في الحلقة الثانية عشر : أحمد عبد الرحمن يكشف عرض "أحمد جبريل" لتخفيف الحصار عن ياسر عرفات .. ويروي صراع الأخوة الأعداء

في الحلقة الثانية عشر : أحمد عبد الرحمن يكشف عرض "أحمد جبريل" لتخفيف الحصار عن ياسر عرفات .. ويروي صراع الأخوة الأعداء
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الثاني عشر:

صراع الأخوة الأعداء 


غادرت تونس صباح 11/5/83 إلى أثينا وفي اليوم نفسه وصلت قبرص. ففي الأشهر الأخيرة أصبحت أتردد كثيرا على قبرص حيث تصدر المجلة المركزية "فلسطين الثورة " وقضيت ليلة واحدة في نيقوسيا. وفي اليوم الثاني قال لي "ملاذ" القائم بأعمال سفارتنا في قبرص، أن أبو عمار قد طلب منه أن يؤمن نقلي إلى طرابلس على أول سفينة متوجهة إلى هناك. وودعت الشباب في المجلة وغادرت مع القائم بالأعمال  إلى "لارنكا،" وخلال وقت قصير كان ملاذ قد رتب كل شيء، وأخذني بيده إلى حيث السفينة المتوجهة إلى طرابلس. كانت سفينة صغيرة ويملكها شباب من طرابلس. ولم تكن كتلك السفينة اليونانية التي غادرنا فيها بيروت إلى أثينا في 30 آب 1982. وقال أحد قادة  الزوارق "قد تعترضنا الزوارق الإسرائيلية " إحنا وحظنا." ولم يكن في هذه السفينة مكان للنوم أو الراحة. فالرحلة لا تستغرق غير ساعات قليلة.

السفينة في الواقع سفينة تهريب، ومحملة بأجهزة التلفزيون وأدوات كهربائية وثلاجات وكراتين سجاير لا تعد ولا تحصى. وبالطبع كل هذا لا يعنيني. أما الذي كان يقلقني حقا فهو ماذا لو فوجئنا بالزوارق الإسرائيلية هنا في عرض البحر؟ ماذا سنقول لهم؟ ومرت الأمور دون مفاجآت من هذا النوع الثقيل. وحوالي منتصف الليل وصلت السفينة العتيدة إلى شواطئ المنية شمال طرابلس، ولكنها ابتعدت عن كل منطقة يظهر فيها ضوء. وأكاد أقول أنها تسللت إلى منطقة مظلمة بحيث لا يراها أحد. وسرعان ما تحركت قوارب صيد صغيرة كانت تقف في هذه المنطقة المظلمة. وكنت أول من صعد إلى القارب الذي نقلني إلى الشاطئ. وكان ينتظرني الصديق العزيز العقيد منذر أبو غزالة وهو شقيق الشهيد مازن أبو غزالة. وبعد عام من هذا اللقاء بيننا في هذه المنطقة المظلمة من " شاطئ المنيه." كان العقيد منذر أبو غزالة وزهير اللحام مدير اللاسلكي العام والعقيد جمعة غالي قائد البحرية يتناولون العشاء عندي في المنزل في تونس، وعرفت منه أنه مسافر في اليوم التالي إلى اليونان. وكالعادة قلت له: أثينا الآن في قبضة الموساد، وقد اغتالوا الصديق العقيد مأمون مريش قبل أشهر في أثينا أثناء حصار طرابلس. وفي عام 1982، وأثناء الحصار، اغتال الموساد كمال مسؤول تنظيم فتح في إيطاليا، ونظير الطالب من الأرض المحتلة، والضابط في القطاع الغربي إسماعيل درويش وهو شقيق الإعلامي المعروف نبيل درويش، في روما، وقبل عام اغتال الموساد ماجد أبو شرار عضو اللجنة المركزية لفتح ومساعد أبو جهاد في القطاع الغربي في 9/10/1981 بوضع عبوة ناسفة تحت سريره في الفندق الذي نزل فيه وكان يحضر مؤتمرا في روما لدعم الثقافة الفلسطينية ورفض التطبيع مع إسرائيل. وفي باريس  اغتال الموساد "فضل" وهو ضابط  يعمل مع أبو إياد، وفي باريس نفسها اغتالوا نائب أبو إياد عاطف بسيسو ومن قبله محمود الهمشري عام 1972. أما جماعة أبو نضال "صبري البنا" فقد اغتالت في باريس عز الدين القلق ونائبه عدنان حماد، وسعيد حمامي في لندن، ونعيم خضر في بروكسل وعصام السرطاوي في لشبونة.

سافر منذر في اليوم التالي إلى أثينا. وبعد يومين اغتاله الموساد في الشارع العام بواسطة دراجة نارية حيث أطلقوا عليه النار  وهو في السيارة واختفوا من المكان. ولا أنسى ليلة وصولي إلى طرابلس حيث أخذني منذر أبو غزالة في سيارته من المنية إلى منزله. ولم أكن قد زرت طرابلس من قبل ولا أعرف عن المخيمات حول طرابلس غير أسمائها، مخيم نهر البارد ومخيم البداوي. وفي يوم 14/5/1983 التقيت مع أبو عمار وكان قادما من البقاع وقبلها كان في دمشق والأسد لم يستقبله ولم أسأله شيئا عن الوضع السياسي وعن المنشقين ومن معهم من الفصائل. إلا أنني وكنت قد قمت بجولة في المخيمين أعددت خطتي للعمل الإعلامي ضد مؤامرة الانشقاق. ويكفي أن يقرأ أبو عمار كلمة "مؤامرة الانشقاق " حتى يعرف مدى تصميمي على تدمير حركة المنشقين لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي. ودون نقاش وافق أبو عمار على استئجار خمسة شقق في بنايات "أبو النعيم" لإصدار وكالة الأنباء "وفا" ولإصدار الجريدة اليومية بالحجم المتوسط وثماني صفحات فقط. أرسلت برقية إلى نائبي في الإعلام في تونس سامي سرحان وكان قد سجن معي في سجن المزة عام 1973 وإلى محمد سليمان مدير التحرير المسؤول عن "فلسطين الثورة" في قبرص، وقلت لهم: من يريد من الشباب أن يأتي إلى طرابلس فأهلا وسهلا ولا تكرهوا أحدا على الحضور. وحضر عدد كبير من الشباب العاملين في الإعلام أكثر مما طلبت أو توقعت وبدأت ماكينة الإعلام بالعمل. وكان أحمد الأسعد ضابط الأمن في المخيمات وطرابلس على صلة وثيقة بكبار القوم في طرابلس. واستطاع خلال يومين أن يؤمن لي الخط الدولي الذي تبرع به رئيس الوزراء السابق رشيد كرامي وعلى حسابه الخاص. أما أبو عمار فكان لديه خط هاتف من نوع جديد من خلال الأقمار الصناعية ولأنني كنت سابقا على صلة قوية مع العقيد أبو موسى وأقل قليلا مع العقيد أبو خالد فقد اجتهدت وقلت على طريقة أبو عمار "اللهم إني قد بلغت" ولهذا جلست مع المقدم "داوود أبو الحكم" المحسوب على أبي صالح وقلت له إنني سأكتب رسالة إلى أبي موسى وأبي خالد وأبي صالح  وأشرح لهم فيها خطورة ما هم مقدمون عليه. وكتبت في الرسالة أن الإصلاح الذي تطالبون به هو كلمة حق أريد بها باطل. وهل يتحقق الإصلاح في حضن المخابرات السورية؟ وهل نسيت يا أبو موسى معركة صيدا، وهل نسي أبو خالد معركة الجبل؟ ومن منع إنقاذ مخيم تل الزعتر غير حافظ الأسد؟ وقلت لهم إن كل مؤامرة الانشقاق التي يقف وراءها نظام الأسد هو لمنع فتح والثورة من العودة إلى لبنان لمقاومة إسرائيل.

 بالفعل، سلمت الرسالة إلى المقدم داود أبو الحكم وكان من المفروض أن يعود إلينا في طرابلس، إلا أن أخباره قد انقطعت تماما فلم أسمع منه كلمة ولم أسمع له صوتا مع المنشقين وسنوات عديدة تمضي قبل أن أعرف شيئا من أخباره. لقد طلق زوجته الفلسطينية وتزوج انكليزية وحصل على الجنسية البريطانية وطويت إلى الأبد صفحة هذا الضابط داود أبو الحكم.

هناك الآن مناوشات في البقاع منذ منتصف أيار بعد بيان الانشقاق "الإصلاحي" يوم 13/5/1983 ولكنها لا تغير شيئا في  المواقع العسكرية على الأرض. فقد كان يقود قواتنا الفدائي القديم العقيد "عبود" وكان هناك العقيد نصر يوسف والعميد زياد الأطرش والعميد علاء حسني. وفي تلك الأثناء اكتشفت سلاحا إعلاميا آخر لتحطيم معنويات المنشقين. فقد وضعت مسؤولة اللاسلكي رائدة جهازا خاصا تحت تصرفي كل يوم لأكثر من ساعة ونصف الساعة. بحيث أتحدث مع المنشقين كبيرهم وصغيرهم، وقالت رائدة أن كل الوحدات من المنشقين وجيش التحرير وحتى جماعة جبريل يفتحون أجهزة اللاسلكي للاستماع إليك. وفي الثمانينات كانت إذاعة مونت كارلو هي الإذاعة الأولى المسموعة عربيا، وقد تفوقت على إذاعة لندن. وكان فيها الإذاعي الشهير نبيل درويش وهو شقيق الضابط إسماعيل درويش الذي اغتاله الموساد في روما بعد أعوام. وبفضل هذا الهاتف الدولي الذي قدمه لنا دولة رشيد كرامي وعلى حسابه الخاص بواسطة الضابط أحمد الأسعد، كنت على اتصال يومي مع إذاعة مونت كارلو. وبالطبع هذه الحرب الإعلامية ضد المنشقين وأسيادهم لم تقتصر على نشاطنا في مخيم البداوي ونهر البارد وطرابلس فهناك الى جانب إذاعات الثورة، المراكز الإعلامية الثلاثة في قبرص وروما وواشنطن، وهناك وكالة "وفا" والإعلام الموحد في تونس. وكانت الصحافة العربية المهاجرة تقف الى جانبنا ما عدا مجلة في قبرص وصحيفة في لندن تابعة للقذافي الذي، ودون مبرر، وقف الى جانب الانشقاق وأرسل القوة الليبية الموجودة في البقاع لقتالنا الى جانب المنشقين.

كانت قوة موقفنا وحجتنا تعتمد أساسا على مقولة الاستقلالية والهوية الوطنية والعصبية لفتح. وكانت قد سقطت أوهام كثيرة في السنوات الماضية وخاصة بعد التدخل السوري عام 1976 في لبنان ضد الثورة حول البعد القومي وقومية المعركة. وأصبح التمايز الوطني الفلسطيني مسألة مسلما بها من قبل الرأي العام الفلسطيني وحتى العربي. وأن حركة المنشقين ليست حركة أصيلة بل موحى بها من المخابرات السورية وهدفها الوحيد ليس الإصلاح بل إغلاق الساحة اللبنانية في وجه فتح. وحملتنا الإعلامية جعلت المنشقين يقفون عراة أمام الشعب الفلسطيني. إن المثقفين الفلسطينيين كانوا السباقين لإدانة الانشقاق والمنشقين، وتحدوا المنشقين في قلب دمشق عندما هاجم هؤلاء مكاتب فتح والمؤسسات والمكاتب والمخازن وأسر الشهداء والدائرة المالية والعقارات وحتى البيوت الخاصة، وأطلقوا النار على العاملين فيها. وكانت المخابرات السورية تنذر شباب فتح إما الانضمام للمنشقين وإما مغادرة سوريا. فلبنان الآن مغلق. وسجلهم في الأردن يجعلهم مطلوبين للمخابرات الأردنية. إن نيران الأنظمة تحيط بهم من كل جانب والسبب أنهم الرقم الصعب في هذا المحيط الرسمي الذي لا مكان فيه لحركة وطنية فلسطينية مستقلة  تناضل من أجل وطنها. وفي ذلك الوقت كانت الجوازات اليمنية الديمقراطية هي المتوفرة بكثرة لدى شباب فتح. فأصدرت المخابرات السورية أمرا باعتقال كل من يحمل الجواز اليمني باعتباره عضوا ملتزما بحركة فتح. والذي لم يفهمه نظام حافظ الأسد ولا العقيد القذافي أن الوطنية الفلسطينية قد أصبحت واقعا فعالا في الحياة السياسية. فهذه الحرب ضد الاستقلالية الوطنية التي تجسدها فتح دفعت الكثيرين حتى في أكثر الفصائل معارضة لفتح إلى مساعدة شباب فتح، ناهيك عن الفصائل القريبة من فتح. والسبب في الحقيقة يعود إلى تجذر الوطنية الفلسطينية في الكوادر والقواعد. فالقائد العسكري للجبهة الديمقراطية ممدوح نوفل وضع كل إمكانات الجبهة لمساعدة شباب فتح ومقاتليها. وكذلك أبو علي مصطفى وهو نائب جورج حبش في الجبهة الشعبية. أما القيادة العامة فرغم شراسة العداء الشخصي من أحمد جبريل لأبو عمار وفتح وولائه الشخصي لسوريا كما كان يقول "ظالمة أو مظلومة" فإن القيادة العامة تعرضت لعدة انقسامات وانشقاقات بسبب انحيازه لسوريا وعدائه لفتح ولأبو عمار بوجه خاص. وهو يتهم أبو عمار أنه كان وراء إبعاده عن قيادة فتح في عام 1965 حيث كانت هناك حوارات لدمج تنظيمه الخاص "ج.ت.ف" مع فتح. إلا أن أبو عمار أصر على إبعاده. وهذا الرجل الذي يكن كل هذا العداء لأبو عمار ودعم المنشقين وفتح لهم الباب الليبي وحارب إلى جانبهم بل في مقدمتهم في طرابلس، فوجئت به في عام 2002 في ذروة الانتفاضة يتصل معي. وسألت من المتحدث فقال أبو جهاد "أحمد جبريل." وكانت القوات الإسرائيلية يومها تهدد بنسف المقاطعة على أبي عمار ومن معه لأنه رفض أن يسلمهم أحمد سعدات والمجموعة التي اغتالت "زئيفي" في القدس، وفؤاد الشوبكي "أبو حازم المالية " الذي يتهمونه بالمسؤولية عن السفينة "كارين A." وسألني أحمد جبريل عن الوضع فقلت له أنه في غاية الخطورة والمجرمون الاسرائيليون بقيادة شارون يهددون بنسف المقاطعة، وأنت تعرف أبو عمار لن يقبل على نفسه أن يسلم أحمد سعدات والآخرين لشارون ويفضل الموت على أن يرضخ لشروط شارون.

فقال أحمد جبريل نحن مستعدون للعمل لتخفيف الضغط الإسرائيلي عليكم، ولكن أطلب منك أن تتصل مع سلطان أبو العينين قائد فتح في لبنان للتعاون معنا. قلت له على الفور. وبالفعل اتصلت مع سلطان للتعاون مع أحمد جبريل. وكانت هناك عمليات قصف قوية للمستعمرات الإسرائيلية. وبعد فترة اغتالت المخابرات الإسرائيلية جهاد أحمد جبريل بسيارة مفخخة في بيروت. وهذا مثال آخر على عمق وتجذر الوطنية الفلسطينية. في الواقع لا أحد مع المنشقين غير حافظ الأسد ومعمر القذافي. أما فلسطينيا فالرأي العام توحد على نحو غير مسبوق ضد المنشقين. وظهر صوت الداخل الفلسطيني في إجماع هذا الضمير العربي وحرك الدول العربية للضغط على سوريا لوقف حربها ضد فتح. فهذا مفتي القدس والأراضي المقدسة الشيخ سعد الدين العلمي يصدر فتوى علنية لإهدار دم حافظ الأسد الذي يذبح الفلسطينيين في طرابلس والمخيمات كما فعل شارون في مجزرة صبرا وشاتيلا. وفي قلب دمشق خرجت جماهير مخيم اليرموك غاضبة ضد جريمة الانشقاق والمنشقين وضد نظام الأسد. واقتحمت مخابرات حافظ الأسد المدعومة بالقوات الخاصة مخيم اليرموك، وقتلت واعتقلت لإسكات الصوت الفلسطيني المستقل. وحتى في البقاع حيث مخيم "ويفل" جاء المنشقون لفرض وجودهم والسيطرة على المخيم. فتصدت لهم نساء المخيم وطردتهم. وكانت المنظمات الشعبية كلها ودون استثناء قد أعلنت وقوفها مع الشرعية الفتحاوية والوطنية وضد الانشقاق وضد الوصاية سواء كانت سورية أو أردنية او عراقية او ليبية. والأفراد من بين هذه المنظمات الشعبية الذين لأسباب مختلفة أخذوا موقفا سلبيا كانوا وحيدين ومعزولين، ولم يكن معهم قاعدة تدعم مواقفهم بل قواعد تدينهم، وتدعم الشرعية. وفي النهاية لم يكن أمامهم غير العودة إلى الشرعية وإلى فتح.

وهذا هو سر انتصار فتح وبقائها في وجه كل هذه المؤامرات. فقد أصبح مستحيلا على  العدو الإسرائيلي أولا وعلى أنظمة الواقع العربي أن تحقق هدفا سياسيا من وراء معاركها العسكرية ضد فتح. وهي تملك القوة العسكرية الكافية والقادرة على هزيمة فتح عسكريا. أما سياسيا فكانت فتح هي المنتصرة دائما. فمناحيم بيغن الذي حاصر بيروت أصيب بالصدمة والاحباط ليس فقط بسبب خسائره البشرية بل بسبب العزلة التي أحاطت بإسرائيل وهو قال يومها: هل أنا أحاصر "ذو اللحية" في بيروت أم هو يحاصر تل ابيب؟

وفي حالة الانشقاق الذي دبره نظام الأسد ضد فتح، فقد افتضح أمره على الأرض أولا. فلولا القوات السورية لما خرجت قواتنا من البقاع. إنها الدبابات السورية التي حاصرت قواعدنا في مجدل عنجر وسعد نايل وجديتا والروضة، وهي التي اعتقلت اللواء نصر يوسف وتوفيق الطيراوي وهي من اغتالت مسؤول العلاقات الدولية مع حركات التحرر المناضل "حليم"، ومن كان على رأس القوات المهاجمة للمخيمات في طرابلس غير غازي كنعان الذي قيل إنه انتحر بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان في 14 شباط 2005. أما على الصعيد السياسي فقد أثبتت الهوية الوطنية الفلسطينية أنها البيت الفلسطيني الجامع ومن يخرج على هذا البيت فمشكوك في أمره، ومن ينادي بالإصلاح فعليه أن يبقى داخل هذا البيت ويعمل من داخله. أما حين يقول أبو صالح أنه وسوريا حلفاء ضد عرفات، فهذه رصاصة الرحمة ضد الإنشقاق. ومن مهازل تاريخ هذا الإنشقاق والمنشقين أنه بعد خروجنا من طرابلس 20/12/1983 توهم حلفاء الأسد كما ادعى أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة أنه يمكنهم الآن العودة إلى بيروت. وأحدهم كتب على سياراته العسكرية لتضليل الناس "قوات العودة إلى لبنان وقوات العودة إلى بيروت،، وفي نفس هذه اللحظة كان أبو صالح ومن معه يغادر دمشق ويتوجه إلى لبنان وعند نقطة الحدود السورية اللبنانية ( المصنع )  اعترضته القوات السورية وظهر غازي كنعان حليفه في معركة طرابلس ليقول له بكل وقاحة:  لدي تعليمات عليا بأنه ممنوع عليك وعلى كل القيادات الفلسطينية العودة إلى لبنان. وأعيد أبو صالح وفرضت عليه الإقامة الجبرية إلى أن  توفي بالسكتة القلبية في عام 1991 ونسي حافظ الأسد حليفه الذي تبجح بأنه والأسد حلفاء ومعهم موسكو.

وفي الفترة الممتدة من 12/5/1983 وحتى 24/6/1983 كانت اللجنة المركزية لفتح قد بذلت كل جهد مستطاع لاحتواء الإنشقاق. وفشلت كل هذه الجهود سواء حول إلغاء التنقلات أو حول الإستعداد لعقد المؤتمر العام، أو حول ضبط الإدارة ومحاربة الفساد "كما كانوا يدعون " والإستعداد لضبط الموقف السياسي واستعادة التحالف مع سوريا. وكأن المسألة أننا لا نريد التحالف مع سوريا بينما الحقيقة أننا نتعرض للتصفية كحركة وطنية لإلحاقنا ورقة ضغط أو حجر شطرنج أو بيدق بيد نظام حافظ الأسد. وفي الواقع كان لفتح قيادة مؤهلة وأصيلة ومتجذرة في وطنيتها. وليس في مواقفها ما يعيبها أو يضعف من قدرتها على المواجهة لحماية الحركة الوطنية الفلسطينية التي ترفع راية الاستقلال في القرار والعمل. وكان لظهور أبو عمار ومعه أبو اياد وأبو اللطف وأبو الهول في البقاع في أواخر أيار 1983 في جولة على قواعدنا في البقاع أكبر الأثر في تصليب إرادة المقاتلين في وجه المنشقين والقوات السورية التي تنصب لهم الحواجز وتعتقلهم. ولا تعترف إلا بأوراق الإجازة والتحرك الصادرة عن المنشقين وبتوقيع أبو موسى.

وفي الوقت الذي كانت حركة فتح تتعرض لاتهامات الإستسلام كانت قوات فتح تقاتل قوات الإحتلال الإسرائيلي في لبنان وفي الأرض المحتلة وتأسر تسعة جنود إسرائيليين في الجبل. وبالصدفة أعطى شباب فتح ثلاثة منهم لمجموعة تابعة لأحمد جبريل لأن السيارة لا تتسع لأكثر من ستة جنود في لحظة عصيبة في معارك الجبل في أواخر عام 1982 وبعد خروجنا من لبنان. في العشرين من حزيران 1983 توجهت من طرابلس مع أبو عمار إلى دمشق لحضور اجتماع المجلس الثوري هناك وكنت منذ عام 1980 وبعد المؤتمر الرابع قد عينت عضوا في المجلس إلى جانب نبيل عمرو وأمين الهندي وهواري. وكان الجو العام في دمشق خانقا حقا، فالشعارات الثورية التي تطلقها إذاعة وتلفزيون دمشق ومقالات الصحف الرسمية الخاضعة بالمطلق لسيطرة المخابرات تكاد توهمك أنك في فيتنام، علما أنه لا يسمح بطلقة واحدة لتحرير الجولان. وهناك ضحايا كثيرون لهذا النمط المزيف من أنظمة الحكم، سرقت الشعارات الثورية وتبني الإشتراكية الكاذبة للسيطرة على الإقتصاد الوطني وعلى الأرض حرب طاحنة ضد من يعمل قولا وفعلا لتحرير فلسطين أو على الأقل حتى لا تموت قضيتها بانتظار تحقيق ادعاء الأسد بأنه سيحارب عندما يحقق التوازن الإستراتيجي مع العدو. وهل يمكن لعاقل أن يصدق هذا الإدعاء ما دامت إسرائيل في حقيقتها لسيت إلا ولاية أمريكية موجودة جغرافيا في الشرق الأوسط. وجدت شبابنا في دمشق وهم كوادر قيادية يجمعون تصريحات منسوبة لأبو عمار وأبو إياد وصور عن لقاءات هنا وهناك وعن اتصالات  سرية مع مصر بعد كامب ديفيد، ويضعون هذه القصاصات المزورة في وجوهنا وفي مقابل ما يبدو على السطح وفي الظاهر أنه الموقف السوري الذي ضد إسرائيل وضد الإمبريالية. وقلت لهم: ولكن هل يمكنكم الذهاب إلى لبنان إلا تسللا، وهل قواتنا التي عادت إلى سوريا خرجت من معسكرات الإعتقال التي وضعت فيها.؟ وتعالوا إلى طرابلس وتعالوا إلى البقاع لتروا بأعينكم أن كل ما تسمعونه ليس إلا مجرد  أكاذيب وتضليل. المعركة يا شباب ضد فتح لأن فتح هي الحركة المستقلة التي تناضل من أجل فلسطين، وعلى الأقل حتى  لا تموت قضيتنا بسبب هزال هذه الأنظمة التي لا تجد وسيلة لحماية بقائها من إسرائيل غير القضاء على فتح.

 وأدركت في حواراتي مع هؤلاء الشباب أنهم لا يؤيدون المنشقين بل يدفعون عن أنفسهم الإتهامات التي تروج ضد  فتح لأنها تمسهم شخصيا. ورغم كل الجهود الصادقة لتهدئة الخواطر وإظهار خطورة الإنشقاق وبأنه عمل من أعمال المخابرات السورية، ففي جلسة المجلس الثوري قرأ أبو خالد الصين وهو كادر قديم مذكرة باسم خمسة أو ستة من أعضاء المجلس، كانت في غاية القسوة والسلبية. ولكن صلابة أبو عمار وقدرة الإقناع عند أبو إياد أعادت الأجواء الصحية للمجلس الثوري. وغادرنا دمشق مع أبي عمار ليلا إلى طرابلس مساء يوم 22/6/1983، وفي منتصف الطريق أمر أبو عمار بتغيير الطريق من طريق حمص المعتادة إلى طريق بعلبك - الهرمل، وهي طريق وعرة وخطيرة بين الجبال. وقد وصلنا طرابلس عند الفجر. وكانت الصدمة مذهلة حين علمنا أن بقية الموكب التي تابعت سيرها على طريق حمص قد تعرضت لكمين على الطريق حيث أطلقت النار على الموكب فقتل أحد المرافقين وجرح خمسة آخرون ودمرت السيارات بقذائف "آر بي جي" ولم يكن أمامي غير الإدلاء بتصريح بالهاتف لإذاعة مونتي كارلو قلت فيه إن المخابرات السورية قد دبرت الكمين لإغتيال أبو عمار. ولا يعقل أن يكون هناك كمين على هذا الطريق الدولي دون علم المخابرات السورية. وبعد ساعات اتصل رفعت الأسد وطلب حضور أبو عمار إلى دمشق لمقابلة الرئيس الأسد. وبالمناسبة كان موقف رفعت الأسد ضد موقف الرئيس الأسد في هذه المعركة ضد فتح. وفيما بعد قام رفعت الأسد بزيارة سرية إلى تونس وتحدث طويلا عن معارضته لمواقف أخيه والتي انتهت بتجريده من كافة صلاحياته وسلطاته وطرده خارج سوريا. وفي هذه الزيارة أهداه أبو عمار سيفا مذهبا تقديرا لمواقفه ومساعدته أثناء حصار طرابلس. وصل أبو عمار دمشق مساء 23/6/1983 بناء على طلب رفعت الأسد وذهب لمقابلته في بيته في منطقة المزة. وبعد اللقاء عاد أبو عمار إلى مقره المعروف بال "23"في السبع بحرات وسط دمشق. ولكن أخبار الكمين الفاشل كانت قد غطت نشرات الأخبار في مونت كارلو ولندن وحتى الإذاعات  العربية وكل أصابع الإتهام توجه إلى المخابرات السورية. ويبدو أن الرئيس الأسد قد اشتبه أن شقيقه رفعت الأسد هو من سرب خبر الكمين لأبو عمار. ولهذا لم يكن أمامه غير إلحاق إهانة بياسر عرفات فأصدر أمره بإبعاد أبو عمار من سوريا، واعتبار أبو جهاد شخصا غير مرغوب فيه وتمكين المنشقين من السيطرة على ما تبقى من مؤسسات فتح. وبالفعل غادر أبو عمار دمشق مطرودا وعلى الطائرة المدنية المتوجهة إلى تونس. هذا القرار شكل صدمة كبيرة لأبناء فتح الصامدين في طرابلس وصدمة لأهلنا في الداخل ولأهلنا في المخيمات والشتات. وجاء هذا القرار الطائش ليؤكد كل خطابنا الدعائي ضد المنشقين وأنهم ليسوا إلا معول هدم بيد حافظ الأسد ضد فتح، وأن القتال الذي يجري في البقاع هو هجوم غادر من القوات السورية ضد قواعد الفدائيين. وما الذي يجعل حافظ الأسد يوجه الجيش السوري لمحاربة فتح بدل أن يحرر الجولان أم أن الجولان ليس قطعة من أرض سوريا؟ وهل أصبح الفدائيون اليوم هم الخطر الأكبر على نظام الأسد وليس الإحتلال الإسرائيلي؟ وأليست هذه الحرب التي يشنها الأسد ضد فتح وأبو عمار هي استمرار لحرب إسرائيل وشارون ضد الثورة في عام 1982؟ وحين نقلت الإذاعات قرار طرد أبو عمار وانتشر الخبر الصاعق لم يكن أحد من اللجنة المركزية في طرابلس. كان أبو جهاد في البقاع وكذلك أبو الهول. وخشيت في الواقع من هذا الفراغ القيادي الذي يمكن أن يؤثر على معنويات القوات والمقاتلين. ولهذا لم أنم تلك الليلة أبدا. وبدأت أبحث عن الرتبة العسكرية الأعلى لتحريكها على مستوى القوات والقيام بجولات تفقدية على كافة المواقع. وقد ساعدني في هذه المهمة فؤاد الشوبكي "أبو حازم المالية " وهو رجل عمل لا يكل ولا يمل ويقضي الأن عقوبة لمدة عشرين عاما في سجون الإحتلال بسبب سفينة الأسلحة كارينA . وقال أبو حازم: أمس وصل عبد الرزاق المجايدة وهو أعلى رتبة عسكرية وكانت تربطني باللواء أبو العبد المجايدة علاقة طيبة منذ دورة التعبئة العامة للعاملين في الأجهزة المدنية في بيروت شباط 1982. وقد كلفني بإلقاء كلمة الخريجين بعد انتهاء الدورة. ذهبت إليه مع فؤاد الشوبكي " أبوحازم المالية" وتحدثت معه عن عدم وجود أحد من اللجنة المركزية في طرابلس والشمال بعد قرار حافظ الأسد طرد أبو عمار هذا اليوم، وأبو جهاد مع القوات في البقاع وكذلك أبو الهول مسؤول الأمن. ولهذا فمسؤوليتنا جميعا في هذا الوقت العصيب أن نثبت لحافظ الأسد وأزلامه وعملائه أننا سندافع عن فتح وعن قرارنا الوطني وعن حقنا في الوجود فوق كل أرض عربية لمحاربة إسرائيل. ويخطئ حافظ الأسد إذا اعتقد أن إبعاد أبو عمار سيؤدي إلى انهيار فتح في طرابلس والمخيمات. ومن هنا علينا أن نتحرك ونعزز المعنويات في المخيمات وبين القوات. كما تحدثت مع قائد الكفاح المسلح أبو طعان  لنفس الغرض وقد اعتقلته القوات السورية فيما بعد وقضى في السجون السورية عشرين عاما وكذلك مع الضابط الشجاع بلال أبو زيد قائد الميليشيا ومع العقيد عبد المعطي السبعاوي ومع قائد ال "17" فيصل أبو شرخ، ومع المفوض السياسي مازن عز الدين ومع مسؤول التنظيم أبو رفعت. وأدى أبو العبد المجايدة دوره على أكمل وجه، فقام في اليوم الثاني بجولة على القوات في محيط مخيم البداوي وفي جبل "تربل" وفي مخيم نهر البارد وصولا إلى نقطة الحدود السورية وتدعى"تلال العبدة." وواصل أبو العبد المجايدة مسؤوليته القيادية الأولى لمدة ثمانية أيام حيث وصل أبو جهاد يوم 3/7/1983 إلى طرابلس قادما من البقاع. وحين إغتالت إسرائيل أبو جهاد في تونس في 16/4/1988 بعد عملية "ديمونا" كانت وصيته أن يدفن في دمشق. فخرج في جنازته مليون شخص تكريما من الشعب العربي السوري لقائد فتحاوي شجاع لم يكن يستحق أبدا أن يعتبره حافظ الأسد شخصا غير مرغوب فيه وممنوعا من دخول سوريا. وهدأت أعصابنا جميعا بوصول أبو جهاد الى مخيم البداوي. فهذا القائد المؤسس هو العمل الدؤوب وهو المثابرة المستميتة على البقاء والإستمرار والفعل والعطاء. إنه "دينامو" فتح الذي يعمل ليل نهار. مسكون بفتح ومسكون بفلسطين. وفي الواقع لم أكن محسوبا على أبو جهاد، بل كنت مع ماجد أبو شرار قريبين من أبو صالح.

 وحين حضر أبو جهاد لمركز الإعلام في بنايات أبو النعيم وكان معه المجايدة وفؤاد الشوبكي " أبو حازم المالية"، شكرني أبو جهاد "على الدور الذي يقوم به الإعلام في فضح المؤامرة التي يقودها حافظ الأسد للقضاء على ثورتنا."وقلت لأبو جهاد: أنا مع كل الدعوات الإصلاحية ومع تصليب فتح، ولكن لن يكون هناك إصلاح من خلال نظام حافظ الأسد. وأنا أعرف هذا النظام الذي اعتقلني مرتين في 1973و1978، إنهم لا يعترفون بنا أبدا. وأبو صالح ومن معه ليسوا إلا خونة، ولن يكون مصيرهم غير مزبلة التاريخ.

وتناول أبو جهاد العشاء معنا في الإعلام. وكنت قد هيأت الدور الأرضي ليكون مركزا للتموين وقاعة طعام ومطبخا يعمل "24"ساعة بإشراف المرأة العظيمة من مخيم البداوي "أم محمد"طيب الله ثراها. وقد اكتسبت هذه الخبرة من أبو عمار الذي كان يشرف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة وفي تموين القواعد والمقاتلين ويقول: الجيوش لا تزحف على بطونها. "ولم يقبل يوما أن يتناول طعامه لوحده أو أن يقدم له طعام خاص، وإذا حصل شيء من هذا، يقوم بنفسه بتوزيع هذا الصنف من الطعام على جميع الجالسين على المائدة العامرة دائما والمتاحة لكل من يكون موجودا.

في الواقع تولى أبو جهاد قيادة القوات في طرابلس وفي البقاع من 3 تموز 1983 وحتى 20 أيلول 1983 حين عاد أبو عمار إلى طرابلس عن طريق البحر. وهذا الحدث الدرامي سيأتي الحديث عنه لاحقا أما الآن وطوال شهري تموز وآب 1983 كان أبو جهاد يتولى الإشراف اليومي على التحصين والتدريب والتسليح. وبدأ أبناء فتح يتدفقون على طرابلس بحرا وبرا غير آبهين بالخطر الحقيقي الذي ينتظرهم في طرابلس. وكل شاب من نهر البارد أو البداوي يتقدم للإلتحاق بالقوات، يتم قبوله فورا وإلحاقه بمعسكر التدريب ويخضع لدورات عسكرية مكثفة. ووصل من قوات عين جالوت بمساعدة مصرية، ضباط محترفون ومنهم الضابط في المدفعية "عبد الرحيم."وتلقينا سفينة محملة بالسلاح والذخائر من ألمانيا الديمقراطية أرسلها لنا الرئيس إريك هونيكر. ولم ينس أبو عمار هذا الصديق للشعب الفلسطيني بعد إنهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا حيث سقط النظام الإشتراكي وأعتقل "هونيكر"لبعض الوقت ولكن السلطات الألمانية أفرجت عنه بسبب حالته الصحية. وظل أبو عمار يسأل عنه حتى وجده في جمهورية تشيلي عند إبنته المتزوجة هناك. فأرسل له المساعدة الضرورية لحياته وعلاجه. وأمر أبو عمار بإستمرار هذه المساعدة ألى أن وافت المنية هونيكر في تشيلي.

كما وصلت سفينة أخرى تحمل شحنة من الصواريخ من كوريا الشمالية. أما على الصعيد السياسي، فأبو عمار من تونس حرك الدنيا كلها ضد حافظ الأسد. فالجزائر وقفت علنا ضد الانشقاق، واليمن بشطريه أدان الانشقاق ووقف مع الشرعية. والاتحاد السوفياتي أخذ يبتعد عن الموقف السوري ويدين الإقتتال ويدعو إلى الوحدة. وحده العقيد القذافي وقف مع الأسد وهدد بتدمير طرابلس على رؤوسنا، وهو نفس الموقف الذي أبلغه خدام لقادة فلسطينيين حيث قال: "طرابلس ليست أعز علينا من حماة او من حلب."

وفي معركة الرأي العام، كان المنشقون يرددون أسماء العقداء الذين انضموا للانشقاق للإيحاء بأن الضباط الكبار قد التحقوا بالمنشقين وأن فتح أصبحت بلا ضباط برتبة عقيد. ولهذا قررت وحدي ودون أن أستشير أحدا. وأعلنت من إذاعة مونت كارلو قرارا باسم القيادة بتعيين الضباط الثلاثة التالية أسماؤهم على النحو التالي:

_ العقيد عبود قائدا لقوات الكرامة

_العقيد زياد الأطرش قائدا لقوات القسطل

_ العقيد علاء حسني قائدا لقوات الكرمل

وما دمت قد أعلنت هذا القرار باسم قيادة قوات العاصفة، فقد اعتقد أبو جهاد أنني تلقيت هذا القرار من أبو عمار الموجود في تونس. وقد طلبت من نبيل درويش أن يكرر التصريح والقرار في نشرات الأخبار الرئيسة. وحين حضر أبو جهاد في المساء كان سعيدا بالقرار ولكنه اعتقد أن مصدره أبو عمار. وهو الحريص كل الحرص على عدم الاقتراب من صلاحيات القائد العام أبو عمار وكان إذا أراد القيام بعمل لا يتردد في الإتصال مع أبي عمار وأخذ موافقته. وكانت هذه الثقة المطلقة بين الرجلين هي الأرضية الصلبة التي تقف عليها فتح. وحين قلت لأبو جهاد أنني أتحمل وحدي كامل المسؤولية عن هذا القرار بعد أن وجدت أن هناك ثغرة في موقفنا لدى الرأي العام وهي النقص الواضح في العقداء مقابل ما يردده المنشقون يوميا عن أسماء العقداء الذين يشكلون قيادتهم. وكانت فرحة أبو جهاد لا توصف، وضحك من قلبه. وحين أجرى أبو جهاد الإتصال اليومي مع أبو عمار كان رد أبو عمار على هذا القرار "على بركة الله. " إلا أنه كعادته أخذ يستفسر عن القوات والمواقع والتحصينات ويكرر "خذ بالك يا أبو جهاد" ،"خذ بالك يا خويا." وبهذا القرار الذي اكتسب الشرعية بفرحة أبو جهاد وبركة أبو عمار أغلقت ثغرة كنت أراها في حملتنا الإعلامية لعزل المنشقين وإفقادهم أي تأثير أو أي صوت في أوساط الرأي العام الفلسطيني.

وكان أبو جهاد رغم حملتنا الضارية لفضح الدور السوري الذي يقف وراء الإنشقاق وفضح أهدافه لا يترك فرصة لتوجيه رسالة للمسؤولين السوريين الذين يعرفهم إلا ويغتنمها على أمل التوصل إلى حل وسط مع حافظ الأسد بحيث لا تخسر فتح كل الأرض المحيطة بفلسطين. وسوريا هي القلب بين لبنان والأردن. أرسل أبو جهاد رسائل إلى عبد الحليم خدام وإلى مصطفى طلاس وإلى حكمت الشهابي. أما على الأرض في البقاع والشمال وفي الجبل حيث قواتنا في المتن وبحمدون وعالية، فقد استطاع أبو جهاد أن يكون على اطلاع كامل على تحركات حلف الشيطان الذي يجمع أحمد جبريل والمنشقين والصاعقة والليبيين. ولهذا كانت تحركاتهم مكشوفة. ولولا تدخل الدبابات السورية في البقاع لما استولى المنشقون على أي قاعدة من قواعدنا. وهنا لا بد من الاعتراف أن كافة القواعد الفدائية في البقاع من كل الفصائل كانت تقف مع فتح، على الرغم من صمت  قياداتها في دمشق على جريمة المنشقين، وحين اشتد الضغط العسكري السوري في أواخر آب وأوائل أيلول 1983 على قواعدنا، انشقت الصاعقة وجبهة التحرير الفلسطينية والقيادة العامة وجبهة النضال الشعبي. وأما جيش التحرير فقد رفض العديد من ضباطه وجنوده مهاجمة طرابلس والبارد والبداوي بل قاموا بالالتحاق بفتح بكامل عدتهم وعتادهم وبدباباتهم. وهذه شهادة للتاريخ أن مرافقي الشخصي الضابط جمال مغامس وهو من مخيم نهر البارد والأصل من صفوريا قد قاد دبابة من هذه الدبابات وأوصلها إلى مخيم البداوي. وشكل وصولها فرحة عارمة للمقاتلين ولأهل المخيم. وقد استشهد المقدم جمال مغامس أثناء العدوان الإسرائيلي  على قطاع غزة في يناير 2009 وكان يعمل منذ دخول السلطة في الحرس الخاص بالرئيس أبو عمار. كما استشهد في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المناضل الكبير "رزق أبو الكاس" أحد أبطال أيلول الأسود والذي بعد خروجه من سجن عربي قال لي أبو إياد خذه عندك في الإعلام. فقد تكتشف الأجهزة المعادية هويته الحقيقية إذا عاد للعمل في الأمن الموحد.

في أواخر آب 1983 حضر أبو جهاد إلى مركز الإعلام في بنايات أبو النعيم وقال لي: ما رأيك في زيارة زغرتا والإجتماع مع رئيس الجمهورية السابق سليمان فرنجية؟

وقلت لأبو جهاد: هذا أسوأ رئيس عرفه لبنان، وهو كما تعلم مع حافظ الأسد وضدنا.

قال أبو جهاد: لقد رتبت اللقاء مع جماعة المردة وهي القوة العسكرية لسليمان فرنجية. وفهمت أن سليمان فرنجية قد وافق على استقبال أبو جهاد، بفعل جهود قادة المردة الذين تعرضوا لضربة قاتلة من بشير الجميل الذي هاجم زغرتا وقتل طوني فرنجية وزوجته وأكثر من 400 مقاتل من ميليشيا المردة، وفيما بعد ارتكب مذبحة ضد جماعة كميل شمعون حيث قضى على دوري شمعون وأباد قوته العسكرية ليصبح الحاكم المطلق للمناطق المارونية وينتخب فيما بعد رئيسا للبنان ولو لأيام قليلة حيث تم اغتياله مساء 14/9/1982 بتفجير بيت الكتائب المركزي حيث كان بشير الجميل يعقد اجتماعا لأركان قيادته. ودبر شارون مجزرة صبرا وشاتيلا في 17/9/1982 انتقاما لإغتيال بشير الجميل وقد قام بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا "ايلي حبيقة"وعصاباته إلا انه لقي المصير الذي يستحقه حيث  تم اغتياله بعد سنوات بعبوة ناسفة لاصقة في سيارته قضت عليه ومزقته أشلاء.

هذه هي الحياة في لبنان. وليس عليك أن تتوقع أمنا أو استقرارا في بلد تسكنه الطوائف وتتقاسم السلطة فيه وتجاوره سورية التي تتصرف على أن لبنان جزء من سوريا اقتطعه الإستعمار ليحول جبل لبنان الماروني والدرزي إلى دولة. وهناك فلسطين التي أغتصبت من الحركة الصهيوينة وشعبها لن يهدأ إلى الأبد حتى يستعيدها. وحتمية تاريخية وقومية وجغرافية أن يتحرك هذا الشعب في المحيط العربي المجاور لفلسطين باتفاق أو بدون اتفاق، وفي ظل حرب شاملة أو سلام دائم، هذه هي حقيقة الحياة في الشرق الاوسط.

خرجنا من طرابلس باتجاه زغرتا وهي منطقة جبلية عالية وكان يسير أمامنا دليل حتى لا نقع في كمين، فالمنطقة أرخبيل مسلح وكله عداوات وثارات لا تنتهي. واقتربنا من المنزل وهو عبارة عن بيوت عادية تماما مبنية على مرتفع من الأرض وحولها سور متواضع لا يوحي بالفخامة أو الأبهة. وكان الوقت صيفا والحرارة شديدة. ولهذا كان اجتماعنا مع سليمان فرنجية في "عريشة"أمام المنزل مطلة على منطقة مشجرة تحيط بالمنزل. وخلال دقائق خرج أبو طوني من المنزل وتوجه إلى العريشة حيث رحب بفتور ودون مصافحة وجلس، وقبالته جلس أبو جهاد وأنا إلى جانبه. وبدأ أبو جهاد حديثه بشرح مأساة الشعب الفلسطيني المشرد على أمل أن يستدر عطف أبو طوني بحيث يتوسط مع حافظ الأسد لوقف هذه الحرب علينا. وأننا مستعدون لأية ترتيبات سواء داخل المنظمة أو مع سوريا ولكن، كما ترى يا فخامة الرئيس، فالقضاء علينا إنما يخدم مصلحة إسرائيل. كان الرئيس السابق للبنان سليمان فرنجية يستمع وبيده مسبحة يحركها بعصبية، وكأنه غير مرتاح لما يسمع على الرغم من الطاقة العاطفية الهائلة عند أبو جهاد وهو يشرح مأساة شعبه. صمت أبو جهاد بعد حديث استغرق أكثر من ربع ساعة متواصلة، ورفع سليمان فرنجية نظره ووجه كلامه مباشرة إلى أبو جهاد وقال: ما دام هذا الرجل يقودكم فلا أمل لكم مع سوريا، أبو عمار لا يثق به أحد من الحكام العرب، إنه ينقض كل اتفاق ولا يحترم كلمته، إنه رجل خطير وهو وراء حرب 1967 ووراء حرب 1982 واحتلال بلدنا لبنان، وهو الذي يتحمل مسؤولية الحرب الأهلية التي دمرت هذا البلد، وانا أعرف حافظ الأسد وهو لا يطيق أن يسمع إسم ياسر عرفات. ولقد ذهبت باسم العرب جميعا لدعم حقوقكم في عام 1974 وتعرضت للإهانة من الأميركيين لأنني كنت إلى جانب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في ذلك العام.

وعلى كل حال، أنا أقدرك، وما دام أبو عمار بعيدا في تونس، وأنت تتولى الأمور قد يكون هناك فرصة لتهدئة الوضع مع السوريين. أنا أرى أنه منذ إبعاده يسود الهدوء بينكم كفلسطينيين في البقاع، وإسرائيل بدأت تنسحب من الجبل ومن صيدا ومن صور ومن النبطية. وأنا ضد اتفاقية 17 ايار 1983 التي وقعها أمين الجميل. ولولا السوريون ودعم الروس لهم لظلت لبنان محتلة كفلسطين. أنا كلبناني لا أريد سلاما مع إسرائيل، وقد يكون ممكنا أن يقبلك السوريون ولكنهم لن يقبلوا ياسر عرفات. جربوه مئات المرات وكل مرة يكذب عليهم. أنا سأذهب الى دمشق وأنقل له ما سمعته منك حول استعدادك لتنسيق الأمور كلها معهم، وسوف ينقل لك شباب المردة ما سيقوله الرئيس الأسد.

انتهى اللقاء الذي لم يزد عن أربعين دقيقة وأعتقد أن القهوة لم تمس. فأبو جهاد لا يشرب القهوة  أبدا، وأنا لم أجد من المناسب أن أتصرف وكأن الوضع طبيعي في هذا اللقاء المؤلم مع هذا الرجل الذي يحمل أبو عمار مسؤولية فشله كرئيس للجمهورية. وحين وقف أبو جهاد، نهض سليمان فرنجية متثاقلا وقال له أبو جهاد، شكرا على استقبالك لنا ونأمل بمساعدتك، وكن مطمئنا أن ما طلبه شباب المردة في طريقه إليهم الآن.

وظهر رجاله الذين كانوا يجلسون تحت العريشة واصطحبوا أبو جهاد وأنا إلى السيارات وساروا أمامنا في طرق متعرجة لضمان عودتنا سالمين إلى طرابلس. أما أبو جهاد فقد قال لي ونحن في السيارة: على أمل أن نكسب بعض الوقت، قلت له: ولكن ما تفسيرك لهذا الهدوء بيننا وبينهم لمدة أكثر من أربعين يوما.

قال أبو جهاد: السوريون مشغولون الآن باستعادة مواقعهم في الجبل ويتابعون الانسحاب الإسرائيلي من المناطق الدرزية ومن مدن الجنوب. ولكنهم سيرتدون علينا. فلم يبق لنا قواعد إلا في شمال البقاع وفي الهرمل. وقد أعطيت أمرا بعدم الاشتباك مع القوات السورية. ولكنهم يعملون كالجرافة أمام المنشقين في بر الياس وسعد نايل وتعنايل وتعلبايا. والدبابات السورية، وليس المنشقين، هي التي هاجمت مواقعنا في مجدل عنجر.

عدنا إلى مخيم البداوي، واستمر العمل كالمعتاد على الأرض. ومن جهته أبو عمار في تونس يجمع الشخصيات الفلسطينية وتتحرك الوساطات باتجاه دمشق. واستطاع أبو جهاد أن ينقل الجنود الإسرائيلين الأسرى وعددهم ستة جنود من الجبل وحتى طرابلس. وكان هذا العمل انجازا عظيما لنا، حيث كان هناك خوف أن القوات السورية التي تقيم مئات الحواجز من أجل هذا الغرض قد تأخذهم من شبابنا. وبالطبع إذا كان هناك أسرى إسرائيليون فالصليب الأحمر الدولي يتدخل، وسفراء الدول ووزراء خارجيتها يذهبون ويجيئون من أجل هؤلاء ذوي الدم الأزرق. أما أسرانا عند إسرائيل فلا أحد يكترث لهم غير نقل الرسائل من الأسير إلى ذويه. كان الأسرى الستة ورقة ثمينة بيد أبو عمار. فأرسل وفدا إلى جنيف لإجراء محادثات مع الصليب الأحمر الدولي لهذا الغرض وفي الإتصالات يقول لأبو جهاد: دير بالك على الأمانة التي بطرفك "وهؤلاء غدارون. "

وفي الأيام الأولى من أيلول 1983 وصل فتحي الرازم "سلبد" إلى مخيم البداوي قادما من تونس عن طريق البحر. وحين جاء لزيارتي حرص أن نجلس وحدنا في غرفة مغلقة وقال لي: طلب مني أبو عمار أن أتحدث مع أبو جهاد ومعك، ويجب ألا يعرف أحد بهذا الحديث. وسألني فتحي عن الأوضاع على الأرض وعن علاقتي مع أبو جهاد. فشرحت له بالتفصيل ما تم إنجازه على الأرض في حدود ما لدي من معلومات وأوضحت له أسباب تعيين العقداء الثلاثة وقلت له: أبو جهاد يحاول كسب الوقت ولهذا الغرض يحاول تهدئة الأوضاع مع السوريين وقد زرت مع أبو جهاد سليمان فرنجية لهذا الغرض فعلاقته جيدة مع السوريين. وقلت للشباب أن يجمعوا أعداد الصحيفة اليومية ليأخذها فتحي معه إلى أبو عمار. فقد خشيت أن يشعر أبو عمار أننا نتصرف بمعزل عنه أو أننا قد نسيناه وفي الحقيقة لم يصدر عدد واحد من الصحيفة إلا وصورته في الصفحة الأولى وتحت تصريح له قاله أو قولته إياه. فأبو عمار بالنسبة لفتح هو الروح الخلاقة التي تبعث الحياة في فتح بل وفي شعبنا.

وفاجأني فتحي بهذا السؤال !

_ هل ترى ضرورة أن يحضر أبو عمار إلى طرابلس؟

ولم أتردد في القول: يجب أن يحضر حتى ولو هبط بالمظلة من السماء.

وأعاد فتحي السؤال بطريقة أخرى وقال: هذا رأيك النهائي؟

قلت له: وأنا أعتقد أن أبو عمار لن يقبل لنفسه أن يكون بعيدا عن هذه المعركة، فهو قائد معاركنا كلها، وهذه معركة البقاء ومعركة القرار الوطني المستقل.

الفصل الحادي عشر
الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع




التعليقات