أحمد عبد الرحمن يروي ذكريات وصوله لغزة برفقة الرئيس أبو مازن

أحمد عبد الرحمن يروي ذكريات وصوله لغزة برفقة الرئيس أبو مازن
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..


الفصل الرابع والعشرون:

اليوم الأخير من الماضي

 

ماذا يبقى في المكان بعد أن يغادره أبو عمار؟

في الواقع، بعد مغادرته في تموز 1994 إلى غزة انتفت مبررات البقاء في تونس. فالقلب الذي يحرك كل هذا الجسم المترامي في المحيط العربي أقدم على أخطر مغامرة في حياته.  والقطار انطلق من المحطة الأخيرة إلى المجهول. وما أقسى أن يجد المرء نفسه خارج الحدث والتاريخ.  الحدث ومركز الحدث في فلسطين، ولكن ماذا يفعل إنسان قضى حياته في مركز الحدث والفعل، وقد أصبح الآن منسيا وعلى الهامش.؟

الجيران من أهل تونس رأوا في وصول أبو عمار إلى غزة تحريرا لفلسطين. والغريب أن جارهم الذي كان أبو عمار يتردد على منزله، لم يذهب إلى وطنه المحرر. إنه على عادته يغادر في الصباح إلى مكتب الإعلام في "المنزه" المهجور بعد أن عاد شباب الإعلام إلى وطنهم المحرر. وما تبقى مناضلون عراقيون وسوريون وأردنيون تقطعت بهم السبل، وليس لهم رقم وطني، وبعضهم تردد في إدراج اسمه في القوائم المرسلة إلى إسرائيل للحصول على الرقم الوطني الذي يسمح بالدخول إلى غزة. ويمضي النهار في الصمت والترقب. وحين يقع لقاء مع من نسيهم قطار التاريخ في محطة تونس فلا شيء غير الكثير من السلبيات يصل من غزة.   فهل أصبح فشل دورية أبو عمار المستحيلة هو العزاء الذي نتبادله؟ ولكننا حيارى بعد أن زالت أوهام كثيرة من رؤوسنا ومن عواطفنا حول تحرير فلسطين من خارجها.  وجدنا أنفسنا في شمال إفريقيا بعيدا عن فلسطين. فلا مكان للبندقية الفلسطينية في كل دول المشرق العربي.  وقبل أبو عمار فعلها عبد القادر الحسيني الذي غادر دمشق غاضبا وتوجه إلى القسطل وخاض المعركة وسقط شهيدا.  وأبو عمار كثيرا ما ردد في حياته لا أريد أن أكرر مصير الحاج أمين الحسيني وأموت في المنفى.  وقد روى أنه التحق وعمره عشرون سنة بالجهاد المقدس الذي يقوده عبد القادر الحسيني.  وهو الآن يتقدم الصفوف ويقود دورية مقاتلة تجتاز خطوط العدو.  وبدت حالتنا في تونس كما لو أننا قلنا لقائدنا "اذهب أنت وربك وقاتلا إنا هنا قاعدون ". ما قيمة الخلاف السياسي وأبو عمار يرفع علم فلسطين فوق غزة؟ أنت في تونس لأنك مختلف سياسيا. هذا موقف يحتمل الكثير من السخرية. والذين يجرؤون على النقد الجارح لم يعد يمكنك احتمالهم. وحين علمت أن أبو مازن قرر أن يدخل إلى فلسطين الجديدة ليحصل على هويتها، قلت في نفسي. هذه فرصتك التي يجب أن لا تضيعها. تذهب معه وتحصل بدورك على هويتك وتؤكد انتماءك وترى الوطن الذي تفتقده وتحبه و"هو فيك أكثر مما تحبه وأنت فيه" كما قال محمود درويش.

وافق أبو مازن، وغادرنا تونس يوم الخميس 8 أيلول 1994، وحين حلقت الطائرة في أجواء تونس، سمعني أبو مازن وأنا اردد أكثر من مرة: يا الله يا الله، وهذا الدعاء أثار انتباهه، فقلت له أنني أردد هذه العبارة كلما كنت على مفترق طرق في حياتي، ورويت له عبارة بوريس يلتسين الشهيرة "هذا اليوم هو اليوم الأخير من الماضي ".

في مطار عمان، كان الفرق واضحا بين قصر الهاشمية وبين المخابرات، وقال أبو شامخ، سفيرنا في الأردن: مجرد سوء تفاهم بسيط وانتهى، وجاء ضابط كبير صافح أبو مازن واعتذر عن التأخير.

صباح الجمعة 9/9/1994 توجهنا إلى جسر العودة، وكان هناك جنود إسرائيليون مدججون بالسلاح، وعيونهم ترمقنا وكأننا من قارة أخرى وليس المولودون في هذه الأرض.  هؤلاء الطارئون لا يعرفون أننا "ملح الأرض ".هناك استمارات يجب تعبئتها تتضمن الاسم والزوجة والأولاد وصورا شخصية. ودخل الغرفة موظف إسرائيلي بملابس مدنية وقال إنه من الجمارك.  وبلغة عربية طلب التوقيع على استمارة بأننا لا نحمل ممنوعات. وكبتنا غيظنا. فنحن ندخل أرضا لا تبدو أرضنا وحدودا لا تبدو حدودنا. وهؤلاء محتلون وليسوا فلسطينيين، حتى الحصان الخشبي الذي أردناه إن يستر عرينا تحطم الآن.

ولم يكتف "أولاد العم" بهذه الإهانات المتعمدة. بل دخل الغرفة فجأة ضابط إسرائيلي وطلب أن يجلس مع أبو مازن وحده في الغرفة المجاورة. وبعد جدل هادئ بين الضابط ومستقبلينا كان المخرج أن أقوم بالمهمة التي كان يستحيل على أبو مازن أن يقوم بها. ومن الواضح أن ضابط الشين بيت كان يسجل كل كلمة بالصوت والصورة، وكان الهدف ليس المعلومات بل إفهامنا أننا ندخل دولة إسرائيل، وأن كل الترتيبات على المعبر لا علاقة للفلسطينيين بها.

دخلنا مدينتنا التاريخية أريحا، التي أثبتت الدراسات التاريخية أن يوشع بن نون لم يدخلها كما تروي الأساطير. ورغم المرارة زرنا مركز الأمن. ورحب بنا كثيرون. وكنا ننتظر وصول تصريح المرور إلى غزة. ونقلنا المحامي جميل الطريفي في سيارته. إلا أن الحاجز الإسرائيلي بعد مخيم عقبة جبر أوقف السيارات بالسلاح. وصورت عدسات التلفزيون ما يجري لموكب الرجل الذي وقع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض، وهو "أبو مازن"، وكان وراء كل هذه الإجراءات تبديد آمالنا وأوهامنا. أرادوا أن يفهمونا أنهم هنا ونحن ندخل تحت سيطرتهم.

تركنا الأغوار وراءنا ونحن نتنفس الصعداء وبعد أن تجاوزنا منطقة "الخان الأحمر" أطلت رؤوس الجبال وقد اكتست بالبيوت المتراصة، ولأول مرة في حياتي أرى المستوطنات. إنها مستوطنة "معاليه ادوميم،"مدينة ممتدة على رؤوس الجبال حتى ضواحي العيزرية. إنها مدينة تبتلع أرضنا، وتذكرت ما قاله حيدر عبد الشافي لا فائدة من أية مفاوضات إذا لم تشمل وقف الاستيطان، وأي اتفاق لا يقوم على وقف الاستيطان لا قيمة له. أمعنت النظر في هذه الأبنية وقلت في نفسي _ من يبني هذا البناء الممتد لا يفكر في الرحيل أبدا. هذه مدن وليست معسكرات. إنهم لا يكتفون بإسرائيل الأولى بل يقيمون إسرائيل الثانية. الاستيطان غير وجه الأرض. وأينما نظرت تجد لوحة باللغة العبرية في قلب ما تبقى من فلسطين. وتجاوزتنا سيارة عسكرية إسرائيلية، ووراءنا باص معتم ثم سيارة عسكرية. وعرفت أن الباص يحمل معتقلين فلسطينيين لزجهم في سجن "المسكوبية "في القدس.

إنه وطني الذي لا أعرفه. أعرف الجغرافيا القديمة والتاريخ القديم. أما هذا الحاضر فقد انقطعت عنه منذ زمن طويل. ولكن لا خلاص لك، وعليك أن تواجه قدرك الذي لا مهرب منه. وماذا يعني أن تكون في غير هذا المكان غير أنك تبحث عن خلاصك الشخصي؟ وثبت لديك أن البقاء في الخارج ليس خلاصا. ولهذا أنت هنا تبحث عن خلاصك. لم يبق من وطنك غير المقابر والأشجار المهجورة. بيت نوبا ويالو وعمواس أزيلت من الوجود. وهناك دبابة أردنية ترمز إلى الهزيمة. وما هذه المستوطنة إنها مدينة مودعين التي تقفز بيوتها فوق حدود عام 67. وعلى الخريطة التي أنجزها فيصل الحسيني من مركز الدراسات كانت هنا بير معين وبيت شنا وسليت وعنابة والقباب، والسهل الساحلي الذي تذكره في طفولتك حين رأيت الناس يهيمون على وجوههم ويتسلقون الجبال نحو الشرق. هذه كانت الهجرة القسرية من اللد والرملة تحت تهديد السلاح. أما مطار اللد فقد تغير وأصبح اسمه مطار ديفيد بن غوريون. ويومها سألني ماهر الشلبي مراسل "MBC"عن هذه الكآبة التي تملأ وجهي وعينيًّ فقلت له: إنني أبحث عن وطني في وطني فلا أجده، وتمنى عليّ ماهر الشلبي أن يشطب الجملة الأخيرة "فلا أجده."

في غزة التي وصلناها قبل أن تغيب الشمس كانت المدينة رمادية. إنها بلون الحجارة الملقاة في الشارع.  باصات محترقة. شوارع ممزقة. أشجار محروقة، مخيمات طينية كالحة حيثما ذهبت، وبحرنا الوحيد بلا شواطئ، إنه مهجور. غزة سجن ومعتقل وليست مدينة تنام على شاطئ البحر كبقية مدن العالم. إن غزة صورة ناطقة لفلسطين الحقيقية مسجونة ومقاتلة. الناس يملأون الشوارع. إنها تضيق بأهلها، وحيث هناك علم يرتفع يكون مقر أبو عمار في غزة، إنه المنتدى الذي خلفه الضباط المصريون وراءهم.  وهذا المنتدى أصبح الآن محط الأنظار ولم يعد مهجورا. إنه مقر أبو عمار الذي منذ وصوله في تموز يستقبل المهنئين من كل أنحاء فلسطين.  وربما من سوء الطالع أن يكون لقاؤنا مع أبو عمار في المنتدى مساء الأحد 11 أيلول 1994. في ظل هذه الأجواء الكرنفالية. هناك أكثر من أربعمائة شخص ينتظرون دورهم للسلام على أبو عمار. رحب حرس أبو عمار أشد الترحيب بأبي مازن، وفتحي رئيس الحرس ضابط كبير وسياسي عميق الخبرة، ويدرك أهمية عودة أبو مازن إلى غزة، وحضوره في هذا الوقت للسلام على أبو عمار، ولهذا كان من الطبيعي أن ندخل مباشرة إلى مكتب أبو عمار. ولم يكن وحده، بل هناك أكثر من عشرة رجال ومعهم شاعر شعبي لم يتوقف عن الإلقاء لحظة دخولنا مع أن أبو عمار نهض وعانق أبو مازن بحرارة وأنا كذلك. وجلسنا بجواره مباشرة إلا أن الشاعر الشعبي ارتفع صوته أكثر فأكثر، وتبين من لهجة أهازيجه أنه من أهل الجليل، وربما من حركة "أبناء البلد".  وخلال خمس دقائق كان قد حرر كل فلسطين وسلمها لأبو عمار حيفا ويافا وعكا والناصرة واللد والرملة وعسقلان وأسدود وبيسان والخضيرة وبئر السبع. هذه المدن كلها محررة من "شذاذ الآفاق" وأبو عمار كان يسمع دون تعليق، أما أبو مازن فهمس في أذني: لسه ما قعدناش في البلد.

وقلت له: والشعراء يتبعهم الغاوون الم تر أنهم في كل واد يهيمون.

ورد أبو مازن: المشكلة أن هذا كله سيصل إلى الإسرائيليين.

ولم يتوقف الشاعر ولم تنته القصيدة، ويبدو أن لديه أبياتا متعددة لكل حرف من أحرف الهجاء. في هذه اللحظة لم يطق أبو مازن صبرا فقال: يا أخي يكفي هذا، خلينا نبني دولتنا ونخلص شعبنا من نير الاحتلال والاستيطان وشكرا على عواطفك الجياشة ولكن ليس هذا مكانها. كل حركة نقوم بها مراقبة، وكل كلمة نقولها نحاسب عليها.

توقف الشاعر ومسح عرقه المتصبب. أما أبو عمار فلم يكن مرتاحا لمقاطعة أبي مازن للشاعر وقال للشاعر: بارك الله فيك. خلصت وإلا باقي شيء. إذا باقي شيء اتوكل على الله وسمعنا شعرك الجميل. وبالفعل، في جو من البرودة والتوتر ختم الشاعر قصيدته العصماء بالترحيب بأبي عمار في عروس البحر يافا في القريب العاجل. خرج وفد الجليل والمثلث وبقينا وحدنا إلا أن مواعيد أبو عمار متواصلة، ودخل قاضي القضاة "قصي العبادلة" وعندها أردت التخفيف عن أبو مازن الذي لمست أنه في قمة التوتر. ولهذا قلت لأبو عمار: أخي أبو عمار تسمية قاضي القضاة عفا عليها الزمن، والتسمية القانونية الحديثة رئيس المحكمة العليا أو رئيس مجلس القضاء الأعلى.  وكنت أدرك مقدما أن أبو عمار سيرد علي ولهذا قال: شكرا يا خويا، انتو جايين تعطوني دروس. الله يفتح عليك، أنا مش قادر أحكّ راسي.

وعندها وقف أبو مازن، وقلنا لأبو عمار بصوت واحد: يعطيك العافية.  قال أبو عمار : الله يوفقكم. ويفضل أبو مازن الصمت، ولا حيلة لديه لإقناع أبو عمار بتغيير طرقه وأساليبه التي لا يراها أبو مازن صالحة للوضع الجديد للثورة التي تقيم سلطة في فم الوحش، ونجاحها أو فشلها يعتمد على الأداء، وعلى البناء، وعلى ضبط النفس وضبط العواطف.  فليس هذا زمن العواطف والشعارات، كما قال لي أبو مازن ونحن نغادر المنتدى إلى فندق فلسطين. وهذا الكلام سمعته من أبو مازن في الشهرين الماضيين حين بقينا في تونس بعد مغادرة أبو عمار إلى غزة في تموز. أما الكثيرون الذي زاروا أبو مازن للسلام عليه في "فندق فلسطين، " فكانوا يلحون عليه بالبقاء في غزة وليس المغادرة إلى تونس بعد الحصول على الرقم الوطني والهوية التي تخولنا البقاء أو العودة متى نشاء. وبالفعل، في صباح اليوم التالي الاثنين 12 أيلول 1994 أحضر العقيد زياد الأطرش وهو ضابط الارتباط الفلسطيني الهويتين لأبو مازن ولي. وحين أخذت أقرأ المعلومات المكتوبة، وجدت أنهم كتبوا أنني من مواليد لبنان وليس القدس كما كتبت في الاستمارة ونحن نجتاز جسر العودة، ولا أدري ماذا كتبوا في هوية أبو مازن وهو من مواليد صفد.  وفهمت من ضابط الارتباط أنه ممنوع منعا باتا إصدار هوية لأي إنسان من مواليد القدس، وما دامت قضية القدس متروكة لمفاوضات الوضع النهائي فلا يمكنني تغيير مكان الميلاد من لبنان إلى القدس إلا بعد استعادة القدس الشرقية المحتلة عام 1967.

في هذا اليوم غادرنا غزة ودخلنا فلسطين التاريخية التي أصبح اسمها الآن "إسرائيل" فقد رغب أبو مازن في زيارة مدينته صفد.  إنها مسقط رأسه ولأسرته بيت فيها، وقال له أهلنا الصامدون في الجليل بأن البيت لا يزال موجودا.

وفي الطريق إلى صفد علمنا أن المستوطنين قد أغلقوا الطريق بالحجارة لمنع أبو مازن من الوصول إلى المدينة. وقيل لنا أنهم لم يميزوا بين أبو مازن "محمود عباس"ا لذي وقع اتفاق أوسلو وبين أبو العباس "محمد عباس" المسئول عن عملية فدائية وقعت في شمال فلسطين، وبالفعل، عدنا أدراجنا إلى رام الله، حيث جاء أخي الكبير "خضر الشيخ "ودعانا لزيارة قريتنا (بيت سوريك)، ولم يكن يخطر ببالي أبدا أن العائلة والأهل يعدون استقبالا لنا من مدخل قرية ( بدو ) وحتى المنزل في بيت سوريك. شعرت فعلا بالخجل. وبعد تناول طعام الغداء الذي حضره الكثيرون من أهل قريتنا والقرى المجاورة صعدنا إلى سطح المنزل لنرى الأرض الطيبة التي وعدت أبو مازن بقطعة منها ليبني منزلا له ولأسرته. وكانت الصدمة الكبرى حين صعدنا الدرجات المؤدية إلى سطح المنزل فإذا الأرض التي أحفظ صورتها من قديم الزمان لم تعد موجودة.  معسكر الجيش الانكليزي القديم "الرادار" أصبح مستوطنة تتمدد كل يوم وتبتلع أرضا جديدة.  وقال لي "أبو جدوع" أخي خضر لم يبق لنا إلا الأرض المزروعة، ولا ندخلها إلا بعد الحصول على تصريح من الحكم العسكري.  والمهزلة الكبرى أن الاستيطان مؤجل إلى مفاوضات الوضع النهائي. وإلى أن يأتي زمن بحث قضايا الوضع النهائي تكون الأرض قد ضاعت وأقاموا دولة المستوطنين في الضفة الغربية.

ولم أعلق بشيء بل فضلت الصمت. وغادر أبو مازن، وأنا ذهبت إلى مقبرة القرية لأقرأ الفاتحة على روح أبي الذي استشهد في عام 48 في هذه القرية بالذات بعد معركة القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني. وكان هناك قبر عليه ورد وأغصان زيتون، فذهبت وقرأت الفاتحة على روح الشهيد، إنه أحد شهداء الانتفاضة. وعند مغادرتي سلمني أحد الأقارب أسماء 12 شابا من أبناء القرية في سجون إسرائيل وهو يأمل أن أعمل على إطلاق سراحهم، ومررت في طريق العودة بجانب قرية (النبي صمويل). فإذا بالمستوطنين قد اخترقوها بالوحدات الاستيطانية، وإلى الجنوب قرية (بيت اكسا) المحاطة بالمستوطنات من كل جانب، وإلى الشمال من قرية النبي صمويل يمتد سهل قرية (الجيب) الذي تحول بفعل الاحتلال إلى مستوطنة "جفعات زئيف" التي يسكنها آلاف المستوطنين.

وقال لي أحد أقاربي، وأنا أغادر قريتي بيت سوريك : لو أنكم تأخرتم بعد الغداء فإن الحاكم العسكري الإسرائيلي كان سيأتي للسلام عليكم.

لماذا السلام علينا؟ قال قريبي: إنهم يتعمدون ذلك لإظهاركم أمام الجمهور بأنكم متفاهمون معهم.

قلت لقريبي: لست متفاهما مع أحد على أي شيء.  وأضاف قريبي اذهب إلى القدس لترى العجب.  هؤلاء الإسرائيليون يخدعونكم، ولا تصدق أنهم يريدون السلام إنهم يخدعونكم.  تعطلت الذاكرة ولم يعد لدي كلمات أمام ما رأيت وما سمعت ولم أعد أصدق أن ما يجري على الأرض سيؤدي إلى السلام بل إنه أقصر الطرق إلى انفجار العنف.  فالصراع يدور حول الأرض والوجود، وأبو عمار أفضل من يفهم هذا الصراع. وأما لماذا ألقى بنفسه في هذا الأتون الملتهب فلا أجد له تفسيرا غير أن الأرض العربية قد ضاقت ذرعا به وبثورته وهو الآن يقترب من السبعين وزمان الشباب ولّى، ويخشى أن تخونه قوته ذات يوم، ويلقى المصير الذي لقيه الحاج أمين الحسيني، وكان قد زاره في عام 1974، وبعد وفاته طلب مني أن أضع صورته على كامل صفحة غلاف "فلسطين الثورة".

 وبموافقته على اتفاق أوسلو بكل هذه الشروط المذلة والمجحفة، فإنه يصنع قدره بيده، ليقطع الطريق على المصير المظلم الذي كان ينتظره، ولا يعير أية أهمية للنقد الجارح لوصوله إلى غزة وعلم إسرائيل يرتفع فوق معبر رفح وليس علم فلسطين. ومن السذاجة أن يقال إن أبو عمار وقع ضحية أوهام المحيطين به ذلك أن أبو عمار طوال هذه السنوات كان صاحب القرار وله الكلمة الأخيرة.  وهو في اجتماعات القيادة أو الأطر في "فتح" والمنظمة يستميت في الدفاع عن رأيه.  وبسبب نشاطه العالي وسيطرته التي تكاد تكون مطلقة على المفاصل ومراكز القوة في الجسم الفلسطيني الذي يقوده، فإنه من غير المنطق، والمجافي للواقع، أن يقول المعارضون لأوسلو إن المحيطين بأبي عمار قد ضللوه، وبالتالي أوقعوه في هذا الكمين الإسرائيلي الذي قد لاينجو منه هذه المرة.

عدت خائبا ومكسور القلب إلى رام الله.  وتوجهنا أبو مازن وأنا إلى غزة لنغادر في اليوم الثاني إلى القاهرة. وقد توصلت إلى قناعة بأن سلطة أوسلو لا تختلف في شيء عن "خزان "غسان كنفاني. ولهذا افتقدت فرحة العائدين.  فما رأيته نقيض ما حلمت به. وصلنا مطار العريش في الصباح الباكر. ووصل أبو عمار قادما من أوسلو. وكان سافر إلى هناك للاحتفال مع شمعون بيريز بمرور عام على توقيع الاتفاق.

خرجنا مع المحافظ والضباط المصريين لاستقباله لدى هبوط طائرته، وصافحناه ومشينا معا  حتى الصالون المعد لكبار الزوار. وكان من غير اللائق أن أقول لأبو عمار أنني ذاهب إلى غير رجعة، بل قلت له أمام إصراره على بقائي بأنني عائد خلال أسبوع بعد إنهاء ترتيبات تتعلق بمركز الإعلام والأسرة ومدارس الأولاد.  أما حديثه مع أبو مازن فكان أشبه بالكلمات المتقاطعة، وكل منهما حريص على مشاعر الآخر. وتختفي بينهما لغة الإلحاح التي يستخدمها أبو عمار وهو يتحدث معي. وقد غادرنا أبو عمار إلى غزة مرورا برفح وهو مقتنع بأن أيا منا لن يعود بعد أسبوع.

الفصل الثالث والعشرون


الفصل الثاني والعشرون


الفصل العشرون


الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع