أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال

أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل السابع عشر:

الانتفاضة تكسر الطوق وتعلن الاستقلال 


قال جورج حبش عندما قرر الرحيل من بيروت إلى دمشق بدل أن يرافق أبو عمار إلى تونس بعد حرب عام 82، قال "لا أريد للثورة أن تكون ثورة لاجئة. " وكانت المصائر المحزنة لشخصيات القيادة الفلسطينية عام 1948 تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يصعد مع أبو عمار على ظهر السفينة المتوجهة إلى أثينا، وبعدها إلى ما كان يراه المنفى البعيد في تونس. جورج حبش هذا، الذي أسس حركة القوميين العرب لإحداث التغيير العربي من أجل تحرير وطنه فلسطين، وبعدها أسس الجبهة الشعبية وقادها بكل شجاعة، كان قد سجن في سوريا في عهد حافظ الأسد وهرب من السجن. وفي معركة الأسد المريرة للقضاء على "فتح" وياسر عرفات استقبله الأسد في دمشق كما استقبل في وقت سابق "أبو صالح"الذي قال بعد اللقاء بأنه والأسد حليفان، وأنه عائد إلى بيروت ولبنان بعد القضاء على "زمرة عرفات،" إلا أن الأسد فرض الإقامة الجبرية على أبو صالح بعد خروج أبو عمار من طرابلس لمدة عشر سنوات حتى وفاته.

من مقر قيادته الجديد في تونس، كان أبو عمار يتابع مواقف وتحركات جورج حبش ونايف حواتمة، ويصر على التواصل معهما رغم المواقف والتصريحات الجارحة التي كانت تمسه شخصيا، لكنه كان يحرص على تجاهلها وعدم الرد عليها. وغضب مني غضبا شديدا حين قمت بالرد العنيف في افتتاحية "فلسطين الثورة" في أواسط عام 1984 على مواقف جورج حبش ومجلة "الهدف" التي أسسها غسان كنفاني المثقف المبدع الذي قلنا عنه إنه وحده يشكل جبهة وفصيلا في العمل الوطني الفلسطيني. أما أبو عمار  فكان يحرص على "شعرة معاوية" بحكم أنه قبل كل صفاته التي كان يحرص عليها، كرئيس للمنظمة والقائد العام، كان القائد الميداني للثورة وهذا الدور أهله للتواصل اليومي مع  القواعد الفدائية والجماهيرية لكافة القوى والفصائل في الساحة الفلسطينية، وأصبح لدى الفصائل وعلى مستوى قياداتها وقواعدها من يطلقون عليه "هذا عرفاتي"وفي الوقت نفسه يحتفظ بعضويته وبدوره في قيادة الفصيل، دون أن يؤدي اتهامه أنه "عرفاتي" إلى عزله وإخراجه من مركز القرار في هذا الفصيل أو ذاك. أما القواعد العسكرية، فالقائد الميداني أبو عمار، وبصفته القائد العام، أقام صلات قوية على مستوى الضباط وحتى المقاتلين من كافة الفصائل، ما مكنه من إحداث تغييرات هائلة في المواقف على مستوى القادة والقواعد تتناقض كليا مع قرارات القيادة في هذه الفصائل. فجبهة الإنقاذ التي تشكلت في سوريا، ومن ضمنها الجبهة الشعبية، كبديل لمنظمة التحرير، فشل حافظ الأسد في جرها لحرب المخيمات التي كلف بها حركة "أمل" بقيادة نبيه بري واللواء السادس ابتداء من أواسط عام 1985 ، وبدل أن تقصف قوات "جبهة الإنقاذ" المخيمات لطرد "زمرة عرفات" من برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، راحت تقصف مواقع حركة "أمل" بمدفعيتها المتمركزة في الجبل. وهذه المشاركة مع "فتح" في مواجهة "أمل" كانت قرارا قاعديا على مستوى الضباط والمقاتلين بينما قياداتها في دمشق أعطت تعليمات مغايرة أقلها الوقوف على الحياد إن لم تقف مع حركة "أمل" في حرب المخيمات. وبالطبع، باستثناء المنشقين الذين يتلقون الأوامر والتعليمات من القصر الجمهوري السوري ومن الضابطة الفدائية ومن "المندوب السامي" في لبنان غازي كنعان، هؤلاء المنشقون  قصفوا المخيمات بدل أن يقصفوا ميليشيا "أمل" وهم من قتل القائد الشجاع في صبرا وشاتيلا علي أبو طوق.

 كشفت "حرب المخيمات" في مرحلتها الأولى 84 - 86 لجورج حبش، قبل غيره، أن سياسة الأسد في لبنان لا تختلف في شيء عن السياسة الإسرائيلية، وهدفها  إخراج الثورة بكل فصائلها من لبنان، وإغلاق جبهة الجنوب ضد إسرائيل. وليس الأمر مقتصرا على عرفات و "زمرة عرفات". وفوجئ الأسد بان جورج حبش قد غادر دمشق في أيار 1985 بعد مصادرة المخابرات السورية لكل المجلات والصحف الخاصة بالفصائل ومنع صدورها إلا بعد موافقة الضابطة الفدائية، والأخطر كانت أوامر غازي كنعان لجبهة الإنقاذ بتقديم كشوف تفصيلية عن الأفراد والأسلحة الموجودة في لبنان، كما منع غازي كنعان أي إمدادات لتسليح فصائل "جبهة الإنقاذ" إلا بموافقته، بينما يجري تسليح ميليشيا حركة " أمل بالدبابات" (تي 34) والمدافع أمام أنظار الفدائيين في الجبل، الذين يتمزقون وهم يرون أهلهم في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة يتعرضون للحصار والقصف والقتل. جاءت مغادرة جورج حبش لدمشق اعترافا غير معلن بان أبو عمار كان على حق حين رفض التوجه إلى دمشق بدل تونس. فالأسد يريد إغلاق لبنان في وجه الفدائيين الفلسطينيين على اختلاف فصائلهم. وما يتذرع به من ذرائع تتعلق بمبادرات ياسر عرفات تجاه مصر والأردن والمرونة تجاه مبادرة الرئيس الأمريكي رونالد ريغن ليس إلا لتبرير جريمته ضد الثورة وإغلاق جبهة الجنوب كما أغلق جبهة الجولان.

كانت لحظة مغادرة جورج حبش لدمشق لحظة فرح  أبو عمار. وحين علم أن نايف حواتمة في هافانا عاصمة كوبا قال: لن يقوى الأسد على احتواء الشعب الفلسطيني وثورته. أنا أعرف حبش وحواتمة هؤلاء قادة وطنيون. وقد انعكس خروج حبش وحواتمة من دمشق بازدياد التلاحم بين "فتح" والقواعد المقاتلة للفصائل في الجبل وفي الجنوب، وتمكن أكثر من ألفي مقاتل من "فتح" قادمين من مخيمات سوريا وشمال لبنان ومن الأردن بهويات  وأوراق من الفصائل  من العودة إلى مخيمات بيروت والجنوب.

وفي هذه الفترة تخلت الجبهة الشعبية عن عضويتها في جبهة الإنقاذ. وعادت تدريجيا الصيغة الوطنية في إطار المنظمة للإشراف على المخيمات في بيروت والجنوب.

 أدى التقارب الميداني خلال "حرب المخيمات"  إلى تقارب سياسي بين الفصائل والقوى، وقد بدأ كوادر كثيرون من "الشعبية" و"الديمقراطية" و" جبهة التحرير الفلسطينية"، وحتى من جماعة جبريل و"جبهة التحرير العربية" يتدفقون على تونس. وليس أقدر من أبو عمار على احتضان رفاق السلاح. فالوحدة هي الأساس، وداخل إطار الوحدة، نتفق أو نختلف على الموقف السياسي. كان فهمه للوحدة الوطنية عميقا وراسخا. وأولويات أبو عمار هي الوحدة الوطنية. وثانيا وثالثا يأتي الموقف السياسي، ولو على حساب ما قاله أو بادر إليه في السابق. ولهذا، بدأ البحث مجددا لاستئناف الحوار الوطني طوال نهاية عام 86 19واوائل عام 1987. وقد لعب دورا محوريا في إنجاح الحوار أبو إياد وأبو جهاد وأبو مازن. وأذكر أنه كانت تجري لقاءات في تونس حول نصوص البيانات الصادرة عن جلسات الحوار في عدن وبراغ، التي سيعتمدها المجلس الوطني في دورته الوشيكة لتجسيد استعادة الوحدة الوطنية المعطلة فعليا منذ عام 1983 في هذه الجلسات والحوارات كان أبو عمار لا يعطي أية أهمية، ولم يكن لديه رد فعل عنيف، تجاه النقد القاسي الذي يستهدفه شخصيا وتجاه مبادراته وتحركاته السياسية، وكان المهم لديه وحدة المنظمة داخل البيت الفلسطيني الواحد الموحد حيث يمكن التوصل  إلى قواسم مشتركة تخدم الشعب الفلسطيني. وفي منتصف عام 87 نجحت جهود أبو عمار واللجنة المركزية في تحقيق الوحدة الوطنية، وقبلت الجزائر عقد المجلس الوطني، بعد أن اكتشفت الفصائل والقوى خطة الأسد للقضاء على الثورة من خلال حربه الدامية ضد المخيمات في لبنان، وما أقدم عليه الملك حسين من إغلاق المكاتب الفلسطينية وطرد أبو جهاد من عمان في تموز 1986. ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى اندلعت الانتفاضة الفلسطينية في  الأراضي الفلسطيني المحتلة.

 جاء اندلاع الانتفاضة ليقلب كل الحسابات في دول الطوق  المحيطة بفلسطين، فأسقطت الانتفاضة كل محاولات الوصاية والاحتواء والتلاعب بالقضية الفلسطينية لخدمة هذا الواقع العربي الرديء، فالانتفاضة تندلع في قلب الأرض الفلسطينية المحتلة، ولهذا فليس في قدرة هذه الأنظمة احتواؤها أو السيطرة عليها. إنها انتفاضة وطنية ترفع راية الاستقلالية الوطنية التي ترفعها "فتح" وقدمت من أجلها آلاف الشهداء. وهكذا، أسقطت الانتفاضة الخيار الأردني، و"اتفاق لندن" بين الملك حسين وبيرس والتقاسم الوظيفي، كما أسقطت الدور السوري لتوظيف الورقة الفلسطينية في لعبته المفضلة لحماية نظامه  في سوريا.

الانتفاضة أعادت الاعتبار على المستوى العربي والدولي للقضية الفلسطينية، في الوقت الذي وصل فيه النظام العربي في قمة عقدت بعمان إلى محاوله شطب القضية الفلسطينية من جدول أعماله، حيث وقف وراء هذه المحاولة المشئومة حافظ الأسد والملك حسين، الذي عرض الملك على المجتمعين اتفاق لندن السري مع بيرس قائلا لهم بأن هذا الاتفاق يريحهم جميعا من هذا التهديد الذي تشكله منظمة التحرير و"فتح" والثورة لأمن واستقرار هذه الكيانات الهزيلة. وفي بداية الانتفاضة حاول أدعياء الحرص على فلسطين القول بأن الانتفاضة لا علاقة لها بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي: لماذا الاستمرار في دعم المنظمة. إلا أن الانتفاضة، التي شكلت ردا على المجازر والمذابح التي اقترفتها إسرائيل ونظام الأسد ضد المخيمات والثورة، سرعان ما ردت على هذه الأكاذيب بتشكيل "القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة " ق.و.م "، وبمشاركه كل الفصائل الأساسية، وأصدرت هذه القيادة البيانات الصريحة والواضحة التي تؤكد على وحدة الشعب والقيادة التي تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

 فاجأت الانتفاضة حكومة إسرائيل، وفي الوقت الذي قطع فيه إسحق رابين زيارته لواشنطن، وادعى أنه سيقضي على الانتفاضة خلال ثلاثة أيام، كان أبو عمار يرد من صنعاء على رابين ويقول: "رابين واهم ومغرور ومتعجرف، ولن يقضي على الانتفاضة لا في ثلاثة أيام أو حتى ثلاث سنوات. "وأدرك أبو عمار ببصيرته النافذة أن الانتفاضة ليست حدثا عابرا بل إنها بركان من الغضب انفجر في وجه الاحتلال الإسرائيلي والقمع العربي للثورة. فماذا ينتظر الشعب الفلسطيني بعد أن أصبحت قيادته في إفريقيا، وبعد أن سقط الخيار العسكري العربي بتوقيع كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وبعد أن واصلت أنظمه الحكم في دول الطوق الحرب ضد الثورة وعملت على إخراجها من طرابلس بعد أن أخرجها شارون من بيروت، وإقدام الملك حسين على توقيع الاتفاق السري مع بيرس في لندن، وطرد "فتح" وأبو جهاد من عمان؟ لم يبق غير انفجار بركان الانتفاضة للدفاع عن الأرض والمصير والاستقلال الوطني، فلا أوهام ولا انتظار ولا خداع ولا تبعية لأي نظام عربي. إن راية الاستقلال الوطني ترفع  في كل أنحاء فلسطين. وهذا هو التحول التاريخي الذي عمل من أجله أبو عمار .

كانت الانتفاضة حرب الخلاص النهائية من الوصاية العربية، فالشعب الذي يرزح تحت الاحتلال انتفض الآن في حركه منسقه ومنظمه وشامله ضد الاحتلال، وجاء إعلان تشكيل "القيادة الوطنية الموحدة" وإعلان التزامها بقيادتها منظمه التحرير الفلسطينية يخرس الأصوات المشككة في هذا الترابط العضوي بين القيادة والشعب في الوطن. وأسقطت الانتفاضة التقاسم الوظيفي بين الأردن وإسرائيل، وأزالت روابط القرى من الوجود، وأما رابين الذي ارتبط اسمه بوحشيه قوات الاحتلال الإسرائيلي في سياسة القبضة الحديدية وتكسير العظام فقد أفلس بعد ثلاثة أشهر من محاولات القضاء على الانتفاضة، وهنا ارتفع الصوت في أنحاء العالم منددا بالوحشية الإسرائيلية لأن جنود رابين يطلقون النار على المدنيين ويهاجمون المخيمات في قطاع غزه والضفة، واشتهرت مخيمات جباليا و بلاطه والدهيشة على مستوى العالم، ورفضت بيت جالا دفع الضرائب للمحتلين، وسجنت إسرائيل ألاف القياديين الميدانيين. إلا أن الانتفاضة لا تتوقف، بل تزداد اشتعالا، وأبعدت إسرائيل القادة الوطنيين إلى الخارج. إلا أن الانتفاضة لا تخمد نارها فوراء الانتفاضة هناك في الخارج قيادة مسكونة بقضية شعبها. أما أبو عمار فقد سخر كل قدراته وكل علاقاته وكل ما تحت يديه من إمكانيات لدعم الانتفاضة، وأقام جسورا  بريه  وبحرية لدعم الانتفاضة وقياداتها، ولا يمر يوم في بغداد أو تونس أو القاهرة أو صنعاء إلا وفي برنامج أبو عمار لقاء مع  وفود الداخل، ويأخذ القرار على وجه السرعة إذا كان الأمر يتعلق بدعم الانتفاضة وبدعم المواطنين الذين يتعرضون للقمع الإسرائيلي، وأما وكالة الغوث، فكل المساعدات التي يطلبها أبو عمار من الصين الشعبية أو من المغرب يفتح لها مستودعات في قبرص، ومن هناك تتولى وكاله الغوث استلامها وتوزيعها في الداخل في الضفة وغزه.

أما أبو جهاد المطرود من عمان، وبعد ثلاث سنوات قضاها في عمل صامت لتنظيم الشباب في الداخل، يعمل ليل نهار لإدامة الصلة والدعم للتنظيم في مختلف أنحاء الوطن. إنه المسئول عن العمل في الداخل، سواء كان العمل عسكريا أو مدنيا. ولم يكن أمام إسرائيل التي فشلت في قمع الانتفاضة غير الانتقام من هذا القائد الذي كان يشكل على الدوام تهديدا أمنيا خطيرا لإسرائيل. أبو جهاد كان وراء عملية"ديمونا "ووراء عمليه"وزارة الدفاع،"ووراء عملية "سفينة الصواريخ لضرب إيلات"، وفي زمن بعيد هو العقل المدبر "لعملية دلال المغربي "والآن هو "أول الرصاص وأول الحجارة."وللأسف فأبو جهاد لا يجد ملاذا آمنا في كل الأرض العربية. إنه مطرود من عمان، وهو يأتي إلى تونس، دون أن يلحظ أحد ذلك، لأن اسمه على اللائحة السوداء التي وزعها "الموساد" الإسرائيلي على المخابرات الأوروبية والأمريكية بعد عملية ديمونا ووزارة الدفاع. وفي القاهرة لم يتمكن العاملون معه من جعل القاهرة نقطة اتصال مع الأهل في قطاع غزة لأسباب تتعلق بالأمن المصري، وكان يتحرك بكل سريه بين بغداد وتونس.

ولا بد من كشف الحقيقة المرة، وهي أن "الموساد" الإسرائيلي لديه شبكة هائلة سواء في الشرق الأوسط أو في أوروبا، ولديه رصد كامل لكل الاتصالات التقليدية والحديثة على مستوى الشرق الأوسط، ولهذا فأبو جهاد يخضع للمراقبة والملاحقة الدائمة  من "الموساد" الإسرائيلي في حركته وتنقلاته واتصالاته. وعلى سبيل المثال، فهذه الشبكة ليست معصومة من الخطأ ففي غارة حمام الشط التي استهدفت اغتيال أبو عمار في أكتوبر 1985 فشلت في تحقيق هدفها رغم أنه من  المؤكد أن الطائرة الخاصة التي تحركت من اليمن إلى المغرب ووصلت ليلا إلى تونس  في 30 أيلول عام 1985  كانت بدورها تخضع للمراقبة والمتابعة، ولو لم تكن إسرائيل على معرفة دقيقة بكل تفاصيل رحلة الطائرة  لما أقدمت على هذه المغامرة العسكرية، وإرسال ثماني طائرات لقصف مقر قيادة أبو عمار في حمام الشط بتونس من أجل القضاء عليه. ويبدو أن فشل الغارة الإسرئيلية ونجاة أبو عمار من موت محقق، إنما يعود إلى فشل "الموساد الإسرائيلي" في رصد حركة أبو عمار بعد وصوله إلى تونس ولأكثر من عشر ساعات، حيث نفذت القيادة العسكرية الإسرائيلية الغارة الجوية على أساس معلومة قديمة من مواقع رصد حركة أبو عمار. فهو دائما يعود من الخارج إلى تونس ويبقى لبعض الوقت، ولكنه لا ينام في غير حمام الشط مقر قيادته. على أساس هذا الروتين الثابت في حركة أبو عمار نفذت إسرائيل غارتها الجوية، وقد فشلت لأن أبو عمار تأخر في اجتماعاته في بيت حكم  بلعاوي حتى الثالثة صباحا، وكان لديه في العاشرة من صباح اليوم التالي لقاء مع محمود درويش والمثقفين العرب القادمين من باريس. وأبو عمار لا يخلف موعدا خاصة إذا كان مع محمود درويش  .

والواقع يقول أن القيادة الفلسطينية التي تحارب إسرائيل كانت، في الحقيقة، قيادة مكشوفة تماما للعدو الإسرائيلي، وأمام فشلها في قمع الانتفاضة قررت إسرائيل اغتيال العقل المدبر وراء هذه الانتفاضة التي أعجزت "الجيش الذي لا يقهر"كما  تدعي إسرائيل.

وهذا هو شهر نيسان من عام 1988 الذي يقول عنه الفلسطينيون بأنه "أقسى الشهور"، إنه  شهر استشهاد عبد القادر الحسيني في عام 1948،والشهر الذي اغتال فيه "الموساد" الإسرائيلي القادة الثلاثة في بيروت: كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، وفيه ارتكب مناحيم بيغن مذبحة دير ياسين، وفيه اغتالت إسرائيل أبو جهاد .

وصل أبو جهاد تونس يوم العاشر من نيسان عام 1988، و يوم 16 نفذت إسرائيل جريمة اغتياله في منزله في حي سيدي بوسعيد في ضاحية تونس الشمالية. أما تفاصيل الجريمة فإنه يندى لها جبين كل عربي. فالكوماندوز وصل بالسفن، وإيهود باراك أشرف على العملية من الجو، وجمدت إسرائيل  كل نظام الاتصالات في كل أنحاء تونس الشمالية، وقطعت الكهرباء.

 كان يوم16 نيسان عام1988 يوما من أيامنا الحزينة المليئة بالسخط والغضب والمرارة من هذا الواقع العربي العاري والمكشوف أمام إسرائيل. كان هذا اليوم الحزين يوم غضب مشهود من شعب الانتفاضة ضد هذه الجريمة الوحشية التي اعتقدت إسرائيل أنها باغتيال أبو جهاد ستطفئ شعله الانتفاضة. كان يوم اغتيال أبو جهاد يوما مجيدا في تاريخ هذا الشعب وفي سجل هذه الانتفاضة الشعبية، التي خرجت جماهيرها في يوم غضب ضد الاحتلال الإسرائيلي لم تشهد أرضنا المحتلة مثيلا له من قبل. اغتيال أبو جهاد قد أشعل الغضب والسخط الشامل، وأطلق جنود الاحتلال الرصاص الحي على الجموع الغاضبة، وسقط في هذا اليوم عشرون شهيدا ومائه وخمسون جريحا، واعتقلت قوات الاحتلال المئات، وأغلقت المناطق، وحاصرت المخيمات، وأقامت الحواجز. ولكن كل هذه الوحشية الإسرائيلية لم تنفع في قمع الانتفاضة. كان اغتيال أبو جهاد في تونس ليلة16 نيسان 1988 المنعطف الحاسم في مسيرة الانتفاضة، فقد هبت جماهير الشعب عن بكرة أبيها لتشارك في الانتفاضة، والهدف الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي. واحتلت الانتفاضة الصفحات الأولى من صحافة العالم، وبدأ التذمر الدولي من وحشيه القمع الإسرائيلي يصل إلى البيت الأبيض، وإلى وزير الخارجية جورج شولتز الذي راح يتلعثم وهو يقدم مقترحاته حول إقراره بدوْرٍ للفلسطينيين يقررون من خلاله مستقبلهم.

بعد وداع أبو جهاد إلى مثواه الأخير، في جنازة مليونيه إلى مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك، "تواضع" الأسد واستقبل أبو عمار يوم 25 نيسان 1988 في دمشق، وكان هذا اللقاء بعد خمس سنوات من طرد أبوعمار من دمشق في 20 حزيران 1983 بعد أن أدرك الأسد أن الورقة الفلسطينية، بفضل الانتفاضة، خرجت من يده إلى الأبد، وهي الآن في يد هذا اللاعب الماهر أبو عمار. أما الملك حسين فلم تمض غير ثلاثة أشهر بعد اغتيال أبو جهاد حتى أعلن "فك الارتباط الإداري والقانوني" مع الضفة الغربية، وقطع الرواتب وأوقف المساعدات، وألغى الخطة الخمسية. وينتهي إلى الفشل اتفاق لندن السري للتقاسم الوظيفي بين إسرائيل والأردن. ولضمان عدم امتداد الانتفاضة إلى الأردن، يقوم الملك حسين بحل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة، ويعطي الإخوان المسلمين عشرين مقعدا بعد أن  أعلنوا أنهم ضد فك الارتباط وضد قيام دولة فلسطينية مستقلة على جزء من أرض فلسطين التاريخية لأن "فلسطين وقف إسلامي."

ومن المفارقات والمهازل أن "حزب البعث"عندما ضم الملك عبد الله الضفة الغربية في مؤتمر أريحا اعتبروا هذا القرار يجسد الوحدة العربية الكبرى، وهذه واحدة من مهازل كثيرة  في تاريخ هذا الحزب.

لقد أعلن الملك حسين "فك الارتباط الإداري والقانوني"، بينما المجلس المركزي للمنظمة يجتمع في بغداد في 31 تموز 1988، وسرعان ما أدرك أبو عمار أن "الزواج الكاثوليكي" في اتفاق أريحا قد وصل إلى نهايته، ولهذا صدرت قرارات المجلس المركزي لملء الفراغ بعد فك الارتباط في مختلف مجالات الحياة في الضفة سواء بالنسبة لرواتب العاملين، أو أموال الدعم للمؤسسات الوطنية الاجتماعية والاقتصادية والصحية والثقافية، وحتى موظفي البلديات والإدارات المحلية التي كان أفرادها يتلقون الرواتب أو المساعدات من الأردن. قرر المجلس المركزي أن يفي بكل الالتزامات التي كان يقوم بها الملك حسين. وكتبت تعليقا على قرار الملك حسين بفك الارتباط الإداري والقانوني في افتتاحية مجلة فلسطين الثورة 10 آب 1988 وجاء فيه ما يلي : "اعتقد الملك حسين أن قراراته بفك الارتباط ستضع على كاهل  المنظمة أعباء لا تستطيع القيام بها، وبالتالي ستفرض هذه القرارات على المنظمة أن تعود إلى بيت الطاعة الأردني والدولي، وتقبل بكيان هزيل بلا سيادة، وتقبل بالوجود العسكري الإسرائيلي على نهر الأردن، وبالعلم الأردني فوق المسجد الأقصى، وبنظام إداري للحكم يذكرنا بالباندوستانات في ظل حكم التمييز العنصري في جنوب إفريقيا". وختمت الافتتاحية بالقول: " إن فك الارتباط إنما يشكل النهاية السعيدة للتحالف غير المقدس الذي جمع النظام الأردني والعدو الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى عام 1988. وفي تشديد حملتنا الإعلامية ضد الملك حسين والرئيس الأسد قلت: " إن الملك حسين هو صاحب قرار أيلول الأسود في عام 1970، والرئيس الأسد هو وحده المسئول عن مجزرة تل الزعتر، وعن حرب المخيمات بالتواطؤ مع إسرائيل وأمريكا."

وتحمل أبو عمار المسؤولية الكبيرة بعد فك الارتباط مع الأردن دون تردد أو تذمر، بل نفذ كل الالتزامات المترتبة على المنظمة، وزاد عليها، بحيث لم يشعر الرأي العام في الضفة الغربية أن فك الارتباط قد أثر سلبا على أوضاع المجتمع الفلسطيني، بل شكل إعلان الملك مصدر فرحة عند المواطنين الذين كانوا قد استنكروا "اتفاق لندن" السري حول التقاسم الوظيفي، واعتبروه طعنة غادرة ضد الاستقلال الفلسطيني. وبالفعل، فإن إعلان الملك فك الارتباط الإداري والقانوني أعطى دفعة قوية للانتفاضة وللقيادة على حد سواء. فعلى صعيد الانتفاضة تضاعف الزخم الجماهيري ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودخلت التجمعات السكانية في القرى والأرياف البعيدة إلى أتون الانتفاضة، كما ازدادت اشتعالا أعمال الانتفاضة في المدن الكبرى، فقد أدرك الرأي العام أن ساعة الخلاص من الاحتلال قد اقتربت. فهمت الجماهير المنتفضة أن قرار الملك حسين بفك الارتباط إنما يشكل ضربة للاحتلال الإسرائيلي وليس ضربة للانتفاضة أو قيادتها، منظمة التحرير الفلسطينية، فلم يعد هناك طرف عربي يجرؤ على فرض قراره أو إرادته على الشعب الفلسطيني، وبهذا القرار أدرك الملك حسين أن عليه أن يتوقف وإلى الأبد عن محاولات جره دائما وأبدا من إسرائيل وأمريكا لاحتواء القضية الفلسطينية، وتزوير إرادة الفلسطينيين الذين أدركوا ومنذ زمن بعيد أن ضياع القرار الوطني الفلسطيني المستقل عام 1948 قد أعطى الشرعية العربية والدولية لإسرائيل، وأصبح الصراع هو صراع على الحدود بين الدول العربية وإسرائيل، وإن القضية الفلسطينية لم تعد قضية شعب شرد من وطنه بقوة السلاح والمذابح بل صارت قضية لاجئين، وحتى الأمم المتحدة استبدلت قضية فلسطين من قضية شعب إلى قضية لاجئين في عام 1952، وعقدت الدول العربية، الأردن وسوريا ومصر، اتفاقيات الهدنة في "رودس"مع إسرائيل.

على مستوى القيادة فإن أبو عمار أدرك بدوره أبعاد قرار الملك بفك الارتباط، فهذا القرار أزال العقبة الأخيرة أمام إعلان الاستقلال وقيام الدولة المستقلة في حدود وأراضي عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف. وقد جاءت بيانات ومواقف القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة لتعطي دفعة قوية لقيادة المنظمة على المستوى الدولي، فهذه الانتفاضة جماهيرية ومدنية وغير عنيفة، وهذا النضال يتقبله الأوروبيون ولا يمكنهم إخفاء رؤوسهم في الرمال أمام وحشية الاحتلال الإسرائيلي. وقد بدأ أبو عمار تحركه في أوروبا بالدول الاسكندنافية التي فتحها أمام أبو عمار رئيس وزراء السويد السابق اولاف بالميه، ومن قبله كان الرئيس النمساوي برفو كرايسكي  قد استضاف أبو عمار في فينيا، ورتب له لقاء مع قادة الاشتراكية الدولية وفي مقدمتهم المستشار الألماني السابق فيلي براندت، وفي عواصم الدول الاشتراكية كان أبو عمار زائراً دائما ومرحبا به وخاصة في برلين الشرقية من قبل الرئيس إيريك هنيكر، وفي بوخارست من قبل الرئيس الروماني تشاوتسكو. وأذكر أنه في زيارة سابقة إلى المجر راح أبو عمار يسأل الأمين العام للحزب الشيوعي عن الكونفدرالية المجرية - النمساوية تحت أسرة "ال هبسبيرج"، وفوجئ المسئول المجري من هذا السؤال. ولكنه لم يتردد في القول: إن الكونفدرالية كانت مجرد غطاء للاحتلال النمساوي للمجر. وحين انتهى اللقاء وعدنا إلى بيت الضيافة في العاصمة بودابسبت رحنا نداعب أبو عمار حول إصراره على الكوندفرالية والاتفاق الأردني – الفلسطيني، وعندها قال أبو عمار شكرا للملك حسين، فقد أنهى بقراره فك الارتباط مواقف دولية عديدة كانت لا ترى غير الخيار الأردني حلا لقضية الاحتلال الإسرائيلي. والآن الباب أصبح مفتوحا أمام إعلان الاستقلال.

الانتفاضة بلغت ذروتها في النصف الثاني من عام 1988 وأبو عمار في أوج تألقه وعطائه، على الرغم من خسارته لمخيمات بيروت في حزيران من عام 1988 حين أمر الأسد جماعة جبريل والمنشقين بمهاجمة مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة بعد أن فشلت حركة "أمل" في تحقيق هدف السيطرة على بيروت الغربية وأصدرت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ما يمكن أن يشكل الخطوط العريضة للبرنامج السياسي، فالانتفاضة تسعى لطرد الاحتلال الإسرائيلي واستيطانه وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف في حدود (4)حزيران 1967.

أما الوحدة الوطنية، في إطار المجلس الوطني واللجنة التنفيذية للمنظمة، فكانت بعد دورة المجلس في نوفمبر 1987 في أفضل حالاتها، إلى درجة أن قادة الفصائل أصبحوا لا يغادرون تونس ولهم مكاتبهم ونشاطاتهم واتصالاتهم، وهذه الأوقات كانت أسعد أيام أبو عمار، فالقرار الفلسطيني المستقل لا ينازعه فيه أحد. وشكلت الانتفاضة درعا قويا لحماية المنظمة وقرارها من أيدي الأوصياء، وأسقطت الانتفاضة ادعاءات إسرائيل بأن المنظمة لا شأن لها بالانتفاضة، فالمنظمة وقياداتها في الداخل تلتزم بكل التعليمات والمواقف التي تصلها من تونس ومن ياسر عرفات تحديدا.

وفي إطار الحملة الإعلامية لمزيد من التحديد والانتشار للبرنامج السياسي الذي شهد تحولات هامة منذ عام 1974 كتبت افتتاحية خاصة لفلسطين الثورة في تموز 1988 قلت فيها: إن الذين يعتبرون أن المطالبة بالدولة الفلسطينية المستقلة ليست أكثر من هدف متواضع جدا قياسا بالمطالب الفلسطينية الكبرى، وهي التي يلخصها الشعار التاريخي القائل بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة إلى رفح، إن هؤلاء إنما يخطئون في قراءة التاريخ المعاصر برمته، ويتجاهلون حقائق العصر علينا قبل غيرنا، والصحيح أن هذه الدولة الفلسطينية المتواضعة الصغيرة هي السد الذي يجب أن يقام في وجه الأطماع الصهيونية التي تسعى لإقامة دولتها من النيل إلى الفرات. وفي نهاية الافتتاحية كتبت بوضوح شديد صدم الكثيرين وقلت: إن هدفنا المرحلي هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتقرير المصير وعودة اللاجئين وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف بقيادة "م ت ف."

واصلت الكتابة الأسبوعية حول حتمية الوضوح والتحديد الدقيق للبرنامج والهدف السياسي، فكتبت في افتتاحية لاحقة في أوائل أيلول 1988 "في العام 1948 عجزت القيادة الفلسطينية عن بناء نفسها وحماية قرارها من التواطؤ والخيانة العربية، وبالتالي حدث الوفاق الدولي عبر قرار التقسيم، ولم يتمكن الشعب الفلسطيني من الاستجابة لشروط الوفاق الدولي في حينه. أما في العام 1988 فالوضع الفلسطيني، الوطني والسياسي والقيادي والوحدوي والنضالي على الأرض، أرقى مليون مرة من الوضع الذي كان سائدا في عام 1948. فاليوم قرارنا مستقل، وهو في خدمة شعبنا، وعلينا أن نتخذ قرارنا بالاستقلال الوطني في ضوء معرفتنا الناضجة بالمتغيرات الإقليمية والدولية، واللحظة الراهنة، هي اللحظة التاريخية المواتية، ويجب أن نمسك بهذه اللحظة التاريخية بكل قوة.

في أيلول 1988، كانت الانتفاضة التي بدأت في شهر كانون أول من العام 1987 تدخل كل بيت في العالم. شعب بكامله, أطفال، شباب، نساء، رجال، طلاب، رجال دين مسيحيين و مسلمون، عمال وفلاحون، يتحدى آلة القمع الإسرائيلية فلم يعد الصمت ممكنا. انتفاضة ضد الصمت والتواطؤ. انتفاضة لا تطلب أكثر من الحرية، فأية تضحيات وبسالة قدمها شعبنا وأية وحشية للاحتلال هذه التي أسقطت  القناع الزائف عن "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، إسرائيل؟ القبضة الحديدية لم تجد نفعا، وتكسير العظام أظهر بشاعة إسرائيل، وكذلك فعل دفن الشباب وهم أحياء في التراب في قرية سالم. وأما تكسير العظام، فالمصور الذي جعل العالم يدين إسرائيل بصوت واحد هو صحفي إسرائيلي غادر إسرائيل ومعه الشريط إلى باريس، وهناك أمكن الحصول على الشريط الذي ينقل للعالم الوحشية الإسرائيلية وهم يقيدون شباب الانتفاضة ويقومون بدم بارد بتكسير سواعدهم المطالبة بالحرية. كانت مدة الشريط أكثر من أربعين دقيقة، ولكن الذي تمكن من توزيعه ثلاثة دقائق فقط كانت كافية لهذا الانقلاب في موقف الرأي العام وقيام المظاهرات على مستوى العالم وتشكيل اللجان الدولية لدعم الانتفاضة.

إن الزمن يسير الآن في اتجاه إعادة الاعتبار للتاريخ، الفلسطينيون لهم الحق في وطنهم، ولهم الحق في الحرية والاستقلال، ولا فائدة من القمع والقبضة الحديدية وتكسير العظام وزج الآلاف في المعتقلات والسجون الإسرائيلية. ولم يعد ممكنا أن يستمر هذا الانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل. فشل الرئيس جيمي كارتر والوزير سايروس فانس  في مفاوضات كامب ديفيد بين السادات وبيغن  في إلزام بيغن بمواصلة المفاوضات حول الحكم الذاتي المقترح للفلسطينيين، وتصرف بيغن بأن معاهدة السلام مع السادات  أطلقت يده لإقامة المزيد من المستوطنات في الضفة وغزة والقدس. أما الرئيس رونالد ريغن فكان شديد العداء، ورفض إدانة الإستيطان، وكان وزير خارجيته الكسندر هيغ، هو من تواطأ مع شارون للقيام بالغزو الإسرائيلي على لبنان للقضاء على منظمة التحرير والثورة الفلسطينية باعتبارهما يمثلان "الإرهاب" كما قال، وطوال ثمان سنوات هي حكم إدارة ريغان، وكان جورج شولتز في معظمها وزيرا للخارجية، لم يحصل أي تقدم في الموقف الأمريكي. إلا أن الانتفاضة فرضت القضية الفلسطينية أخيرا على جدول الأعمال الأمريكي، ولهذا بعد أن رفض شولتز مرارا وتكرارا قيام دولة فلسطين أخذ يتحدث"عن حق الفلسطينيين المشاركة في تحديد مستقبلهم".وبالفعل، حدث الانقلاب في الموقف الأمريكي في نهاية عهد ريغن في 14/12/1988 حين أعلن شولتز بنفسه عن بدء الحوار بين المنظمة والإدارة الأمريكية، بعد اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف، والمؤتمر الصحفي الشهير الذي أعلن  فيه أبو عمار موافقة المنظمة على القرارين 242و338،  إدانة الإرهاب بكل أشكاله والتمسك بالوسائل السلمية وعلى الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود والأمن. مع التأكيد على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف والانسحاب الإسرائيلي الكامل والشامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 والحل العادل لقضية اللاجئين على أساس القرار الدولي 194.

قبل هذه الجلسة للجمعية العامة  للأمم المتحدة في جنيف، كان شولتز رفض منح التأشيرة لأبو عمار لمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك لدى مناقشة القضية الفلسطينية، ولأن هذا الموقف الأمريكي مخالف لميثاق الأمم المتحدة، فإن الجمعية العامة  قررت - في ظل هذه الانتفاضة العظيمة التي حركت الرأي العام العالمي- أن تعقد اجتماعا خاصا في جنيف للاستماع إلى كلمة أبو عمار، خاصة بعد برنامج السلام الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته (19)في مدينة الجزائر، حيث أعلن المجلس الوطني في لحظة تاريخية قيام دولة فلسطين، ووافق على القرارات الدولية 242و338 ، وأشار بلغة محمود درويش الخلاقة إلى  قرار التقسيم (181). إن إعلان الاستقلال حمل بصمات وروح وإبداع محمود درويش، وحين وقف صاحب الحلم التاريخي أبو عمار على منصة المجلس الوطني كانت روحه الثورية العظيمة تعلن انتصارها الذي طالما قال عنه الكثيرون  أن عودة فلسطين ليست إلا وهما يداعب خيال ياسر عرفات، لكنه وهو يقرأ إعلان الاستقلال وقيام دولة فلسطين في 15 تشرين الثاني  1988 كان يعلن للعالم أن المستحيل قد أصبح حقيقة ممكنة. كانت لحظة تاريخية. هذا هو ميلاد فلسطين الجديدة، ولن أنسى أبدا أن المجلس الوطني في تلك الساعة التاريخية تحول إلى انتفاضة وإلى عناق تاريخي بين أخوة السلاح، ووقف قادة "فتح" التاريخيون وقادة الفصائل يصفقون ويعانقون أبو عمار واحدا تلو الآخر. وتأكيدا على الوحدة والتلاحم، فلن يغادر أي فصيل بعد الآن منظمة التحرير الفلسطينية لاعتراضه على هذا القرار أو ذاك بل يصوت أو يمتنع عن التصويت، ويبقى في البيت الفلسطيني الواحد الموحد. ومن مهازل التاريخ أن نظام الأسد شدد حصاره على المخيمات في بيروت، ولم تصل القوات السورية الخاصة إلى مخيمات الجنوب، لأن الجنوب من شمال صيدا وحتى رأس الناقورة - حسب تفاهم كينسجر الشفوي - لا يسمح للقوات السورية بالوصول إليه. وفي هذه السنة بدأ نجم ميليشيا أمل بالأفول وأخذ "حزب الله" بدعم من "فتح" وأبو عمار يحتل مواقع "أمل" ويطردها من الضاحية ومن مواقعها في الجنوب، والأهم يطردها كممثل للشيعة في لبنان. في ذلك الوقت لم يكن حزب الله قد ارتبط بعلاقة مصيرية مع النظام السوري وإيران بعد.

رحب العالم كله بقرارات المجلس الوطني وقيام الدولة، وبلغ عدد الدول التي قدمت اعترافها بدولة فلسطين أكثر من مئة دولة .. لكن، قال شولتز: إن ما قاله أبو عمار في المجلس الوطني وحتى قرارات المجلس في إطار برنامج "هجوم السلام" لم تلب الاعتراف الصريح بحق إسرائيل في الوجود.

كان أبو عمار يطوف دول العالم قاطبة من أجل الوقوف إلى جانبه في الصراع مع الإدارة الأمريكية، العقبة الكبرى في وجه قيام دولة فلسطين، وأي تغيير في الموقف الأمريكي لا بد وأن ينعكس على إسرائيل، فليست إسرائيل إلا الولاية (51) والأولى بالرعاية، ومع قرار الجمعية العامة تم عقد جلسة خاصة للاستماع لأبو عمار في مقر هيئة الأمم في جنيف؛ قال أبو عمار: إنها لحظة تاريخية حقا أن يعترف العالم بدولة فلسطين في ذات المكان الذي فرض فيه الانتداب على فلسطين. ولأن أبو عمار يعرف أن العقدة المستعصية تبقى أمريكا، بدأ يتحرك في أوروبا عسى أن يجد صيغة مقبولة مع واشنطن تكسر الرفض الأمريكي للمنظمة. وما دام المجلس الوطني قد قبل القرارين 242 و 338، وأشار إلى القرار 181 الذي ينص على قيام دولتين في فلسطين التاريخية: دولة إسرائيل ودولة فلسطين، وما دام المجلس الوطني قرر قيام دولة فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1967. فإن السويد رحبت ترحيبا حارا بهذه القرارات ودعت أبو عمار لزيارتها. وهناك في السويد تمت الصيغة المطلوبة بين الوزيرين أندرسون وشولتز، والتي وقعها أبو عمار، وقبلها شولتز. كان من المفترض أن يتضمن خطاب أبو عمار أمام الجمعية العامة في جنيف يوم 14- 12- 1988 النص الحرفي للورقة التي وصلت شولتز، وقبل الجلسة في جنيف بيومين، طلب مني أبو عمار أن أتوجه إلى جنيف مع فريق إعلامي قد يكون عدد أعضائه وصل إلى مائة، من الذين دعوتهم من الصحافيين والإعلاميين والتلفزة والإذاعات. وقد ملأوا فنادق جنيف. إنه جيش من الإعلاميين العرب والأجانب. وكانت مفاجأة كبيرة لي حين وجدت أن الإعلام العالمي- وهو في غالبيته تديره شركات تقف إلى جانب إسرائيل - قد أرسل مئات الصحافيين وشبكات التلفزة إلى جنيف لتنقل هذا الحدث التاريخي. فالحدث التاريخي عندهم ليس قيام دولة فلسطين بل اعتراف ياسر عرفات بدولة إسرائيل. وحين اضطر أبو عمار لقراءة الورقة المرسلة إلى شولتز بنصها الحرفي بالانكليزية والعربية حضر المؤتمر الصحافي أكثر من ألف صحافي .. وهذا كان أكبر مؤتمر صحافي في القرن العشرين كما قال لي إريك رولو الذي حضر خصيصا إلى جنيف لتغطية هذا الحدث التاريخي، وقال لي أمنون كابليوك، وهو صحافي إسرائيلي، هذا منعطف تاريخي حاسم، فإسرائيل بعد الآن لن تستطيع إنكار حقوق الشعب الفلسطيني. فحين توافق أمريكا على الحوار مع منظمة التحرير فإنها تكون قد أسقطت كل ادعاءات حكومات إسرائيل من عام 1948 وحتى هذا العام 1988. وهذا الصحافي هو الذي غطى مجزرة صبرا وشاتيلا، ووجه إصبع الاتهام إلى شارون وآيتان بالمسؤولية الكاملة عن المجزرة، وكتب بعد هذا الحدث التاريخي في جنيف مقالا في صحيفة "لوموند" الفرنسية وفيه أكد إن على إسرائيل أن تعترف دون تأخير بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم.

إلا أن هذا الصراع التاريخي من أجل قيام دولة فلسطين المستقلة يظل عرضة دائما للتقلبات والمتغيرات السياسية سواء الإقليمية أو الدولية. وفي ذروة صعود القضية الفلسطينية انهار الاتحاد السوفيتي كدولة عظمى، وشهد عام 1989 وعام 1990 انهيار الكتلة الاشتراكية، وبالطبع انعكس هذا على الدعم الذي كنا نلقاه من الاتحاد السوفيتي زمن الحرب الباردة، وأعلن الرئيس بوش قيام "نظام عالمي جديد" تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وأساء كثيرون منا تفسير هذا الانهيار التاريخي للاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، واعتبروه مؤشرا على أن أمريكا، وقد انتصرت في الحرب الباردة وانتصرت الرأسمالية على الاشتراكية، لم تعد بحاجة إلى "إسرائيل،" وبالتالي فإن أمريكا ستضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي الفلسطينية، و تساعد على إقامة الدولة الفلسطينية الموعودة. وكان هذا تحليلا مغرقا في السذاجة والتمنيات. فسرعان ما وجدت أمريكا وإسرائيل عدوا آخر يجب محاربته هو الإسلام السياسي و"الإرهاب الإسلامي "الذي يشكل خطرا على الحضارة الأوروبية والأمريكية.

 وفي موسكو، حيث انهار الاتحاد السوفيتي، فتح غورباتشوف الأبواب لهجرة مليون يهودي روسي إلى إسرائيل، وهذه كانت ضربة قاتلة للقضية الفلسطينية. إن أمريكا تقدم لإسرائيل السلاح وروسيا تقدم لإسرائيل الجنود والقوة البشرية، ولم تتوقف تداعيات انهيار الاتحاد السوفيتي عند هذا الحد، بل أخذ الإعلام الروسي لا يقل صهيونية عن الإعلام الأمريكي، فاليهود في موسكو لا يقلون تعصبا عن اللوبي الصهيوني أو "الايباك"في أمريكا. وهم ليسوا مستعدين لأي حديث حول حق الفلسطينيين بإقامة دولتهم، إنهم فقط مع إسرائيل، وراحت المنابر الإعلامية الروسية، التي ربطت في الماضي الصهيونية بالنازية، تربط منظمة التحرير بالإرهاب، وتدافع عن حق إسرائيل في حماية وجودها من خطر الإرهاب الفلسطيني والعربي والإسلامي. وحين دعيت، قبل ثلاث سنوات، لحضور المؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي في موسكو كان كل أصدقائنا في التضامن وفي وكالة "تاس" وفي "نوفو ستي" وفي "البرافدا" الصحيفة الرسمية قد اختفوا تماما. وقال لي سازاخوف المسئول عن التضامن: هذا انقلاب وراءه الدولار الأمريكي. وفيما بعد، ظهرت حقيقة الأسماء التي كانت تتولى مسؤوليات أساسية في دوائر الحزب وفي العلاقة معنا. فأعلن الكثيرون منهم أنهم يهود ومؤيدون لإسرائيل علنا.

كان أبو عمار قد عين نبيل عمرو سفيرا في موسكو، ونبيل كادر قيادي وإعلامي كفؤ واستطاع رغم هذا الانقلاب الخطير مع انهيار الاتحاد السوفيتي أن يحتفظ مع القيادة الجديدة بعلاقات جيدة وبناءة، واعترفت روسيا الاتحادية، وهي التسمية الجديدة للاتحاد السوفيتي, بالدولة الفلسطينية، ورفعت درجة التمثيل إلى مستوى سفارة، وكان نبيل عمرو أول سفير لدولة فلسطين في موسكو.

ورغم إن الحوار الفلسطيني - الأمريكي في تونس لم يحدث أي تقدم خلال عامين، سواء على صعيد الالتزام الأمريكي بالحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف، أو قرارات الشرعية الدولية، وهذا الحوار انقطع بقرار الرئيس بوش في حزيران 1990 بعد عملية فدائية بحرية لجماعة "أبو العباس" وصلت إلى جنوب تل أبيب، وتم اعتقال أفرادها، واعتبرت الإدارة الأمريكية العملية "عملا إرهابيا" وأصرت على إدانته من قيادة المنظمة، وطرد "أبو العباس" من اللجنة التنفيذية. وهذا شأن العمل العسكري وحتى السياسي في الساحة الفلسطينية نتيجة التعددية  المرضية التي لا سيطرة عليها من قبل مركز القيادة، ولا تخضع لأي خطة مركزية، وهذا المرض العضال في الساحة الفلسطينية كان وراء الهزائم العسكرية والسياسية التي تعرضنا لها، سواء عبر خطف الطائرات، أو اغتيال السفراء، أو العمليات في الساحات الخارجية في المطارات وغيرها، ما أدى إلى استغلال إسرائيل لهذه العمليات لترسيخ تهمة الإرهاب ضد المنظمة وضد الفلسطينيين عامة.

كان من غير الممكن أن ينفذ أبو عمار الطلب الأمريكي، ويطرد "أبو العباس" علما أنه أدان هذه العملية، وصرح بأن المنظمة لا علاقة لها بها، وإنه ملتزم بما أعلنه في جنيف بأنه ضد كل أشكال الإرهاب، ولكن هذه المواقف لم تنفع مع اللوبي الصهيوني الذي وجد في هذه العملية ضالته المنشودة لقطع الحوار بين المنظمة والإدارة الأمريكية، وأمام عدم تجاوب أبو عمار مع الطلب الأمريكي بطرد " أبو العباس " قام الرئيس بوش بقطع الحوار مع المنظمة في حزيران 1990.

 أصابنا القرار الأمريكي بالدهشة والصدمة. فالمنظمة بقيادة أبو عمار - لا يمكنها السيطرة المطلقة على الفصائل وقراراتها. ولهذه الفصائل علاقات متشعبة-، وكذلك فإن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لا يزال في ذروته والانتفاضة متصاعدة. وبين فينة وأخرى تقع عمليات من جنوب لبنان من جماعة أحمد جبريل، وأحيانا يقوم المنشقون عن"فتح" بإطلاق صواريخ للإعلان عن وجودهم. وذكرت تقارير وصلت للقيادة إن العراق وليبيا كانا وراء عملية جماعة "أبو العباس". وفي هذا الوقت بالذات، كان أبو عمار في بغداد و"أبو العباس" كذلك بعد أن أبعدته سوريا. وكان من غير الممكن في ظل هذه الظروف المحيطة أن يطرده أبوعمار من اللجنة التنفيذية رضوخا للطلب الأميركي. وعندها ماذا يقول للعراقيين الذين يقدمون الحماية لأبو العباس؟ ولم يكن هناك أدنى فائدة في شرح هذه التعقيدات للدبلوماسيين الأمريكيين في تونس. ولعل الدرس المستفاد من قطع الحوار بقرار من الرئيس بوش هو أن العلاقات الفلسطينية – الأمريكية لا يمكنها أن تدوم وتقوى ما دامت إسرائيل على حالها تحتل أرضنا ولا تعترف بحقنا في إقامة دولتنا المستقلة. ففي هذه الحالة فإن أميركا لا يمكنها أن تبتعد كثيرا عن القرار الإسرائيلي، ويبقى مجرد وهم أن تقوم أميركا بالضغط على إسرائيل للانسحاب من أرضنا الفلسطينية .    


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات