أحمد عبد الرحمن يروي تفاصيل "عزلة" أبو عمّار بعد حرب الخليج الأولى .. كيف أدار "عرفات" عزلته وكيف بدأت محادثات السلام ؟

أحمد عبد الرحمن يروي تفاصيل "عزلة" أبو عمّار بعد حرب الخليج الأولى .. كيف أدار "عرفات" عزلته وكيف بدأت محادثات السلام ؟
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل العشرون:

شهداء أم المعارك 

ليس أقسى على أبو عمار من أن يرى نفسه بعيدا عن ساحة الصراع، وهو الذي قضى السنوات العجاف الست بعد الخروج من طرابلس وقبلها من بيروت يخوض صراع البقاء في الساحة اللبنانية. ومع أنه خسر مخيمات بيروت  عام 1988، فإنه استطاع أن يحيا في "المنطقة الحرام" في مخيمات الجنوب حيث لم يسمح اتفاق "الجنتلمان" الذي عقده كيسنجر بوصول القوات السورية إلى حدود الجنوب. إلا أن أبو عمار لا يرضى ولا يكتفي بهذا الوجود المقيد في الجنوب. وأصبح دوره حماية المخيمات من غائلة المعتدين وما أكثرهم. أما فتح جبهة الجنوب ضد إسرائيل فأصبحت من المستحيلات. فحافظ الأسد هو الذي يلاحق أبو عمار أينما ذهب للقضاء على خطره، وهو الذي عقد اتفاقا مع إسرائيل لتقاسم النفوذ. وما دام حكم الأسد في سوريا هو العقدة التي تمنع أبو عمار من محاربة إسرائيل فإنه يتحالف مع صدام حسين ضد الأسد، الذي من جهته يتحالف مع إيران ضد صدام، ويتقاسم النفوذ في لبنان مع إسرائيل ضد أبو عمار. وحين ظهر قائد الجيش اللبناني آنذاك ميشيل عون وأعلن معارضته لسيطرة الأسد على لبنان، سرعان ما لقي دعما غير محدود من صدام حسين ومن أبو عمار. وفي هذه الفترة كان ميناء جونيه يستقبل المقاتلين الفلسطينيين المتوجهين إلى الجنوب. إلا أن شهر العسل كان قصيرا. فسرعان ما ارتكب صدام حسين مغامرته الكبرى واحتل الكويت دون إدراك للعواقب الخطيرة لهذا الاحتلال، وصدق أن "انزياح الخرائط "على المستوى الدولي بانهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية وظهور النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا يسمح له بتغيير الخرائط وانزياحها في الشرق الأوسط.

يمكن القول إن جهود أبو عمار المضنية لوقف صدام عن مغامرته، باءت بالفشل. والأخطر والأهم أن المستفيد الأكبر كان حافظ الأسد الذي انضم لحلف "حفر الباطن" لتحرير الكويت تحت قيادة قائد القوات الأمريكية "شوارزكوف." وكان الثمن الذي قبضه الأسد تصفية دويلة ميشيل عون وطرده إلى فرنسا. وفرض الأسد سيطرته على السياسة والساسة في لبنان لعقد من الزمن. أما أبو عمار فكانت وقفته إلى جانب صدام حسين قد أحرقت كل السفن مع مصر والسعودية الحليفان الطبيعيان لفتح ولأبو عمار. ولأن الكوارث لا تكف عن ملاحقة هذا الفارس في الزمن العربي الرديء فإنه يغادر بغداد مكرها يوم 15 كانون الثاني 1991 بعد انهيار مركز قيادته في تونس باغتيال الرجل الثاني أبو إياد ومفوض الأمن أبو الهول. وكانت الطائرة العراقية الخاصة هي الوحيدة التي غادرت العراق قبل اندلاع الحرب. ولم تعطها الدول الإقليمية، تركيا واليونان وايطاليا، إذن عبور أجواء هذه الدول، إلا بعد أن عرفت أن ياسر عرفات هو من طلب عبور الأجواء، ولم تقبل عدم تحديد وتعريف الشخصية الهامة بالقول "vip ". وفي هذه الرحلة الحزينة من بغداد، لم يكن بيننا حوار بل إنه الصمت المطبق. ومع أن أبو عمار "مصفح" من الداخل ضد الأحزان والأفراح، فإن هذه الضربة القاتلة التي أصابت هيئة القيادة في تونس، جعلته يتوجس خيفة من أنه ربما يكون هناك مجموعات من المخابرات المركزية والإسرائيلية قد وصلت تونس للقضاء على كل أعضاء القيادة حتى لا يرتفع صوت واحد ضد الغزو الأمريكي للعراق. وقال أبو عمار: تونس بلد سياحي، والموساد "والسي أي إيه "يحصلون بسهولة على جواز سفر الدول الأوروبية ويتكلمون لغاتها. وقلت لأبو عمار: إن من أطلق النار على أبو إياد وأبو الهول وأبو محمد هو فلسطيني. فرد أبو عمار بمرارة: كان هناك تقصير أمني.

وصلنا تونس قبل مغيب الشمس بقليل، والغيوم الشتائية سوداء ورمادية تحجب الشمس حينا وتطلق أشعتها حينا آخر. وحين تقع مآسينا، وهي في كل أيام حياتنا وفي كل شهورنا وفي كل سنواتنا، تجمعنا هذه المآسي في وداع أخير وفي جنازة مهيبة. وفي اليوم الثاني 16 يناير 1991 كانت مقبرة شهداء حمام الشط تنتظر جثامين الرجال الذين أعادوا فلسطين إلى الحياة. وتحت زخات المطر وفي ساحة الجندي المجهول في حمام الشط كان الوداع صامتا وحزينا، وأبو عمار يسارع ليحمل الجثامين واحدا بعد الآخر، وهو لا يتردد في القول "إن أجر من يحمل نعوش الشهداء سيكون عند الله عظيما يوم القيامة".

وارينا الشهداء التراب في مقبرة الشهداء في حمام الشط، وكان الرذاذ  تحول إلى مطر غزير، ووعدنا الشهداء أن ننقل جثامينهم إلى فلسطين حين نحررها. وذات مرة قال أبو إياد أنه إذا لم يدفن في فلسطين، فإنه يوصي أن يدفن جانب أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الذي ووري الثرى في غور الأردن قريبا من ضريح أبو عبيدة الجراح، فاتح فلسطين وقائد معركة اليرموك في صدر الإسلام.

وكان الأمل عزاؤنا الوحيد بأن الأجيال اللاحقة ستنصف الأجيال التي أعادت إحياء فلسطين، وتقوم بدفنهم في فلسطين بعد تحريرها. وفي طريق العودة إلى تونس، رحت أفكر في مقابر الشهداء المنتشرة في كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين وفي الأغوار الفلسطينية. هناك مقابر الأرقام، وهي مقابر شهداء العمليات الفدائية. وكما يقول أبو العلاء المعري "قبورنا تملأ الرحب"، ولكن هذه القبور التي تصيبني بالحزن والأسى والقشعريرة حين أزورها هي إعلان صارخ عن وجودنا. وليس يتوفر للفلسطينيين وسيلة أقل مأساوية لنيل الاعتراف بحقهم في الحياة.هناك ملاحقة مستمرة للخلاص منهم، حتى من أولئك الذين جعلوا من قضيتنا قميص عثمان وسلم الوصول للسلطة. إنهم أبطال البلاغ العسكري رقم واحد، وهو بلاغ بليغ عن تحرير فلسطين، إلا أنها لا تتحرر.

قدمنا التعازي والغصة في القلب والهم الكبير يحوم فوق رؤوسنا. وكان النوم مستحيلا هذه الليلة الفارقة في التاريخ العربي كله. ولدينا معلومات كافية.  أو لم تكن بوادر الهجوم الأمريكي بحاجة إلى معلومات. وفي منتصف الليل حين أضاءت الصواريخ سماء بغداد، قلنا وقعت الحرب وبدأ الهجوم وبدأ الغزو، وراحت الأوهام تملا العقل العربي، كما تملأ صواريخ كروز وطائرات الشبح سماء العراق. وحين أصابت المضادات العراقية وسقطت بعض الطائرات وأسر العراقيون الطيارين الأمريكيين ملأ الفرح قلوبنا المثخنة بالجراح. وفي ظل ثورة الاتصالات والأقمار الصناعية دخلت الحرب كل بيت لحظة بلحظة عبر محطة "CNN " ومراسليها في الخليج والعراق. هذه الحرب تلفزيونية وأبطالها الأقمار الصناعية ومراسلو "cnn"، ولا حاجة لتقصي المعلومات من عزام الأحمد في بغداد أو من العراقيين، علما أنه بعد ثلاثة أيام من القصف الصاروخي من حاملات الطائرات في البحر الأحمر والمحيط الهندي انقطع الاتصال بالمسئولين العراقيين، ولم يبق إلا الهاتف الفضائي عند عزام الأحمد وقد استخدمه طارق عزيز عدة مرات للاتصال مع "بريما كوف "علّ السوفيات قد عادوا"روسا "من جديد في ظل سياسة غورباتشوف القائمة على توازن المصالح و"الغلاسنوست". انتهى الاتحاد السوفيتي الذي هدد قادته في حرب تشرين الأولى 1973بالاستنفار النووي، وأقاموا الجسر الجوي مع سوريا ومصر، وكان عدد الخبراء السوفيات في مصر يزيد على عشرين ألفا في المجال العسكري وحده. وأمام تهديد صدام بتدمير إسرائيل بالصواريخ البعيدة المدى أقامت أمريكا قواعد صواريخ "الباتريوت "التي تعترض الصواريخ، وبعض صواريخ العراق أصاب تل أبيب، ومن المفارقات الغريبة في هذا الصراع المديد في الشرق الأوسط إن طائرة عراقية قصفت في عام 1948 مصفاة النفط في حيفا ومعسكرا للهاجاناه، وهذه هي المرة الثانية التي تصل صواريخ عراقية إلى تل أبيب.

إلا أن قاعدة الصواريخ العراقية القريبة من الحدود الأردنية والتي أطلقت منها الصواريخ التي أصابت تل أبيب تعرضت لهجوم بري، وقيل في حينه إن المارينز الأمريكيين هاجموا القاعدة انطلاقا من الجوار العربي والبعض يقول إن القاعدة هوجمت بإنزال مظلي أمريكي. ولا أنس أنني، وكنت مع أبو عمار، أمضينا ليلة في هذه القاعدة بسبب سوء الأحوال الجوية، وقال لنا أحد الضباط: الصواريخ من هنا تصل قلب تل أبيب. ورغم البرد القارص في شهر كانون الأول عام 1990، فقد رأينا التحصينات الهائلة التي تحمي منصات إطلاق الصواريخ من الغارات الجوية. ولأن الشرق الأوسط عالم غريب من الدسائس والمؤامرات فلا أعتقد أن أسرار ما جرى لهذه القاعدة يمكن أن يعرف يوما ما، والأسرار تموت كما يموت البشر. ولكن لست في وضع يسمح لي بتأكيد أو نفي ما جرى لقاعدة الصواريخ العراقية بل أروي ما سمعته، من قادة عراقيين علقهم الأمريكيون على حبل المشانق في بغداد فيما بعد.

وبعد ثلاثة أسابيع من القصف الجوي وصواريخ "كروز"وتوماهوك"ومقاتلات الشبح، بدأ الهجوم البري. وقد سلك الجنرال نورمان شوارزكوف طريق القوة البريطانية التي أسقطت ثورة رشيد عالي الكيلاني في عام 1941، وأعادت الوصي على عرش العراق عبد الإله، وفي حينه شارك في العملية الفيلق الأردني بقيادة غلوب باشا، وغادر الحاج أمين الحسيني إلى طهران، ومنها إلى روما، في زي كنسي، ومن روما ذهب إلى برلين، حيث اجتمع مع أدولف هتلر الذي وعده بتحرير فلسطين وبلاد العرب من الانجليز والفرنسيين على السواء.

كيف يحدث أن التاريخ يعيد نفسه مع الحاج أمين ومع أبو عمار؟ فالحاج أمين وقف مع ثورة رشيد عالي الكيلاني وأسس "الحزب العربي" في بغداد. وبالطبع، كان دعمه لرشيد عالي الكيلاني ضد الانكليز الذين يحتلون فلسطين، وأصدروا وعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وفتحوا أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية. واعتبر الحلفاء إن الحاج أمين وقف إلى جانب النازية، ولهذا لا يمكن التعامل معه أبدا. وربما يعود الفضل للجنرال شارل ديغول في عدم محاكمة الحاج أمين بعد اعتقاله وجلبه إلى فرنسا، وبمساعدة فرنسية جرى نقل الحاج أمين الحسيني إلى القاهرة. ومن المفارقات الغريبة أن الرئيس اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو أثناء زيارة أبو عمار ليوغوسلافيا أمر بسحب صورة الحاج أمين من المتحف اليوغوسلافي الخاص بالحرب الثانية باعتباره عدوا ليوغوسلافيا وأحد مجرمي الحرب.

وبسبب وقوف أبو عمار إلى جانب صدام حسين ضد الغزو الأمريكي، وتصويته ضد التدخل في قمة القاهرة، فقد أخذ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي قرارا بمقاطعة أبو عمار وعدم إجراء أي اتصالات سياسية معه. وبالطبع، حين وصلنا تونس مساء يوم 15 كانون الثاني 1991 كان أبو عمار الخاسر الأكبر في الشرق الأوسط. إنه معزول عربيا. فالأسد في حفر الباطن، وقبض الثمن بطرد ميشيل عون من لبنان، والملك حسين انحنى أمام العاصفة. ومصر والسعودية قطعت علاقاتها مع أبو عمار، وكذلك إمارات الخليج، والاتحاد الأوروبي اتخذ قرارا بمقاطعته وعدم إجراء اتصالات معه. ما أشبه اليوم بالبارحة بين الحاج أمين وبين أبو عمار وإن اختلفت المصائر في نهاية المطاف. أبو عمار ودع أحبته الشهداء أبو إياد وأبو الهول وأبو محمد في مقبرة شهداء فلسطين في حمام الشط، وأخذ يتابع وقائع الحرب الالكترونية على شاشة "CNN" ولم تكن تخامره الشكوك في نهايتها رغم أن صدام حسين سماها "أم المعارك. " وكان واضحا أن هدف الحرب أصبح تدمير القوة العراقية والجيش العراقي، وجرى الالتفاف على الجيش العراقي بسلوك الطريق الصحراوي. فإذا القوات الأمريكية والمتحالفة معها  وصلت  مدينة الناصرية. وفي 28 شباط 1991 وقع رئيس الأركان العراقي وثيقة الاستسلام بدون قيد أو شرط. إلا أن هذا التوقيع على وقف إطلاق النار والانسحاب العراقي من الكويت لم يوقف الحرب بل جرى تدمير وحدات الجيش العراقي المنسحبة من الكويت بشكل متعمد حتى لا يشكل العراق تهديدا لجيرانه أو لإسرائيل مرة أخرى، ناهيك عن تركيع العراق وكسر وحدته السياسية والجغرافية إلى زمن قد يطول سنين عديدة.

وفي يوم 6 آذار 1991 أعلن الرئيس جورج بوش الأب في خطابه أمام الكونغرس انتهاء الحرب وتحقيق النصر على العراق وتحرير الكويت. وتوقف عند الصراع العربي - الإسرائيلي، وأعلن أنه مصمم على حل هذا الصراع وأن وزير خارجيته جيمس بيكر سيتولى هذه المهمة وأنه يتوجه إلى الشرق الأوسط للتحضير لهذا الحل الذي لم يحدد ملامحه. الرئيس بوش يعرف جيدا أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط بحكم تاريخه الطويل في الإدارة الأمريكية، فكان مندوب أمريكا في الأمم المتحدة ومدير "CIA." وبالطبع كان الحوار الفلسطيني - الأمريكي قد قطع بقرار بوش في حزيران 1990 بعد عملية جماعة "أبو عباس" البحرية على شواطئ تل أبيب. ولهذا فالمنظمة ورئيسها أبو عمار ليسا في وارد لقاءات بيكر في الشرق الأوسط. وهناك قطيعة أوروبية وأمريكية وعربية للمنظمة ورئيسها أبو عمار، الذي لا ينحني أمام الأعداء أبدا بل يزور بغداد ويجتمع مع صدام حسين الذي يقلده أرفع وسام عراقي تقديرا لوقوفه إلى جانب العراق. إن أبو عمار لا يقف متفرجا على حركة الأحداث بل يلقي بنفسه في خضمها ليصنع قدره ومصيره بنفسه. وحين وصل جيمس بيكر واجتمع في الرياض مع وزراء خارجية تحالف "حفر الباطن" أسقط الوزراء العرب منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ورضخوا لمطلب بيكر بشطب المنظمة، وشطب التمثيل المستقل ومشاركة الفلسطينيين في الداخل تحت العباءة الأردنية. إلا إن الغطاء الفلسطيني لا غنى عنه للرضوخ العربي الرسمي للاملاءات الأمريكية وهي في جوهرها املاءات إسرائيلية. ولم يدم طويلا قرار أبو عمار بعدم لقاء شخصيات الداخل مع جيمس بيكر، كما فعل مع سلفه جورج شولتز قبل أربع سنوات. وجرى بيننا حديث عن المفتي الحاج أمين الحسيني مرة أخرى، حين أصر سماحة المفتي في الثلاثينات "أما هو أو لا أحد " في المفاوضات مع الانكليز. وقلت لأبو عمار: "كل الطرق تؤدي إلى روما" وفي حالتنا "أنت روما " وبدون قلمك الأحمر لن يحدث شيء، وحتى الشخصيات الوطنية لن تشارك بدون أن يصدر قرارك الذي يحمل توقيعك بتسميتهم وتكليفهم بلقاء بيكر. ورغم مركزية دوره وحيويته الهائلة فهو يحرص أن يبقى ممسكا بكل الخيوط. وقد يعني هذا الاستحواذ على القرار والمقدرات، أنه لا يترك مجالا لغيره ليدخل الدائرة التي هي اختصاصه بامتياز. قيادة الفلسطينيين والنطق باسمهم وتمثيلهم. فهو ربط قرار القمة العربية اعتبار المنظمة الممثل الشرعي والوحيد باسمه وشخصيته، وحين عاد من طرابلس في الخروج الثاني من لبنان على يد حافظ الأسد كان البيان الذي أراده للتصريح الرسمي حول زيارته للقاهرة واجتماعه مع حسني مبارك ينص على مايلي: "منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات ".وفي هذا التوحد الكامل بين الشخص والقضية.

 كان أبو عمار يرى أن التوحد في شخصه هو الضمانة الوحيدة لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني ما دام يفتقر هو وثورته وشعبه إلى الأرض الصلبة والقاعدة الاجتماعية الراسخة لدعم خياراته وسياساته.

ومن المفارقات الغريبة أن أبو عمار غادر بغداد وهو في ذروة التأييد الشعبي الجارف، وفي ذروة عزلة عربية رسمية لم يسبق لها مثيل، وقد كان قراره بالتصويت في قمة القاهرة ضد قرار التدخل الأمريكي حظي بالدعم الفلسطيني ومن كل الفصائل. وصدرت عريضة ضده موقعة من بعض العاملين ورجال الأعمال الفلسطينيين في السعودية والكويت، ولم يكن لهذه العريضة تأثير يذكر في الوسط القيادي الفلسطيني. وقال أبو عمار تعليقا على العريضة: إنهم معذورون، فهذه العريضة ضريبة بقائهم في الخليج والسعودية. وطلب مني عدم الرد عليهم في الإعلام، رغم صدور تصريحات في الإعلام من عدد منهم.

كانت الاتصالات لا تتوقف من رجالات الداخل مع أبو عمار في تونس. الشباب في الداخل ينتظرون كلمة نعم أو لا من أبو عمار لمقابلة وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر أو رفضها. كان موقفي وموقف البراغماتيين في دوائر القرار أن يوافق أبو عمار على اجتماع فيصل الحسيني ومن يختاره مع جيمس بيكر. وكنا نخشى أن تضيع فرصة قد نحقق من خلالها انجازا سياسيا بعد انهيار حلفائنا السوفيات، وعزلتنا العربية الخانقة بما تضمنته من حصار سياسي ومالي. فالموارد من دول الخليج انقطعت، والكويت التي كانت مصدر قوة حقيقية لفتح، أقامت مركزا إعلاميا في القاهرة ضد المنظمة. أعطى أبو عمار موافقته على اللقاء مع بيكر في القدس الشرقية، ولم يخرج ما قاله بيكر عن الخطوط العريضة لخطة الحكم الذاتي التي أعلنها رئيس الوزراء إسحاق شامير ومن قبله مناحيم بيغن، ولا يكره أبو عمار كلمة كما يكره كلمة "الحكم الذاتي"، إنها انتقاص من كبريائه الوطني والثوري. فقبل سنتين اختاره المجلس المركزي رئيسا لدولة فلسطين، وبالتحديد في 30 آذار 1989 ،بعد أربعة أشهر من إعلان الاستقلال وقيام دولة فلسطين في المجلس الوطني في الجزائر في 15 تشرين الثاني 1988 .

كما فرض أبو عمار الثورة على الواقع المعقد في الشرق الأوسط، بدأ يتجه الآن لفرض الدولة بقوة التاريخ والحقيقة والأمر الواقع. وما دام وهو العملي لا يجد بديلا عن المقترح الأمريكي وهو في أساسه مقترح إسرائيلي، فإنه يسعى هذه المرة لانتزاع المستحيل من الممكن.

أعيدت الحرارة بعض الشيء لعلاقات أبو عمار مع السعودية ومع مصر وسوريا. وكان الأردن يرى في الوفد الأردني - الفلسطيني المشترك عودة الدور الأردني في الحل الفلسطيني، وهو ما يعتبره أبو عمار سابع المستحيلات. ولكنه يوافق على اتفاقية التنسيق المشترك بين الوفدين. وحين وافق على تشكيل الوفد بالشروط الأمريكية من شخصيات الداخل، دون المنظمة ودون القدس، وقع الاختيار على الشخصية الوطنية المرموقة حيدر عبد الشافي رئيسا للجانب الفلسطيني في الوفد الأردني - الفلسطيني المشترك. أما فيصل الحسيني فكان قرار أبو عمار تعيينه رئيسا للوفد، وإن كان لا يشارك في المؤتمر المنوي عقده في مدريد. وكانت لحظة سعيدة عند أبو عمار حين قال أعضاء الوفد المقترح أنهم لن يذهبوا إلى مدريد إلا بعد أن يحملوا كتابا باسم كل واحد منهم   ممهورا بقرار وتوقيع أبو عمار. وحين استقبل الطيب عبد الرحيم،  وكان السفير في الأردن، بعض أعضاء الوفد الذين دعاهم الملك حسين، أصر أبو عمار أن يوضع العلم الفلسطيني إلى جانب العلم الأردني على السيارة التي تقلهم إلى القصر الملكي ثم تعود بهم إلى سفارة دولة فلسطين. إنه شديد التعلق بما نعتبره من الشكليات، ولهذا حين يجتمع فيصل الحسيني وشخصيات الداخل مع جيمس بيكر، الذي يرفض ذكر اسم المنظمة لا راهنا ولا مستقبلا يضطر فيصل أن يخرج ورقة من جيبه ويقرأها على مسمع جيمس بيكر، وبعد قراءتها يرفعها أمام بيكر ليرى توقيع ياسر عرفات عليها. إن فيصل يقود وفد فلسطين إلى مؤتمر مدريد للسلام بقرار أبو عمار وتوقيعه والورق "مروّس"هكذا ( منظمة التحرير الفلسطينية –  الرئيس).

وقد انتشرت، في ذلك الوقت، قناعة عامة بأن الرئيس جورج بوش الأب جاد في حل هذه القضية المستعصية على كل الحلول وكل الإدارات، وهو الآن أصبح طليق اليدين وينفرد بالقرار الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وغورباتشوف إلى جانبه في مؤتمر مدريد ليس إلا تذكيرا بماض عفا عليه الزمن. وجاءت تهديدات من بوش بعدم صرف ضمانات القرض بقيمة عشرة مليارات دولار لتوطين المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي السابق، في حال أصر شامير على مقاطعة المؤتمر، وكذلك تصريح جيمس بيكر. نريد أن نعرف أين يؤخذ القرار الأمريكي في واشنطن أو في تل أبيب، وكذلك تصريحه الآخر: هذا رقم هاتفي في واشنطن وعلى شامير أن يتصل به. هذه المواقف، وليس رسالة الضمانات الأمريكية حول مبدأ الأرض مقابل السلام واستبدال كلمة الحكم الذاتي بكلمات لا تحمل نفس المعنى               (Self government Authority)، كانت وحدها الدافع إلى الالتحاق بقطار التسوية. كان الرهان أن هذه الصيغ التي لا يطيق أبو عمار سماعها أو حتى قراءتها سيجري توسيعها في المفاوضات لتحتوي أو لتصل إلى الطموح الفلسطيني في قيام الدولة العتيدة.

إذا كان القرار في قضيتنا يبقى أمريكيا إلى زمن طويل، فإن تعويلنا على دور الرئيس الأمريكي يفوق قدراته الحقيقية، ويعكس عدم قدرتنا على قراءة أكثر دقة لآليات العمل والقرار في المؤسسة الأمريكية. وفي الحقيقة فإن التعاطي الأمريكي مع قضيتنا ينطلق من الحرص على إسرائيل وأمنها وتفوقها وليس من أجل إنصافنا وقيام دولتنا. راجت أقوال قد تكون صحيحة في ذلك الوقت وربما الآن، بأن أهمية قضيتنا إنما تنبع من أهمية عدونا "إسرائيل" وذات مرة قال رئيس وزراء بلجيكيا ردا على مطالبات نبيل شعث وصائب عريقات بمقاطعة أوروبا لبضائع المستوطنات، وبفرض عقوبات اقتصادية أوروبية على إسرائيل كما فعلت أوروبا مع جنوب إفريقيا أيام الحكم العنصري، وكان أبو عمار يستمع لرد رئيس وزراء بلجيكيا، الذي قال بالحرف الواحد: يبدو أن لدى أصدقائنا الفلسطينيين سوء تقدير للموقف الأوروبي. ففي حالة إسرائيل لن يجرؤ أي بلد أوروبي على فرض عقوبات اقتصادية، ومن الخطأ مقارنتكم إسرائيل بجنوب إفريقيا، وحتى طلبكم بإلغاء الاتفاق الاقتصادي مع إسرائيل هو أيضا طلب لا تجرؤ دولة أوروبية على تجميده أو حتى تعليقه. في الواقع نتحرك معكم من أجل أن يكون لكم كيان أو دولة. وهذا نعتقد أنه يخدم أمن ووجود إسرائيل.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي انتشرت في أوساطنا تحليلات مثيرة للسخرية، وهي تمنيات لا أساس لها، ومن هذه التحليلات أن إسرائيل فقدت أهميتها عند أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة، وبالتالي إذا استمرت إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية فهي عبء على أمريكا. والدليل على صحة هذا التحليل أنه في أثناء حرب الخليج الثانية كانت أمريكا معنية بتوفير الحماية لإسرائيل وأرسلت لها  بطاريات صواريخ "الباتريوت"  لاعتراض الصواريخ العراقية، وبدل أن تقدم إسرائيل المساعدة لأمريكا في الحرب كانت إسرائيل هي المحتاجة إلى الحماية الأمريكية، وبالتالي من المنطق القول حين أعلن الرئيس بوش في خطابه أمام الكونغرس أنه عازم على حل الصراع العربي _ الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية، فإنه يريد رفع هذا العبء عن أمريكا، وأعني عبء الاحتلال الإسرائيلي وما يجلبه من عدم استقرار في الشرق الأوسط.

كما راجت مقولة أخرى بأن الرئيس جورج بوش الأب وكذلك جيمس بيكر من الجنوب الأمريكي، وبعيدان عن اللوبي اليهودي ( الايباك). أما أبو عمار القارئ  للسياسية الدولية فقال في أحد الاجتماعات:  يا إخواني أنا لا أستطيع أن أحمل على أكتافي الضغط الأمريكي  والروسي. ليس أمامنا غير الموافقة على المشاركة وبهذه الشروط المعروضة عليكم. أما أبو اللطف فقال: "إذا لم نشارك فإننا نسقط من التاريخ "، وأبو اللطف أحد القادة التاريخيين في "فتح" ورئيس الدائرة السياسية، وهو المشهور بمعارضته للحلول السياسية، والكثير من المبادرات السياسية التي كان يعتبرها خروجا على الثوابت والحقوق.

مع ظهور بوادر الاعتدال عند أبو عمار بعد تصريحات بوش وبيكر، اجتمع أبو عمار مع وزير خارجية فرنسا رولان دوما في نيسان 1991 في طرابلس الغرب، وكان الاجتماع إشارة إلى إلغاء القرار الأوروبي بمقاطعة أبو عمار ما دام يبدي هذا الاستعداد للمشاركة في عملية السلام. وكالعادة، كلما اقترب الأوروبيون أو الأمريكيون من أبو عمار كلما ارتفع شانه وزادت أهميته عند الحكام العرب إلى درجة أن البعض منهم أخذ يطلب مساعدة أبو عمار لتذليل بعض العقبات بين هذه الدولة العربية أو تلك وبين بعض الدول الأوروبية. وكان أبو عمار يتمنى دائما أن يلعب هذا الدور ليزيد من رصيده على الصعيد الدولي، وبالتالي قضيته، التي علمته تجربة كفاحه المديد أن العامل الدولي سيكون هو العامل الحاسم في حلها، ولهذا كان أبو عمار يبادر وحده دون دعوة من أحد ليلعب دور الوسيط الذي يمكنه من إقامة العلاقات التي يسعى إليها مع أطراف الخلاف أو الصراع. وقد تدخل وسيطا في الحرب بين السادات والقذافي وبين اليمن الجنوبي والشمالي، وبين إيران والعراق، وفي أزمة كمبوديا. وكان على علاقة قوية مع الأميرنوردوم سيهانوك. ويمكنك أن تتخيل قدراته الهائلة في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة حين تقف على حقيقة قيادته لغابة البنادق لمدة ( 15) عاما، وخاض بقوة هذه الغابة معركة الصمود في بيروت لمدة 88 يوما ليستقبله القادة العرب في مطار فاس الدولي في المغرب تقديرا لصموده في وجه إسرائيل.

بعد لقائه رولان دوما في نيسان 1991 أخذت العواصم العربية تفتح أبوابها له. والحديث عن اعتباره "غير ذي صلة" يجافي الواقع الذي يقول إن شعبية أبو عمار لدى شعبه، حتى بعد وقوفه المفترض إلى جانب صدام حسين، قد ازدادت والفصائل على اختلافها متمسكة بقيادته، ولن يرتفع صوت فلسطيني واحد يتحدى هذه الشرعية حتى داخل سوريا فأصوات "الكسور العشرية الفلسطينية " التي تدور في فلك الأسد توقفت تماما عن توجيه الاتهامات لأبو عمار. فالأسد بعد تحالف "حفر الباطن" إلى جانب الأمريكيين، وقرار المشاركة في المؤتمر الدولي يقف الآن على يمين أبو عمار وليس على يساره، ويحتاج الأسد إلى وقت طويل للعودة إلى ديماغوجيا الشعارات المجانية لمعركة السيطرة على القرار الفلسطيني بعد فشله المتكرر. 

الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع