دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار .. عشت في زمن عرفات : وقائع مؤتمر مدريد وقصة كوفية صائب عريقات

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار .. عشت في زمن عرفات : وقائع مؤتمر مدريد وقصة كوفية صائب عريقات
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..


الفصل الحادي والعشرون:

وقائع مؤتمر مدريد 

نفض أبو عمار عنه وعن شعبه غبار "أم المعارك"، وعاد إلى مركز الأحداث والاتصالات واللقاءات، وبعودته سالما من "أم المعارك" عادت قضيته إلى الصدارة مجددا. ومن كان يراهن أن أبو عمار المتهم بالاستحواذ الكامل على المنظمة وقرارها وهذا الرهان الساذج على فردية أبو عمار باء بالفشل. فسرعان ما وافق على المقترحات الأمريكية، وفوض فيصل الحسيني لإجراء الاتصالات، وشكل اللجان السياسية من كوادر الداخل لدعم الوفد في المفاوضات. والآن حين يكون الأسد على يمينه  فليس أسهل على أبو عمار من قيادة الساحة في الاتجاه الذي يريد دون معارضة أحد.

 عام 1991 اكتفى الأسد بالعودة إلى لبنان، والقضاء على هذا المغامر المضطرب ميشيل عون، وما دام شارك في "حفر الباطن" وأعلن أنه ذاهب إلى المؤتمر الدولي، فلم يعد لدى الفصائل التي تراهن على دور سوري في المعركة ما تقوله لأبو عمار. وهو يجمع المجلس الوطني ( أيلول 1991) الذي يوافق على المشاركة في المؤتمر الدولي، ويكلف اللجنة التنفيذية بالتنسيق مع الأردن، وبحث شروط المشاركة وتشكيل الوفد المفاوض. وكان مستحيلا أن توافق الفصائل على هذه القرارات لو كان نظام الأسد في خندق غير خندق "حفر الباطن". إنها لحظة تاريخية استطاع فيها أبو عمار أن يقوم بهذا الاختراق التاريخي في الاستعصاء الأبدي للقضية الفلسطينية. ولم يضيع الفرصة التي سنحت لإحداث هذا الاختراق الذي قبل أن يكون طلاقا بائنا مع الوصاية العربية، وكان انقلابا على الذات، وعلى البرامج وعلى الآمال والوعود التي رددها أبو عمار تاريخيا في غمار معاركه مع الواقع العربي، الذي ينكفئ على نفسه ويبتعد عن فلسطين، وقضيتها وشعبها وثورتها، ويرتاح إلى حكم تسلطي باسم فلسطين - وضد فلسطين والوعود البراقة التي لا تكلف شيئا.

يوم 25 تشرين الثاني 1991 أصدر أبو عمار قرارا بتشكيل وفد المنظمة الذي عليه أن يغادر إلى مدريد لمساعدة وفد الداخل الذي يرأسه فيصل الحسيني وحيدر عبد الشافي. ويرأس وفد المنظمة نبيل شعث وإلى جانبه ممثلون للفصائل، وكنت أحد أعضاء الوفد إلى جانب نبيل شعث وأكرم هنية وممدوح نوفل وتيسير العاروري. وقد قام المرحوم الدكتور عصام كامل- وهو السفير في مدريد، وشقيق زوجتي- بتأمين الفيزا وتأشيرة الدخول والفنادق والسيارات لأكثر من (90) فلسطينيا أذن لهم أبو عمار بالسفر إلى مدريد وأمن لهم التذاكر والمصروفات والإقامة. والعدد الأكبر من هذا الجيش الفلسطيني كان من الداخل. أما وفد المنظمة فقد كان عليه أن يبقى بعيدا عن الأضواء. ولهذا رتب الدكتور عصام كامل إقامة وفد المنظمة في فندق آخر غير الفندق الذي نزل فيه أعضاء وفد الداخل.

كنا حائرين لحظة وصولنا إلى مدريد. فلا نستطيع الظهور في الإعلام وممنوع علينا الاقتراب من وفد الداخل حتى لا يغضب إسحاق شامير أو جيمس بيكر، ولا نحمل أية ورقة تمكننا من الاقتراب من قصر الملك خوان كارلوس الذي انعقد فيه المؤتمر يوم 30 تشرين الثاني 1991، وكانت الأضواء كلها مسلطة على وفد الداخل، أما نحن وفد المنظمة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فلا أحد يسأل عنا، ولا كاميرا واحدة تزور الفندق الذي نقيم فيه. وكنا نتابع محطات التلفزة التي كانت تنقل أخبار الوفود وتجري المقابلات مع رؤساء الوفود والناطقين الإعلاميين. وليس هناك كلمة واحدة عن منظمة التحرير الفلسطينية. وحتى الخارجية الإسبانية لم تسجل حضور وفد رسمي من المنظمة إلى جانب وفد الداخل. وبالقدر الذي اهتمت فيه بوفد الداخل أهملت وفد المنظمة، وكأننا قادمون إلى مدريد دون دعوة من أحد، بل وغير مرغوب أصلا بوصولنا أو وجودنا في هذا الوقت بالذات، حيث الجميع يحرص على إنجاح مؤتمر مدريد. وظهورنا في أجهزة الإعلام معناه أننا نتحمل مسؤولية فشل المؤتمر.

في منتصف الليل من مساء 27 كانون الثاني 1991 وكنت في منزل السفير د.عصام كامل، رن جرس الهاتف. وكان المتحدث أبو عمار الذي طلب من د.عصام أن يتحدث معي.  أخذت سماعة الهاتف وكان أبو عمار في قمة غضبه وعصبيته وقال لي: وماذا تفعل في مدريد؟ أنت سائح؟ وكدت أضحك لولا حدته وعصبيته فقلت له: أمرك أبو عمار، ما هو المطلوب مني؟

قال أبو عمار: أنت قرأت الخطاب الذي سيلقيه حيدر في المؤتمر؟

فقلت له لم أقرأ الخطاب ولم يسمح لنا حتى الاقتراب من فندق وفد الداخل، حتى السلام عليهم ممنوع.

توقف أبو عمار أمام ما سمع مني ثم قال: طلبت من نبيل شعث والآخرين أن يأتوا إليك الآن للاطلاع على الخطاب. وهذا ليس خطابا سياسيا في مؤتمر دولي، هذا موعظة كنسية، وهل وافقنا على الذهاب إلى مدريد لاستدرار عطف الناس أم لتأكيد حقوقنا؟ حقنا في الاستقلال وحقنا في أرضنا ومقدساتنا الإسلامية والمسيحية، ثم ختم غضبه بالقول: أنت نايم على حرير في مدريد يا بختك يا خويا، نحن لسنا ضعفاء. إنت فاهم !

قلت له: اطمئن سأقرأ الخطاب وغدا سأتصل بك.

كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا حين حضر نبيل شعث ووفد المنظمة وكذلك فيصل الحسيني ورضوان أبو عياش و د. ممدوح العكر، ولم يحضر د. حيدر عبد الشافي لأنه مرهق.

الخطاب مكتوب باللغة الانجليزية ومطبوع وجاهز للإلقاء  في هذا المؤتمر الدولي الذي يحضره ممثلون لفلسطين لأول مرة في تاريخيهم الحديث، ويحضر المؤتمر الرئيسان بوش وغورباتشوف، وعدد كبير من وزراء الخارجية في الدول العربية والأوروبية. وكان الدكتورعبد السلام المجالي رئيسا للجانب الأردني في الوفد المشترك وكان معه مروان المعشر المتحدث باسم الوفد.  ومن سوريا كان فاروق الشرع، ومن إسرائيل كان إسحاق شامير، والوجه الإعلامي برئاسة بنيامين نتنياهو، وكان التركيز الإعلامي على وفدنا القادم من الداخل شديدا إلى درجة أن مؤتمر مدريد للسلام قد أصبح مؤتمرا لفلسطين. وكان هناك سباق بين السفير الفلسطيني د. عصام كامل والسفير الإسرائيلي شلومو بن عامي، وهما يحملان شهادة الدكتوراه من جامعة مدريد نفسها على تقديم العرض الأفضل على شبكات التلفزيون الإسبانية والعالمية. وفيما بعد قال كثير من المراقبين إن شخصية د. حيدر عبد الشافي الوقورة والمتزنة  كان لها مفعول هائل داخل قاعة المؤتمر.  أما  د.حنان عشراوي فكانت النجم الساطع في مؤتمر مدريد، وتفوقت على نتنياهو وهو الديماغوجي المتغطرس، ولم تكن المقارنة بين شامير وحيدرعبد الشافي لصالح إسرائيل أبدا، وأدركت الأهمية الفائقة لمتحدثين فلسطينيين على غرار حنان عشراوي يتحدثون اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية كأهلها تماما، وقادرون على اختراق الجدار السميك للدعاية الإسرائيلية.

على كل حال، بدأ نبيل شعث يقرأ الخطاب الذي أعده الشباب في القدس، وقيل إن محمود درويش قد تصفحه في عمان، ولم يسمح لنفسه بمراجعته أو إدخال التعديل عليه ما دام لم يكن مكلفا بإعداد الخطاب. ولهذا وصل الخطاب إلى أبو عمار في تونس فجن جنونه، لأنه يركز على مأساة الشعب الفلسطيني لاستدرار عطف المستمعين، ولأنه يخلو تماما من لغة القوة. إنه لغة الضعف وليس لغة القوة، لغة الواقع المأساوي وليس لغة التصميم على مقاومة هذا الواقع.

قرأ نبيل شعث الخطاب وكنا أكثر من عشرة أشخاص نستمع إليه.  وفي الواقع لم يكن الخطاب بالسوء الذي وصفه أبو عمار بأنه "موعظة كنسية"، ولكنه خطاب خارج التاريخ المقاوم للشعب الفلسطيني. لا شيء فيه عن اللاجئين والمنفى والشتات والمعارك الدامية التي خاضها الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تذكر بكلمة في الخطاب. أليست المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؟ وأين رأس المنظمة ياسر عرفات؟ وبسبب أوامر أبو عمار فقد أصبحت الكلمة الأخيرة بالنسبة للخطاب ومضمونه هي كلمتي. ولهذا قلت لنبيل شعث وللآخرين: الآن الوقت متأخر، لا بد أن نرتاح قليلا، وغدا صباحا نلتقي أنا ونبيل وأحد الأخوة من وفد الداخل لقراءة الخطاب مرة ثانية، وإضافة ما نتفق على إضافته من مواقف وقضايا. ووافق الجميع على هذا الاقتراح، واقترح الشباب من الداخل أن يكون د. ممدوح العكر هو الشخص الثالث. وهكذا اتفقنا على اللقاء في أحد المقاهي القريبة من فندق وفد الداخل، حيث لا يمكننا الدخول إلى الفندق لأنه مخالفة صريحة للترتيبات المتفق عليها بعدم ظهور وفد المنظمة أبدا في أي نشاط علني، بل ينحصر النشاط السياسي والإعلامي وحتى اللقاءات مع وفد الداخل.  لكن على عكس ما أرادت إسرائيل من وراء هذه الشروط لإبعاد المنظمة عن دورها القيادي والسياسي، فإن وفد الداخل ومن هذه الوجوه الجديدة التي ظهرت على المسرح الدولي، قدمت خدمة لفلسطين والمنظمة لم يكن وفد المنظمة قادرا على تقديمها بسبب الصورة السلبية العالقة بالمنظمة ورئيسها وفصائلها، سواء بسبب الوقوف إلى جانب صدام حسين، أو خطف الطائرات، أو عملية ميونخ أو معالوت. حتى أن الدعاية الإسرائيلية أشهرت في وجهنا مقتل ضابط "موساد" إسرائيلي في مدريد على يد "أيلول الأسود". ورفعوا في وجه تصاعد الاهتمام العالمي بفلسطين والفلسطينيين الجدد القادمين من الداخل  سلاحهم الرهيب ( الهولوكوست) الذي يستسلم أمامه الغرب، وهناك الأساطير التوراتية التي تتناقض مع حقائق التاريخ. وهناك "واحة الديمقراطية المحاطة بالاستبداد الشرقي".

 وأعترف أن هذا الجيل الجديد القادم من الداخل ومن المعاناة الطويلة من الاحتلال ومن الثقة بالنفس التي رسختها انتفاضة الحجارة قد جعلت كفة الرأي العام العالمي تميل لصالحنا، وأصبحنا طرفا معترفا به. الفلسطينيون هم الذين يتحدثون عن قضيتهم وعن مأساتهم جراء الاحتلال الإسرائيلي لوطنهم، وهم الآن مسلحون ببرنامج سياسي يقبله العالم وترفضه إسرائيل. ويكفي أن يرى ويسمع الرأي العام العالمي إسحق شامير حتى ينحاز إلى الفلسطينيين، وأما نتنياهو فهو وإن فشل أمام حنان عشراوي فإنه فرض حضوره لدى الإسرائيليين الذين لا يعترفون بأخطائهم لتفسيرعزلتهم،  بل تميل أغلبية الإسرائيليين إلى الاحتماء وراء أسطورة كاذبة تقول: " العالم ضد اليهود. "

في التاسعة صباحا كنت أنا ونبيل شعث نتجه إلى المقهى القريب من الفندق الذي يقيم فيه وفد الداخل. وهناك التقينا  د. ممدوح العكر. وهذه المرة الأولى التي ألتقيه فيها. أما فيصل وحنان وصائب فقد تعرفت عليهم في زياراتهم السرية إلى تونس، وأما د. حيدر عبد الشافي فقد زار بيروت وتناولت الغداء معه بدعوة من ماجد أبو شرار. د. ممدوح العكر شاب دمث وقليل الكلام وحين بدأنا العمل لمراجعة الخطاب قلت لنبيل وممدوح: الأفضل أن نقرأ الخطاب قبل أن نبدأ بكتابته من جديد. وهذه القراءة مكنتني من إعادة ترتيب الأفكار والقضايا والربط بين واقع الداخل والخارج في المأساة الفلسطينية، والتوقف عند خطاب أبو عمار في الأمم المتحدة عام 74 حول البندقية وغصن الزيتون، وإن كان التركيز هذه المرة على غصن الزيتون وإغفال دور البندقية.  اتفقنا نحن الثلاثة أن يقرأ نبيل وممدوح الجملة باللغة الانكليزية ثم أقوم بعد ترجمتها بكتابتها باللغة العربية. وقد استغرق عملنا المشترك في إعداد الخطاب سبع ساعات، وحين انتهينا من عملنا قام نبيل شعث بإرسال الخطاب بالفاكس إلى أبو عمار الذي كان قد وصل الرباط في المغرب. وكان "الفاكس "لا يفارقه، ولم تمض سوى ساعة واحدة حتى أعيدت لنا الصفحة الأخيرة وعليها العبارة التالية: "على بركة الله" أي إن أبو عمار يوافق على النص الأخير للخطاب الذي كتبته بخط يدي وأبو عمار يعرف خطي جيدا.  وعلى الفور تمت ترجمة الخطاب إلى اللغة الانكليزية. و كان قرار الوفد أن يلقي د. حيدر الخطاب باللغة الانكليزية. فالكل هنا يجيد اللغة الانكليزية. فالمؤتمر الدولي العتيد تحت شعار "الأرض مقابل السلام"، وفر في الحقيقة منبرا عالميا للشعب الفلسطيني ليقول كلمته وحقه في تقرير مصيره دون احتلال ودون وصاية من الجوار العربي، ويطلب من العالم دعمه ومساندته في كفاحه الوطني لتحقيق أهدافه الوطنية المقبولة دوليا، وتطبيقا لقرارات الشرعية الدولية، ويقيم دولته المستقلة ويأخذ مكانه الطبيعي في الأسرة الدولية.

وقبل يوم واحد من صعود فلسطين على منبر المؤتمر الدولي للسلام مجسدة في شخص د. حيدر عبد الشافي، واجهتنا الشروط الإسرائيلية المهينة، عدم الإشارة  في الخطاب لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو شخص أبو عمار بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وقال جيمس بيكر لحنان عشراوي إن ورود اسم المنظمة أو ياسر عرفات في الخطاب سيعني انهيار المؤتمر، لأن اسحق شامير سيغادر قاعة المؤتمر، وبالتالي ستكونون أنتم الفلسطينيين أكبر الخاسرين.  وقلت لحنان عشراوي إن شامير مجبر على حضور المؤتمر ليضمن ضمانات قرض العشرة ملايين دولار لتوطين المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفييتي المنهار، وهو لم يأت من أجل السلام معنا بل من أجل المال لتوطين المهاجرين اليهود.

وعلى الرغم من أن نبيل شعث عضو في اللجنة المركزية وعلى صلة قوية ودائمة مع أبو عمار، فإنه كان يعتقد أن عملي الطويل مع أبو عمار وبشكل يومي يمكنني من معرفة ما يدور في رأس أبو عمار من مواقف وأفكار حتى دون أن يفصح عنها علنا.  وبالطبع، كانت هذه مجرد انطباعات ولم تكن حقيقية. ولهذا حين روى نبيل شعث أمام وفد المنظمة ما قالته حنان نقلا عن جيمس بيكر كان ردي الفوري وبكل غضب وعصبية: أنا لست أبو موسى الأشعري ولن أقطع رأسي بيدي، ونحن شعب ولنا قيادة هي منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمة لها رئيس يعترف به العالم، والمجلس المركزي انتخبه رئيسا لدولة فلسطين التي اعترفت بها ( 104) دول حتى قبل تجسيدها على أرض فلسطين.  فهل نشطب تاريخنا ونضالنا وقائدنا وممثلنا الشرعي الوحيد؟ هذا أمر مستحيل.

تأزم الموقف واضطر نبيل شعث أن يتصل مباشرة مع أبو عمار وينقل له تهديدات بيكر نقلا عن شامير. ويبدو أن أبو عمار شعر بالحرج الشديد، ما دام هو شخصيا المعني بالقضية المطروحة. ولهذا كان جواب أبو عمار متساهلا جدا وقال لشعث: قرروا أنتم ما ترونه يخدم شعبكم وقضيتكم.  ويبدو أن حنان عشراوي قد اتصلت بدورها مع أبو عمار الذي كان جوابه لها: قرروا أنتم ما ترونه في مصلحة شعبكم وقضيتكم.

ونقل نبيل لوفد المنظمة ما سمعه من أبو عمار وعندها قلت لنبيل شعث: أنت تعرف أبو عمار جيدا.  وبصراحة أقول لك أننا إذا رضخنا لتهديدات شامير نكون قد ألغينا المنظمة، وأصبح الشعب الفلسطيني مجرد أقلية بلا حقوق سياسية وبلا مستقبل. وكان الوفد يدعم ما قلته إلا أنه في الوقت نفسه يخشى من الفشل الذي سيحمل بيكر مسؤوليته للتصلب الفلسطيني في قضية يعتبرها شكلية. وأمام حالة التردد بين موقفين وبين وفدين كان علي أن أتصل بدوري مع أبو عمار الذي استمع إلي وأنا أقول له بالحرف الواحد: لست أبو موسى الأشعري، ولا أخلع صاحبي بيدي. والمنظمة ليست قضية شخصية تخصك وحدك، إنها الوطن المعنوي والهوية والممثل الشرعي والوحيد، وإسقاطها يعني إسقاط الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني واعتباره أقلية صغيرة تعيش في كنف إسرائيل، والحفاظ على المنظمة هو الحفاظ على الحقوق الوطنية وعلى الدولة وتقرير المصير وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. وقلت أخيرا لا يمكن شطب أي كلمة من الخطاب الذي وافقت عليه. فهذا هو الذي يخدم شعبنا، وليس الفلسطينيون في الضفة والقطاع إلا جزءا من الشعب الفلسطيني وقضيته. والمنظمة هي الوعاء الذي يعبر عن القضية الفلسطينية بكل أبعادها.

وقال لي أبو عمار: أنت درستها؟

وقلت له: هذا ابتزاز من شامير وبيكر ولا يجب أن نخضع له. وأنا واثق أن شامير لن ينسحب رغم تهديده بالانسحاب، ورد أبو عمار قائلا: وحدك تتحمل المسؤولية.

وقلت له: بهمتك وعزيمتك.

وفهم الحاضرون أن أبو عمار مع نص الخطاب الذي أرسلناه إليه، وإلا ما معنى أنني أتحمل المسؤولية، وما معنى أنت درستها. فهذه طريقة أبو عمار في التعبير غير المباشر عن موقفه. يحملك المسؤولية حتى لا يقال أنه فرض رأيه عليك في مسألة حساسة تخصه شخصيا.  وقطعت هذه المكالمة الخشية والتردد وأبلغ نبيل شعث حنان عشراوي عدم تعديل أي فقرة في الخطاب الذي وافق عليه أبو عمار.

وخلال أيام انعقاد المؤتمر التي قضيناها في مدريد أرسل أبو عمار طائرة خاصة مرتين لأعضاء الوفدين للقائه مرة في تونس، ومرة في الجزائر. وحرص على أن تكون اللقاءات سرية سواء حين التقيناه في تونس أو في الجزائر، ولم ينشر شيء في الإعلام عن هذه اللقاءات. أما هدف أبو عمار من وراء هذه اللقاءات، ومعه عدد من أعضاء اللجنة المركزية، فهو أن يربط أعضاء الوفد بعلاقات يومية معه شخصيا حتى يطمئن دون وسيط على طريقة أعضاء الوفد في التفكير وفي العمل. وفي الحقيقة فالوفد كان نخبة من السياسيين والمثقفين الذين جلبوا الاحترام للشعب الفلسطيني على مستوى العالم.

وفي أول يوم من أيام مؤتمر مدريد، قام صائب عريقات بحركة بارعة إذ وضع على كتفيه الكوفية الفلسطينية التي أصبحت رمزا لأبو عمار. وحسب ما روى الأمير سعود الفيصل فإن جيمس بيكر كتب له ورقة قال فيها: هذا إسحق شامير متعصب وقد ينسحب إذا لم يرفع صائب الكوفية عن كتفيه. ورد عليه الأمير سعود الفيصل على نفس الورقة الرد التالي: الآن ليس المهم أن ينسحب شامير أو يبقى، المهم أن تبقى أنت ولا تنسحب. وبالفعل تململ شامير في الجلسة أكثر من مرة تعبيرا عن ضيقه من كوفية صائب عريقات. ولكنه لم ينسحب بل بقي جالسا حتى نهاية الجلسة.

وأثناء المؤتمر أقام د.عصام كامل، السفير الفلسطيني في مدريد، مأدبة غداء للوفد المشترك الأردني_ الفلسطيني ولوفد المنظمة. وكان الغداء مناسبة للتعرف على عبد السلام المجالي ومروان المعشر، وقد أزالت الجلسة مع المجالي كثيرا من أمراض الماضي. فالرجل قال بوضوح إن الأردن مع دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. وفك الارتباط الإداري والقانوني الذي أعلنه الملك حسين هو نهائي ولا رجعة عنه. وقد عبر عن هذا الموقف في تصريحات علنية وكذلك فعل مروان المعشر.

أما في تونس، فقد ترأس أبو مازن لجنة الإشراف على المفاوضات وكنت أحد أعضائها. وكان دور اللجنة المشرفة إبداء الملاحظات على الأوراق التي يجري بحثها مع الجانب الإسرائيلي، وكلها تدور حول الحكم الذاتي وصلاحياته ومدته، وكان حيدر عبد الشافي يطرح القضايا السياسية وقضية الاستيطان باعتبارها العقبة أمام قيام سلطة الحكم الذاتي. وأما روبنشتاين فكان يرفض التطرق لقضية الاستيطان، وفي رأيه المتعصب أن الحكم الذاتي يعني قيام سلطة على السكان وليس على الأرض. 

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، يطلقون على الرئيس في أمريكا "البطة العرجاء" أي أنه يصبح بلا قرار وبلا سلطة حقيقية وإن كان قد حظي  قبل عام واحد فقط بتأييد 70% من الأمريكيين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحرير الكويت، وتدمير الجيش العراقي، وعودة السيطرة الأمريكية على الشرق الأوسط.

أظهر مؤتمر مدريد مدى تعلق الفلسطينيين بالسلام وقد حملوا أغصان الزيتون في مظاهراتهم أثناء وبعد المؤتمر. إلا أن مؤتمر مدريد للسلام وإن كان شعاره "الأرض مقابل السلام" فهو لم يتطرق لأية موضوعات.  بل كان جيمس بيكر مهندس المؤتمر يضع الإجراءات الشكلية والآليات على أمل أن يتم التفاوض حول القضايا من خلال المسارات الثنائية والمتعددة بعد انفضاض المؤتمر الذي لم يستغرق أكثر من ثلاثة أيام.

كما هو معروف، بدأت المفاوضات الثنائية في واشنطن والمفاوضات المتعددة الأطراف في موسكو. وأما المسارات الثنائية فكانت كما يلي: المسار الأردني - الفلسطيني مع إسرائيل، والمسار السوري - الإسرائيلي، والمسار اللبناني - الإسرائيلي.  وبعد فترة وجيزة انفرط عقد الوفد المشترك إلى مسارين، المسار الأردني - الإسرائيلي، والمسار الفلسطيني - الإسرائيلي. وفي بداية 1992 كانت انتخابات الرئاسة الأمريكية قد فرضت نفسها على الرئيس بوش وإدارته، إلى  درجة أن المسئولين الأمريكيين قدموا مقترحات لجسر الهوة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي جعلت الياكيم روبنشتاين يرقص فرحا، وهي مقترحات أمريكية شكلا وإسرائيلية مضمونا. فالإدارة الأمريكية سلمت ملف المفاوضات إلى دنيس روس وفريق يساعده وراء ستار من "الايباك".  وكان هذا التغير الهائل في الموقف الأمريكي بهدف استرضاء "الايباك" الساخط من سياسة الرئيس بوش تجاه إسرائيل، خاصة تلك المتعلقة بتأجيل ضمانات القرض بقيمة عشرة مليارات دولار لإسرائيل لتوطين مليون مهاجر من الاتحاد السوفيتي. أما الاتهام الصريح  من "الايباك" فقد ركز على  أن مواقف الإدارة ضد حكومة شامير قد أدت إلى إسقاطه في انتخابات الكنيست في حزيران 1992 ونجاح إسحق رابين بأغلبية 44 مقعدا وتراجع الليكود إلى 32 مقعدا. و"الايباك" في أمريكا لم تكن يوما إلى جانب الاعتدال بل تقف في أقصى اليمين، ولا تعترف بأي حقوق للفلسطينيين في وطنهم التاريخي فلسطين.  وقد خفف من الخيبة الفلسطينية العامة من عدم إحداث أي تقدم في مفاوضات واشنطن، نجاح حزب "العمل" في انتخابات الكنيست وتشكيل حكومة جديدة في إسرائيل برئاسة إسحق رابين وإلى جانبه شمعون بيرس وزيرا للخارجية. وبدل أن يشكل نجاح حزب "العمل" فرصة لإدارة بوش لدفع المفاوضات لإحراز تقدم في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، قام دنيس روس بتقديم مقترحات حول الحكم الذاتي تحظى برضى "الايباك"، وغض جيمس بيكر النظر عن هذه المقترحات حول الحكم الذاتي على أمل أن يستعيد الرئيس بوش شعبيته لدى يهود أمريكا التي كانت قد وصلت إلى الحضيض عقابا لبوش على مواقفه قبل وأثناء مؤتمر مدريد، وتصريحات بيكر حول أين يؤخذ القرار الأمريكي في واشنطن أم في تل أبيب؟

هكذا تداعت شعبية الرئيس بوش من 70% إلى اقل من 30%.  وفيما بعد نشر معهد أمريكي متخصص في الإعلام حول تغطية أجهزة الإعلام الأمريكية لحملة الانتخابات الرئاسية، وتوصل المعهد إلى أن وسائل الإعلام الأمريكية كانت منحازة وغير موضوعية وضد الرئيس بوش بنسبة 70% من تغطيتها للإنتخابات.  ويفسر الباحثون في المعهد أسباب هذا الإنحياز بالأزمة الاقتصادية وكبرياء وعنجهية الرئيس بوش أثناء المناظرات التلفزيونية مع كلينتون بفعل إنجازاته التاريخية بإنهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي واستعادة السيطرة على الشرق الأوسط. وهناك عامل آخر قد يكون هو الأكثر أهمية ذكره الباحثون على استحياء، وهو تدهور العلاقة بين إدارة بوش - بيكر مع إسرائيل وحكومة "الليكود" بزعامة إسحق شامير. وفي تشرين الثاني  1992جاء يوم الانتخابات، فخسر الرئيس بوش وأصبح بيل كلينتون رئيسا للولايات المتحدة.

 
الفصل العشرون


الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع