أحمد عبدالرحمن يسرد ذكريات بدايات السلطة : أبو عمّار رئيساً , حماس والجهاد والعمليات التفجيرية

أحمد عبدالرحمن يسرد ذكريات بدايات السلطة : أبو عمّار رئيساً , حماس والجهاد والعمليات التفجيرية
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الخامس والعشرون: 
 آخر العائدين

في العشرين من أيلول 1994 عدت إلى تونس وفي جيبي بطاقة الهوية الخضراء وهي مكتوبة باللغتين العربية والعبرية.  وقد حرصت على إخفائها وعدم الإشارة إليها في أي حديث مع الأخوة الذين فضلوا البقاء في تونس من أعضاء القيادة، أو مع شباب القطاع الغربي، أو من فلسطيني عام 1948 الذين رفضت إسرائيل عودتهم لأسباب أمنية.  والغريب أن هؤلاء جميعا كانوا يتحرقون شوقاً لخبر مفرح عن وطنهم وأهلهم، وكنت أقرأ هذه الفرحة في ملامحهم وفي عيونهم حتى وهم يرددون سيئات اتفاق أوسلو التي لا حصر لها.

وإذا كان غيابي عن تونس لم يدم أكثر من عشرة أيام، إلا أنني عدت شخصا آخر، وبموقف مختلف وبلغة مختلفة. فالقناعات الراسخة على مدى ثلاثين عاما أخذت تخلي مكانها أمام واقع جديد في غزة، حيث أبو عمار، الذي ألقى بنفسه في النار الحارقة، والاحتلال يحيط به من كل جانب، وهو مكشوف تماما في أقواله وتحركاته. ولأني أدعي معرفة عميقة به، فكان يستحيل علي أن أقبل المواقف التي تميل إلى إصدار الأحكام الجاهزة والقطعية على مغامرة أوسلو لتبرير معارضة أبو عمار وعدم اللحاق به في غزة.

التقيت في تونس في تلك الفترة محمد الصياح، وهو شخصية سياسية تونسية بارزة، وكان عمل لسنوات طويلة مع الحبيب بورقيبة، وقد بادرني بالسؤال عن الوضع في غزة، فقلت له أن الوضع محير، فالإحتلال على حاله وأبو عمار يعيش الآن تحت الاحتلال. 

صمت محمد الصياح ثم رفع رأسه وقال:

-         لم يكن أمام أبو عمار غير ما فعل.

وراح يحدثني عن بورقيبة، وكيف استقلت تونس، ويعقد مقارنة بين بورقيبة وأبو عمار، وأبدى استغرابه من هذه المعارضة الشديدة لاتفاق أوسلو من بعض الفلسطينيين الذين لا زالوا يتأثرون بالسياسات العربية. وقال الصياح:

- ليس أمامكم غير العمل مع أبو عمار والانصياع له، وعليكم عزل المتطرفين. ولو إن بورقيبة لم يكن طويل النفس وأنه أدار ظهره للمتطرفين لما كان استقلال تونس قد تحقق بأقل التضحيات.

ودون أن أجد ما أقوله أخرجت بطاقة الهوية الخضراء وناولتها لمحمد الصياح الذي أخذ يقلبها بين يديه ثم قال:

- هذه الفترة انتقالية قبل الاستقلال ولا بد منها.

اختفيت في تونس طوال عام 1995، ولا أدري كيف مضت الأيام طوال عام كامل، رغم أن أحداث ذلك العام هي التي قررت المصير المظلم لاتفاق أوسلو. واستوقفني طويلا ما حصل في القاهرة أثناء التوقيع على الخرائط التوضيحية
 حين رفض أبو عمار التوقيع على الخرائط الخاصة بمنطقة أريحا. وقد حدث هذا الموقف تحت الأضواء العالمية، بحضور الرئيس بيل كلينتون ورئيس الوزراء رابين والرئيس مبارك.  إلا أن اغتيال رابين في 4 تشرين الثاني 1995 قد وجه الضربة القاتلة لاتفاق أوسلو. وبعده تسلم شمعون بيرس رئاسة الحكومة، إلا أنه لا يمتلك أوراق الاعتماد التي كان يملكها رابين. جنرال إسرائيل الأول.  قام شمعون بيرس بتسليم المدن في الضفة الغربية للسلطة الوطنية، باستثناء مدينة الخليل، تمهيدا لإجراء أول انتخابات تشريعية فلسطينية في 20 كانون الثاني 1996. وقد قاطعت "حماس" و"الجهاد" هذه الانتخابات. ومن المفارقات أن حركة "حماس" فصلت إسماعيل هنية وآخرين لإعلانهم الترشح خروجا على قرارها. وفي الأسبوع الأول من كانون الثاني 1996 كان أبو عمار يزور المغرب وموريتانيا، وفي يوم 8 كانون الثاني 1996 توفي الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، وأبو عمار لا يترك مناسبة تمر دون مشاركته سواء كانت تهنئة أو تعزية أو جنازة أو استقلال. والرئيس ميتران له مكانة خاصة عند أبو عمار، فقد مد له يد المساعدة في الأيام الصعبة في بيروت وطرابلس، وأعطى أكثر من موقف سياسي يطالب فيه بالعدالة للفلسطينيين. وكان أبو عمار لا يفارق محطة تونس في حله وترحاله. وكان أبو ماهر مفوض التنظيم يقيم مأدبة عشاء لأبو عمار كلما حل بتونس، ويدعو لها من تبقى من القيادات والكوادر. وبحكم جيرتنا المشتركة في المكتب والمنزل، كان أبو ماهر يحرص على دعوتي في هذه المناسبات. وفي عشاء ليلة 12 كانون الثاني 1996 مع أبو عمار لم يكن لديّ ما أقوله ردا على دعوته لي للعودة معه إلى غزة، وكل ما قاله أن أذهب معه وأرى الأوضاع، وترك لي حرية القرار أن أبقى أو أعود إلى تونس.

وفي الواقع، ظلت كلمات السياسي التونسي محمد الصياح لا تفارق ذاكرتي أبدا وهو يدعوني إلى اللحاق بأبي عمار في غزة والعمل معه والانصياع لقراراته، لأن هذا الاختراق الذي حققه بإقامة السلطة الوطنية لا بد من حمايته وتعزيزه.

12 كانون الثاني صباح 1996اصطحبني فتحي( سلبد) رئيس حرس أبو عمار إلى المطار، وبعد دقائق وصل موكب أبو عمار، ولم نتأخر في صالون كبار الزوار إلا دقائق قليلة، حيث ودّع أبو عمار الوزير التونسي، ولا يتردد في إنجاز بعض المعاملات التي تلحق به إلى المطار.  وفي زمن "الفاكس" في الثمانينات كان أبو عمار ونحن في الطائرة يطلب ما ورد من أوراق ومعلومات وأخبار وطلبات من السكرتارية ويقوم بقراءتها ووضع الشروح عليها.  وقد يحلو للبعض أن يدعي الآن أن هذه الطريقة في العمل كانت تعكس استحواذ أبو عمار على كل كبيرة وصغيرة في الفضاء الفلسطيني.  وهذا من - وجهة نظري- يعود إلى أن الثورة والمنظمة و"فتح" والفصائل منتشرة في الأقطار العربية والعالم، ولا توجد أرض أو قاعدة ثابتة، بل لا يوجد مجتمع يمكنه أن يفرز المؤسسات ويراقبها إن أخطأت أو أصابت. كنا بعيدين جدا عن الأرض والشعب والمنظمة، والقيادات تتواصل في كل الظروف من خلال "الصفر صفر" وأعني الهاتف وإلى جانبه "الفاكس".

صعدنا إلى الطائرة، ولم يكن غيري إلى جانب أبو عمار ومرافقيه، والرحلة من مطار تونس إلى مطار العريش المصرية، وهو المطار الأقرب إلى معبر رفح كانت تستغرق أكثر من ساعتين.  وقد فضل أبو عمار أن يأخذ قسطا من الراحة. وهو في هذه الحالة يخلع بدلته العسكرية التي لا تفارقه ويرتدي بدلة رياضة، ويحرص أن يكون الغطاء من الحرامات الإسبانية الدافئة التي لا تفارق طائرته الخاصة، ويقول حين يصحو من نومه: الجسم حين يعرق أفضل.  تتفتح المسامات ويتخلص من كثير من المواد الضارة والأملاح.

وصلنا مطار العريش عند الظهر، وكالعادة يكون في استقبال أبو عمار محافظ شمال سيناء والقادة المصريون في المنطقة، وكذلك سيارات الموكب التي تنقله إلى غزة. وتحركنا من المطار إلى حيث معبر رفح الفلسطيني.  توقفت السيارات ونزل أبو عمار وصافح اللواء أبو حميد وبعض العسكريين. وهناك وجوه أخرى. إنهم جنود وضباط إسرائيليون، وبينهم مجندة أخذت تنظر داخل السيارة الرئاسية حيث أجلس.  نظرت إلي وإلى صورتي في الهوية الخضراء التي أخذها مني أحد الشباب العاملين في المعبر.  لم أفتح فمي بل أخذت أراقب حركة أبو عمار. إنه يقف هناك على الرصيف مع اللواء أبو حميد، ويبدو أنه مرتبك وفي غاية الحرج.  وإن كان الوضع لم يستغرق مدة لا تزيد على خمس دقائق، إلا أنها تدمر الأعصاب فعلا. فهي تكشف القناع عن كل أمجاد اتفاق أوسلو.  هذه نقطة عبور فلسطينية وعليها العلم الإسرائيلي، وهناك سيارات عسكرية حول المكان، وأسلاك شائكة، وباصات محشوة بالمسافرين العائدين أو المغادرين. ويعود أبو عمار إلى السيارة.  فهناك إشارة دون كلمات مسموعة بأن الموكب جاهز للمغادرة، ومعناها أن الإسرائيليين راقبوا الهويات لتسجيل أسماء القادمين، والسيارات مرت فوق أجهزة التفتيش المقامة تحت الممر الإجباري لكل من يدخل معبر رفح.

كانت الكلمات تهرب من فمي وخذلتني أفكاري فلم أجد كلمة أو جملة تقضي على حالة البرود الذي أصابني.  وحين ابتعدت السيارات عن المعبر أطلت الأرض التي طالما حلمت بالعودة إليها.  إنها أرض شاحبة وحزينة.  أشجار متباعدة على طول الطريق. متروكة بلا أدنى عناية، وشوارع عتيقة من زمن الإنتداب، وقد تكون من زمن العثمانيين.  شوارع مليئة بالحفر والمطبات، ومدينة خانيونس التي دخلناها بعد عشر دقائق من مغادرة رفح ليست غير مخيم كبير، ومدخلها ورشات وكراجات ودواليب محترقة، وأمام مدخلها الشمالي باتجاه غزة تقف جيبات لجنود إسرائيليين، فهناك مستوطنة كبيرة في المنطقة واسمها "غوش قطيف".  إنها في الواقع تجمع مستوطنات تقطع أوصال قطاع غزة. وهناك مستوطنة "كفار داروم"، وبعدها "نتساريم". وكلها تطبق على قطاع غزة وتسرق أرضها. وهذا التمزيق الإسرائيلي لقطاع غزة وضعه إيغال ألون بعد حرب عام 1967 لتشكل هذه المستوطنات مع مستوطنة (يميت) في سيناء مراكز إنذار مبكر في حالة وقوع هجوم مصري. والآن، بعد كامب ديفيد تحررت سيناء، وأزيلت مستوطنة (يميت) على يد شارون. ولكن اتفاق أوسلو ترك موضوع المستوطنات إلى حين البحث في قضايا الوضع النهائي بعد مرور سنتين على تطبيق المرحلة الأولى من اتفاق أوسلو.  ولهذا فالسلطة الوطنية التي أقامها أبو عمار في غزة وأريحا ومدن الضفة، باستثناء الخليل، هي في الواقع سلطة في ظل الاحتلال.  ولا أعرف أين يجد الإنسان مظهرا أو عملا يشير إلى الحد الأدنى من الاستقلال.

بهذه السلبية المطلقة، وصلت غزة برفقة أبو عمار، وأمام المنتدى أدت ثلة من حرس الشرف التحية العسكرية للقائد العام الذي استعرض الحرس مع اللواء نصر يوسف.  وبعدها كان جيش من المستقبلين يصطف أمام مدخل المنتدى للسلام عليه وهو يحرص على مصافحة الجميع. وكنت بحكم أني آخر العائدين أسير خلفه وأصافح المستقبلين وأكثرهم يعرفني. ودخلنا مكتب الرئيس في المنتدى. الوضع أفضل من عام 1994 .هناك ترميمات سريعة. وأصبح المكتب أكثر ترتيبا وتنظيما. والفريق الذي يعمل في مكتب الرئيس هو الفريق نفسه في بيروت وتونس وغزة، والإضافات قليلة من الكوادر المحلية. ولهذا لم أشعر بالغربة، بل سرعان  ما وجدت نفسي في مكاني الطبيعي في فريق أبو عمار الذي يرافقه منذ سنوات طويلة.

يعود الفضل في بقاء هذا الفريق إلى حرص أبو عمار شخصيا.  وليس معنى ذلك أن العلاقة معه كانت دائما سمن وعسل، أو أن الفريق هم من صنف الملائكة.  هم بشر يخطئون ويصيبون ولهم مصالح ولهم طموحات مثل كل الناس، ولهم أخطاء وأنا واحد منهم.  إلا أن أبو عمار لا يتردد في ردع من يخطئ، ومحاسبته دون أن يتخلى عنه أو يبعده عن فريقه.  حتى لو أمر بسجن هذا الكادر أو ذاك حين يقول على طريقته "اسجن نفسك" فإنه بعد 48 ساعة تنتهي العقوبة، ويقلب أبو عمار الصفحة ولا يعود إليها أبدا.  أما رؤساء الإدارات والدوائر المحيطة بالرئيس فهم على علاقة مباشرة معه رغم وجود التسلسل الوظيفي. وحين يتعلق الموضوع أو القضية المطروحة بالقوات العسكرية فإنه يحرص على التسلسل والانضباط.  وهنا يظهر الفارق الكبير في تعامله مع المستوى العسكري أو المدني.  ويمكن أن نقول هنا أن علاقاته مع المستوى المدني ديمقراطية، أما مع المستوى العسكري فهي دكتاتورية.  وقد يكون استخدام الكلمتين الديمقراطية والدكتاتورية فيه تجاوز على المفهوم الكلاسيكي لهاتين الكلمتين، خاصة حين يتحول الداعية لفكرة ما إلى موقع المسئول الأول عن تنفيذها اليومي على أرض الواقع. ولأن طموحه لا يقف عند حد، فقد ظل طوال حياته يجمع في شخصه المبشر بالفكرة والمنفذ لها.  وهذا يفسر استحالة تحوله إلى سلطة ذات مؤسسات تقوم على تحكيم القانون المجرد لقيادة المجتمع الجديد.

لهذا  لم أجد فرقا يذكر بين قيادته في عمان أو بيروت أو طرابلس أو تونس أو غزة، علما أننا لأول مرة نقيم السلطة فوق الأرض الفلسطينية حيث المجتمع الفلسطيني المقيم على أرضه بما يشكله من تركيبة اجتماعية من مقيمين ولاجئين وعائدين، وأوضاع اقتصادية وثقافية وسياسية متفاوتة، وفصائل مقاومة لا حصر لها تحمل هموم سنوات طويلة من الاضطهاد والإحتلال والسجون والمعتقلات الإسرائيلية.

المفاجأة الكبرى في غزة كانت الناس، الذين يملأون الشوارع والبيوت والمدارس والجامعات والمساجد والمستشفيات وكذلك الحافلات، بحثا عن العمل في إسرائيل، والقوارب تملأ الشاطئ بحثا عن السمك. ولا تجد قائدا يفتخر بشعبه مثل أبو عمار. فيردد على العشاء "إن فيها قوما جبارين". ويضيف: هؤلاء الصيادون يأتون بهذا السمك من بحيرة "البردويل" المصرية وهو يعتزم بناء أحواض مائية في رفح لإنتاج السمك لسد حاجة السوق. واليابان بلد صديق، ولديه خبرة طويلة ولن يتردد في مساعدتنا. ولماذا لا تكون غزة هي سنغافورة الشرق الأوسط؟ ولكن عليهم "الإسرائيليون" أن يرحلوا أولا حتى نبدأ ببنائها من جديد.  لقد دمروا كل شيء وأصبحنا عالة عليهم في العمل. وحتى رغيف الخبز نشتريه منهم. وإنهم يسرقون ماءنا لمستوطناتهم، والماء الذي يصلنا لا يصلح للشرب بسبب ملوحته العالية، ولا حتى لبيارات البرتقال التي جفت. بهذا الحديث كان أبو عمار، بقصد أو بدون قصد، يشرح لي الوضع في غزة، وهو لا يمل من ترديد فكرته مئات المرات بنفس القوة والتصميم حتى يحفظها كل من حوله.

فضلت النزول في فندق "آدم" بدل "فندق فلسطين"، فهو أقل شهرة وأقل ضجة، والقادمون من الخارج يملأون "فندق فلسطين".  وكذلك الصحافيون الأجانب الذين يراقبون قيادة أبو عمار للسلطة الوطنية.  والآن لم يبق غير أسبوع واحد على إجراء أول انتخابات تشريعية فلسطينية، وأبو عمار مرشح لرئاسة السلطة، كما رشحت نفسها المناضلة الكبيرة سميحة خليل من مدينة البيرة.  إنها تنافس أبو عمار على الرئاسة. وفي اليوم الثاني لوصولي قال لي صحافي فرنسي أن المرشحة المنافسة لأبو عمار لا تأخذ حقها كاملا في الدعاية الانتخابية لبرنامجها السياسي، وهو في غاية الصلابة والتطرف، ولهذا قلت لأبو عمار: يجب السماح لها بالحديث عبر التلفزيون وإجراء مقابلة معها، هذا يكسبنا احتراما وتقديرا عند شعبنا وعند المراقبين الأجانب وعلى رأسهم رئيس فريق المراقبين الرئيس جيمي كارتر. وقد وافق على الفور إلا أنه قال: " أنا لم أقم بدعاية انتخابية"، فضحكت وقلت له: وهل أبو عمار بعد كل هذا التاريخ بحاجة إلى دعاية انتخابية؟ ورغم سعة صدره كان يتحسس من نقد يراه نقداً لاذعاً.  وفي غاية القسوة لاتفاق أوسلو وخطورته على القضية الوطنية. وأخيرا تنفس الصعداء عندما انتهى حديث سميحة، وقال لي: رغم أنها كانت قاسية في نقدها، فهي مفخرة لنا وأنا أعرفها من زمن بعيد.  وحين ظهرت النتائج حصل أبو عمار على 88% من الأصوات، وحصلت سميحة خليل على 12% وهذه هي المرة الأولى في الوطن العربي الذي تترشح فيها إمرأة لرئاسة سلطة.  وكانت السيدة سميحة خليل من أوائل من توافد على المنتدى في غزة لتهنئة الرئيس بنجاحه في أول انتخابات ديمقراطية في فلسطين. والآن، يقول أبو عمار غزة بحاجة إلى مطار والى ميناء، وميناء صيادي السمك بدأ العمل به، والسيارات تنقل الحجارة على مدار الساعة لبناء رصيف الميناء. ومن نافذة مكتبه المطلة على البحر وعلى ميناء صيادي السمك، يقول أبو عمار: حتى ميناء لصيد السمك لم يسمحوا به. لقد خربوا كل شيء.

في هذا اليوم الطويل، من تونس إلى العريش، والى معبر رفح، ومن هناك إلى مدينة غزة، وهذا العشاء الممتد حتى ما بعد منتصف الليل، استطعت أن أكون فكرة واضحة عن الحالة النفسية لأبو عمار: إنه مقيد الأفكار واليدين في هذا الوضع الجديد الذي وجد نفسه فيه، وقد مضت الآن سنتان على دخوله إلى غزة، وإقامة السلطة الوطنية. ولكن إسرائيل تواصل بناء المستوطنات، وتعزل القدس عن الضفة الغربية، والأخطر ما يشعر به أبو عمار من إهانة متعمدة له بقيام المخابرات الإسرائيلية باغتيال المقاومين: عماد عقل وكمال كحيل في قلب غزة، وهاني عابد في خانيونس. وكانت الضربة القوية لمكانة أبو عمار قيام المخابرات الإسرائيلية باغتيال يحيى عياش في 5 كانون الثاني 1996، وقال أبو عمار (الشين بت) اغتالت عياش بواسطة عميل مزدوج اسمه كمال حماد، وقد اختفى بعد جريمة الاغتيال. وتبين لي أن أبو عمار لديه خشية كبيرة من هذا التحول في الرأي العام بعد هذه الجريمة، حيث خرج في جنازة عياش أكثر من مائة ألف شخص، وهو يساوي العدد الذي خرج لاستقباله يوم عاد إلى غزة في أوائل تموز 1994.

بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية نفذت "حماس" عمليتين في القدس وعسقلان انتقاما لاغتيال عياش.  وفي يومين متتاليين أوائل آذار أعادت "حماس" الكرة، وفجرت قنبلة في باص في القدس، وعبوة في سوبر ماركت في تل أبيب. وأسقط  في يد أبو عمار، وكان واضحا أن مصداقية السلطة على الصعيد الإسرائيلي والعالمي في مهب الريح.  وأن أجهزتها الأمنية في وضع لا تحسد عليه، وخاصة إذا كان منفذو هذه العمليات ينطلقون من المناطق التي تسيطر عليها السلطة. ولكن أين هذه المناطق في الواقع وعلى الأرض؟ الأمن والجيش الإسرائيلي يمسك بتلابيب قطاع غزة من رفح وحتى بيت حانون، وحيث هناك مستوطنات فهي مراكز سيطرة لقوات الاحتلال على التجمعات السكانية المحيطة في الضفة والقطاع. فأين يا ترى تكون هناك سيطرة أمنية فلسطينية؟

وكانت المهزلة الكبرى أن قوات الشرطة وأجهزة الأمن لا يمكنها التحرك من مدينة لأخرى إلا بموافقة ومرافقة إسرائيلية. وإذا وقعت عملية فلسطينية فإن المستوطنين يقطعون الطرق ويهاجمون القرى بحماية كاملة من قوات الاحتلال. وكيف يكون هناك أمن وطني يثق به الجمهور، والاغتيالات والمداهمات والاعتقالات من "الشين بيت" لا تتوقف؟ والمستوطنات في مكانها؟ أسئلة كثيرة لا جواب لها حول اتفاق أوسلو وجدواه، أخذت تدور في رأسي وأنا أعود إلى العمل مع أبو عمار بعد انقطاع دام قرابة سنتين.

أبو عمار يواجه مشاكل داخلية لا تقل خطورة عن مشكلة الأمن المستحيل الذي قام عليه اتفاق أوسلو.  فإذا سقط الأمن سقط أوسلو. هناك مشكلة العائدين، وهناك مشكلة الطوق الأمني. والآن هناك لاعب جديد في السلطة هو المجلس التشريعي. ويتوقف مستقبل عملية السلام على مواجهة كل هذه التحديات، وإقامة سلطة قادرة على تأدية الدور المطلوب منها. أما التحدي الأول فكان مشكلة العائدين، مدنيين وعسكريين، الذين أخذوا يلتحقون بالحياة الاجتماعية، وأخذوا يبحثون عن الاستقرار بعد ثلاثين عاما من التشرد الثوري في المحيط العربي.  فقد عاشوا حياة الثورة ودفعوا أثمانا باهظة من أجل هذا اليوم. يوم العودة إلى الوطن. وفي هذه الحالة فإن إعادة تأهيل للعائدين كانت تأخذ القسط الأكبر من وقت أبو عمار. وأصبح يطلب من العائدين أن يتقدموا بثلاثة اقتراحات على الأقل لتحديد مكان العمل، ويختار أبو عمار واحدة منها كما يشاء. وهذا هو الجزء البسيط. أما الأجزاء الأخرى فهي السكن والأولاد والمدارس والعلاج والسيارات والأرض الصالحة للبناء وتقسيمها إلى قطع صغيرة ليجري توزيعها على القادة الكبار العسكريين والمدنيين. كل هذه العناوين هي الحديث اليومي للوسط المحيط بأبي عمار، وهو لا يتردد في تنفيذ ما يطلبون حتى يتفرغ الناس للعمل. وهذا هو الجهاد الأكبر، أي بناء السلطة، أما الجهاد الأصغر فكان ما لقيناه من قمع واضطهاد في المنافي العربية هكذا كان يقول.

ولأن أبو عمار يدير السلطة كما كان يدير الثورة ويقودها فالكل له مكان، ويلعب عامل الأقدمية والثقة دورا كبيرا في قرارات التعيين والتوظيف التي تتكدس طوال النهار على طاولته. وفي الليل يبدأ التوقيع عليها. وقليلا ما يحتاج إلى التعريف بأحد خاصة من الكوادر العليا، وكان همه الأول أن يجد مكانا في هذه الوزارة أو تلك، أو في القوات، أو في الإدارات التي يقرر إنشاءها كل يوم لهذا العدد الكبير من العائدين، ولا يكترث حين يقول أحد أمامه أن هناك تكديسا في الوزارات والدوائر، وأن هذه الطريقة في التعيين لا تتفق ونظريات الإدارة الحديثة. ولكن لا بد من الإقرار أنه خلال أقل من سنتين أقام السلطة، وشكل وزاراتها وإداراتها، وأقام أجهزة الأمن المختلفة، وطبق نظريته المعروفة "الثورة زائد واحد"، واعتبر أن السلطة زائد واحد.

ليلة أداء القسم رئيساً للسلطة الوطنية في 12 شباط 1996 جرى نقاش حول نص القسم، وحول الجهة التي يقسم أبو عمار أمامها، وهل هو رئيس المحكمة العليا أم رئيس المجلس الوطني الفلسطيني. أما نص القسم فقد كتب جمال الصوراني جزءاً منه، وأضفت عليه إضافات طفيفة. وأما أبو عمار فقد استخدم قلمه الأحمر لإغناء الصيغة. أما الهيئة التي يقسم أمامها فقد قرر أن يؤدي القسم أمام رئيس المجلس الوطني وليس أمام رئيس المحكمة العليا، لأن المرحلة تتطلب ذلك، فالمنظمة بأطرها المختلفة تقود السلطة، وحين تقوم الدولة المستقلة يكون هناك السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وعندها يقسم الرئيس أمام رئيس المحكمة العليا. أما في ظل السلطة الوطنية، حيث لا استقلال ولا سيادة، فالمنظمة تبقى المرجعية عبر المجلس الوطني الفلسطيني للسلطة التنفيذية.  وبعد أدائه القسم قال أبو عمار: رئيس السلطة هو، أولا، رئيس المنظمة ورئيس الدولة، وثلاثة ملايين في الداخل لا يمثلون كل الشعب الفلسطيني، ومن يمثل الشعب الممثل الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية.  وبعد أربعة أيام من أداء القسم دعا أبو عمار أعضاء المجلس التشريعي إلى العشاء، وقال في كلمته أمامهم: التاريخ لم يبدأ يوم انتخاب المجلس التشريعي، بل بدأ في عام 1965 يوم انطلاقة الثورة بقيادة حركة" فتح".

يبدو أن أبو عمار عندما نطق هذه العبارة أخذ يشعر- وكان محقا في ذلك - أن أعضاء المجلس التشريعي، الذين فازوا في الانتخابات، قد أخذوا يظهرون في مواقفهم وسلوكهم هامشا واسعا من الاستقلالية لم يكن موجودا من قبل في علاقاته معهم. الآن هم منتخبون، وعملية الانتخاب توفر لصاحبها أوراق اعتماد قوية في مواجهة السلطة الفعلية التي يمثلها أبو عمار. إن النائب في المجلس التشريعي يمثل السلطة التشريعية الركن الأهم في السلطة والرقيب على السلطة التنفيذية.

وأصبحت المهمة الملحة هي دعوة المجلس التشريعي للانعقاد. ولا بد من اختيار يوم له دلالة عند أبو عمار، ولهذا تم اختيار يوم 7 آذار 1996 وهذا اليوم يصادف يوم عودة أبو عمار إلى قطاع غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ، حيث كان أبو عمار أول العائدين.

 وقد وافق الرئيس مبارك على أن يحضر عمرو موسى، وزير الخارجية، حفل افتتاح المجلس التشريعي في غزة يوم 7 آذار 1996. ومع اقتراب موعد اجتماع المجلس التشريعي بدأ أبو عمار بعقد سلسلة من الاجتماعات مع أعضاء المجلس، فيجمع نواب كل محافظة  ويستمع إلى آرائهم ومن يختارون لرئاسة المجلس ونوابه.

وبعد المسيرة الجماهيرية ضد الإرهاب والعنف ومن أجل السلام يوم 5 آذار 1996 جاء موعد حفل افتتاح المجلس التشريعي، وكان عمرو موسى وزير خارجية مصر قد حضر من القاهرة واستضافه أبوعمار في قصر الضيافة، وكان حضوره يضفي على المجلس شرعية عربية.  فمصر عند أبو عمار تمثل كل العرب. وقمت في المساء بإعداد الكلمة التي سيلقيها أبو عمار في افتتاح الجلسة في اليوم التالي 7/3/ 1996 وكعادته، يقوم بإضافة جملة هنا وشطب جملة هناك بقلمه الأحمر، ولا يسلم لأحد من المحيطين به بقدرته على قراءة أفكاره والمواقف المطلوبة منه، بل يضيف عباراته وجمله المعروفة إلى النص، ليصبح بالفعل خطابا عرفاتيا بامتياز. وقد لقي الخطاب تصفيقا حاداً من قبل أعضاء المجلس التشريعي، لأن المواقف واللغة التي استخدمتها في كتابة الخطاب كانتا من تراث الثورة المديدة. كان الخطاب استعادة للماضي وهروبا من الحاضر.

بعد انتهاء حفل الافتتاح، جرت عملية انتخاب رئيس المجلس ونائبيه وأمين السر. وقد فاز برئاسة المجلس أحمد قريع( أبو علاء) الذي حصل على 57 صوتا من أصل 88. وانتخب نائبان لرئيس المجلس التشريعي وهما  ناهض الريس، ومتري أبو عيطة أما روحي فتوح ففاز بأمانة السر. وأما المرشح الآخر لرئاسة المجلس فكان الشخصية الوطنية الكبيرة الدكتور حيدر عبد الشافي والذي حصل على 31 صوتا. وقد أظهرت عملية الانتخاب والتصويت أن عشرة  نواب  ينتمون لفتح صوتوا لصالح حيدر عبد الشافي.

 رغم الانشغال بالمجلس التشريعي، وتشكيل الحكومة الجديدة، على أهميتها للنخب السياسية، إلا أن عمليات "حماس" و"الجهاد" في القدس وتل أبيب وعسقلان هي التي تقرر ردود الفعل الإسرائيلية والدولية، وليس البناء السياسي في السلطة على أساس ديمقراطي، والآن، في ظل هذه الحملة الانتخابية المسعورة في إسرائيل، واتهام "الليكود" لحزب "العمل" ولشمعون بيرس بأنه إذا نجح سيقوم بتقسيم القدس، جاءت عمليات "حماس" لترمي في مهب الريح كل الآمال المعلقة على اتفاق أوسلو كمدخل انتقالي لتحقيق السلام في المدى البعيد. فالركيزة الأساسية لهذا الاتفاق هي قضية الأمن، والأمن للإسرائيليين بوجه خاص، ولا يوجد تكافؤ بين أمن الفلسطينيين والإسرائيليين، بل تواصل أجهزة الأمن الإسرائيلية عملها كالسابق في المناطق الفلسطينية التي انتقلت المسؤولية السياسية والأمنية والإدارية فيها للسلطة الوطنية.  ومع وقوع هذه العمليات، والتي استهدفت المدنيين، ومن بينهم الابن الوحيد لأكبر صحافي في إسرائيل ناحوم برنياع، وكان ضحية قنبلة الباص في القدس، وكذلك حفيدة صغيرة لمتتياهو بيليد، الضابط السابق وداعية السلام الشجاع، الذي ضرب عرض الحائط بقرار حكومة إسرائيل بعدم اللقاء مع أعضاء المنظمة، وقام مع يوري أفنيري بزيارة تونس والاجتماع مع أبو عمار قبل عشر سنوات. وماذا بيد أبو عمار أن يفعل غير إرسال برقيات التعازي وباقة ورد لعائلة بيليد. وإذا كان لحظة اغتيال رابين قد تمكن من الوصول إلى تل أبيب وتقديم التعازي لزوجة رابين وأولاده، فإنه الآن لا يستطيع التواصل مع أحد في إسرائيل.  في هذا الاحتقان الشديد، والعزل الكامل للقرى والمدن في الضفة، وطرد أبناء غزة من جامعات الضفة، وتقييد الحركة في قطاع غزة بين مدنه من شماله إلى جنوبه بعد العمليات الخطيرة والكبيرة التي نفذتها حماس بعد اغتيال يحيى عياش في المدن الإسرائيلية واستهدفت المدنيين الإسرائيليين.

في هذا الظرف الصعب بادر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى الدعوة لعقد قمة مكافحة الإرهاب في شرم الشيخ التي حضرها 29 رئيس دولة، منهم الرئيس الروسي بوريس يلتسين والرئيس الفرنسي جاك شيراك، وقد سبق هذه الدعوة زيارة القنصل الأمريكي وفي جيبه أربعة أسماء لمتورطين في العمليات الإرهابية يطالب باعتقالهم، والمهمة نفسها حملها تيري رود لارسن، وأما يوري سافير فقد حمل طلبا بدا غريبا فهو يطالب بعقد المجلس الوطني الفلسطيني لشطب المواد في الميثاق الوطني الفلسطيني التي تدعو إلى القضاء على دولة إسرائيل.  وقال سافير إن عقد المجلس وشطب هذه المواد الثمانية سيساعد حزب "العمل" وشمعون بيرس في هذه المعركة الانتخابية بين معسكر السلام ومعسكر المستوطنين ودعاة إسرائيل الكبرى. ومع هذا الطلب لتعديل الميثاق حمل سافير معه هدية من بيرس إلى أبو عمار، وهي عبارة عن قلم وكتب بيريز هذه العبارة "هذا القلم يا ريس لتوقيع الاتفاق النهائي "، أما زيارة يوري أفنيري فقد تميزت بالتركيز على خطورة هذه العمليات على الرأي العام الإسرائيلي، ودعا أفنيري إلى إيجاد وسيلة سياسية لضبط الأمن في المناطق الفلسطينية، واعتبر أن الإجراء الأمني يجب أن يسبقه توافق وتفاهم سياسي بين السلطة وحماس والجهاد. وقال إن هذه العمليات تخدم معسكر اليمين في إسرائيل وقد تؤدي إلى فوزه في الانتخابات الوشيكة في أيار القادم 1996.

يوري أفنيري هذا رجل سلام شجاع.  وهو أول من أدان الصهيونية وكتب كتابه الشهير "إسرائيل بلا صهيونية" وأفنيري اخترق الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982 ليصل إلى حيث أبو عمار، ويعلن من قلب بيروت أن ما يقوم به بيغن وشارون هو جريمة حرب ضد الشعب الفلسطيني.  ولم يتردد أفنيري أن يزور أبو عمار في تونس كذلك.  أفنيري في هذا اللقاء مع أبو عمار في غزة  قال كلمات لا يمكن نسيانها "بعد الآن لا تستطيع إسرائيل إنكار وجودكم كما كانت تقول غولدا، الآن أنتم هنا واستعدتم جزءا من أرضكم وبهوية سياسية.  وما دمتم قد وصلتم إلى البيت الأبيض، وأصبحت قضيتكم على جدول الأعمال الأميركي، فلا مجال لأي إسرائيلي إنكار حقوقكم ووجودكم و"في ختام حديثه قال": ولكن عليكم تحقيق تفاهم سياسي بينكم. وإن فشلتم في ذلك يكون فشلكم أقوى ورقة في يد القوى المتطرفة في إسرائيل".

أما أبو عمار فكان في حيرة من أمره.  كيف يذهب إلى قمة السلام في شرم الشيخ دون إجراءات أمنية تقنع بيل كلينتون على الأقل بأنه يقوم بجهد مائة بالمائة لمنع العمليات الإرهابية، وعندها يضع كل اللوم في انفجار الموقف على الجانب الإسرائيلي، سواء بعمليات الاغتيال، أو بالاستيطان، أو الإغلاق، أو طرد طلاب غزة من جامعات الضفة، واعتقال الآلاف. وفي المساء سلمني أبو عمار خطابه لقمة صانعي  السلام في شرم الشيخ، وكان ياسر عبد ربه قد أعده في الصباح، وقد أعدت كتابة أجزاء كثيرة من الخطاب، ليكون أكثر توازنا بين ما نطلبه وما يطلب منا، وقد شارك أبو مازن في صياغة بعض الجمل، ما اضطرنا إلى طباعة الخطاب مرتين. وقام الشاعر أحمد دحبور بتشكيل الخطاب ليسهل قراءته على أبو عمار. بعد الغداء ظهر الثلاثاء 12/3/1996 غادر أبو عمار، ومعه أبو مازن وياسر عبد ربه وصائب عريقات ونبيل شعث إلى شرم الشيخ.  وما ورد في خطابه حول تمسكه المطلق بالسلام والأمن، ومطالبته بسرعة تنفيذ الاتفاقات الموقعة، أقنع كلينتون أن أبو عمار يبذل قصارى جهده لمنع العمليات والقبض على المتورطين فيها.

قام الرئيس كلينتون، بعد قمة السلام في شرم الشيخ، بزيارة إسرائيل. والهدف منها دعم حزب العمل بزعامة شمعون بيرس في الانتخابات القادمة. وأول عمل قام به كلينتون أنه وضع باقة ورد على ضريح رابين وتحتها "وداعا يا صديقي". ومن المعروف أن كلينتون قال، أكثر من مرة وفي حياة رابين، أنه ينظر لنفسه أمام رابين كما ينظر الجندي إلى قائده الجنرال. وقدم كلينتون مائتي مليون دولار، مائة منها ضد الإرهاب والثانية مساعدة عامة لإسرائيل.

لم يحدث أي تغير على الأرض نتيجة قمة السلام في شرم الشيخ، والمعركة الانتخابية في إسرائيل أصبح عنوانها عمليات "حماس" و"الجهاد" ومواد الميثاق الوطني، واتهام بيرس بأنه ينوي تقسيم القدس.  وقد صار واضحا أن العمليات الإرهابية في تل أبيب والقدس وعسقلان لم تترك مجالا للشك بأن حزب "العمل" قد يخسر هذه الانتخابات. ولهذا اشتد الضغط الدولي على أبو عمار ليأخذ خطوات على الأرض تساعد بيرس، وأول الخطوات المطلوبة الإجراءات الأمنية ضد "حماس" و"الجهاد"، ومن هنا كانت حملة الاعتقالات التي طالت أكثر من ألف شخص منهما وبينهم قيادات عليا مثل الرنتيسي والزهار والشامي، وغيرهم عدد كبير من النشطاء والمقاومين في غزة والضفة. وقد تمت كل هذه الاعتقالات بتكتم شديد، ولم يقم أبو عمار بعرض الوضع الأمني في اجتماع القيادة التي تضم اللجنة التنفيذية ومجلس الوزراء. وبدأت تتسرب أخبار الاعتقالات العشوائية وتعرض المعتقلين للتعذيب والإهانة المتعمدة. وهذا ما لم يكن أبو عمار يعرفه أو يقبل به.  فأمر الاعتقال هو لاحتواء الموقف المتفجر مع إسرائيل ولإعادة المصداقية لسلطته. إلا أن ما حدث تجاوز ما يريده أبو عمار. وقد حدثني د. إياد السراج حول الاعتقالات، وما يتعرض له المعتقلون من إهانة وتعذيب لانتزاع اعترافات حول خلايا المقاومة. ود. إياد السراج يستقبل في عيادته للطب النفسي ضحايا الاضطهاد والقمع في إسرائيل، وقد صدمني حين قال لي: إن أجهزة الأمن تستعمل أساليب التعذيب الإسرائيلية، والذين يتولون التعذيب هم سجناء سابقون في إسرائيل، وقد تعرضوا للتعذيب والشبح والربط على الكرسي والكي بالكهرباء والعزل الانفرادي، وأضاف: إن لدى شبابنا خبرة واسعة في وسائل التعذيب اكتسبوها من المحققين الإسرائيليين، وقد اعترف لي د. إياد أن عدداً من المطلق سراحهم من سجن السلطة لا يجدون فرقا في وسائل التعذيب في السجون الإسرائيلية والسجون الفلسطينية.

كنت على قناعة بأن أبو عمار لا يعلم شيئا عن تعذيب المعتقلين من "حماس" و"الجهاد"، فالاعتقالات إجراء وقائي لسد الذرائع وبالطبع لوقف العمليات داخل إسرائيل. وكان يؤكد، للقوى السياسية ولذوي المعتقلين، بأنه أصدر أوامر الاعتقال لبعض الوقت ريثما تهدأ العاصفة. فاتحته بما سمعته من الطبيب النفسي إياد السراج، وأنكر بشدة أن يكون ما قاله إياد السراج صحيحا. إلا أنني أقنعته أخيرا بأن عليه أن يستمع إلى إياد السراج نفسه، فالرجل ليس معاديا وليس له انتماء سياسي، ويمكن أن تسمع وتقرر إن كان ما يقوله افتراء أم حقيقة.  فكانت حجة إياد السراج وأدلته دامغة على سوء المعاملة التي يلقاها المعتقلون من قبل أجهزة الأمن، ورغم توجيهات أبو عمار وأوامره إلا أن أجهزة الأمن كانت تمارس صلاحيات مطلقة ولا رقابة عليها من المستوى السياسي، وكان إياد السراج على صلة بالصليب الأحمر الدولي، وبمنظمة العفو الدولية، وفوجئت بأن عدة اتصالات وصلتني يطلب فيها ممثل الصليب الأحمر لقائي، وكذلك منظمة العفو الدولية. لأول مرة اقترب من الواقع المر الذي نعيشه: هناك اعتقالات عشوائية وهناك تعذيب، والسجون لا تتطابق مع المعايير الدولية لكل سجن نطلق عليه هذا الاسم، وحتى الطعام والمراجعة الطبية ليست وفق الأصول المرعية، والأخطر أن الأجهزة الأمنية ترفض أن تسمح للصليب الأحمر، أو منظمة العفو، أو حتى المحامين، بزيارة المعتقلين وحتى ذووهم ممنوعون من زيارتهم، وهناك اعتقالات تحت ذريعة الأمن، ولا علاقة لها بالأمن، بل لرجال أعمال وأصحاب مصالح يجري اعتقالهم لابتزازهم ماديا، تحت ذريعة أنهم يقدمون دعما ً لفصائل المقاومة.

الصورة سوداء وقاتمة، ولا يمكنني إلا أن أفاتح أبو عمار بما سمعته من منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر، وإلا أكون متواطئا مع القمع، وأنا قضيت حياتي أدافع عن الحرية والحياة والقيم الإنسانية والأخلاقية، فكيف أسكت الآن على ما يجري. ووجدت أن عليّ أن أفاتح فريح أبو مدين، وهو وزير العدل، بما سمعت فوجدت أن عنده معلومات أكثر مني بكثير، وأن عدد المعتقلين يزيد على الألفين في الضفة وغزة.

في الواقع، مرت أشهر قبل أن تقع بداية الانفراج في موضوع الاعتقالات الأمنية العشوائية.  إلا أن القيادات بقيت معتقلة. ويمكنني أن أقول الآن: إن الفشل الذي وقع في عام 1996 لمنع العمليات قبل وقوعها، ثم معالجتها بالطريقة التي تمت، وما لحق بالمعتقلين من إساءة وتعذيب، لم تندمل جراحها حتى بعد عشر سنوات، وكانت وراء دموية الانقلاب الذي قامت به "حماس" ضد السلطة عام 2007.

إن الذي حصل في ذلك الوقت أن أوامر أبو عمار بالاعتقالات لم تكن تعني أبدا أن يتعرض المعتقلون للإهانة والتعذيب. وقد بقيت فيما بعد أتابع، ولو عن بعد مسألة الاعتقال والمعتقلين. ولكن، دون أن يكون هذا الموضوع قابلا للبحث إلا في أضيق نطاق، وهذا ما جعل أجهزة الأمن تتصرف دون العودة إلى قوانين تحكم الاعتقال. والسلطة الفعلية ليست في يد الجهاز المدني بل في يد الجهاز الأمني المرتبط مباشرة مع أبو عمار، باعتباره القائد العام، ولا يقبل من أحد، سواء كان وزيرا أو مستشارا أو قاضيا، أن يقترب من أجهزة الأمن. ولهذا أقمت علاقات مع قيادات "حماس" وقيادات "الجهاد"، وظهرت في ندوات مشتركة معهم، وهذا كان بهدف إظهار التمايز العلني عن الصورة السيئة التي أصبحت لاصقة بالسلطة بسبب الاعتقالات الأمنية والعشوائية والتجاوزات التي يقوم بها بعض قادة الأجهزة الأمنية والتي أصبحت حديث الشارع وحديث الرأي العام. ومع أنني وقفت بشدة ضد العمليات الإرهابية "لحماس "و"الجهاد"، إلا أنني بالمقابل رفضت تعذيب المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم. كنت في الواقع أسعى صادقا لإيجاد قواسم سياسية مشتركة مع "حماس" و"الجهاد"، وحتى تحدثت معهم عن توزيع الأدوار، بشرط عدم المساس بالوضع الأمني لضمان الانسحاب الإسرائيلي مع انتهاء الفترة الانتقالية. وقلت لهم إن هذه العمليات تضعف السلطة ولن ترغم إسرائيل على الانسحاب. وأعتقد  أن عددا من قادة "حماس" و"الجهاد" كانوا يعتقدون أن إفشال اتفاق أوسلو أفضل لفلسطين من تنفيذه وإنجاحه، لأن نجاحه  يعني بقاء إسرائيل بل والاعتراف بها. ولهذا كان موقفهم معي مجرد مجاملة.

 التحدي الآخر كان إلغاء مواد الميثاق الوطني التي تدعو للقضاء على إسرائيل. وهذا يتطلب عقد المجلس الوطني الفلسطيني في غزة قبل موعد انتخابات الكنيست المقررة في 31 أيار 1996. ويتذرع أبو عمار بأن أعضاء المجلس ليسوا كلهم  في فلسطين وبعضهم، بل الكثير منهم، لا يسمح له بالدخول. وكانت المفاجأة أن بيرس وافق على دخول أعضاء المجلس والمراقبين مهما بلغ عددهم.  وفي الحقيقة، أدخلنا أعدادا بالآلاف، ومن يدخل وبصفة عضوية المجلس فإنه يحصل على هوية وعلى رقم وطني، وكذلك المراقب. وأرسلنا للارتباط أسماء المجلس الذين يمثلون القوى والفصائل في عمان ودمشق وبيروت ودول الخليج ومصر وشمال إفريقيا وحتى الذين نفذوا عمليات عسكرية، وأيديهم "ملوثة بالدماء" حسب الوصف الإسرائيلي.. وقد دخلوا جميعا.

 افتتحت الجلسة يوم 22 نيسان 1996 وكانت القاعة تضم أكثر من ألفي شخص، وليس بينهم أكثر من ستمائة هم أعضاء المجلس. وأستطيع أن أجزم أن فرحة العائدين إلى وطنهم وأهلهم قد أنستهم السبب الذي من أجله يعقد المجلس وهو إلغاء مواد الميثاق التي تدعو للقضاء على إسرائيل.  وفي هذه الأثناء قمت بإعداد خطاب أبو عمار لجلسة الافتتاح الذي تضمن، بالضرورة وكما هو مطلوب منه، الالتزام المطلق بالسلام وضروراته الأمنية، بعد الاعتراف المتبادل وقيام السلطة الوطنية، انطلاقا من قرارات المجلس الوطني في دوراته الأخيرة والتأكيد على قيام الدولة الفلسطينية على أساس حدود 1967 كأساس لا تنازل عنه لقيام الدولة وتأمين حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194، والغريب أن فرحة العائدين بعودتهم قد خلقت أجواء من التفاؤل بحيث مرت جملة إلغاء مواد الميثاق في الخطاب دون اعتراض يذكر. وقد أفتى  أبو عمار في بداية الجلسة بأن أعضاء التشريعي هم أعضاء طبيعيون في المجلس الوطني باعتبارهم يمثلون الداخل ويشاركون في أعمال المجلس الوطني بهذه الصفة. وخشي أعضاء من التشريعي أن تكون هذه خطة مدبرة من أبو عمار لاحتواء المجلس التشريعي، ولهذا وافقوا على العضوية مع التشديد على بقاء واستقلالية المجلس التشريعي ليحتفظ بدوره كسلطة تشريعية في إطار السلطة الوطنية.

عقدت الجلسة الأولى، بحضور عمرو موسى وقرأ أبو عمار الخطاب وسط تصفيق حار من العائدين والمراقبين الذين امتلأت بهم القاعة. وفي نهاية النقاش السياسي جرى التصويت على شطب المواد المذكورة فصوت لصالح شطبها (504) أعضاء وضدها 54 عضوا وامتنع 14 عضوا. وأدخل أبو عمار إلى اللجنة التنفيذية فيصل الحسيني وإميل جرجوعي و د. زكريا الأغا ود. رياض الخضري وأسعد عبد الرحمن. وتسلم أبو مازن أمانة السر وأبو اللطف بقي رئيسا للدائرة السياسية.  وكان المجلس الوطني قد انتخب الأخ سليم الزعنون "أبو الأديب" رئيسا للمجلس، بعد تعذر حضور الشيخ عبد الحميد السائح بسبب مرضه. وأبو الأديب من مؤسسي فتح وقادتها الأوائل. ومن مفارقات جلسة تعديل الميثاق أن ممثلي "الشعبية" و"الديمقراطية" قد غابوا عن الجلسة بصمت ودون ضجيج، وبينهم تيسير قبعة  نائب رئيس المجلس الذي ترك مقعده في الرئاسة. وخرج من اللجنة التنفيذية جمال الصوراني وعبد الله حوراني وجويد الغصين. وكان محمود درويش وشفيق الحوت قد استقالا بعد التوقيع على اتفاق أوسلو. وقد قمت بإعداد البيان السياسي، وضمنته الفقرة الخاصة بشطب المواد الثمانية من الميثاق. ونقل التلفزيون على الهواء مباشرة اجتماعات المجلس، وكذلك حين ألقيت البيان السياسي.

أما الرد الإسرائيلي على إلغاء مواد في الميثاق فكان في إدخال تعديل على برنامج حزب "العمل" يشطب فيه رفضه قيام دولة فلسطينية. وبعد تعديل الميثاق أصبحت الطريق سالكة لزيارة واشنطن، واتصل د.رمزي وأبلغني أنني سأسافر مع أبو عمار إلى واشنطن، وضم الوفد أبو مازن وصائب عريقات ومروان كنفاني ونبيل أبو ردينة. وكان هذا يوم 29/4/1996. وصلنا واشنطن في 30 /4/1996 وأقام داني أبراهام حفل استقبال لأبو عمار وبيرس، وألقى أبو عمار كلمة بالمناسبة كنت قد أعددتها في الطائرة. وكان صائب يترجم لأبو عمار. وفي واشنطن عليك أن تحرص أن تضع كلمة "السلام "و"حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" بديلا لما جئت من أجله. وفي الأول من أيار اجتمع أبو عمار ومعه أبو مازن وصائب مع الرئيس كلينتون، وأما اللقاء مع وارن كريستوفر فقد شاركت فيه، وفي المؤتمر الصحافي الحاشد في نادي الصحافة، نظرت خلفي فإذا بأشهر مقدم برامج في النمسا يجلس خلفي ولا يبدو أنه مرتاح لما يقوله أبو عمار عن خيار السلام والأمن والاستقرار والازدهار ونبذ العنف والإرهاب.  وسألت مقدم البرامج النمساوي لا يبدو عليك أنك راضٍ عما تسمع؟ فقال: "أنتم تبيعوننا كلاما وتريدون مقابله أخذ أرض حاربنا في سبيلها وإذا صدق الأمريكيون كلامكم تكون هذه نهاية إسرائيل."

وقلت له: ألست سعيدا بوجودنا هنا؟

وأجابني قائلا: إذا نجحتم في إحداث هذا الاختراق في واشنطن فسوف تخترقون القلعة من الداخل في نهاية المطاف.

عدنا إلى غزة بآمال كبيرة، فقد بدا كلينتون متحمسا تماما للسيطرة الأمنية على قطاع غزة ومدن الضفة، ولما اعتبره نجاحا باهرا بانعقاد المجلس الوطني، وإلغاء مواد الميثاق بأصوات 504 أعضاء ومعارضة 54 عضوا وامتناع 14 عضوا. وكذلك كان متحمسا للنزاهة والشفافية التي رافقت إجراء الانتخابات التشريعية. خاصة أنها أول انتخابات عربية بلا تزوير. ولأننا قضينا أكثر من ثلاثة أيام في واشنطن، لم تكن كلها محادثات ولقاءات رسمية، تضمن برنامج الزيارة لقاءات متعددة مع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وغرفة التجارة في واشنطن، وعشاء بدعوة من أحد أعضاء الكونغرس، ولقاءات مع شخصيات يهودية معروفة باعتدالها، كذلك مقابلة أجرتها محطة(CNN) مع أبو عمار. ومع معرفتي المتواضعة بنفوذ "الايباك" والمال والإعلام والسينما في الحياة السياسية الأمريكية، تبين لي أن الجديد الذي أضافته هذه الزيارة هو أن الحديث عن النفوذ اليهودي في أمريكا ليس دقيقاً.  في الحقيقة إن اليهود في أمريكا هم أميركيون، وهم في كل خلايا نسيج المجتمع الأمريكي، وليسوا فئة تعيش على الهامش كما هو شأن الجماعات من الشعوب الأخرى التي هاجرت إلى أمريكا وبقيت على الهامش. اليهود هناك هم أميركيون  ولا مغالاة في ذلك. وإسرائيل الموجودة في الشرق الأوسط في استعادة لتاريخ أسطوري حملته التوراة، هي تعبير عن عنفوان القوة الأمريكية العامة المسيطرة على المستوى العالمي، ولم يحمل النصف الثاني من القرن العشرين متغيرات بعيدة المدى لتتراجع أمريكا عن هذا الامتداد الشاذ لها في الشرق الأوسط. ويجب إزاحة نظرية المؤامرة من التفكير الفلسطيني والعربي لتفسير ما يتردد دائما عن سيطرة اليهود على مقدرات القرار الأمريكي. المسألة أعمق من ذلك بكثير. ولهذا فإسرائيل هي الولاية (51) من ولايات أميركا، وهي الولاية الأولى بالرعاية، وإن كانت هنا في الشرق الأوسط بعيداً عن القارة الأميركية. وقد فسر أبا ايبان في لقاء له مع أبو عمار في غزة اتفاق أوسلو بقوله: إن مستقبل إسرائيل رهن بقيام سلام وعلاقات طبيعية مع الفلسطينيين والعرب، واتفاق أوسلو يعبر عن هذا الاتجاه في إسرائيل. ومن الخطأ الاعتقاد أن علاقات إسرائيل ستظل بهذه القوة إلى الأبد مع الولايات المتحدة الأمريكية.

على أية حال، ظل ترقب نتائج الانتخابات الإسرائيلية هو الكابوس الذي يسيطر علينا جميعا، وحين عادت الاتصالات مع بيرس وحكومته تم الاتفاق على إجراء جولة جديدة من المحادثات في طابا هذه المرة. وكان هدفها دعم حزب "العمل" في الانتخابات. والمفاوضات واللقاءات مع الإسرائيليين هي امتياز ما بعده امتياز، إنها تجعل المشاركين فيها تحت الأضواء أينما ذهبوا. وقد بدا لي أن الفريق الفلسطيني المفاوض يحرص على التكتم الشديد في الاتصالات واللقاءات التي يجريها مع الجانب الإسرائيلي، ويكتفي فقط بنقل ما يحصل في هذه اللقاءات لأبو عمار شخصيا، حيث في ساحتنا هناك شكوك دائما موجودة بأن اجتماع القيادة هو فرصة لأعضاء القيادة لكتابة التقارير لفصائلهم، ومن فصائلهم للأنظمة التي يقيمون معها علاقات، بل وقياداتهم لا زالت تقيم على أرضها. وقد اشتهر أبو عمار في إدارة هذه الجلسات حين لا يريد أن يقول شيئا يقضي الوقت في الحديث عن الدول التي زارها والمناخ ورحلة الطيران الشاقة والكرم الذي أغدقه عليه من قام بزيارتهم. 

على أي حال، ذهب الوفد إلى طابا وعاد ببيان مشترك على أمل مباشرة تنفيذه بعد الانتخابات الإسرائيلية المقررة في29/5/1996. وبعد عودة الوفد  6/5/1996 ناولني أبو عمار البيان المشترك الصادر عن اجتماع طابا. وحين حاولت أن أقرأ البيان أكثر من مرة وأمسكت بالقلم لإدخال تعديلات عليه عرفت من الجالسين أن البيان قد صدر وانتهى الأمر. إنه بيان انتخابي لدعم شمعون بيرس وليس بيانا لفتح الباب أمام المفاوضات. وأبديت استغرابي لهذا التجاوب الفلسطيني مع مطالب الوفد الإسرائيلي مقابل وعود قد لا تتحقق.

أما المجلس التشريعي فقد دعاه أبو عمار لعقد اجتماعه في رفح يوم 8/5/1996 ، وطلب مني أن أحضر الجلسة أنا وبشير البرغوثي، وبمجرد دخولي القاعة فوجئت بعدد من الأعضاء يحملني مسؤولية عدم تغطية أجهزة الإعلام لاجتماعات المجلس. وقلت للنواب أنه لا علاقة لي بهذا الموضوع.  ولكن من يصدق ما أقول وأبو عمار في كل صغيرة وكبيرة يسأل عني، وخلال شهرين لم أغب عن اجتماع أو لقاء أو غداء أو زيارة خارجية، حيث كنت معه في زيارة مصر والسعودية وواشنطن وأبو ظبي وتونس خلال هذه المدة.

وفي مساء 9/5/1996 اتصل بي مقدم البرامج فتحي البرقاوي، وهنأني على تعييني أمينا عاما لمجلس الوزراء بمرتبة وزير، والطيب عبد الرحيم أمينا عاما للرئاسة بمرتبة وزير. وكان أبو مازن قد طرح علي هذا العرض قبل يوم واحد فقط وشكرته واعتذرت. وفي اليوم الثاني 10/5/1996 وفي جلسة التشريعي في رفح، قدم أبو عمار حكومته التي يرأسها، فالنظام رئاسي وهو ما كان يصر عليه أبو عمار، وبعد التجربة المرة والمريرة اعتقد أن هذا الوضع كان خطأ رغم أن إصرار أبو عمار على النظام الرئاسي كان وليد التجربة الطويلة في قيادة الساحة، والمؤامرات التي تحاك ضده وضد الثورة، واقتناعه الراسخ بأن مركزة كل السلطات في يده وكل المواقع في شخصه هو السبيل الوحيد لحماية الثورة والسلطة والقرار الفلسطيني.

 وحين جاء في الأخبار أن أبو عمار قد عينني أمينا عاما لمجلس الوزراء وبمرتبة وزير اتصلت بي زوجتي فريال من تونس لتقنعني بقبول القرار.

وبدا للدائرة الضيقة حول أبو عمار أنني قبلت قراره بتعييني أمينا عاما لمجلس الوزراء، وحين ذهبت إلى "المنتدى" تلقيت التهاني من الشباب والقيادات على السواء، واصطحبني الطيب عبد الرحيم لمنزل أبو عمار، الذي كان يرقد في الفراش بسبب نزلة برد. وكان في غاية السعادة حين دخلت مع الطيب.  وكان أبو مازن موجودا وفريقه المفاوض خالد سلام ومحمد دحلان وحسن عصفور وصائب عريقات، وشكرت أبو مازن على جهوده لإبقائي في غزة.  وهو أول من طرح علي فكرة تعييني أمينا عاما لمجلس الوزراء بمرتبة وزير، وعبر أبو مازن عن سعادته بموافقتي، وقال: بقي نبيل عمرو. وإذا جاء معك إلى الوزارة والطيب في موقعه أمينا عاما للرئاسة يكون الوضع معقولا في العمل. وجاء قرار تعييني مفاجئا للكثيرين، فلم أكن عضوا في قيادة فتح ولم أشارك في انتخابات المجلس التشريعي، إلا أن أحدا لم يعترض على هذا التعيين بحكم هذا التاريخ الطويل في العمل مع أبو عمار.

وجاء يوم قسم الوزراء أمام الرئيس في رام الله في 16/5/1996. وكانت بالفعل لحظة مؤثرة أن لدينا حكومة ووزراء، وأن فلسطين تولد من جديد. ولكن لم تمض غير ساعة واحدة بعد القسم حتى كان أبو عمار يكلفني بإعداد البيان الوزاري الذي على أساسه سيقدم حكومته الجديدة لتحوز على ثقة المجلس التشريعي، وذلك رغم ضيق الوقت حيث قال أبو عمار: يا أحمد ليس أمامك إلا أسبوع واحد. دبر راسك. البركة فيك يا أبو يزن ". وكان العاملون في مكتب الرئيس يدركون أنه حين يناديني "أبو يزن" فمعنى ذلك أن الدنيا بخير.

أما البيان الوزاري الذي كلفت بإعداده، فقد وجدت أن علي الاستعانة بوكلاء الوزارات والمدراء العامين في كل وزارة لتقديم ملخص عن خطة الوزارة المرحلية. وهذه الخطط كان يجري تقديمها للدول المانحة وللبنك الدولي وللدول الأوروبية، وهي بالفعل خطط مدروسة ومدققة  بعناية، لأن الجهة الوزارية التي تعدها وترسلها تنتظر دعما ماليا لتنفيذها على الأرض. وبالفعل، تعاون معي كل وكلاء الوزارات والمدراء العامون، وكان علي كتابة المقدمة السياسية للبيان الوزاري. بدأت العمل في "المنتدى" في القاعة المخصصة للاجتماعات، حيث كنت أقوم بإعادة صياغة الخطة المقدمة من هذه الوزارة أو تلك، دون الإشارة أنها موجهة إلى الدول المانحة أو البنك الدولي. وكنت أرسل لأبو عمار المواد التي يتم طباعتها وتدقيقها، وكان لا يتردد في البقاء ساهرا حتى الثالثة صباحا لقراءة ما أعددته ثم يعيده إلي بملاحظة هنا أو إضافة هناك. وكان فريق مكتب الرئيس معي في العمل ليل نهار، وهم من خيرة الكوادر التي رباها أبو عمار على سرعة العمل والدقة والمثابرة. فهذا البيان الوزاري سيقدمه الرئيس أبو عمار. وإذا كان أمر من الأمور يهم أبو عمار شخصيا فلك أن تتصور الاستعداد العالي للخدمة والمساعدة.

إلا إن أبو عمار أصر يوم 20/5/1996 على مرافقتي له في زيارة رسمية لليونان لمدة يوم واحد وذلك لمنحه شهادة الدكتوراه.  وقد حاولت إقناعه بعدم الذهاب لمتابعة عملي في إنجاز البيان الوزاري، إلا أنه قال: هي زيارة سريعة "صدّ رد" فيك البركة وإخوانك يتابعون العمل. ولليونان مكانة خاصة عند أبو عمار، من الأسطورة التاريخية بأن أصل الفلسطينيين من جزيرة كريت اليونانية، ومن هنا جاءت التسمية الأولى لفلسطين "بالستينا".  أو من الصداقة الوطيدة التي أقامها أبو عمار مع رئيس وزراء اليونان اندرياس باباندريو الذي استقبله في أثينا في عام 1982 بعد الخروج من بيروت، حيث  أعاد استقبال باباندريو لأبو عمار الأساطير اليونانية إلى الحياة، إلا أن اندرياس باباندريو في هذه الزيارة الأخيرة إلى اليونان كان طريح الفراش، وأصر أبو عمار أن يزوره في منزله، وبالفعل كان سرور هذا القائد اليوناني عظيما وهو يرى أبو عمار يدخل منزله للاطمئنان على صحته. وتوفي باباندريو بعد شهر واحد في 23 حزيران 1996. وعدنا إلى غزة ولم يبق وقت طويل لعقد جلسة التشريعي وتقديم البيان الوزاري.  وكان من المقرر أن يجتمع المجلس التشريعي يوم 23/5/1996 في مركز الشوا وهذا المركز مجهز للمؤتمرات العامة بشكل جيد. وحتى اللحظة الأخيرة كانت هناك إضافات على البيان الوزاري، وكان آخر ما أضافه أبو عمار فقرة عن ديوان الموظفين، وأخرى عن هيئة الرقابة، وثالثة عن ديوان الفتوى والتشريع.

يوم 23/5/1996 صباحا بدأ أبو عمار بإلقاء البيان الوزاري الذي استغرق ثلاث ساعات. وقد فوجئ أعضاء المجلس بهذا البيان.  ويبدو أن عددا كبيرا منهم ما كان يتوقع تقديم بيان وزاري خلال أسبوعين.  وحسب الأصول يحق مناقشة البيان الوزاري في عدة جلسات، والنواب الجدد ليسوا في وارد مناقشة هذه الخطط المطروحة والتي أعدها خبراء واختصاصيون وبمساعدة خبراء دوليين. ولا يمكن الطعن في البيان لشموليته ومعالجة كل القضايا التي تشغل بال الرأي العام، وقد التقطت حنان عشراوي كلمة السر حول البيان حين قالت، إن البيان تضمن مساهمات الوزارات وخططها واعترفت بأن البيان جاء كاملا.

وفي اليوم الثاني 24/5/1996 نشرت الصحف الوطنية النص الكامل للبيان الوزاري على صدر صفحاتها الأولى، وقد احتل البيان من أربع إلى خمس صفحات في هذه الصحف، وقد كتبت جريدة "القدس" تعليقا أشاد بالبيان لشموليته ودقته السياسية وتأكيده على الحقوق الوطنية.

وفي يوم الخميس 6/6/1996 بدأ المجلس التشريعي بمناقشة البيان الوزاري، وطلب مني أبو عمار أن أسجل ملاحظات النواب، ومن المفارقات المضحكة في بداية حياتنا السياسية أن مضمون البيان الوزاري وما طرحه من قضايا لم تلق الاهتمام المطلوب من النواب لعدم اختصاصهم، ولأن اهتمامهم منصب في الدرجة الأولى على توزيرهم من عدمه.  فالوزراء يؤيدون البيان، والنواب من غير الوزراء يعلنون حجب الثقة عن الحكومة لأنهم ليسوا أعضاء فيها، ولا بد في النهاية من إنهاء  سوق عكاظ الفلسطيني في أول مجلس تشريعي فلسطيني بعد ثلاثة أسابيع من نقاشات خارج موضوع الاهتمام الشخصي، وهو: لماذا أنت وليس أنا في الحكومة. وأخيرا، رد أبو عمار على ملاحظات النواب، وكنت قد أعددت الرد، واستعرت كثيرا من الجمل والمواقف التي وردت على لسان الأعضاء، ولا بد في النهاية من التصويت لمنح أو لحجب الثقة عن الحكومة، وبصعوبة وبألف وسيلة ووسيلة فازت الحكومة بثقة المجلس، حيث صوت لصالحها خمسون عضوا، وعارضها 24 عضوا، وستة أعضاء امتنعوا عن التصويت، وخمسة أعضاء في سفر، وثلاثة لم يقرروا. وكان من بين من عارض منح الثقة 10 نواب من "فتح"؟!.

الفصل الرابع والعشرون


الفصل الثالث والعشرون


الفصل الثاني والعشرون


الفصل العشرون


الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات