دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السادسة عشر :يا سارية الجبل..إنهم غدارون

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السادسة عشر :يا سارية الجبل..إنهم غدارون
غلاف الكتاب
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل السادس عشر:

يا سارية الجبل...إنهم غدارون


رغم جهود أبو عمار المضنية لإدامة العلاقة مع الأردن كأمر واقع وبعيدا عن الاتفاق السياسي بعد فشله في تمرير اتفاقه مع الملك حسين في 11شباط 1985، إلا أن التدهور في العلاقات الأردنية - الفلسطينية كان، في الواقع، أفضل هديه يقدمها الملك حسين لحافظ الأسد، الذي دفع بكل القوه التي يتحكم فيها في لبنان لمنع عودة فتح والعرفاتيين إلى لبنان. فحرب المخيمات التي بدأتها حركة "أمل" واللواء السادس منذ أيار 1984 وقضت على "حركة المرابطين"، أخذت تتصاعد تدريجياً في بيروت أولا، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب امتدت الحرب إلى المخيمات كلها في بيروت والجنوب، والهدف ما قاله نبيه بري، في ذلك الوقت، بأن الوضع الذي كان سائدا في بيروت قبل عام 1982 لن يعود مره أخرى، أي أن "فتح" لن تعود إلى لبنان. استمرت "حرب المخيمات" أكثر من 3 سنوات، دون أن تحقق هدف حافظ الأسد بطرد عرفات والعرفاتيين  من مخيمات شعبهم في لبنان. صحيح، أنها ألحقت باللاجئين الفلسطينيين في المخيمات قتلا وإرهابا وتدميرا لم يسبق له مثيل، ولا يفوقه في الوحشية إلا المجازر الجماعية في مخيمي صبرا وشاتيلا، التي أدارها شارون ونفذها القائد الكتائبي إيلي حبيقة وعصاباته الفاشية التي تلقت تدريبها في إسرائيل.

 فشلت حرب المخيمات في تحقيق أهداف الأسد، لأن خصمه ياسر عرفات في هذه الحرب، لا يعرف غير لغة التحدي، ولا يقبل من أحد أن يقيد حركته أو أفكاره، لأنه يأمر حتى حرسه الخاص من قوات إل (17) بالتوجه إلى لبنان. وهذا مثال أعلى على استعداده لقبول التحدي والسير فيه إلى نهايته، وبحكم مكانته المركزية والمحورية في الثورة الفلسطينية. فحين يشكل الأسد "الاتحاد الوطني" أو "جبهة الإنقاذ الوطني" يقوم ياسر عرفات بتفريغ هذه القوى من مضمونها المعادي لفتح ولفلسطين. وفي الوقت الذي كان الأسد يخوض حرب طرابلس ضد "فتح"، كان أبو عمار يوجه ضباطه في الجبل لتشكيل غرفه عمليات مشتركه مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية ومع الحزب التقدمي الاشتراكي. ومع رهان الأسد على حركة "أمل" واللواء السادس لتطهير المخيمات من "العرفاتيين " في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، فوجئ الأسد بأن الضباط والمقاتلين في جبهة الإنقاذ يخرجون على قرار قياداتهم ويقومون بقصف مواقع "أمل" في الضاحية الجنوبية بالمدفعية والصواريخ، ويتسلم مقاتلو "فتح" الأسلحة والأوراق والهويات من كل هذه القوى التي يعمل الأسد على تجميعها ضدها، بحيث تصمد المخيمات في وجه "أمل" واللواء السادس وكتيبة الأسد. وفي بداية حرب المخيمات تمكنت قوات"فتح" من إخراج المنشقين  من جميع المخيمات سواء في بيروت أو في الجنوب ويمكن أن نفسر هذه المعجزة  العرفاتية بأن كل الاتهامات التي يروجها الأسد ضد "فتح" وأبو عمار لا تقنع أحدا حتى من أشد المعارضين لسياسة أبو عمار، سواء كانت المعارضة بسبب زيارته لمصر أو تصريحاته حول السلام أو اجتماعاته مع دعاة السلام في إسرائيل أو أنه يدرس مبادرة ريغن ويريد توضيحات أكثر.

 هذه الأوجه المتعددة لسياسة أبو عمار لا تعني أبدا أن "فتح" قد ألقت السلاح، بل لابد من فهم عميق لإستراتيجية أبو عمار السياسية والعسكرية. إنه لا يفهم السياسة بعيدا عن العمل على الأرض لتغيير المعطيات القائمة لتحقيق أهدافه السياسية، وفي أحيان كثيرة كنت مقتنعا أن تصريحاته السياسية حول استعداده للسلام إنما تهدف في الواقع إلى تخفيف الضغط عن وجوده العسكري في لبنان وغير لبنان. وقد أدى صمود أبو عمار ورجاله في وجه حركة "أمل" واللواء السادس والمنشقين على مدى أربع سنوات إلى فضح أهداف حافظ الأسد وتعريتها أمام الرأي الفلسطيني والعربي، وحتى أمام جورج حبش قائد الجبهة الشعبية الذي وجد أخيرا أن عليه مغادرة سوريا في أيار 1985،بعد أن اقتنع بالدليل المادي أن حافظ الأسد ضد الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان، وبعد أن قامت المخابرات السورية بوقف المنشورات  الإعلامية ومجلتي "الهدف" و"الحرية" للجبهتين الشعبية والديمقراطية، وحتى مجلة "إلى الأمام" التي يصدرها أحمد جبريل الأشد عناداً ضد أبو عمار وسياسته.

في أواخر أيلول من عام 1985، وكنت أرافق أبو عمار في سيارته إلى بيت حكم بلعاوي، حيث حول أبو عمار هذا المنزل مقرا آخر لقيادته، وكان رئيس حرسه فتحي الرازم (سلبد) يروي له تفاصيل السفن التي نقلت المقاتلين إلى المدن الساحلية في لبنان، سواء كانت طرابلس أو جونيه  أو صيدا أو صور وحتى بيروت، قال فتحي: إن البحرية والزوارق الإسرائيلية قد صادرت الكثير من السفن وان أكثر من 200 مقاتل قد وقعوا أسرى في يد البحرية الإسرائيلية. أضاف فتحي: إن المخابرات الإسرائيلية (الموساد) أقامت نقطة مراقبه في ميناء (لارنكا) القبرصي لمراقبة حركة السفن والمقاتلين إلى لبنان.

ويرد أبو عمار بغضب: و"أنتو بتتفسحوا في قبرص وإخوانكم بروحوا أسرى !! يروحوا أسرى؟؟.

وفي يوم 25- 9- 1985 كان ميناء لارنكا مسرحا لهجوم الفدائيين على زورق الموساد الإسرائيلي والسيطرة عليه، واستمرت الدراما عدة ساعات .. إلا أن أبو عمار يقول على الهاتف:"ياسارية الجبل، ياسارية الجبل"،وتنتهي العملية بقتل ضباط الموساد الثلاثة، وقيل إن المرأة التي قتلت في العملية، وهي تحمل رتبه عالية في جهاز "الموساد"، هي التي كانت وراء اغتيال أبو حسن سلامه في بيروت في يناير عام 1979.

في الأيام الخمس التالية كان أبو عمار خارج تونس. وقد زار اليمن واجتمع مع الرئيس علي عبدالله صالح، ومن اليمن توجه إلى المغرب واجتمع مع الملك الحسن الثاني. ومساء يوم 30-9- 1985 وصل عائدا إلى تونس. ويوم  28- 9- 85 كان محمود درويش قد وصل من باريس، ويرافقه وفد من المثقفين العرب ومنهم فاروق مردم وصبحي الحديدي وإلياس صنبر، وذلك ضمن  ترتيب سابق للاجتماع مع أبو عمار من خلال تنسيق تولاه حكم بلعاوي.

توجه أبو عمار بعد وصوله إلى منزل حكم بلعاوي  كالعادة حيث تناول العشاء بين العاشرة والحادية عشر ليلا، وبعدها بقليل كان يغادر كالعادة إلى حمام الشط عند منتصف الليل حين تكون الشوارع قد خلت من السيارات. إلا أن الجلسة مع أبو عمار، في تلك الليلة المشهودة، استمرت حتى الثانية صباحا. وحين هم أبو عمار بالمغادرة كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحا، وعندها قلت له: أعتقد أن الوقت متأخر، وتحتاج إلى ساعة حتى يأتيك النوم، وقد أخبرني محمود درويش أن المثقفين العرب القادمين من باريس مضطرون إلى المغادرة غدا، وهم ينتظرون هنا في تونس منذ ثلاثة أيام لمقابلتك، ولهذا أرى أن تقضي الليلة في مكان قريب حتى يمكن أن تقابلهم غدا صباحا قبل مغادرتهم.

ويبدو أن أبو عمار كان مرهقا ومتعبا في هذه الليلة، وهو من النوع الذي ينكر أي شعور بالتعب أو الإرهاق. لكنه استمع إلي وكان حكم بلعاوي من رأيي، فما أقوله يهدف إلى تأمين اللقاء مع المثقفين القادمين من باريس، وقد يكون اللقاء متعذرا إذا ذهب للنوم في حمام الشط خارج تونس العاصمة. وقد وجد أبو عمار أن ما أقوله يحظى بإجماع الحاضرين. وأكملت حديثي بالقول: في العاشرة صباحا يكون محمود درويش والمثقفون العرب في انتظارك، هنا أو في مكتب المنظمة، وهم ينزلون في فندق "الهيلتون"وهو قريب على كل حال من المرسى أو من مكتب المنظمة. وبالفعل وافق أبو عمار وهو في العادة يحرص على عدم القيام بأي نشاط داخل تونس العاصمة حتى لا يثقل على السلطات التونسية.

بالفعل غادر أبو عمار منزل حكم ليقضي الليل في مكتب خاص لأبو جهاد، وهو لا يبعد عن منزلي أكثر من مائتي متر.وبعد مغادرة أبو عمار غادرنا جميعا. وكانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف صباح يوم 1- 10- 1985. وفي التاسعة صباحا كنت أتصل مع محمود درويش ليكون وفد المثقفين جاهزا في العاشرة للتحرك لمقابلة أبوعمار. وقبل العاشرة بدقائق معدودة كان الهاتف عندي في المنزل يرن وكان المتكلم أبو عمار وبادرته بالتحية، وسألني "وين جماعتك، أنا جاهز،" وانتظركم عند حكم في المكتب. في هذه اللحظة سمعت دويا هائلا يشق عنان السماء، وانقطع الاتصال مع أبو عمار على الفور. وتكرر الدوي الهائل مرتين. إنه يأتي من جهة الجنوب. وصعدت إلى سطح المنزل ورأيت الدخان يتصاعد من جهة حمام الشط. وتحركت على الفور إلى حيث الدخان، إنه قصف جوي لحمام الشط. وربما كنت من أول الذين وصلوا إلى حمام الشط. إنه دمار هائل أصاب المباني كلها والجثث ممزقة والأطراف البشرية متناثرة ومكتب القائد العام تحول إلى أنقاض وغرفة العمليات واللاسلكي وقاعة الاجتماعات وسكن حرس الرئيس الخاص ومقر "اللجنة العلمية". وتقاطرت سيارات الإسعاف إلى حمام الشط لتجد قليلا من المصابين وكثيرا من الجثث. وحضر مديرالأمن التونسي زين العابدين بن علي وصدمه الدمار والجثث المتناثرة وقال: هذه وحشية، هذا غير معقول، وفوجئت حين سألني هذا السؤال: ومن يكون وراء هذه الغارة؟؟ وقلت له: هذه إسرائيل، لا أحد غيرها.

ورد علي بقوله: ولكن لا يوجد طيران حربي  يقطع كل هذه المسافة.

وقلت له: هناك الأسطول السادس الأميركي في خدمة إسرائيل.

وتركني مدير الأمن التونسي في ذهولي وصدمتي وأنا أبحث عن أولئك الشباب الذين أعرفهم وأتعامل معهم وأقضي معهم معظم ساعات النهار والليل عندما يداوم أبو عمار في مقر قيادته في حمام الشط، المهندس شكيب مدير مكتب أبو عمار أشلاء ممزقة، والضابط شاستري أشلاء ممزقة، والجرحى القدامى أشلاء ممزقة والمحيط التونسي الذي يقطن فيه أصحاب الأرض من سكان حمام الشط أصابه الدمار والخراب والموت.. إنني أتحرك بين الأنقاض ولا أجد أحياء بل جثث، كل من كان موجودا في حمام الشط في مقر قيادة أبو عمار قتل بالقصف أو تحت الركام.

والذين وصلوا بعدي بوقت قصير كان سؤالهم الأول: وأين أبو عمار؟ وأقول لهم: الحمد لله أبو عمار ليس هنا. لم يكن هنا. يا أخي لا تقلق وصل في ساعة متأخرة من مساء أمس، ولم يقض الليلة هنا، ولو كان هنا، لرأيتم السيارات والحراسات التونسية، ونوري الضابط التونسي يصل ويقول: أبو عمار ليس هنا.  وإنه في مكان آمن الآن، وبصوت مرتفع يقول :لا تقلقوا، أبوعمار نجا بإرادة الله، إنها معجزة ربانية.

فجأة يظهر أبو عمار قادما من مدينة تونس، والكارثة  حلت به شخصيا، فالقتلى رجاله الأقربون، إنهم مساعدوه وأولهم المهندس شكيب مدير مكتبه  والضابط شاستري الذي يعمل في غرفة العمليات المركزية مع اللواء أبوالمعتصم الذي لم يكن قد وصل بعد إلى حمام الشط.

أبو عمار يحمل إسرائيل وأميركا المسؤولية الكاملة عن هذه الغارة الوحشية، وهذا الاعتداء على  سيادة تونس ويقول لا يمكن للطائرات الإسرائيلية أن تصل بدون معرفة الأسطول السادس وأين رادارات حلف شمال أطلسي؟ وأين الأمن القومي العربي؟ وكيف قطعت هذه الطائرات مسافة ألفي كم دون أن تجري ملاحظتها من الأسطول السادس الأميركي؟

قدمت تونس شكوى لمجلس الأمن الدولي وأدان المجلس في قراره رقم 573 هذا العدوان على سيادة تونس وإدارة الرئيس ريغن امتنعت عن التصويت وارتفع عدد الشهداء إلى 74 شهيدا بينهم أكثر من 30 مواطنا تونسيا من سكان ضاحية حمام الشط و 74 جريحا. وأسقطت هذه الغارة الجوية الإسرائيلية غير المسبوقة كل الاتهامات الزائفة التي يروجها نظام الأسد وحركة "أمل" والمنشقون حول فتح  وقائدها ياسر عرفات، ولأن هذه العملية أكدت أن العدو اللدود لإسرائيل هو فتح وأبو عمار، وليس هؤلاء الذين يغلقون الحدود اللبنانية والسورية في وجه الفدائيين.

إلا أن هذه الشهادة، المكتوبة بالدماء دفاعا عن الاستقلالية والوطنية الفلسطينية، قد تعرضت بعد أسبوع واحد لأزمة جديدة، حيث قامت جماعة "أبو العباس" يوم 7- 10- 1985 باختطاف السفينة (إكيلي لاورو) المتوجهة من جنوا في إيطاليا إلى ميناء أشدود في إسرائيل، حيث سيطر الخاطفون على السفينة في البحر الأبيض المتوسط، وتوجهوا  إلى ميناء طرطوس في سوريا وارتكبوا هناك حماقة جنونية بأن القوا براكب مقعد، أميركي الجنسية، في البحر ما أدى إلى وفاته. وقامت الزوارق البحرية السورية بانتشال هذا الأميركي المقعد وسلمته بمراسم جنازة رسميه إلى الأميركيين. وفي الأسكندريه استسلم الخاطفون للسلطات المصرية بحضور أبو العباس.

اعترضت المقاتلات الأمريكية فوق الأراضي الايطالية الطائرة المصرية التي كانت تنقل "أبو العباس" والخاطفين إلى تونس، واعتقل الأمريكيون أبو العباس ومن معه ما أدى إلى احتجاج ايطاليا على هذا المساس بالسيادة الايطالية وأجبر الأمريكيين على تسليم "أبو العباس" والخاطفين إلى السلطات الإيطالية، وبجهود أبو عمار أطلقت إيطاليا "أبو العباس" لأنه عضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة، أما الخاطفون فقد حكم عليهم بالسجن لمدة طويلة في السجون الإيطالية.

 تعرضت المنظمة و"فتح" في تونس لإجراءات عنيفة من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. فقد قرر سحب الجوازات التونسية من جميع الفلسطينيين، سواء كانوا في تونس أو خارجها. وأبلغ هذا القرار للدول الأوروبية وأمريكا، لأن الخاطفين لسفينة "اكيلي لاورو "انطلقوا من تونس بجوازات سفر تونسية. أما القرار الأكثر خطورة، فكان قرار بورقيبة بإخراج كافة العسكريين الفلسطينيين من جميع الأراضي التونسية سواء معسكر "وادي الزرقا" أو مقر القائد العام في حمام الشط. وفي الأول من تشرين الثاني 1985 أرسل عبدو ضيوف، رئيس السنغال، طائرته الخاصة إلى تونس لنقل أبو عمار والوفد المرافق للقيام بزيارة رسمية إلى السنغال، وكان إلى جانب أبو عمار أبو إياد وأبو مازن وأبو الأديب، وكنت إلى جانبهم في هذه الرحلة. وكانت الصورة العامة سوداوية للغاية. فحرب المخيمات التي يشنها الأسد لمنع "فتح" من العودة إلى لبنان لا تتوقف رغم تدخل مجلس الأمن الدولي والدول العربية. والعلاقات مع الأردن وصلت حد القطيعة الكاملة. والعراق غارق في حرب مدمرة مع إيران الخميني. أما زيارة السنغال والاجتماع مع عبدو ضيوف، خريج مدرسة الإدارة العليا في باريس، فكانت  بهدف الاتصال مع الفرنسيين لإزالة التشويه الذي يجري لصورة المنظمة ولوقف حرب المخيمات. وقد وعد الرئيس ببذل كل الجهد الممكن. وفي اليوم الثالث لهذه الزيارة كانت وجهة أبو عمار والوفد إلى الخرطوم عاصمة السودان. وكان حكم جعفر النميري قد سقط، والحكم الفعلي بيد مجموعة من الضباط بقيادة الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، وكان الصادق المهدي  رئيس للوزراء، وهو سليل عائلة عريقة ورجل دولة بكل المقاييس. وكعادته يظل أبو مازن يبحث بهدوء وصمت عن الحلول للأزمات التي نعيشها، وما أكثر المآزق التي تحتاج إلى حلول. نزلنا في القصر الجمهوري وهناك اجتماعات مع سوار الذهب والضباط ، ومع رئيس الوزراء وغيره. ولكن الهدف من وراء هذه الزيارة كان البحث عن طريق للوصول إلى مصر، حيث القيادة المصرية لم تكن مرتاحة لمواقف اللجنة المركزية من زيارة أبو عمار لمصر بعد الخروج من طرابلس. ولم تكن مصر كذلك مرتاحة، بل منزعجة، من قرارات المجلس الوطني في عمان ومن اتفاق عدن – الجزائر الذي أدان زيارة أبو عمار لمصر ودعا مقاطعة مصر إلى أن تتراجع عن كامب ديفيد. أبو مازن، في هذا القصر الجمهوري في الخرطوم، بدا متضايقا، فهو قليل الاهتمام بالشكليات والاستقبالات، ويحرص على البحث عن الجدوى وعن المضمون في كل تحرك أو عمل. وكنا نجلس معا حين اقترح علي أن اقنع أبو عمار بأن يذهب هو وأنا إلى القاهرة لترطيب الأجواء وترتيب زيارة أبو عمار للقاهرة، ولكنه أضاف: أن أبو إياد سيعتبر مغادرتنا مؤامرة عليه ويبقى وحده في الخرطوم مع أبو عمار وأبو الأديب. ودون أن أخبر أبو إياد بشيء، تحدثت مع أبو عمار الذي وكأنه كان ينتظر هذا الاقتراح بأن يذهب أبو مازن وأنا معه إلى القاهرة لترطيب الأجواء والاتفاق على زيارة أبو عمار، وأمر أبو عمار بتجهيز طائرته الخاصة. وفي اليوم الثاني  كنا في طريقنا إلى القاهرة رغم ما قاله أبو إياد بأن هذا هروب وخيانة لوحدة الوفد المرافق لأبو عمار. وصلنا القاهرة ونزلنا في "فندق شيراتون" القريب من المطار، وبدأ أبو مازن اتصالاته، وساعده في ذلك سعيد كمال ممثل المنظمة في القاهرة. وكان اللقاء الأول مع د. أسامة الباز، وكيل الخارجية والمستشار السياسي للرئيس مبارك، وهو دبلوماسي متمكن ويمتاز بالطلاقة والوضوح في عرضه للأوضاع السياسية الدولية والمحلية. كان صاحب الاقتراح، الذي كانت له أصداء دولية فيما بعد، والاقتراح الذي قدمه لأبو مازن، الذي وافق عليه، أن يصدر عن لقاء أبو عمار مع الرئيس مبارك بيانا سياسيا تحت هذا العنوان "الإعلان ضد الإرهاب". وبالطبع كان حوار أبو مازن مع أسامة الباز، يتركز حول ضرورة التمييز بين الإرهاب والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا المحتلة باعتبارها حق مشروع للشعب الفلسطيني كفلته المواثيق الدولية.

 رتب د. أسامة الباز اللقاء مع وزير الخارجية عصمت عبد المجيد في وزارة الخارجية المصرية. والدكتور عصمت عبد المجيد هادئ ووقور، والاجتماع معه كان استعراضا موضوعيا دون البحث في العلاقات الثنائية سوى بالتأكيد على أهميتها. أما اقتراحات الحلول فكانت من بنات أفكار أسامة الباز الذي يعمل مستشارا سياسيا للرئيس مبارك، بمعنى أنه على صلة يومية مع الرئيس. وفي اليوم الثاني للزيارة كان أسامة الباز قد رتب برنامج زيارة أبو عمار إلى القاهرة. أما أبو إياد وأبو الأديب فقد توجها إلى الكويت.

وصل أبو عمار إلى القاهرة يوم 6 تشرين الثاني  1985، ونزل في "قصر العروبة" المخصص لرؤساء الدول، وهو قريب جدا من رئاسة الجمهورية. وكان المهم عند أبو عمار أن يكسر طوق الحصار عليه، وهذه المرة من السيدة تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا التي رفضت لقاء عضوي اللجنة التنفيذية: المطران إيليا خوري ومحمد ملحم في إطار الوفد المشترك الأردني - الفلسطيني بعد عمليتي "لارنكا"و"اكيلي لاورو"وتجاهلت الغارة الإسرائيلية على حمام الشط لقتل أبو عمار. ويجب ألا ننسى أن أمريكا اعتبرت الغارة دفاعا عن النفس. وبذا ثبتت صحة ما أعلنه أبو عمار من أن أمريكا سلمت صور الأقمار الصناعية لإسرائيل لضرب حمام الشط. وقد سلمها الموظف في وزارة الدفاع الجاسوس "جوناثان بولارد "الذي يقضي  عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة، وكل رئيس وزراء في إسرائيل يطالب بإطلاق سراحه، علما أنه جاسوس  يتحمل مسؤولية مقتل 74 فلسطينيا وتونسيا في الغارة الإسرائيلية على حمام الشط في أول تشرين الثاني  1985 وجرح عدد مشابه لهم من المناضلين الفلسطينيين.

أما الإعلان ضد "الإرهاب"، الذي صدر بعد المحادثات والغداء الرسمي في القصر الجمهوري، فهو في الحقيقة من إبداع د. أسامة الباز. أما مساهمتي فكانت متواضعة. فالدكتور أسامة أسرع في الكتابة من الآلة الطابعة. ويبدو أنه قد أعد الإعلان وأطلع الرئيس مبارك عليه. وكذلك أبو مازن، وتضمن البيان التمييز بين المقاومة الشرعية ضد الاحتلال في الأرض المحتلة و"الإرهاب"، ويدين "إرهاب الدولة المنظم" ويدعم الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، وهي حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وقد أعادت هذه الزيارة والإعلان ضد الإرهاب الحرارة إلى العلاقات المصرية – الفلسطينية. فمصر دولة عريقة ولا تخطئ في الأساسيات، وصحيح أن ظروفها صعبة إلا أنها تظل دولة لها سياسة ثابتة تجاه فلسطين، تقوم على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب عام 67 ، وأن تقوم دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس في هذه الأراضي، وهي قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشريف.

في معركة البقاء كانت مصر دائما إلى جانب أبو عمار. وهذا "الإعلان ضد الإرهاب " هو تجسيد لرفض مصر لكل المحاولات المستميتة سياسيا وعسكريا للقضاء على ثورة الشعب الفلسطيني بقيادة أبو عمار سواء من الأشقاء أو من الأعداء.





الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع