون وبشير الجميل، خسرت سوريا أكثر من (80) طائرة وأرغمت على وقف إطلاق النار يوم 11 حزيران 1982. وبقيت الثورة بقيادة أبو عمار صامدة لمدة 88 يوما.

أما في أيار عام 1973 فالسادات والأسد وقفا في وجه  مؤامرة فرنجية والجيش ضد الثورة. وظهرت الحركة الوطنية اللبنانية حليفا قويا للثورة. وهذا على خلاف الوضع في الأردن سنة ( 1970). فالثورة ألغت الحركة الوطنية وحلت محلها. وحين قرر الملك حسين تصفية الثورة لم يكن لها حلفاء في الساحة الأردنية. وبالفعل صمدت المخيمات في لبنان وصمد اتفاق القاهرة وفرضت الحركة الوطنية نفسها لاعبا أساسيا في الشأن الداخلي اللبناني وأزاحت القوى التقليدية عن مسرح الأحداث، وتحررت منطقة الفاكهاني والمخيمات صبرا وشاتيلا وبيرحسن وبرج البراجنة من أية سيطرة للجيش أو الفرقة (16) أو المكتب الثاني. وكانت قذيفة   (آر بي جي) من الفدائي ( جيفارا) التي أحرقت دبابة على دوار الكولا  شاهدا على تراجع الجيش النهائي عن هذه المناطق. وظلت محررة حتى عام 1976 حين تدخلت سوريا تحت الغطاء الأمريكي والموافقة العربية الرسمية لإنهاء سيطرة الثورة على أكثر من 80% من الأراضي اللبنانية. وللأسف كان هذا التدخل السوري بقرار أمريكي وأوروبي لاستعادة لبنان القديم، إشارة واضحة لتدخل أكثر قوة لإسرائيل في عام 1982.

الفصل الرابع