أحمد عبد الرحمن يواصل ذكرياته :"نتنياهو" طلب من عرفات تصفية المقاومة وتسليم غازي الجبالي .. "صعود نتنياهو وسقوطه" و"شارون" وزير خارجية

أحمد عبد الرحمن يواصل ذكرياته :"نتنياهو" طلب من عرفات تصفية المقاومة وتسليم غازي الجبالي .. "صعود نتنياهو وسقوطه" و"شارون" وزير خارجية
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل السادس والعشرون:

صعود نتنياهو وسقوطه

1996-1999 


مساء الرابع من تشرين الثاني 1995 كان إسحق رابين ينشد نشيد السلام، وإلى جانبه شمعون بيريس أمام نصف مليون مواطن إسرائيلي. وحين انتهى من خطابه، وغادر المنصة، أفرغ المستوطن يغئال عمير ثلاث رصاصات في ظهر رابين فقضى على الفور. وخلفه شمعون بيريس، الذي قرر إجراء انتخابات الكنيست في 29 أيار 1996، حيث فاز حزب "الليكود"  واليمين الذي حرض على اغتيال رابين وألبسه حطة ياسر عرفات. وفهم أبو عمار أن الرصاصات التي اغتالت رابين، موجهة إلى صدره لاغتيال مشروعه بقيام السلطة الوطنية الفلسطينية.

أدان أبو عمار  جريمة اغتيال رابين شريكي في سلام الشجعان بأقوى العبارات، وأصر على أن يقدم التعازي لزوجته وأولاده، وأصدر أكثر من تصريح سياسي يعتبر فيه اغتيال رابين إنما هو اغتيال لعملية السلام.  وحرص طوال الأشهر الستة التي تفصل بين جريمة الاغتيال وانتخابات الكنيست أن يوفر أفضل الظروف الأمنية والسياسية لشمعون بيرس وحزب "العمل" لضمان الفوز في الانتخابات القادمة لمنصب رئيس الوزراء ولعضوية الكنيست. وكان بيريس بدوره قد سلم  المدن والقرى للسلطة وفق اتفاق أوسلو 2 تمهيدا لإجراء الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية الأولى في 20 كانون ثاني 1996، باستثناء مدينة الخليل لعدم إغضاب المستوطنين، كما قال بيريس في حينه.  اعتبر أبو عمار عدم استعادة الخليل مسألة مؤقتة ريثما تنتهي معركة الانتخابات الإسرائيلية  التي قد تقرر مصير عملية السلام برمتها وليس مجرد الانسحاب من الخليل.

إلا أن كثرة اللاعبين في الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي، سواء  داخليا أو خارجيا، قد جعل السيطرة على الوضع الأمني أمرا مستحيلا، وخاصة في ظل معركة الانتخابات الإسرائيلية حيث يشتد الصراع بين العمل والليكود حول اتفاق أوسلو. وأول اللاعبين كان جهاز الأمن الإسرائيلي "الشين بيت "الذي أقدم على اغتيال يحيى عياش في بيت لاهيا – غزة  في أوائل كانون الثاني 1996 باعتباره "المطلوب رقم واحد"، ومهندس العمليات التفجيرية في السنوات الماضية. ومن المعروف أن الأمن الإسرائيلي لا ينفذ عملية اغتيال كهذه بدون موافقة المستوى السياسي، وبالتحديد موافقة  رئيس الوزراء  شمعون بيريس. ولم يمض غير شهر واحد حتى قامت حماس بالرد على اغتيال يحيى عياش. وأدت العمليات إلى مقتل (25) إسرائيليا في القدس وعسقلان. ومرة أخرى، بذل أبو عمار جهودا مضنية للسيطرة على الوضع الأمني، علما أن "حماس" وكذلك حركة "الجهاد" أعلنتا منذ البداية أنهما ضد اتفاق أوسلو. ورغم الجهود الحثيثة التي بذلها أبو عمار لإيجاد قواسم مشتركة مع "حماس" في اللقاءات التي عقدها في السودان واليمن ومصر، إلا أن "حماس" رفضت وأصرت على مواقفها المعروفة.  وأمام هذا الوضع الأمني المتفجر بسبب استمرار الاغتيالات والاعتقالات والمداهمات وقيام حماس بالرد عليها بعمليات تفجيرية في المدن الإسرائيلية وضد المدنيين خشي أبو عمار أن يفلت زمام الأمور من يده ولهذا أخذ يعيد النظر في حساباته، ذلك إن  رد "حماس" على جريمة الاغتيال مقبول، بل مرحب به، على الصعيد الشعبي. والأهم أن موافقة بيريس على اغتيال عياش في قطاع غزة،  حيث يقيم أبو عمار سلطته ويرفع علم فلسطين فوقها، اعتبره إهانة مقصودة لمكانته عند شعبه.

في هذه الحالة وقع أبو عمار بين نارين. فإسرائيل تغتال المقاومين و"حماس" بدورها تقوم بتنفيذ العمليات التفجيرية في الباصات والأسواق.  ويصبر أبو عمار على أمل أن يستقر الوضع في إسرائيل بعد الانتخابات بحيث يضع الحكومة الإسرائيلية أمام مسؤولياتها، وعندها تكون حجته قوية في مواجهة "حماس"، إلا أن العمليات التفجيرية في أوائل آذار في القدس وتل أبيب، والتي نفذتها "حماس"، أدت إلى فرض الطوق الأمني على الضفة والقطاع، وانتشار الحواجز الإسرائيلية، ومهاجمة القرى في شمال الضفة، واعتقال المئات. ومع هذا التدهور المتسارع على الأرض دعا الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لعقد قمة لمكافحة الإرهاب في شرم الشيخ 13 آذار 1996. وقبل ذهابه أمر أبو عمار باعتقال العديد من أفراد "حماس" و"الجهاد".، وشدد قبضته الأمنية كإجراء احترازي لوقف العمليات لتوفير ظروف أفضل لحزب "العمل" على أمل أن يفوز بيريس في الانتخابات. إلا أن لاعبا آخر دخل على الخط، ( آذار 1996) وهو حزب الله الذي نفذ عملية نوعية في جنوب لبنان وقتل عددا من الجنود. وما دامت معركة الانتخابات في ذروتها، فإسرائيل مليئة بالصقور.  ولهذا رد شمعون بيريس على هذه العملية بقصف شامل لجنوب لبنان، أدى إلى هرب مئات الآلاف من منازلهم. وفي بلدة قانا وقعت المجزرة المريعة حيث قصف الجيش الإسرائيلي بالمدفعية الثقيلة ملاذا آمنا تابعا للقوات الدولية فقتل أكثر من مائة من النساء والأطفال. وهذه المجزرة كانت العامل الحاسم في إسقاط بيريس وحزب "العمل"، حيث حجب فلسطينيو الداخل أصواتهم عنه فخسر أمام نتنياهو في السباق على منصب رئيس الوزراء، والفارق كان لا يزيد على ثلاثين ألف صوت.

وحين ظهرت النتائج صبيحة يوم 30 أيار 1996 كان الوجوم يعلو الوجوه في المنتدى، فالقرار الإسرائيلي الآن في يد متطرف يميني يقول علنا أنه ضد اتفاق أوسلو، وأنه لن يجتمع مع ياسرعرفات. وفي وضع لا يحسد عليه طلب أبو عمار عقد قمة لدول الاعتدال وهي مصر والأردن والمنظمة. وبالفعل، عقدت القمة في مدينة العقبة الأردنية بعد أربعة أيام في (5 حزيران 1996) من ظهور النتائج النهائية للانتخابات الإسرائيلية. وأعلنت القمة في بيانها التمسك بعملية السلام وبالاتفاقات، وضرورة الالتزام بالتنفيذ في المواعيد المقررة.  إلا أن نتنياهو لم يعر أية أهمية لموقف دول الاعتدال، وأشاد بمصر والأردن ولم يذكر أبو عمار أو السلطة الوطنية بكلمة واحدة ، وأعاد تأكيد أقواله التي كان يرددها خلال المعركة الانتخابية حول القدس والاستيطان ويهودا والسامرة، والإرهاب ومحاربته بلا هوادة، وقد دفعت هذه التصريحات العدائية أحد الصحافيين إلى القول في صحيفة "هآرتس" بأن نتنياهو لا يميز بين أقواله في معركة الانتخابات وما يقوله الآن وهو رئيس وزراء إسرائيل.

في أواخر أيلول 1996، وبمناسبة الاحتفال بعيد الغفران، أقدم نتنياهو على فتح النفق تحت المسجد الأقصى هدية للمتطرفين، ما أثار غضب أبو عمار، حيث قال في خطاب علني أنه لا يمكن السكوت على المساس بالمقدسات، واندلعت المظاهرات الغاضبة، ولأول مرة وقعت اشتباكات مسلحة، وأطلقت الأجهزة الأمنية الفلسطينية النار على الجنود الإسرائيليين سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية.  والصدام الكبير وقع في نابلس حول قبر يوسف، حيث حاصرته الأجهزة الأمنية الفلسطينية وفرضت الاستسلام على القوة الإسرائيلية بعد أن قتلت عددا من أفرادها، وكذلك قتل الأمن الفلسطيني جنودا إسرائيليين عند مفرق مستوطنة نتساريم في قطاع غزة.

وبجهود أمريكية جمع الرئيس كلينتون أبو عمار ونتنياهو في البيت الأبيض 2/10/1996 واستؤنفت المفاوضات بين الجانبين للانسحاب من الخليل.  وجرى توقيع بروتوكول الخليل في 15/1/1997، الذي قسم المدينة قسمين H2 وH1 والأخيرة هي المنطقة القديمة داخل المدينة ومنطقة الحرم الإبراهيمي حيث (400) مستوطن وسط ثلاثين ألف مواطن فلسطيني. إلا أن أبو عمار وافق على البروتوكول المذكور وذهب بنفسه للخليل ورفع علم فلسطين فوق المقاطعة. وبحضوره خلق في المدينة أجواء ايجابية توحي بقرب الخلاص من البؤر الاستيطانية داخل المدينة، وحتى من كريات أربع التي خرج منها القاتل غولد شتاين.

كان أبو عمار بقبوله بروتوكول الخليل يسابق الزمن. إنه يسعى لاستعادة أقصى ما يمكن استعادته من المدن والأراضي الفلسطينية لتعزيز وجود السلطة بحيث يصعب تهديد وجودها في المستقبل. ومن وجهة نظره فالمدن قلاع فلسطينية في وجه احتمال هجوم إسرائيلي لتدمير وجود السلطة الوطنية.  وكان يقول بأن إزاحة البندقية الإسرائيلية من قلب الشارع الفلسطيني هي الخطوة الأولى المطلوبة لتعزيز القوة الفلسطينية. وما دام يرى السلام مستحيلا في ظل هكذا حكومة والبديل عن السلام هو استمرار الصراع، فإن هذا الصراع يتطلب أن تتحرر إرادة الجماهير الفلسطينية من قيد الاحتلال الإسرائيلي، وهذا لن يتحقق إلا بالمزيد والمزيد من الانسحابات الإسرائيلية.

أما نتنياهو، داعية إسرائيل الكبرى، فقد أخذ يراوغ ويرفض أي انسحاب جديد. ويدعو تارة إلى التبادلية وتارة أخرى إلى الحل النهائي، ويقول إذا استرد ياسر عرفات هذه الأراضي فما الذي يجبره على قبول شروطنا للتسوية النهائية؟ ولم يمض غير شهر واحد على توقيع بروتوكول الخليل حتى وجّه نتنياهو ضربة جديدة لعملية السلام.  فقد أعلن عن إقامة مستوطنة "هار حوما" في جبل أبو غنيم، لتكون سدا منيعا بين القدس وبيت لحم، بل بين شمال الضفة وجنوبها. وهذه المرة اندلعت المظاهرات في منتصف آذار، وأقام فيصل الحسيني وصلاح التعمري خيمة اعتصام في جبل أبو غنيم، وقدم أبو عمار شكوى لمجلس الأمن الدولي الذي اجتمع وقرر إدانة الخطة الإسرائيلية لإقامة مستوطنة في جبل أبو غنيم الذي يقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ومرة أخرى يتدخل الرئيس كلينتون ويستدعي نتنياهو إلى البيت الأبيض في 6/4/1997. واعترفت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت والمستشار ساندي بيرغر بعد اللقاء أن نتنياهو قد رفض طلب كلينتون بشأن تنفيذ الاتفاقات المعقودة  حتى تلك القضايا الواردة في بروتوكول الخليل لإعادة الانتشار.  وفي هذه الأثناء كان أبو عمار يرمم علاقاته الداخلية مع "حماس" و"الجهاد" غير مكترث بما يردده نتنياهو عن عدم محاربة أبو عمار للإرهاب وعن سياسة الباب الدوار. وكان الموفد الرئاسي الأمريكي دنيس روس لا يفارق المنطقة، وقد اكتشف أبو عمار مبكرا الدور الخطير لدنيس روس. "إنه يعمل مستشارا عند نتنياهو". ويكاد ينحصر دوره في شل أي تحرك للإدارة الأمريكية للضغط على إسرائيل لتنفيذ الاتفاقات المتعلقة بالإنسحاب من الأراضي الفلسطينية وإطلاق سراح الأسرى.  وحتى مع هذه القناعة التي ترسخت عند أبو عمار، كان يرسل المفاوضين لعقد اللقاءات مع الإسرائيليين كلما طلب دنيس روس الذي كان كل همه أن يعود إلى واشنطن، ويقول في تقريره للرئيس كلينتون إن اللقاءات قد استؤنفت ولا حاجة للضغط على نتنياهو حتى لا تسقط حكومته.

ولكن الحقيقة أن كل جولات روس لم تحقق أي تقدم على أي صعيد. وهذا الرجل يملك القدرة على أن يتحدث لساعات وساعات دون أن يقول شيئا محددا. وبعد كل لقاء يعقده أبو عمار أو الوفد المفاوض مع روس يسمع المرء كلاما عاما ووعودا وأحاديث عن سيناريوهات جديدة ومزيدا من اللقاءات. وطوال السنوات التي كان فيها دنيس روس موفدا رئاسيا لعملية السلام لم يصدر عنه تصريح واحد يحمل إسرائيل مسؤولية تعطيل عملية السلام. بينما الوزيرة مادلين أولبرايت وجدت أن عليها في مرات كثيرة أن تشجب القرارات الإسرائيلية بالاستيطان، أو الإعتداءات المتكررة من المستوطنين على القرى الفلسطينية في الضفة.

 في ظل هذه الغطرسة الإسرائيلية، وتجميد عملية السلام، لا بد أن ترتفع الأصوات في الشارع الفلسطيني تدعو إلى المقاومة والتصدي للمستوطنين.  ولم يتأخر الرد من قبل "حماس"، فنفذت عملية انتحارية في تل أبيب بعد إعلان نتنياهو عن إقامة مستوطنة "هارحوما" في جبل أبو غنيم. كما نفذ انتحاريان من "حماس" عملية مزدوجة يوم 30 /7/1997 في القدس أدت إلى مقتل 18 إسرائيليا وجرح عدد غير محدود. وكانت عمليات "حماس" ضد المدنيين أفضل وسيلة مقنعة لدى نتنياهو  لتعليق المفاوضات ورفض الانسحاب، علما أن المفاوضات مشلولة بالكامل.

 وفي أوائل أيلول 1997نفذت حركة "حماس" في القدس ثلاث عمليات في وقت واحد، وفي أماكن متباعدة، وأدت هذه العمليات إلى سقوط قتلى في صفوف المدنيين الإسرائيليين في القدس الغربية.  نتنياهو، وإن اعترف أن حركة "حماس" تقف وراء العمليات إلا أنه اتهم ياسر عرفات علنا بأنه يقف وراء هذه العمليات، بل ويطلب من حماس أو الجهاد القيام بها.  وبالطبع لم يكن هذا صحيحا. إلا أن نتنياهو يوظف العمليات لتحقيق هدفه وهو إسقاط اتفاق أوسلو والقضاء على السلطة الوطنية. وقد دفعت هذه التطورات، وخاصة التدهور الأمني، الرئيس كلينتون إلى إرسال مادلين أولبرايت على وجه السرعة إلى المنطقة لوقف التدهور المتسارع  بين الجانبين، حيث بحضورها أعيدت الاتصالات بين الجانبين، وعقدت سلسلة لقاءات فلسطينية - إسرائيلية. إلا أن هذه اللقاءات لم تنجح في تليين الموقف الإسرائيلي الرافض لأي انسحاب جديد تحت أي ظرف. فهو الآن يدعو إلى الدخول مباشرة في التسوية الدائمة.

 شهد عام 1997 تقسيم الخليل وإقامة مستوطنة "هارحوما" في جبل أبو غنيم وأخرى في رأس العامود.  ولم ينفذ نتنياهو حرفا واحدا من الاتفاقات السابقة. وبالمقابل نفذت فصائل المقاومة عدة عمليات في القدس وتل أبيب.  وقد شهدت نهاية شهر أيلول 97  مغامرة نتنياهو الكبرى رداً على عمليات "حماس" في  القدس، فقد أرسل نتنياهو  قتلة "الموساد" إلى العاصمة الأردنية عمان لاغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"،  والمتهم بأنه العقل المدبر الذي  يقف وراء عملياتها. وفي يوم 25/9/1997 تمكنت مجموعة "الموساد"  من دخول الأردن بحكم العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، حيث نصبت كمينا  قرب منزل مشعل، وحين خرج من منزله انقضوا عليه وافرغوا السم في أذنيه، وسرعان ما سقط على الأرض مغشيا عليه وشاهد المارة ما جرى لخالد مشعل، وهو شخصية معروفة، فاندفعوا مع رجلي شرطة والقوا القبض على اثنين من عملاء "الموساد"، أما بقية المجموعة فإن سيارة السفارة الإسرائيلية كانت بانتظارهم في زاوية الشارع، وتمكنوا من الهرب والاختباء في السفارة الإسرائيلية في عمان.

 هذه الجريمة في قلب العاصمة الأردنية عمان جعلت الملك حسين يفقد أعصابه، وأخذ  يهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية، وإلغاء معاهدة السلام، وتقديم عملاء "الموساد" للمحاكمة العلنية.  وبديلا عن هذا التصعيد، وبجهود الوسطاء، ومنهم شارون طلب الملك إرسال الترياق المضاد للسم لإنقاذ حياة خالد مشعل، وكذلك إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين زعيم "حماس" وضمان عودته إلى غزة، ولم يكن أمام نتنياهو غير الرضوخ لشروط الملك حسين.  وبالفعل، تم إنقاذ حياة خالد مشعل، وأطلقت إسرائيل سراح الشيخ ياسين الذي استقبله الملك حسين، وهرع أبو عمار بدوره لاستقباله في عمان. وفي غزة استقبل الشيخ أحمد ياسين من قبل جماهير غزة والفصائل والسلطة الوطنية.  أدى فشل هذه العملية الإرهابية في عمان إلى استقالة داني ياتوم رئيس "الموساد"، وأخذت ثقة الجمهور الإسرائيلي تهتز برئيس وزرائه وقراراته التي ألحقت الضرر بعلاقات إسرائيل مع الأردن.

وفي الواقع تدنت شعبية نتنياهو إلى أدنى مستوى خلال سنتين نتيجة هذه المغامرة التي بدل أن تؤدي إلى إضعاف "حماس" زادت من شعبيتها. كل هذه العوامل جعلت الأمريكيين يضغطون بجدية على نتنياهو لعقد اجتماع قمة مع ياسر عرفات في معبر إيريز. وبالفعل، تم عقد الاجتماع يوم الثاني من تشرين الثاني 1997. إلا أن لقاء القمة هذا كان مجرد لعبة علاقات عامة ولم يخرج بأية نتيجة على صعيد رفع الطوق الأمني، أو وقف الاستيطان أو إطلاق الأسرى أو تنفيذ اتفاق أوسلو-2  والذي تكررت فقراته حرفيا تقريبا في بروتوكول الخليل، وحين سئل أبو عمار بعد اللقاء قال: "لا فائدة من هذا الرجل. "

في هذا الوقت أخذ أبو عمار يهدد بإعلان الدولة في 4/5/1999 مع انتهاء الفترة الانتقالية. ووجدت دعوة أبو عمار تأييدا عربيا ودوليا.  فما دام نتنياهو يرفض تنفيذ الاتفاقات فمن حق الفلسطينيين أن يعلنوا دولتهم في نهاية المرحلة الانتقالية. في الواقع، كان إعلان الدولة ورقة ضاغطة بهدف تنفيذ كل الاتفاقات المعطلة منذ أكثر من عام ونصف. وفي مواجهة هذا التهديد القوي بإعلان الدولة، كان الرئيس كلينتون أول من اتصل مع أبو عمار ليؤكد له أن عملية السلام لم تفشل رغم تعنت ومراوغة نتنياهو، وأن من مصلحة الفلسطينيين الحصول على دولتهم عبر المفاوضات، وأنه يتعهد بمواصلة جهوده وصولا إلى السلام والأمن للجانبين.  وفي الحقيقة كان أبو عمار أول من يدرك أنه من المبكر جدا إعلان الدولة في الوقت الذي لا تسيطر فيه السلطة على أكثر من 12% من أراضي الضفة الغربية.  إلا أنه يلوح بهذه الورقة لتحريك الضغط الأمريكي والأوروبي والدولي على إسرائيل لتنفيذ الانسحابات المقررة في الاتفاقات المبرمة مع رابين وبيريس. وقد حرك أبو عمار  المجتمع الدولي بدبلوماسيته وجرأته التي لا تعرف التردد.  وفي الوقت الذي اشتدت فيه العزلة العربية والدولية على نتنياهو وحكومته، وأخذ يصدر قرارات متسرعة لكسب ولاء المستوطنين والمتدينين واليمين الإسرائيلي، أصدرت حكومته في أوائل كانون الثاني 1998 عدة قرارات. وبموجبها فإن إسرائيل حتى في حال التوقيع على اتفاق نهائي فإنها ستحتفظ بالسيطرة على أجزاء من الضفة الغربية، والمقصود هنا غور الأردن والمستوطنات، ناهيك عن القدس التي ضمتها إسرائيل وتعتبرها العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل. ولم يكن المناخ الدولي مواتيا لهذه الغطرسة الإسرائيلية.  وجاءت الصدمة الكبيرة لحكومة نتنياهو حين تقدمت إدارة الرئيس كلينتون نهاية آذار 1998 بمبادرة جديدة تنص على انسحاب إسرائيل من 13% من أراضي الضفة الغربية. وهذه المبادرة هي ما كان أبو عمار ينتظره. ولهذا أعلن في أواخر نيسان 1998 موافقته الكاملة عليها، واستعداده الكامل لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي وبإشراف أمريكي لتنفيذها.

وبفعل الضغوط الدولية، وخاصة مواقف الرئيس كلينتون التي تجد صداها المباشر في دول أوروبية كثيرة، وافق نتنياهو على المبادرة الأمريكية بعد أربعة أشهر من موافقة أبو عمار، وبالتحديد في أواخر آب 1998. ولكن باشتراطات مستحيلة  في مجال الأمن، واتهامات جارفة للسلطة توحي بأن موافقته كانت مجرد مناورة من مناوراته التي لا تنتهي للتهرب من تنفيذ اتفاقات عقدها حزب "العمل" وهو يرفضها ويعمل على تدميرها. وبفعل هذه الموافقة التي انتزعها الرئيس كلينتون دعا لعقد قمة ثلاثية في واشنطن في  28/9/1998. وفي خطابه أمام الجمعية العامة، واستجابة لطلب الرئيس كلينتون، أسقط أبو عمار من خطابه الجملة التي تتحدث عن عزمه على إعلان الدولة في نهاية المرحلة الانتقالية، وهذا الموقف أقنع الرئيس كلينتون أن أبو عمار حريص تماما على المفاوضات ويعطي أهمية للدور الأمريكي وصولا إلى تحقيق هدفه في استعادة الأرض وتحقيق الاستقلال.  وقد غادر أبو عمار نيويورك وهو يحظى برضى وتأييد الرئيس كلينتون، الذي عليه أن يحرك مبادرته لإجبار نتنياهو على الإنسحاب من 13% من أراضي الضفة، وهي المبادرة التي أعلنها كلينتون قبل ستة أشهر. وقد لقي موقف أبو عمار كذلك ترحيبا أوروبيا ودعما للسلطة على الصعيدين الاقتصادي والمادي للتغلب على الأزمة الاقتصادية الخانقة نتيجة الطوق الأمني الإسرائيلي المفروض فعليا منذ وصول نتنياهو إلى السلطة في أيار 1996 .

ولم يتأخر الرئيس كلينتون عن تنفيذ ما وعد به مقابل تراجع أبو عمار عن عزمه على إعلان الدولة مع انتهاء المرحلة الانتقالية في 14/5/1999. ولهذا أوفد وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، ومعها مارتن أنديك مساعدها إلى الشرق الأوسط،، وهي تحمل دعوة الرئيس كلينتون لعقد قمة ماراثونية في "واي ريفر"  قرب واشنطن تبدأ يوم 15/10/1998. ولم يكن أبو عمار يريد أكثر من ذلك، ما دام قد استمع إلى الرئيس كلينتون واتفق معه على تأجيل إعلان الدولة لمدة عام واحد مقابل استئناف المفاوضات لتنفيذ الاتفاقات السابقة، وخاصة تنفيذ المبادرة الأمريكية الجديدة بالانسحاب الإسرائيلي من 13% من أراضي الضفة الغربية.

والملاحظ هنا أن الشجاعة النسبية التي ظهرت في مواقف كلينتون وتصرفاته تعود لفشل نتنياهو المتلاحق على مدى السنتين الماضيتين في الالتزام بأي تعهد يقطعه على نفسه أمام الرئيس كلينتون، حيث استقبله في البيت الأبيض ثلاث مرات، وفي كل مرة يخرج نتنياهو من الاجتماع ليراوغ ويناور في تعهداته للرئيس كلينتون. ودفعه الغرور والغطرسة إلى الاستعانة بالكونغرس ضد الرئيس كلينتون.  ومن المعروف أن الكونغرس لا يأخذ قراراته في ضوء اعتبارات خارجية تهم أمريكا، بل تتحكم في قراراته الاعتبارات الداخلية للحصول على الدعم المادي والأصوات. ومن الأمور المعروفة منذ زمن طويل أن إسرائيل قضية مركزية في قلب اللعبة الديمقراطية في أمريكا. وفي الحقيقة، فإن مصدر الشجاعة النسبية التي ظهرت لدى الرئيس كلينتون، وهو يدعو لقمة ماراثونية في "واي ريفر" ، يعود الفضل فيها إلى نتنياهو نفسه بسياسته المغامرة وغطرسته، حيث رأى الكثيرون من أشد المؤيدين لإسرائيل، بأنه يجب الوقوف إلى جانب الرئيس كلينتون في سعيه لتحريك عملية السلام وتنفيذ الاتفاقات بعد أن ثبت بألف دليل ودليل أن نتنياهو لا يسعى إلى السلام والأمن مع جيرانه وخاصة الفلسطينيين، الذين برهنوا خلال السنوات الماضية على استعدادهم لتحقيق السلام والالتزام الكامل بالاتفاقات، ونجحوا في حفظ الأمن في المناطق التي تسيطر عليها السلطة الوطنية، حتى أن أجهزة الأمن الإسرائيلية  قدمت شهادات للمستوى السياسي الإسرائيلي بأن الأجهزة الفلسطينية تؤدي عملها ولا تتساهل مع المنظمات التي ترفض اتفاق أوسلو وتحاول القيام بعمليات داخل إسرائيل.

 وقد ضمن كلينتون في دعوته لقمة ماراثونية في "واي ريفر"  تأييدا أوروبيا وعربيا، وحتى قيادات إسرائيلية داخل الليكود من حكومة نتنياهو سارعت إلى دعم دعوة كلينتون للقمة الثلاثية في "واي ريفر".  وقد حرص أبو عمار، وهو في طريقه إلى واشنطن لحضور القمة الماراثونية، أن يتوقف في لندن للاجتماع مع توني بلير رئيس الوزراء البريطاني.  فهناك لدينا اعتقاد راسخ أن بريطانيا لها تأثير كبير على السياسات الأمريكية، ولا ضرر أن يسبق وصوله إلى واشنطن دعما من توني بلير لمواقفه وسياساته ما دام تجاوب تماما مع التمنيات والنصائح الأوروبية والأمريكية بعدم إعلان الدولة، والاستعداد للتفاوض في ظل اعتراف دولي سياسي وأمني إسرائيلي بأنه اتخذ إجراءات أمنية صارمة لمنع "حماس" و"الجهاد" من تنفيذ عمليات داخل إسرائيل.  أما نتنياهو فقد غادر تل أبيب إلى عمان حيث اجتمع مع ولي العهد الأردني الأمير حسن. فالملك حسين كان يخضع للعلاج في (مايو كلينيك) في أوهايو وحالته الصحية خطيرة جدا.  ولم يصدر شيء من الأردن عن هذا اللقاء الغريب مع ولي العهد الأردني.  وكان نتنياهو قبل مغادرته قد عين أرئيل شارون وزيرا للخارجية بعد استقالة  ديفيد ليفي.  وأثار حضور شارون المفاجئ "لواي ريفر" بعد بدء المفاوضات بأربعة أيام تساؤلات كثيرة في الواقع.  فشارون أشرس من نتنياهو في معارضته لاتفاق أوسلو. وهو الذي قال يوم تصافح نتنياهو وأبو عمار في  معبر "إيريز" بأن "الليكود" قد انتهى هذا اليوم. وبين الرجلين صراع ضار على الزعامة. ويرى شارون أنه أحق من نتنياهو برئاسة الليكود، إلا أن إسحاق شامير دعم نتنياهو لرئاسة "الليكود" وتخلى عن شارون. وهكذا وصل نتنياهو إلى رئاسة الليكود ورئاسة الحكومة في إسرائيل ولم يسلم شارون سوى وزارة البنية التحتية بعيدا عن المطبخ السياسي. ولكن، ما الذي دفع نتنياهو إلى استدعاء شارون إلى "واي ريفر" 

طرح الرئيس كلينتون هذا التساؤل أمام مساعديه بعد وصول شارون إلى "واي ريفر"  حيث قال أنها علامة شؤم قد تؤدي إلى فشل هذه القمة الماراثونية. وبالفعل، تصرف شارون بجلافة وعدم لباقة تجاه أبو عمار.  فلم يصافحه أبدا، ولم يتبادل معه كلمة واحدة خلال خمسة أيام.

 وكانت قمة "واي ريفر"  قد بدأت يوم 15/10/1998 واستمرت حتى يوم 23/10/98 وكان موضوعها الأساسي تنفيذ الانسحابات الإسرائيلية المقررة في (أوسلو - 2) الموقعة مع رابين في 28/9/1995. وفي هذه المفاوضات لا يريد أبو عمار مبادئ عامة وفضفاضة، بل يريد جداول زمنية ملزمة، وأن يتعهد الأمريكيون بمتابعة التنفيذ بهدف تحقيق انسحاب إسرائيلي سريع من 13% من أراضي الضفة وفق المبادرة الأمريكية.  أما نتنياهو فتجاهل تنفيذ الاتفاقات، وراح يطالب بتسليم 30 مطلوبا من المقاومين لإسرائيل، وكذلك تسليم قائد الشرطة غازي الجبالي، وتخفيض عدد الشرطة الفلسطينية إلى 28 ألف فقط، ومصادرة السلاح من المواطنين، واعتقال خلايا المقاومة، بل وصلت وقاحته إلى درجة أن يطلب من أبو عمار تصفية المقاومين مما أثار غضب أبو عمار، وحتى الرئيس كلينتون اعتبر ما تفوه به نتنياهو وقاحة وعدم مسؤولية. ولم يكن نتنياهو بهذه المطالب ليجد دعما حتى من أعضاء وفده، أما الرئيس كلينتون ووفده الأمريكي فقد اعتبروا هذه المطالب مجرد مناورة من نتنياهو لإفشال المفاوضات، ولهذا ظهر تفاهم كامل بين الوفدين الفلسطيني والأمريكي إلى درجة تشكيل لجنة مشتركة لتعزيز التعاون المشترك. وهذا ارتقاء بالعلاقات الأمريكية - الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق، وإضافة إلى هذه اللجنة الدائمة أعلن الرئيس كلينتون أنه سيقدم مساعدات سخية ودائمة للسلطة الوطنية.  وأصبحت السلطة الوطنية هي الطرف الثالث بعد إسرائيل ومصر التي تتلقى هذه المساعدات بمبالغ كبيرة. فقد وعد كلينتون بتقديم خمسمائة مليون دولار سنويا للسلطة.

وإذا كان نتنياهو قد عاد إلى تل أبيب ليواجه عاصفة من الاحتجاجات داخل حزب "الليكود"، فإن أبو عمار لم يكن في وضع أفضل بسبب موافقته في مذكرة "واي ريفر" على محاربة الإرهاب ومنظمات الإرهاب، والتحريض عليه، وتقديم هذه الإجازات ضد الإرهاب للمخابرات المركزية الأمريكية التي أصبحت شريكا في الأمن وفي محاربة الإرهاب.  ولهذا صدرت عدة بيانات من منظمات المعارضة، وحتى من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، تشجب ما ورد في "واي ريفر"  في المجال الأمني.  ووصل الأمر إلى حزب الله الذي أدان الاتفاق وكذلك إيران.  وفي الوقت الذي كان يجب أن يبدأ تنفيذ الاتفاق الخاص بالانسحاب وإعادة الانتشار وفق جدول زمني يبدأ في الثالث من تشرين الثاني 1998 - وهذا لم يتحقق- فقد استطاع اليمين المدعوم من شارون تقييد نتنياهو وصوت ضده في لجان حزب "الليكود". وسرعان ما عاد أبو عمار إلى التلويح بورقة إعلان الدولة في خطابه بمناسبة ذكرى الاستقلال في (15) تشرين الثاني 1998. والتقط نتنياهو هذه الورقة، وأعلن انه لن ينفذ أي بند من بنود "واي ريفر" ما دام أبو عمار قد عاد إلى التهديد بإعلان الدولة.

 أما الإنجاز الأهم الذي حققه أبو عمار من مذكرة "واي ريفر" فكان فتح مطار غزة في 24/11/1998. والسبب في رضوخ نتنياهو أن الرئيس كلينتون قادم لزيارة غزة بعد ثلاثة أسابيع لحضور جلسة المجلس الوطني، التي أصر عليها نتنياهو لتأكيد إلغاء مواد الميثاق الوطني، وهي كانت قد ألغيت رسميا في نيسان 1996 .

وكان أبو عمار قد اجتاز بنجاح أول اختبار لقدرته على القيادة بسبب الأزمة الحكومية بعد صدور تقرير هيئة الرقابة الذي أدى إلى استقالة مجلس الوزراء في حزيران 1998، وبعد شهرين شكل أبو عمار حكومة جديدة ودخلها عدد من النواب الذين وجد أبو عمار أن احتواءهم داخل الوزارة أفضل من تركهم في صفوف المعارضة، واستطاع أن يطوي صفحة الفساد بتشكيل لجنة من كبار المسئولين بمن فيهم قضاة ومحامون وشخصيات مستقلة برئاسة الطيب عبد الرحيم. وكان أبو عمار يأخذ قراراته في هذا المجال بتكتم شديد ويرفض التشهير بأحد من الشخصيات العامة العاملة معه. وفي الواقع، لم يتناول التقرير أوضاع أجهزة الأمن ودورها في عمليات الفساد. الأجهزة الأمنية لا ترضخ للرقابة سواء من قبل المجلس التشريعي أو من الحكومة.  وحيث أن أبو عمار ظل يتولى حقيبة الداخلية لمدة ست سنوات من عام (1996 -2002) فالأجهزة الأمنية تتبع لوزير الداخلية أما الأمن الوطني- وهو ما يفترض أنه نواة الجيش الوطني- فهو في ظل عدم وجود وزارة دفاع يتبع للقائد العام.  وهكذا كانت المخابرات والأمن الوقائي والشرطة تتبع الداخلية والأمن الوطني يتبع القائد العام. وفي المحصلة فكل من له علاقة بالأمن يتبع الرئيس مباشرة. أما موافقة أبو عمار على كل البنود الأمنية في مذكرة "واي ريفر"  فقد  قبلها أبو عمار لأنه كان المسئول الأول والأخير عن تنفيذها، وفي هذه الحالة فإنه يتحكم بالتنفيذ ومداه وشموليته، وصولا إلى  الهدف العزيز على قلبه أن يستعيد الأرض والمدن والسكان من الإحتلال الإسرائيلي، ويخرج الجنود الإسرائيليين من المدن، ويلغي الحواجز والمداهمات والاعتقالات.  وبعد ذلك لكل حادث حديث.

إن أبو عمار حين يحقق هدف استعادة الأرض وتمتد سلطته فوقها، فإنه يعيد النظر بكل ما وقع عليه "إنه توقيع اضطراري مؤقت يزول بزوال الظروف التي أدت إليه " هكذا كان يقول بعد عودته من "واي ريفر"  ، ويتلو الآية الكريمة ويرددها مرات "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، " فالقضية كما يفهمها ليست الأمن بل الأرض، والأمن الإسرائيلي ليس إلا ذريعة لعدم الانسحاب من الأرض، لأن هذا الانسحاب الذي سيؤدي إلى قيام دولة فلسطين ويدمر الأساس الإيديولوجي لحزب اليمين الإسرائيلي من جابوتنسكي وحتى مناحيم بيغن وشامير وصولا إلى نتنياهو وشارون. ولأن هذه الايدولوجيا لا مكان لها في عقل الرئيس كلينتون، فكان كل ما يطلبه هو الأمن للإسرائيليين مقابل الانسحاب من الأرض. ولم تكن قضايا المرحلة النهائية على جدول الأعمال في "واي ريفر" ، بل مراحل إعادة الانتشار في أوسلو - 2 ، بالإضافة إلى تشغيل المطار، ومباشرة العمل في الميناء والممر الآمن بين الضفة وغزة، والعلاقات الاقتصادية. ولطمأنة الرئيس كلينتون أكثر فأكثر وافق أبو عمار على تشكيل لجنة مشتركة فلسطينية – إسرائيلية - أمريكية، أي أن (المخابرات المركزية) ستكون مدعوة للاطلاع على الخطة الأمنية الفلسطينية لمكافحة الإرهاب ومنظمات الإرهاب، وهذه اللجنة تجتمع كل أسبوعين. وأما بند مفاوضات الوضع النهائي فتم الاتفاق في مذكرة "واي ريفر" على أن تبدأ المفاوضات، فورا وبوتيرة متسارعة، للتوصل إلى اتفاق نهائي  قبل الرابع من أيار 1999. وما دام أبو عمار لم يتردد في الموافقة على كل هذه الترتيبات الأمنية لمحاربة الإرهاب ولضمان أمن الإسرائيليين، لم يبق بيد نتنياهو هامشا للمناورة والمراوغة غير المطالبة بإلغاء مواد الميثاق الوطني مجددا، لأنه غير مقتنع بإلغائها في اجتماع المجلس الوطني في نيسان 1996. وأدرك أبو عمار مقاصد نتنياهو، واعتبر أن دعوة المجلس المركزي والوطني والقيادات الفلسطينية ليست بهذه السهولة.  لهذا أصر أن تتضمن مذكرة "واي ريفر" جدولا زمنيا لإعادة الانتشار بحيث يلمس الشعب الفلسطيني وأعضاء المجلس الوطني أن عملية السلام تحرز تقدما على الأرض، وقد تحقق هذا المطلب بالجدول الزمني الذي نصت عليه مذكرة "واي ريفر" ، وحين وافق أبو عمار بعد تردد، على دعوة المجلس، التقط الرئيس كلينتون هذه الموافقة، وأعلن انه مستعد لحضور هذه الجلسة التاريخية للمجلس الوطني في مدينة غزة.  وقد كشفت هذه المبادرة الجريئة والشجاعة من الرئيس كلينتون أنه قد قرر وضع كل ثقله لإنجاح مذكرة "واي ريفر" ، ولا مجال الآن أمام نتنياهو للمراوغة، بعدما تحقق كل ما طلبه في مجال الأمن، وبالطبع مقرونا بالجدول الزمني لإعادة الانتشار. والمخابرات المركزية أصبحت الآن طرفا. وجورج تينيت، رئيس المخابرات المركزية، تصرف بسرعة وعين المسئول عن مركز المخابرات المركزية في تل أبيب لمباشرة مهمته فورا.  ولم يبق أمام نتنياهو إلا المطالبة بإطلاق الجاسوسين ( بولارد وعزام عزام ) من أمريكا ومصر، وعند هذا الحد قال له الرئيس كلينتون: كفى تلاعبا، قضية بولارد في يد القضاء الأمريكي، وعزام عزام مسجون في مصر، وما علاقة ما تطلبه بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وفيه كل ما طلبت في مجال الأمن والتعاون الأمني وتقديم التقارير الثنائية ومن خلال جورج تينت كذلك.

خرج نتنياهو مهزوما من "واي ريفر" ، رغم وجود شارون إلى جانبه. ولهذا قرر عدم تنفيذ الاتفاق وعدم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين بل أطلق سراح السجناء في قضايا جنائية. ورغم تدخل الأمريكيين فلم ينفذ من إعادة الانتشار إلا الفقرة الأولى والتي تضمنت إعادة الانتشار بنسبة 1, 7 من المنطقة B  إلى المنطقة A وبنسبة 2% من المنطقة C  إلى المنطقة B.  أما المرحلة الثانية والثالثة بنسبة 13% فقد أصر نتنياهو على أن تبقى نسبة 3% محمية طبيعية وأما 10% فقد بقيت حبرا على ورق.

وقع الحدث السياسي الأكبر بالنسبة لأبو عمار والسلطة الوطنية، وهو زيارة أول رئيس أمريكي للأراضي الفلسطينية في 14/12/1998. إنه الرئيس كلينتون الذي رمى بكل ثقله لتنفيذ مذكرة "واي ريفر" . وقد شكل حضوره لمدينة غزة الضربة القاضية لحكومة نتنياهو.  فقد فهم الإسرائيليون أن وراء هذه الزيارة تدهوراً كبيراً في العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية يتحمل نتنياهو شخصيا مسؤوليته.  ولهذا يجب أن يسقط وتسقط حكومته. وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس كلينتون يخطب في الاجتماع الحاشد وأمام كل الهيئات الفلسطينية في مركز الشوا، بعد أن هبطت مروحيته في مطار ياسر عرفات الدولي، والأمريكيون بسياراتهم ووسائل إعلامهم الهائل يملأون شوارع غزة، والأعلام الأمريكية والفلسطينية ترفرف على طول الطريق من المطار إلى قلب مدينة غزة.  في هذه الساعات تقرر مصير نتنياهو من قبل الطبقة السياسية في إسرائيل. وبعد هذا اليوم المشهود بسبعة أيام أي في 21/12/1998 أعلن الكنيست الإسرائيلي حل نفسه وإجراء انتخابات جديدة يوم 17/5/1999. وتحديد هذا التاريخ كان  المساهمة اليتيمة من نتنياهو، وقد أراده بعد الموعد المقرر لإعلان الدولة في الخامس من أيار 1999، ليجعل من موقفه ضد إعلان الدولة الفلسطينية الورقة الرابحة في برنامجه الانتخابي. وكانت هذه المناورة من نتنياهو مكشوفة تماما لدى أبو عمار، ولهذا طوى ورقة إعلان الدولة ريثما تنتهي الانتخابات الإسرائيلية. إلا أن الخلاف المعلن بين كلينتون ونتنياهو، أثناء اللقاء الثلاثي في إيريز 15/12/1998 قد أدى  إلى تعميق الخلافات الأمريكية - الإسرائيلية حيث تحدى نتنياهو الرئيس كلينتون ورفض بجلافة تنفيذ أي بند من بنود مذكرة "واي ريفر" . وهذا الفشل في لقاء إيرز أقنع أعضاء الوفدين الإسرائيلي والأميركي بأن نتنياهو يعرض أمن إسرائيل للخطر، ويلحق الضرر بالمصالح الأميركية.

في الواقع، تقرر مصير نتنياهو بفعل الموقف الذي اتخذه الرئيس كلينتون في "واي ريفر" بضرورة تنفيذ ( أوسلو - 2 ) وإعطاء إسرائيل كل الضمانات الأمنية، وعدم الموافقة على الهروب من تنفيذ هذه الاستحقاقات بذريعة الإنتقال لمفاوضات الوضع النهائي. والذي ساعد كلينتون للوصول إلى هذا الموقف الحنكة السياسية التي تحلى بها أبو عمار في الموافقة على كل المطالب الأمنية الإسرائيلية التي اقتنع بها الرئيس كلينتون.  فقد كانت عين أبو عمار تركز على الأرض، ويرى أن المطالب الأمنية الإسرائيلية هي مجرد ذرائع بصيغتها التعجيزية تهدف إلى شق الصف الفلسطيني، وإظهار أن ما يوافق عليه أبو عمار لا يلقى تأييدا من الشارع أو من القوى السياسية. وكان على أبو عمار  أن يتحمل الكثير من بيانات الشجب والتنديد، وكثيرون اعتبروا خطأ  أبو عمار الأكبر كان في موافقته على  مشاركة المخابرات المركزية، علما أن الذي رفض هذه المشاركة كانت إسرائيل لأنها تريد أن تبقى يدها طليقة وبلا مراقبة من أية جهة دولية، حتى لو كانت أمريكا، الحليف الوحيد لإسرائيل في السراء والضراء.

وقد وظف أبو عمار الزيارة التاريخية للرئيس كلينتون لمدينة غزة، وبعدها إلى بيت لحم ليجعل من السلطة الوطنية دولة حقيقية يطلب ود رئيسها قادة المنطقة الذين ذهلوا من هذه الزيارة لرئيس أمريكي إلى غزة.  وأخذ الكثير منهم يطلب مساعدة أبو عمار لدى صديقه الرئيس كلينتون.  وقد شكل فتح المطار بشكل خاص العنوان الكبير لهذا التحول في مكانة أبو عمار والسلطة على المستوى العربي والدولي.  إن الطائرات تهبط في مطار غزة وهي قادمة من جهات مختلفة، والطيران الفلسطيني ينظم الرحلات إلى العواصم المحيطة، وينقل الحجاج لبيت الله الحرام، وطائرة أبو عمار في صعودها وهبوطها تضفي حيوية دائمة على المطار. وكان المهندسون المغاربة قد أبدعوا في جعل مطار غزة صورة طبق الأصل عن مطار الدار البيضاء. ويمكن للمرء أن يتخيل اعتزاز أبو عمار بهذا الإنجاز الوطني الكبير وهو يستقبل كبار الضيوف وحين يستعرض حرس الشرف وحين تعزف الموسيقى النشيدين الوطنيين للضيف الزائر ولفلسطين.

هذا الفاصل في الصراع الفلسطيني -  الإسرائيلي، وإن لم يدم سوى أشهر معدودة، يستحق أن تدرس عوامله وظروفه وتوقيته وما حققه للسلطة الوطنية، ولأن المعادلة التي حققت "واي ريفر" ، هي نفسها المعادلة التي قد نصل من خلالها إلى الاستقلال الوطني. والرئيس كلينتون الذي شكل القوة الدافعة في "واي ريفر" هو نفسه الرئيس كلينتون الذي ألقى اللوم على أبو عمار حين فشلت مفاوضات كامب ديفيد، حيث عجز الرئيس كلينتون عن فهم واستيعاب موقف أبو عمار من قضية القدس والأقصى .. وهكذا نجحت براغماتية كلينتون في "واي ريفر" وفشلت في كامب ديفيد لعجزه عن إعطاء الأهمية للتاريخ والتراث والدين في اقتراحاته  التي رفضها أبو عمار.

لعل سر نجاح "واي ريفر" أنها كانت تركز على قضايا انتقالية ولم تبحث في أي قضية من قضايا الوضع النهائي. كان أمامها اتفاق أوسلو - 2 وبروتوكول الخليل، بالإضافة إلى غطرسة نتنياهو سواء في فتح النفق، وقراره ببناء مستوطنة "هارحوما" في جبل أبو غنيم، ومحاولة اغتيال خالد مشعل، والتصدع داخل حكومة نتنياهو وحزبه.  ولعل العامل الأهم الذي ترافق مع هذه العوامل مجتمعة بعد نظر أبو عمار وهو يستجيب لكل المطالب الأمنية الإسرائيلية والأمريكية.  فقد وافق عليها أبو عمار لسحب كل الذرائع الأمنية من يد نتنياهو، وبهذا كسب موقف الرئيس كلينتون إلى جانبه الذي اعتبر أن الانسحاب من 13% أمر مفروغ منه، وأن تشغيل المطار لا يمكن الاعتراض عليه، وكذلك مباشرة العمل في الميناء، والممر الآمن بين غزة والضفة. ولا بد أن نضيف هنا أن إدارة الرئيس كلينتون كانت لديها شكوك كبيرة في جدية نتنياهو تجاه عملية السلام، وبالتالي يضعف مصداقية الولايات المتحدة ورئيسها على المستوى الدولي، وهو الذي  رعى في البيت الأبيض الحدث التاريخي بالتوقيع على اتفاق أوسلو.

الفصل الخامس والعشرون

الفصل الرابع والعشرون


الفصل الثالث والعشرون


الفصل الثاني والعشرون


الفصل العشرون


الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات