دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السابعة :مستقبل الأراضي الفلسطينية بين المستحيل والممكن

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السابعة :مستقبل الأراضي الفلسطينية بين المستحيل والممكن
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل السابع:
مستقبل الأراضي الفلسطينية
بين المستحيل والممكن 


في العدد الأول من مجلة فلسطين الثورة التي تسلمت رئاسة تحريرها في 15 كانون الثاني 1974، كتبت المقال الافتتاحي الذي أشعل الحريق في أوساط فتح وجاء في المقال وبالحرف الواحد:

"إن الثورة الفلسطينية بقيادة فتح ترفض عودة أي أرض فلسطينية يجري انتزاعها من الاحتلال إلى السلطة الأردنية وكل رقعة من تراب الوطن يتم انتزاعها وتحريرها ودحر الاحتلال عنها يمارس عليها الشعب الفلسطيني كامل حقوق سيادته الوطنية ويشيد فوق هذه الأراضي وجوده الوطني المستقل. فهذا الوجود الوطني المستقل إنما يعزز النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي في بناء دولة فلسطين الديمقراطية وسوف يستمر النضال حتى يتمكن هذا الشعب من تقرير مصيره فوق كامل ترابه الوطني. والثورة الفلسطينية ترفض فصل القوات على الجبهة الأردنية وتعتبره تسلما وتسليما لأرضنا الفلسطينية بين العدو الصهيوني والنظام الأردني تحت رعاية الامبريالية الأمريكية، وهدفه إعادة اقتسام الأراضي الفلسطينية كما حدث في عام 1948. وفي الوقت نفسه صرح أبو إياد بأن الأرض الفلسطينية التي تنالها التسوية يجب أن يقرر فيها شعبنا مصيره بيده دون أية وصاية، ويجب ألا تعود للملك حسين مهما كلف الأمر.

أما أبو صالح فقال: "إن المنظمة ستقيم سلطة وطنية على كل شبر من الأرض تتم استعادته" .

 وحسم أبو عمار الغموض حين قال: فلسطين للفلسطينيين وأي شبر نحرره أو نسترده نقيم عليه ثورتنا وقاعدتنا الآمنة لمواصلة كفاحنا الوطني لتحرير فلسطين كل فلسطين التاريخية."

وهكذا وضع أبو عمار "المرحلية " في سياق تحقيق التحرير الكامل والشامل لفلسطين.

وكما يقال ستظل فلسطين ضحية نفسها وضحية عربها إلى يوم الدين. ولم تمض سوى عدة أشهر حتى ولدت جبهة الرفض  للحلول الاستسلامية. ومدت قيادة البعث في العراق يد العون لهذه الجبهة. وكان البعث السوري في حيرة سياسية بين الرفض والقبول، ولكنه لم يكن لدى الأمريكيين في نفس أهمية مصر في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين. ولعب كيسنجر لعبته لفصل القوات بين مصر وإسرائيل في الكيلو (101) واتفاقية سيناء الثانية. وبدا واضحا أن كيسنجر سيطرد السوفيت من مصر. فمصر هي السمكة الكبيرة. وقد شكلت تحدياً للسيطرة والنفوذ الأمريكي طوال حكم عبد الناصر. فأسقطت مشروع أيزنهاور لملأ الفراغ في الشرق الأوسط بعد العدوان الثلاثي في عام 1956 وأسقطت حلف بغداد. وكانت قيادة عبد الناصر وراء مسلسل الانقلابات والتدخلات في الشرق الأوسط  والقارة الإفريقية. أما سياسة الأسد التي تقوم على الحذر والترقب فكانت تسير خطوة باتجاه معسكر  الرفض كلما سارت  مصر  خطوة باتجاه تغيير علاقاتها الدولية  من موسكو إلى واشنطن. وهذه البوصلة السورية المضطربة تلعب لعبتها الخطرة في الساحة الفلسطينية على مدى تاريخ الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي. ويظل الهدف الدائم للبعث السوري احتواء الثورة والسيطرة على القرار الفلسطيني المستقل بهدف إحداث تعديل في موازين القوى يضمن أن تقوم أمريكا بمخاطبة سوريا كما تخاطب مصر السادات. وتلعب سوريا نفس الدور في هذه المرحلة بورقة حزب الله .

ولأن حركة فتح أصيلة وعميقة ومتجذرة في انتمائها لوطنها ولشعبها، ولكونها كذلك حركة وطنية براغماتية فلا يمكنها أن تسير وراء المبادئ المجردة. وهي ترى الواقع يتحرك بعد حرب أكتوبر 1973 لاستعادة الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967. وإذا كان السؤال الصعب حول مستقبل الأراضي الفلسطينية بعد أيلول الأسود وتموز 1970/1971 سؤالا نظريا، فانه بعد حرب أكتوبر أصبح عمليا وملحا. وهكذا وقع الصراع الداخلي وتشكلت جبهة الرفض وخاضت فتح بقيادة أبو عمار حوارا داخليا مع الفصائل والقوى الفلسطينية  لاحتواء الموقف قبل الدورة (12) للمجلس الوطني  في حزيران 1974. ونجح أبو عمار في انتزاع التوافق الوطني على ما عرف لاحقا بأنه" برنامج النقاط العشر "الذي يعترف بالمرحلية، والأهم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تقرر مصير ومستقبل الأراضي الفلسطينية وليس الأردن وليس أي طرف عربي. وجاء البرنامج حصيلة 48 ساعة من الاجتماعات الماراثونية. وحين عرضه أبو عمار في أطول دورة في تاريخ المجلس الوطني كانت النقاط العشر قد كتبها جورج حبش بخط يده، وكان النص يقول "سلطة وطنية مقاتلة. "وقال بعض المعارضين حتى لو قيل سلطة وطنية مسلحة بأسلحة ذرية، فان البرنامج المرحلي شوفيني وقطري وإقليمي  ويتخلى عن الهدف الاستراتيجي في التحرير الكامل لفلسطين. وكان اعتماد برنامج النقاط العشر في المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة انتصارا مدويا لوجهة النظر التي طرحتها في إذاعة صوت العاصفة وفي المؤتمر الثالث لحركة فتح. ولأن حركة فتح حركة وطنية فضفاضة، وهذا قد يكون سر قوتها وسر بقائها في كل الظروف، فإنه كذلك يجعل حركتها إلى الأمام بطيئة ومضطربة، لأنها لا تريد أن تخسر أحدا من المنضوين في صفوفها.

 لهذا، يبقى الذين يعارضون سياسة أو موقفاً ما، معارضين دائما وليسوا مستعدين للالتزام بالقرار المركزي أو قرار الأغلبية. وهذا فتح الباب أمام صراعات داخلية دائمة على مستوى القيادة وعلى مستوى القاعدة. وفي الحقيقة كان أبو عمار يجمع في شخصه وفي تفكيره وفي ممارسته وفي قيادة الثورة المفهوم الكلاسيكي لأية حركة وطنية. كان يعرف تجربة حزب الوفد في مصر، وقد عاش شبابه في مصر أيام مصطفى النحاس زعيم الوفد. أما الذي تعلمه أبو عمار من حزب الوفد فهو العمل في القاعدة والمبادرة إلى العمل والقيادة. وقبل انطلاقة حركة فتح في عام 1965، كان أبو عمار قد أسس رابطة الطلبة الفلسطينيين دون أن يستند إلى حزب بعينه. وحار الجميع في تصنيفه ومن أين يستمد هذه القوة التي جعلته يؤسس الرابطة ويُنتخب أول رئيس لها. كانت لديه الثقة المطلقة بالناس العاديين. فيذهب إليهم حيث هم في حياتهم الخاصة المعزولة ويحركهم للعمل العام. وهذه بالضبط مدرسة حزب الوفد، ولهذا حين تشكلت النواة الأولى لفتح في الكويت والسعودية وقطر كان حكمه على الأفراد، ليس على أفكارهم، بل على مدى استعدادهم للعمل مهما كانت أفكارهم. والذين تخلوا عنه في البدايات لم تمنعهم أفكارهم من اللحاق به في حركته السريعة نحو العمل، بل كانوا يرون الصعوبات التي لا مخرج منها بينما هو يرى الصعوبات ويجد المخرج ويسير إليه بنفسه وفي المقدمة. وهذا هو الذي جعل من أبي عمار الرجل الاستثنائي القادر على اختراق المستحيل. واستطاع أبو عمار أن يجعل حركة فتح صورة طبق الأصل عنه، حركة عمل وحركة مبادرة وفي داخلها بحر متلاطم من الأفكار والعقائد والبرامج والصراعات، ودائما وأبدا تبقى وطنية واستقلالية. ولا سبيل إلى هزيمتها والقضاء عليها، بعد أن اجتازت بنجاح المؤامرات تلو المؤامرات في ممر الماراثون، ووصلت في دورية أبو عمار الثالثة إلى أرض الوطن، لترفع العلم الوطني، وتؤسس بقيادته السلطة الوطنية الفلسطينية النواة الأولى للدولة المستقلة، الدولة السد، في وجه المشروع الصهيوني.

وكانت فتح والمنظمة والقضية في خط بياني صاعد طوال عام 1974. وقد وصلت الذروة بقرار قمة الرباط في 28 أكتوبر 1974 اعتبار "المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" وكلمة "الوحيد" التي أصر عليها أبو عمار تعكس العقدة الفلسطينية العامة من التدخل العربي الرسمي منذ أعوام 1936/1948، ومن الوصاية، ومن القضاء على قواعد الثورة في الأردن، وقرار البعث السوري بوقف العمليات الفدائية من الجولان، والتوتر المتصاعد في لبنان على خلفية العمليات والتحالف بين الثورة والحركة الوطنية بعد عملية الفردان والتي راح ضحيتها القادة الثلاث أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر يوم 9 نيسان 1973.

وقال لي أبو عمار بعد قمة الرباط أن الملك فيصل السعودي والرئيس أنور السادات كانا قد رجحا الكفة ووقفا إلى جانبه في الإصرار على إيراد كلمة "الوحيد" في نص القرار. وأضاف أن إسماعيل فهمي وزير خارجية مصر آنذاك قال له بعد قرار القمة أصبحت القضية معقدة وتحتاج إلى "ترزي." وصرح هنري كيسنجر أن هذا القرار عقد الوضع في الشرق الأوسط. وبعد أسبوعين وفي 13 نوفمبر 1974 ألقى أبو عمار خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ولقي تصفيقا حارا. وأعيد بند القضية الفلسطينية إلى جدول أعمال الأمم المتحدة بدل قضية اللاجئين والانروا. أما خطابه في الأمم المتحدة فقد ساهم فيه كل من يكتب ويقرأ في المنظمة والساحة الفلسطينية. وأعتقد أن أبو عمار أمر بطباعة الخطاب مائة مرة وقرأه ألف مرة، كلمة كلمة. ورافقه وفد فلسطيني من أعضاء اللجنة التنفيذية والمساعدين. وكان محمود درويش ضمن الوفد وخالد الحسن وشفيق الحوت ونبيل شعث. ونقلته المروحيات من المطار إلى الفندق خوفا على حياته من تهديدات الصهاينة الذين هددوا باغتياله إذا جاء إلى نيويورك. كان الأمين العام للأمم المتحدة هو كورت فالدهايم النمساوي. وأما رئيس الجمعية العامة فكان عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر في ذلك الوقت. وأصدرت الجمعية العامة قرارين تاريخيين فعلا رغم أن أمريكا وقفت ضدهما. وكان القرار الأول يحمل الرقم 3236 وفيه الاعتراف بحقنا في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة والعودة. ونص القرار على تكليف الأمين العام على إقامة اتصال دائم مع منظمة التحرير الفلسطينية في كل المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وأما القرار الثاني (3237) فكان إعطاء المنظمة صفة مراقب. وجدير بالذكر أن أبو عمار هو أول زعيم حركة تحرر وطني يلقي كلمة ويشرح قضية شعبه أمام الأمم المتحدة.

وبعد أربع سنوات، وفي التمهيد لزيارة فالدهايم في نيسان 1978، اتصل سمير صنبر، وهو فلسطيني وقريب المثقف المبدع إلياس صنبر الذي يعتبر مرجعا أساسيا لكل باحث في قضية اللاجئين الفلسطينيين التي اصدر عنها كتابا بالفرنسية، وهو من ترجم عدة دواوين لمحمود درويش إلى الفرنسية وصدرت عن منظمة اليونسكو، وقد عينه أبو عمار  فيما بعد ممثلا لفلسطين في اليونسكو.

كان سمير صنبر مسؤولا إعلاميا في مكتب الأمم المتحدة في بيروت. وجاء في الاتصال بأن مسؤولا من مكتب الأمم المتحدة يرغب في اللقاء مع أبو عمار لترتيب زيارة الأمين العام كورت فالدهايم. وجرى الترحيب بحرارة بهذا اللقاء. وحضر ممثل الأمم المتحدة في بيروت فإذا به  الفلسطيني سمير صنبر. وتم اللقاء وانتهى بمودة ومحبة. فأبو عمار يحيط ضيوفه بكل الدفء الإنساني ويودع ضيفه حتى باب المصعد وأحيانا ينزل مع الضيف حتى يركب الضيف في سيارته ويمضي. ويعود بعد ذلك مسرعا إلى مكتبه ليواصل عمله المعتاد. وطلب أبو عمار أن أكتب خبر اللقاء للنشر في وكالات الأنباء والصحف. وكتبت الخبر فإذا به يعترض ويقول لي: لا بد أن تكتب الخبر مرة أخرى على هذا النحو "مسيو صانبر ممثل الأمم المتحدة يلتقي أبو عمار في بيروت. "وأدركت على الفور ما يرمي إليه أبو عمار أنه يوجه رسالة للرأي العام الفلسطيني والعربي بأن الأمم المتحدة بدأت تقيم العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية.

 أما فالدهايم  فقد انتخب رئيسا للنمسا فيما بعد. وأدارت الصهيونية حملة ضده بتهمة معاداة السامية وإنه جرى تجنيده في الفرق النازية   "S S" في الحرب الثانية. وكتب أحد الصهاينة في صحيفة الهيرالد تريبيون في تلك الفترة يقول: إن فالدهايم الذي زار عرفات في بيروت وكان استقبله في نيويورك لا ينتمي لأي من المعسكرين المتناحرين في الزمن الراهن، إنه ينتمي إلى معسكر النازية ولهذا يزور عرفات وفاء لنازيته التي لا تكترث لمصير السلام العالمي ومصير دولة إسرائيل. وجمدت إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية مع النمسا طوال رئاسة فالدهايم لجمهورية النمسا.

وكتبت افتتاحية "فلسطين الثورة " في الأسبوع الثاني من نوفمبر 1974 وبالحرف: إن يوم الثالث عشر من تشرين الثاني "نوفمبر"هو يوم عيد وطني للشعب الفلسطيني الصامد. ويوم عيد قومي للأمة العربية التي وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني في معركته، ويوم عيد أممي يرمز إلى التضامن الكفاحي بين شعوب العالم التقدمي وقواه الثورية. ولا بد، من أجل تحقيق الانتصار على الصهيونية المغتصبة، من تعميق التحالف بين الثورة والبلدان الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي، فهذا التحالف المبدئي هو الصخرة الصلبة التي يستند عليها كفاح شعبنا وأمتنا العربية في التصدي للمؤامرات الامبريالية والصهيونية. " وبعد أن جرى التصويت على القرارين 3236 و 3237 كتبت في افتتاحية "فلسطين الثورة": إن قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة اللذين صدرا يوم أمس بشان قضية فلسطين وقبول م.ت.ف كعضو مراقب في المنظمة الدولية قد أسقطا  وإلى الأبد الادعاء القائل بأن "فلسطين وطن بلا شعب"، وأسقط هذان القراران من تاريخ شعبنا أننا مجرد لاجئين، وأن العالم عندما استمع إلى كلمة فلسطين من على منبر الهيئة الدولية كان التاريخ في تلك اللحظة يعيد الاعتبار إلى الحقيقة على يد كل شعب ثائر في هذا العالم رفض ويرفض أن تسود قوى الظلم والطغيان على حساب مصائر الشعوب على هذه البسيطة.ولا أنسى التعليق الإسرائيلي على هذه القرارات فقد بقيت أحفظه وأتذكره دائما وأبدا وقال التعليق: إن مستقبل دولة إسرائيل ومصيرها لا يتقرران برفع الأيدي في الأمم المتحدة.

ورغم أن هذا الحدث التاريخي الذي سجله أبو عمار قد شكل اختراقا للوضع الدولي، فان الجبهة الشعبية والقيادة العامة قد رفضتا الزيارة والخطاب وانسحبتا من اللجنة التنفيذية. ويومها تداولنا في بيروت قصة انسحاب الوزير الأحمر من الحكومة الرجعية. والوزير الأحمر هو الفلسطيني الطيب أبو ماهر اليماني الذي صنعته النكبة وقسوة المخيمات، فلم يكن على استعداد ليرى أملا لفلسطين إلا بالسلاح وحده. وفي ذلك الوقت لم أترك كلمة في القاموس الماركسي اللينيني إلا ولجأت إليها لفضح دعاة  جبهة الرفض، من اتهامهم بمرض الطفولة اليساري في الثورة إلى العدمية السياسية إلى الفوضوية والجمود والتحجر الفكري والسياسي. وكان أبو عمار قد اتخذ من مقر "فلسطين الثورة" ومكاتبها، في بناية منير بعلبكي مقابل الجامعة العربية في الفاكهاني، مقرا ثانيا له. وصحيح أنه كان يزور معظم المكاتب، إلا أن مكاتب "فلسطين الثورة" كانت دون مبالغة مقرا ثانيا له. ولكونه يشكل قطب المغناطيس في الثورة، فكانت "فلسطين الثورة" ملتقى كل القوى والشخصيات. وهذا الامتياز عزز مكانتها لدى الرأي العام الفلسطيني. وكانت كلمة الثورة الأسبوعية بمثابة تعميم سياسي لكل الفلسطينيين أينما وجدوا. والذي أعطى "لفلسطين الثورة" هذه الأهمية والمكانة، وطنيتها وفلسطينيتها. فقد حفظت عن كمال عدوان قولته الشهيرة إن فلسطين عقيدتي وكل العقائد في خدمتها.  وبالطبع، كانت المسحة اليسارية "لفلسطين الثورة" سياسية وليست أيديولوجية. فما دامت أمريكا ضدنا فيجب أن نبحث عن حليف. وفي ظل الحرب الباردة كان الاتحاد السوفياتي حليفنا، كان لنا فيه ألاف الطلاب وأعطانا ألاف المنح والتدريب العسكري  والاعتراف الدبلوماسي  والزيارات الرسمية. أما المنظمات الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي فقد أمسك بها أبو عمار ووظفها لخدمة فلسطين، مجلس السلم العالمي ورئيسه شاندرا الهندي كان لا يفارقنا، والتضامن الآسيوي الإفريقي واتحاد الشباب العالمي واتحادات العمال والطلاب والمرأة كما قدم السوفيت المساعدات السخية لمختلف التنظيمات النقابية بما فيها تذاكر الطيران المجانية لكل مهرجان أو لقاء أو ندوة. وقد بدأت هذه العلاقة مع الاتحاد السوفياتي عندما اصطحب الزعيم جمال عبد الناصر معه إلى موسكو أبو عمار في عام 1969 حيث قدمه لبريجينيف وكوسيجين وبودغورني. وكانت العلاقة مع موسكو تفتح لنا الأبواب في دول المنظومة الاشتراكية ولدى الأحزاب الشيوعية في العالم. وقد كان اهتمام الصين بالقضايا الدولية قد تراجع نتيجة الثورة الثقافية التي استمرت عدة سنوات في عهد ماوتسي تونغ. أما الخلاف الصيني _ السوفياتي فقد تجنبنا التطرق إليه في "فلسطين الثورة" طوال تلك الفترة بينما الأحزاب الشيوعية العربية جعلت من هذا الخلاف القضية الأولى في منشوراتها. وقد جذب البرنامج الوطني الاستقلالي والتأكيد على علاقات الصداقة والتضامن، بل التحالف مع موسكو، لمجلة "فلسطين الثورة" مثقفين كبارا من الأحزاب الشيوعية العربية من العراق ولبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر. فكانوا يقدمون لنا عن طيب خاطر ودون تردد، المقالات والتحليلات التي تدعم برنامجنا الوطني، برنامج النقاط العشر، وهو في الجوهر برنامج الاستقلال الوطني وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، لأن استخدام عبارة الدولة الفلسطينية في ذلك الوقت كان مشبوها ومدانا، ويرمز إلى الحلول الاستسلامية والتخلي عن فلسطين التاريخية.

وأذكر هنا، أن صبري جريس وهو آخر مدير لمركز الأبحاث بعد أنيس صايغ ومحمود درويش كتب يقول: "الدولة الفلسطينية التي يترفعون عن ذكرها ليست هدفا متواضعا، أنها انجاز تاريخي للشعب الفلسطيني." واتهم الذين يرفضونها بأنهم مقتلعون من وطنهم ووطنيتهم وأنهم استمرؤوا حالة اللجوء. وكتب المفوض السياسي  يحيى رباح مقالا ساخرا قال فيه: إن المخيمات لا تصلح وطنا، المخيمات هي المنفى والتشرد، أما الوطن فهو الأرض والشعب والتاريخ"، ولأن فتح كانت وستظل الحاضنة للشعب الفلسطيني وقواه وأفكاره، فهذا قدرها ومصيرها، فقد وجدت المواقف الرافضة لبرنامج النقاط العشر دائما منابر داخل فتح تعبر فيها عن مواقفها.

 وهكذا أصبح جارنا الملاصق لمقر "فلسطين الثورة" وهو مركز التخطيط، مكانا للمعارضة الرافضة للحل الوطني والذي تطلق عليه الحل الاستسلامي. وقد وجدتني مضطرا للرد على دعاة الرفض ونعتهم بأسوأ النعوت. وأشرت من طرف خفي إلى ما يصدر عن مركز التخطيط من مواقف ونشرات تتعارض وبرنامج النقاط العشر. وجاء هذا الرد العنيف والشخصي في افتتاحية "فلسطين الثورة". وأما معين بسيسو فكتب مقاله الأسبوعي تحت عنوان "ليس كل من نطق بالضاد ضد مستعمرة كفار جلعاد."

وتصاعدت الأزمة وكان لا بد من تدخل أبو عمار لاحتوائها فطلب من أبو الهول، وهو مسؤول الأمن المركزي، أن يعتقلنا أنا ومعين بسيسو. وقال لي أبو عمار وقتها كلمته المعروفة: "اسجن نفسك". وبالفعل أطعنا أوامر أبو عمار، وذهبنا إلى الأمن المركزي أنا ومعين بسيسو، حيث استقبلنا أبو الهول بطيبته ولطفه وهو يبتسم وقال: "أنتم ضيوفي ولستم معتقلين". وأضاف، أنتم تدركون أن هذه طريقة أبو عمار لاحتواء المشكلة. وبعد وصولنا بدقائق حضر ماجد أبو شرار، وهو مسؤول الإعلام الموحد، وأعلن أنه معتقل معنا ويرفض هذا الإجراء. وقال كان من الأجدر أن يعتقل الذين يرفضون البرنامج الوطني. وزارنا أبو صالح وبعده أبو إياد وكثير من الكوادر. وأمر أبو الهول بتحضير العشاء لجميع الموجودين. وكانت ليلة لا تنسى، ناقشنا فيها كل القضايا السياسية والمواقف المختلفة للفصائل والدول العربية والعالمية. وكانت أجواء التفاؤل بقرب الوصول لاستعادة أرضنا المحتلة عام 1967 تسيطر على الجميع وقيام القاعدة الآمنة للثورة فوق الأرض الفلسطينية.

وفي اليوم الثاني، استدعاني أبو عمار بعد الليلة الطويلة في الأمن المركزي وفي ضيافة أبو الهول. وكان يخشى أن تكون علاقتنا قد تأثرت بهذا الإجراء. وقال مرحبا كعادته: "يا بختك يا خويا "بيت ضيافة وعشاء مناسف والكل من حولك أنت ومعين. "وحين أدرك أن قراره باعتقالنا لم يترك أثراً قال لي وبالحرف الواحد: عليك أن تميز وأنت في هذا الموقع الحساس بين الموقف وبين الاتجاه وبين أصحاب الموقف وأبناء الاتجاه. فالموقف يتغير حسب الظروف، وأما الاتجاه فهو التنظيم وهو فتح. والمواقف داخل فتح كبرت أم صغرت لا تخرج عن الخط العام في كل الأحوال. وتذكّر أن الثورة زائد واحد وليست ناقص واحد، ولهذا كان عليك أن تحافظ على إخوانك وزملائك في الاتجاه أم إنك قد نسيت قانون المحبة الذي قامت عليه فتح.

وقد تسلم منير شفيق عمله خلفا لنبيل شعث كمدير لمركز التخطيط بعد هذه الأزمة والتي جعلت عملية الاستقطاب بين الإعلام ومركز التخطيط تتسع وتأخذ مداها في أوساط الكوادر العسكرية والمدنية وفي الجامعات وفي خارج لبنان. وكان د. محجوب عمر المثقف وصاحب التجربة النضالية الغنية في مصر في إطار الحزب الشيوعي المصري يعمل في كل المواقع، وأكثرها تأثيرا القواعد الفدائية ومدرسة الكوادر، وهو أحد الرجال الذين صمدوا في دبين وجرش في تموز 1971 حتى اللحظة مع القائد أبو علي إياد الذي شكل النواة الصلبة المقاتلة في قوات العاصفة في البدايات في الضفة الغربية وخاصة منطقة الشمال.

وكان الدكتور محجوب عمر محبوبا من الجميع وكان يقدم تحليله للوضع السياسي بأسلوب جذاب وباللهجة المصرية التي صقلتها حياة المجتمع المصري على مدى العصور. وحقيقة موقفه في جوهره ضد المرحلية والبرنامج الوطني، ومع الكفاح والثورة حتى يقع الانقلاب في الحياة العربية وتحرر الأمة فلسطين كما حررها صلاح الدين.وأما منير شفيق وهو من تنظيم الحزب الشيوعي الأردني، وسجن في شبابه والتحق بفتح بعد معركة الكرامة مع ناجي علوش، وبينهما نسب وقرابة وهما على طرفي نقيض. فكان منير شفيق أممي مع الخط الصيني من الأساس وناجي علوش قومي عربي .

وتقلب منير شفيق بين القوى والعقائد عله يجد الطمأنينة التي يبحث عنها طوال حياته إلى أن اعتنق الإسلام أخيرا. أما ناجي علوش فقوميته المجردة التبشيرية والمنفصلة عن الواقع المعاش جعلته ينعزل تدريجيا عن التيار الوطني العريض رغم أنه تسلم مسؤوليات تنظيمية أساسية في فتح في الأردن وعضوية المجلس الثوري والأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين حتى مؤتمر الاتحاد في فندق البوريفاج في بيروت عام 1978. وخلفه في موقع الأمين العام الروائي يحيى يخلف حتى عام 1984 حيث انعقد مؤتمر الاتحاد في صنعاء في نيسان 1984 في ذروة أزمة الانشقاق في فتح، حيث غاب يحيى يخلف في دمشق، قد انتخبت أميناً عاما للاتحاد في المؤتمر التوحيدي في الجزائر 1987 وبقيت  أمينا عاما حتى عام 2006، وكان رئيس الاتحاد محمود درويش.

وفي الحرب الأهلية في لبنان في نيسان 1975 وقع استقطاب قوي بين هذه التيارات. فالإعلام الموحد شكل كتيبة الإعلام والتي ضمت العاملين في الإعلام والطلاب المتطوعين من إيطاليا والاتحاد السوفياتي واليونان وألمانيا. وكان المسؤول العسكري فهد أحمد العبادين وقد توفي في 10/4/1995، وهو من الطفيلة في الأردن. وفي مواجهات الشياح وعين الرمانة استشهد المثقف والناقد اللبناني طلال رحمة واستشهد رشاد عبد الحافظ الفلسطيني القادم من العراق. وحين تمت سيطرة القوات المشتركة على الجبل والمتن وعينطورة وتوجهت سرية من كتيبة الإعلام إلى الجبل لإظهار حضورها في كل المواقع. إلا أن القائد العسكري أبو خالد العملة رفض تمركزها في الجبل لأننا على خلاف في الموقف السياسي. وفي المواجهات والقصف استشهد جورج أبو خالد، وهو شقيق منير شفيق، واستشهد هاني جوهرية وهو المصور المعروف والقديم في مؤسسة السينما التابعة للإعلام الموحد. وكان الإعلام الموحد يتولى إصدار الملصقات لكل شهيد. وكان يمكن ملاحظة أن السيطرة على الجبل والمتن وعينطورة ودعم كمال جنبلاط لهذه السيطرة قد جعل الرؤوس الحامية في فتح تمتلئ غرورا. وفي هذا الوقت بالذات جاءني شاب  يحمل صورا لشهداء سقطوا في الجبل. وكالعادة كتبت النصوص المطلوبة وحولتها للقسم الفني. فإذا بالشاب يعترض وهو شاب مهذب وخجول ويعمل مع منير شفيق وقال لي: لدي نص أعده الأخوة في الجبل وناولني ورقة عنوانها هكذا: شهداء الثورة العربية التقدمية والديمقراطية. وقلت له بعصبية: ولكن أين هي هذه الثورة؟ وهل سقطوا دفاعاً عن الثورة وفتح والشعب الفلسطيني؟ وغادر الشاب غاضباً، وصدرت الملصقات من مركز التخطيط ومن الإعلام الموحد بصيغتين مختلفتين للشهداء أنفسهم.

 كانت الأحداث في تسارع مذهل، ويستحيل السيطرة عليها. فقد اتسعت دائرة الصراع لتشمل الأطراف الإقليمية كلها. وكان أكثر الأطراف قلقا واضطرابا نظام حافظ الأسد، الذي يعتبر لبنان جزءا لا يتجزأ من سوريا من الناحية الواقعية والعسكرية. وأما الجبهة المارونية فوجدت في إسرائيل حليفاً سخياً، فتزودت بالسلاح وحتى بالدبابات. ومع تفكك الجيش اللبناني وهزيمة الجبهة المارونية وسيطرة القوات المشتركة على 80% من الأراضي اللبنانية، استعان حافظ الأسد بالملك حسين الذي ضمن للأسد الموافقة الإسرائيلية والأمريكية على التدخل العسكري السوري الشامل في لبنان.

والذي يهم في هذا السياق هو ما الذي جرى في معركة الجبل مع الجيش السوري، وكيف تصرف أصحاب الرؤوس الحامية ودعاة الثورة العربية والتقدمية والديمقراطية في ذلك اليوم من أواخر أيلول 1976.

رافقت أبو عمار إلى المناطق الدرزية في الجبل المطلة على بحمدون. ومنها يمكن مشاهدة وملاحظة ما يجري في المتن ومناطقها، وكانت هناك أجهزة اتصال مع فريق أبو عمار تتابع ما يجري. وسمعت أبو عمار يقول أين القائد العسكري أبو خالد العملة؟ وجاءه الجواب أنه غادر الجبل. ولهذا اصدر أبو عمار قرارا بعزله من أي مسؤولية عسكرية، ويبدو لي ودون أن أملك المعلومات الكافية أن الانسحاب من الجبل تم بالتواطؤ بين المخابرات السورية وأبو خالد العملة.

أما خطة حافظ الأسد فكانت تتقاطع مع الخطط الأمريكية والإسرائيلية. فإسرائيل يهمها بالدرجة الأولى القضاء على الثورة في لبنان. وأمريكا طيعة ومطواعة لكل مصلحة إسرائيلية. واللاعب الآخر الملك حسين الذي وثق حافظ الأسد علاقاته به، وساد الوئام  بين الجانبين إلى حد إلغاء السفارات، لأنهما بلد واحد ولا حاجة لهما في علاقات دبلوماسية بعد الآن. وبالطبع لم يكن الملك حسين الذي خسر الورقة الفلسطينية الأهم في قمة الرباط في أكتوبر 1974، وهي ورقة التمثيل، قد سلم بالأمر الواقع عام 1976. ولهذا وقف بكل ثقله عند الإسرائيليين والأمريكيين لتسهيل مهمة حافظ الأسد في لبنان.

وكنت في هذه الأثناء عبأت كل وسائل الإعلام الفلسطينية واللبنانية، وحتى العربية، ضد التدخل السوري. وبقرار من أبو عمار كان الإعلام الموحد قد استوعب المئات من الصحافيين اللبنانيين والعرب وخاصة من العراق.

وقد عمل هذا الجيش الضخم من الإعلاميين لفضح التدخل العسكري السوري. وكان جوزيف سماحة أبرز كتاب الصحيفة اليومية بالإضافة إلى المجلة الأسبوعية. وأخطر ما كتبته في هذه الفترة كان عن حافظ الأسد وكيف استولى على الحكم وكيف سجن خصومه حتى الموت. وذات يوم اتصل معي عبد المحسن أبو ميزر وكان عضوا في اللجنة التنفيذية والمتحدث الرسمي، وهو من أصول بعثية ومقيم في دمشق وكان يتمزق من هذا الصراع السوري الفلسطيني، ويراه دمارا لسوريا وفلسطين. وقال لي: أرجوك لا تهاجم الجيش السوري، هذا سيظل قوة لفلسطين. ونصحني بعدم التطرق للأوضاع الاجتماعية والطائفية في سوريا فهذا لا يترك مجالا للصلح والتعايش. وكنت في ذلك الوقت قد قطعت كل الخطوط، حتى أنني قلت عن الجيش السوري بأنه جيش انكشاري. وللتاريخ أقول أن ما قلته في تلك الفترة لم يكن مساعدا حيث اعتبر النظام السوري أنه كلام ياسر عرفات وكلام القيادة، كما هو الحال عندهم. والحقيقة أن ما كتبته سواء في إذاعة درعا وسجنت في سجن المزة بسببه، ودمرت الإذاعة، كان موقفي وكلامي ولم يكن أحد في القيادة يعرفه أو يطلع عليه. فالإعلام في الثورة وفتح كان في الحقيقة كما قال إبراهيم بكر لأبو جهاد ولي في عمان: هل إذاعة درعا إذاعة أم رئاسة أركان؟ وكان أبو عمار يتدخل بعد وقوع المصيبة كما كان يقول. وذات يوم أواخر عام 1976 وصل الرائد عبد السلام جلود وكان يقوم بالوساطة مع دمشق وطلب اجتماعا مع القيادة الفلسطينية اللبنانية المشتركة، وكان أبو عمار يحرص على حضوري، وكنت أجلس في آخر مقعد في اجتماع يحضره أكثر من عشرين مسؤولا بينهم كمال جنبلاط أحيانا ومحسن إبراهيم وجورج حاوي ونديم عبد الصمد وإبراهيم قليلات وعبد الرحيم مراد. وجلس الرائد عبد السلام جلود على الطاولة الرئيسة بجانب أبو عمار. وبعد أن تحدث عن جهوده لتهدئة الأوضاع بين الجانبين وطالب بوقف الحرب على جبهة الإعلام. وللتدليل على خطورة هذه الجبهة اخرج ورقة من جيبه وراح يقرأ عن الجيش الانكشاري والطائفية البغيضة التي تتحكم بالشعب السوري. وحين استمعت إليه عرفت أنه يقرأ افتتاحية "لفلسطين الثورة" اليومية، وانسللت من الباب الخلفي إلى خارج غرفة العمليات. لقد هربت في الواقع، وفي حالة ارتباك شديد، ولم أعرف ما جرى في الاجتماع إلا بعد ساعات، حيث أصر الرائد عبد السلام جلود على طردي من الإعلام، وأن يصدر الطرد بقرار رسمي من القيادة ويوقعه أبو عمار وأن يحمله عضو  في اللجنة التنفيذية إلى القيادة السورية. وبالفعل لم يتردد أبو عمار في تلبية الطلب السوري، فأمر بطباعة قرار طردي من الإعلام و"فلسطين الثورة". واتصل جلود مع عبد الحليم خدام وأبلغه بالقرار وبأن مسؤولا في القيادة سيحمله إلى دمشق. وبالفعل استدعى أبو عمار عبد العزيز الوجيه وهو قائد سابق في جيش التحرير  الفلسطيني وعضو في القيادة وسلمه القرار ليقوم بتسليمه للقيادة في سوريا تعبيرا عن حسن النوايا والاستعداد للتهدئة والتعاون. أما حامل القرار عبد العزيز الوجيه فقد وصل البقاع وكان هناك اشتباكات وطرق مقطوعة كالعادة، فأصيب بنوبة قلبية وفارق الحياة قبل أن يصل إلى دمشق.

أما أنا فقد تواريت عن الأنظار، وتوقفت الصحيفة اليومية وتوقفت المجلة. فقد أغلق حاجز عسكري سوري الطريق إلى المطبعة. ولأنني لا يمكن أن أختفي طويلا بعد أن تعودت على هذه الطريقة في العمل مع أبو عمار، فقد عدت إلى مكتبي في "فلسطين الثورة". وقال لي أبو عمار: يمكنك العمل بالتفويض السياسي لبعض الوقت حتى تهدأ الأمور، ولكن الآن يجب وقف كل الإعلام المكتوب ولو إلى حين.

وفي تلك الفترة كنت قد كتبت مقالة طويلة باسم مستعار هو "رضوان" حول البرنامج الوطني والسلطة الوطنية والتحالفات المطلوبة وصولا إلى طرد الاحتلال الإسرائيلي من أرضنا وإقامة السلطة الوطنية السد في وجه الأطماع الصهيونية في كل الوطن العربي.

 وكان عزام الأحمد الذي سجنه أبو نضال في بغداد قد أخذ يتردد على الإعلام الموحد لمساعدته في إصدار مجلة اتحاد الطلبة واسمها "جبل الزيتون". وكنت قد تعرفت عليه قبل عدة سنوات حين التقينا بالصدفة عند أبو العز الدجاني، وهو أقدم منا في فتح، وخدم في فترة لاحقة قائدا لقوات الكرامة. وفي النقاش فيما بعد، كان عزام الأحمد، وهو عضو في الهيئة التنفيذية لاتحاد الطلاب، شديد الحماسة والتأييد لبرنامج النقاط العشر وضد أبو نضال صبري البنا الذي انحرف عن خط الحركة في بغداد واضطهد الكوادر الفتحاوية الموجودة في العراق. وربطتنا أنا وعزام صداقة وطيدة. وحرصت على دعم الإعلام الموحد لعزام ومهمته في اتحاد الطلاب. وقد تولى عزام توزيع كراس "رضوان" الذي كتبته لدعم البرنامج الوطني والقرار المستقل على جميع فروع الاتحاد في العالم. و"رضوان" هذا هو أول مسؤول للحزب الشيوعي في فلسطين. وقد حرصت على اعتماد هذا الاسم لكسب المزيد من الأنصار للخط الوطني من قوى اليسار ومن المثقفين الفلسطينيين والعرب. وذات مرة كنت في موسكو، وفي لقاء مع طلاب من الحزب الشيوعي الأردني، وبعض الأحزاب العربية قالوا لي: نعتبر مجلة "فلسطين الثورة" مجلتنا ونقوم بتوزيعها أسوة بمنشورات الحزب. أما في بيروت فكان الدبلوماسيون السوفيت يترددون على مكاتب الإعلام الموحد و"فلسطين الثورة" بشكل دائم. وخطر لي أن أعرف رأيهم في هذا الكراس الذي يحمل اسم "رضوان". وقلت لهم بأنني من كتب هذا المقال. وبالفعل، أخذوا الكراس وزاروني بعد عدة أيام وجرى النقاش التالي معهم: قال أحدهم: التحليل للوضع الفلسطيني والعربي والدولي لا يختلف أبدا عن تحليلنا. ولكن هناك قضايا لم تتطرق إليها، وهي في رأينا قضيتان أساسيتان، أما القضية الأولى فهي قرارات الشرعية الدولية، والقضية الثانية هي مسألة وجود إسرائيل. فأنت لم تتطرق بكلمة لهاتين القضيتين. ولا بد أن تعلم أن موقفنا يقوم على التمسك بقرارات الشرعية الدولية وكذلك مسألة وجود إسرائيل. فهذا الوجود ليس موضع نقاش. فإسرائيل دولة موجودة وعضو في الأمم المتحدة. وقرار التقسيم في عام 1947 هو قرار صادر عن الشرعية الدولية، وعلى أساسه قامت إسرائيل. أما أنتم الفلسطينيون والعرب فقد أضعتم الفرصة لقيام دولة فلسطينية في عام 1947 كما فعلت الحركة الصهيونية. والآن المتاح لكم هو تصحيح الخطأ التاريخي الذي وقعتم فيه. وهذا هو فهمنا لبرنامج النقاط العشر وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة. وبدون هاتين القضيتين: الشرعية الدولية وحق إسرائيل في الوجود لن يستمع لكم العالم.

وسألته عن رأي السوفيت في برنامج النقاط العشر. فرد قائلا: أنه يحمل مؤشرات على الاعتراف بالشرعية الدولية ويتخلى عن طرحكم القديم في الميثاق الذي ينص على تدمير إسرائيل. ولكن هذه العموميات تجعل إسرائيل تقول ما قالته حول البرنامج وحول خطاب أبو عمار في الأمم المتحدة أن الفلسطينيين يريدون تدمير دولة إسرائيل. وكما تعلم قرارات الجمعية التي صدرت لتأكيد الحقوق الفلسطينية لا تتحدث أبدا عن وجود إسرائيل كدولة يجب تدميرها بل عن إزالة احتلالها للأراضي العربية والفلسطينية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضيتكم. وبالطبع كان مستحيلا في ذلك الوقت الاقتراب من هاتين القضيتين لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي. إنها قضايا متفجرة وحقل ألغام من يدخل فيه لا يخرج منه سالما إلا من رحم ربي. وأذكر في هذه السياق حديثا عابرا مع سيدة في المقهى الواقع تحت مكتب الجامعة العربية في جنيف عام 1969، وكانت تضع حول رقبتها سلسلة ذهبية وفي آخرها تظهر نجمة داوود. كنا نتحدث أنا وفؤاد الشمالي وبعض الوافدين العرب حول تحرير فلسطين من الصهيونية وتدمير إسرائيل ونضرب أمثلة تحرير الجزائر من ثلاثة ملايين مستعمر فرنسي وتحرير المستعمرات من الاستعمار الأوروبي ولم يبق إلا إسرائيل والنظام العنصري في جنوب أفريقيا. أما ما حدث فالسيدة التي تجيد الفرنسية والانجليزية وتفهم العربية العامية فقد نهضت من مقعدها الملاصق لنا وتحدثت مع فؤاد بالفرنسية فأخبرني فؤاد أنها تستأذن لتستمع إلى حديثنا، وفي تلك الأيام كنا نبحث عن التضامن معنا من الماويين إلى التروتسكيين إلى الكاثوليك إلى الديمقراطيين والمحافظين. وكنا نرى نجاح الفيتناميين المنقطع النظير في مسألة التضامن هذه. وكنا نحن في أول الطريق، وليس حولنا غير المجموعات الماوية. أما الشيوعيون فكانوا أكثر تحفظا ودون أي نشاط جماهيري لصالحنا وأما الاشتراكيون فكانوا ضدنا ومع إسرائيل.

أما السيدة التي تضع نجمة داوود واعتقدنا أنها متضامنة فلم تضيع وقتها واستأذنت أن تسألنا بعض الأسئلة. وكان السؤال الأول الذي لا أنساه أبدا يقول التالي: هل من حق "اللقيط"أن يعيش؟ وفوجئنا جميعا بسؤالها. فمن حيث الظاهر لا علاقة لهذا السؤال بما كنا نبحث فيه. وسادت الحيرة والاستغراب بيننا، وقد أجبت دون تردد أنه مخلوق بشري وله حق الحياة.

شكرتني السيدة على الجواب السريع هذا. وبدون مقدمات قالت: الفرنسيون عادوا إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر والأمريكيون يعودون  إلى أمريكا إذا انتصرت فيتنام والانجليز عادوا إلى بريطانيا عندما استقلت الهند وباكستان، أما اليهود فأين يعودون فلا وطن لهم غير إسرائيل.

وتركتنا في حيرتنا ولم تنتظر أن نرد عليها فقد اكتفت بأن من حق اللقيط أن يعيش.

وفي الحقيقة لم أستطع الاقتراب من قضية الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، أو قبول القرارات الدولية التي تمنحها هذا الحق منذ عام 1947. وفي الجوهر لم يكن موقف الرافضين يختلف عن موقف القابلين ببرنامج النقاط العشر تجاه هاتين القضيتين سوى أن القابلين احتفظوا بالتحرير الكامل وبإزالة إسرائيل من الوجود في برامجهم الحزبية، وتخلوا عنها في برامج المنظمة وهذا شأن فتح. ففي كل مؤتمراتها ازدادت تصلبا وتمسكا بالأهداف والمبادئ والمنطلقات والأساليب وبالمقدمة التاريخية للنظام الداخلي التي أصبحت "أيقونة"محرماً المساس بها أو أنها أشبه بمقدمة إبن خلدون التي ذاع صيتها في العالم. والغريب أن فتح حين تجتمع في مؤتمراتها لا أحد يجرؤ أن يمس الثوابت والحقوق التاريخية. ويضطر أبو عمار بعد انفضاض المؤتمر أن يصدر نصاً مخففاً تماماً لقرارات المؤتمر. وهذا ما فعله أبو مازن بعد مؤتمر بيت لحم (2009) إذ اضطر لإصدار نص معتدل لقرارات المؤتمر السادس العتيد في بيت لحم. وهنا تكمن مأساة أية قيادة وطنية. هذا الانفصام بين الواقع المعقد الذي تعمل فيه لانتزاع أقل القليل من حقوق شعبها، وبين واقع شعبها اللاجئ والمشرد الذي تمثله فتح والذي يعيش مأساة النفي والشتات بلا أمل وبلا مستقبل جيلا بعد جيل ويرى ما تبقى من أهل وطنه يكتوي بنار الاحتلال وسرطان الاستيطان على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية.

وهكذا  كان الحال مع الانتفاضة الأولى في عام 1987. فأبو عمار أمسك بهذه الورقة الثمينة لانتزاع أقصى ما يمكن انتزاعه من الأرض. ولديه قناعة راسخة بأن البقاء والثبات فوق الأرض هو المحرك للتاريخ والتغيير. وحين حانت ساعة الحقيقة لتقديم ورقة الاعتراف بإسرائيل كنت إلى جانبه في جنيف، وفي مقر عصبة الأمم السابق التي اعترفت بصك الانتداب وضمنته وعد بلفور المشؤوم، بعد أن  رفضت الإدارة الأمريكية منح أبو عمار تأشيرة الدخول إلى أمريكا لمخاطبة الجمعية العامة في نيويورك. وفي إشارات منه، في زيارة سابقة للسويد موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكية "شولتز"وافق أبو عمار في نص موقع منه على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ونبذ الإرهاب واللجوء إلى المفاوضات والحلول السلمية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولم أكن أعرف شيئا عن هذه الورقة المرسلة إلى شولتز. كان يعرفها محمود درويش وياسر عبد ربه. إلا أنني فوجئت بأبي عمار يستدعيني في صباح اليوم التالي لعودته من السويد، وكان في حالة عصبية وإلى جانبه حكم بلعاوي في مكتب سفارتنا في تونس، وأمامه جريدة الصباح التونسية وهي الصحيفة الأولى في تونس وكان عنوانها بالخط العريض وباللون الأحمر وعلى ثمانية أعمدة كالتالي: "أبو عمار يعترف بحق إسرائيل بالوجود ".

وقد حاولت التخفيف عنه فقلت له: يبقى الخبر مشكوكا في صحته، فهو منسوب لمصادر مجهولة رفضت الكشف عن هويتها. وقد يكون بالون اختبار من جهة إسرائيل أو أمريكا حتى نضطر إلى إصدار نفي قبل جلسة الجمعية العمومية في جنيف. ومر ذلك اليوم بقليل من ردود الفعل. أما الأمر الأهم فكان خطابه في جنيف وأكاد أزعم هنا أن الخطاب الذي شرق فيه أبو عمار وغرب وأطال الشرح والتوضيح للمأساة الفلسطينية حمل ذات الموقف الذي ورد في جريدة الصباح التونسية. وبالضرورة كانت هناك معارضة من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية. ولكن احتواءها كان أمراً سهلا بعد أن دخلت الانتفاضة على هيئة صنع القرار الوطني لتضع النقاط على الحروف. فحددت الهدف والأرض والقرارات الدولية، كانت الانتفاضة القوة الدافعة لأبو عمار وهو يجتاز حقول الألغام ليصنع التاريخ لشعبه.

وحسب تعليمات أبو عمار سافرت إلى جنيف على رأس وفد إعلامي كبير، كما سافر إلى جنيف العدد الأكبر من أعضاء اللجنة التنفيذية ومن المجلس الوطني ومن المنظمات الشعبية. وتحول فندق الانتركونتننتال إلى خلية عمل فلسطينية. وصل أبو عمار إلى جنيف قبل إلقاء الخطاب بيوم واحد. ووجدت أن تغييراً قد وضع على النص الأصلي الذي اتفقنا عليه في تونس. وعلمت أن التعديلات أضيفت في الليلة الأخيرة قبل سفره في اجتماع تداولي غير رسمي في منزل حكم بلعاوي. وكان أبوعمار يراقبني وأنا أقرأ الخطاب، ولكني لم أعلق وفضلت الصمت. فالقلق والاضطراب وحالته العصبية البادية عليه تجعل الصمت أفضل. قمت إلى غرفتي واتصلت مع أبو مازن الموجود في موسكو وأخبرته بأن تعديلات دخلت على النص في الليلة الأخيرة، ولم يكن مرتاحا لهذا التغيير دون أن يخبرني بدوره أن النص كان في يد شولتز وريتشارد مورفي وكيل الخارجية الأمريكية.

وكان هناك اتفاق مع وزير خارجية السويد ( أندرسون)  أنه في حال قرأ أبو عمار الخطاب أمام الجمعية العامة وأورد القضايا المحددة، فإن الجنرال "ولترز"، المندوب الأمريكي، سينهض من مقعده لمصافحته أمام الجميع. ودخل أبو عمار القاعة وسط ترحيب حار من الأعضاء وبدأ يلقي خطابه. وكنت أتحرك في القاعة وكأني أحد الحراس الشخصيين لأبو عمار. وكان "ولترز " أثناء الخطاب يتابع الترجمة الفورية وبين يديه أوراق. وولترز هذا جنرال كبير واسع الاطلاع على القضية الفلسطينية وقد اجتمع مع خالد الحسن وماجد أبو شرار قبل أكثر من عشر سنوات في المغرب.

وفجأة وقبل دقائق قليلة من إنهاء الخطاب رأيت الجنرال ولترز يجمع أوراقه ويغادر القاعة. وعدنا إلى الفندق خائبين فلم يقع الحدث الذي من أجله جئنا إلى جنيف ومعنا كل دول العالم. الأمريكيون قالوا: عرفات لم يلتزم بما اتفق عليه مع"اندرسون"وزير خارجية السويد الذي كان حاضرا اجتماع الجمعية العامة. وبدأ ليل لا ينتهي ولا ينجلي ويوم يليه لا هدوء فيه. فقد حضر حسيب الصباغ وسعيد خوري وزين مياسي ومنيب المصري وباسل عقل، وهم من رجال المال والأعمال. وحسيب الصباغ يعرف شولتز فقد كان محاميا لشركة حسيب في أمريكا "بكتل"ويخاطب مورفي كما لو كان صديقه الشخصي ويقول له يا "ادي ".

أما أبو عمار فقد كلفني أن أقنع "اندرسون " أن لكل لغة أسلوبها واللغة العربية تختلف عن اللغة الانجليزية في هذا الجانب. وتنازل لنا د. سامي مسلم عن غرفته في الفندق ورقمها "706"وقد حاول اندرسون أكثر من مرة إقناع مورفي بأنها مسألة صياغة أما الموقف فهو نفسه. وبدا لي أن "أندرسون" مقتنع بما قلته له. فقد تصرف بغاية اللطف وهو يعبر عن هذه القناعة. وذهب وألقى كلمة في الجمعية العامة، وأيد ما قاله أبو عمار في كلمته، واعتبرها كافية وتؤدي المطلوب، وعاد إلينا في الفندق دون أن يظهر عليه أنه مرتبك أو غير مقتنع. ولكن الأمريكيين أصروا على موقفهم دون تغيير كلمة واحدة. ولم يقتنعوا بقصة التفاوت بين اللغات والأساليب. وطلبوا أن يقرأ أبو عمار النص المتفق عليه وباللغة الانجليزية في مؤتمر صحافي.

ولأن كل قضية لإسرائيل أو فيها وخاصة قضية اعتراف الفلسطينيين بوجودها هي قضية عالمية بامتياز، فإن وسائل الإعلام العالمية ترسل جيوشها الجرارة إلى مركز الحدث.

وأخيراً لم يكن أمام أبو عمار من خيار أو هوامش. وانتهت "سياسة اللا" وانتهت "سياسة اللعم" وانتهت سياسة "ننتظر حتى نتسلم الدعوة لمؤتمر جنيف وحينها نقرر."وأما سياسة "نصف القمر "فعليه الآن أن يقرر موقفه من نصف القمر الأخر. وكان الفلسطينيون وهم نخبة رجال الأعمال الذين يحيطون به مخلصين لفلسطين وانتفاضتها، ويحكم موقفهم وضميرهم الوطني وسعة اطلاعهم على الوضع الدولي. أما أعضاء القيادة الذين غص الفندق بهم فقد اختفوا تماما، وكلهم موجود وغير موجود. وكنت إلى جانبه في السيارة التي نقلتنا وسط حراسة مشددة إلى مقر عصبة الأمم. وكان رئيس الجمعية العامة ينتظره في لقاء بروتوكولي قبل المؤتمر الصحافي. أما النص المتفق عليه فقد صار في جيبي وحفظته عن ظهر قلب. ولم تزد الجلسة مع رئيس الجمعية العامة عن عشرين دقيقة. وخرج أبو عمار ومشينا وحدنا والحرس خلفنا وفجأة توقف أبو عمار وطلب مني أن أقرأ له النص وقرأته في أقل من دقيقة. فأخذ يسألني: ألم يكن من الأفضل لو وضعنا نقطة هنا أو فاصلة هناك؟

وهذا كله بعد "36"ساعة من النقاش المتواصل وعدم النوم، وعندها قلت لأبو عمار: "أخي أبو عمار إذا كنت تعتقد أننا سنأخذ الدولة من جورج حبش ونايف حواتمة، فلنمزق هذه الورقة ونعود من حيث أتينا. أما إذا كنا سنأخذ الدولة من أمريكا وإسرائيل فليس هناك خيار آخر. " وظل واقفا متسمرا في مكانه ولا يرد علي ولا يعلق على ما قلت، ثم خطا إلى الأمام وهو يقول: ولكن عبد الناصر لم يجرؤ على ذلك.

ودخلنا القاعة الكبرى فإذا بها تغص بأكثر من ألف صحافي. وعند المدخل وجدنا القس إيليا خوري، فاحتضنه أبو عمار وجره بيده. وكذلك وجدنا أبو طارق الشرفا "فتحاوي قديم" فأمسك به أبو عمار إلى جانبه. وجلسنا على المنصة، أبو عمار،  وجلست على يساره وبجانبي أبو طارق وعلى يمين أبو عمار جلس إيليا خوري وهو عضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة.

وكان حولنا وفي داخلنا زلزال يتفجر وبركان يغلي. وقلت للصحافيين بأن الرئيس ياسر عرفات سيلقي عليكم بيانا هاما. أبو عمار بدأ يقرأ النص باللغة الانجليزية مضطربا ومرتجفا. ومرت الجملة الأولى بسلام عن حق إسرائيل في الوجود. أما جملة الإرهاب فبدل أن يلفظ الفعل الذي يدين الإرهاب قرأه بتغيير حرف واحد فيه وهو الحرف الأول وقرأ: "نعلن الإرهاب بدل ننبذ الإرهاب." ولم أكن أعرف أن المايكروفون الذي أمامنا مفتوح على كل المقاعد حيث يجلس الصحافيون. وقمت بالتدخل وبالتصحيح وعند الإعادة أيضاً أخطأ في القراءة وقال ننبذ السياحة بدل ننبذ الإرهاب. وقمت بالتدخل والتصحيح للمرة الثانية وضجت القاعة بالضحك والهرج والمرج. ولم يستغرق المؤتمر الصحافي أكثر من خمس دقائق فلا أسئلة ولا أجوبة، بل مغادرة على وجه السرعة إلى الفندق، ولكنه لم يدخل الفندق بل كان فريقه في استعداد كامل للتحرك إلى المطار. وحين نزلت من السيارة قال: لي أنا مسافر إلى برلين عند أخيك "د. عصام كامل "وعليك متابعة ما يجري وإعلامي. وكان الاتفاق كما أخبرني اندرسون أن يصدر شولتز وزير الخارجية الأمريكية بيانا يعلن فيه فتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في ضوء الموقف الذي يعلنه أبو عمار في المؤتمر الصحافي. وبعد ساعة صدر الموقف الأمريكي بإعلان بدء الحوار مع المنظمة، وعلى الفور أجريت الاتصال مع "د. عصام كامل " وأخبرته بالاعلان الأمريكي، وقد قال: لي رغم أن أبو عمار وصل متأخراً فقد أعد الرئيس "إريك هونيكر" استقبالا رسميا في المطار واستضافته في قصر الضيافة بصفته رئيس دولة.

وقال د.عصام: قصة الألمان سواء كانوا شرقيين أو غربيين مع اليهود قصة طويلة، والكل منهم يريد شهادة براءة من جرائم هتلر ومن الهولوكوست. وإسرائيل تبتز الألمان منذ قيامها في عام 1948 وإلى الأبد. وأصدرت في الليلة نفسها تصريحا رحبت فيه بالإعلان الأمريكي. وفي صباح اليوم التالي كان أبو عمار قد شكل الوفد الفلسطيني للحوار مع السفير الأمريكي "بليترو"وضم الوفد ياسر عبد ربه وعبد اللطيف أبو حجلة وحكم بلعاوي، وبدأ الحوار.

وقد سبق أن التقيت مع روبرت بليترو، السفير الأمريكي في تونس، في مناسبات اجتماعية، ولم تكن هناك لقاءات سياسية رسمية، والسبب أن الإدارة الأمريكية منعت الدبلوماسيين الأمريكيين من اللقاء أو التحدث مع المسؤولين الفلسطينيين. أما هذه المناسبات الاجتماعية التي أعنيها فكانت تقيمها المدرسة الأمريكية في تونس للطلبة ولأولياء أمورهم.، وهكذا تعرفت على بليترو وعلى هيئة التدريس وعلى أحد مساعدي بليترو(هيل) وكانت زوجته سيدة فلسطينية من القدس هاجر أهلها إلى أمريكا بعد نكبة عام 1948 وهي من مواليد أمريكا وتتحدث بعض العربية. وفي الواقع كنت حريصا على تقديم أفضل صورة للمنظمة ورئيسها أبو عمار، والاستعداد للسلام وبأن كل القضايا التي يستحيل حلها، يمكن أن تجد الحل المناسب إذا ضغطت أمريكا على إسرائيل للانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية. وكنت أركز دائما وأبدا على القدس الشريف، وأقول يستحيل التوصل إلى السلام إلا بعودة القدس المحتلة عام 1967، أما ضمها واعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل فهذا يجعل السلام مستحيلا.

وكان بليترو يستمع ولا يعلق بل يكثر من الأسئلة ولا يقدم جوابا شافيا حول أسئلتي التي تتمحور حول لماذا كل هذا الانحياز الأمريكي لإسرائيل، ورغم  المصالح الأمريكية الضخمة في الشرق الأوسط والبترول وأهميته لأمريكا.

وتذكرت في ضوء صمته الطويل ما حدث معي في عام 1981. فقد كنت أحضر الماجستير في الجامعة الأمريكية في بيروت وأسابق الزمن لإنهاء الماجستير في العلوم السياسية. وكان البروفيسور حنا بطاطو والبروفيسور وليد الخالدي قد ساعداني في قبولي في الفصل الصيفي في جامعة جورج تاون في واشنطن، حيث يمكنني خلال هذه المدة أن ألتحق بفصلين دراسيين وأحصل على العلامات المطلوبة للإسراع في تقديم رسالة الماجستير والتي كنت أنوي أن تكون "حول أثر النفط في السياسة الدولية" وبالفعل ذهبت إلى واشنطن بجواز سفر جزائري وكان لدي مقابلة مع عميد الدراسات السياسية في جورج تاون. وقد استقبلني في الجامعة البروفسور هشام شرابي والبرفسور حليم بركات بتوصية من حنا بطاطو. أما العميد، واسمه مايكل هدسون، وكان قد أصدر قبل فترة كتابا قيما عن الدول والسياسة في الشرق الأوسط. فقد أخذ يسألني عن فلسطين وصراع الشرق الأوسط وأنا أتجاهل الدخول في حقل الألغام وأحاول أن يكون الحديث عن شمال أفريقيا. إلا أنني في النهاية ومن كثرة أسئلته قلت له أنا فلسطيني وكما تعلم ليس لدينا دولة ولا جواز سفر. فابتسم، وقال علمت ذلك. قد يكون هشام شرابي أو حليم بركات أخبراه بأنني فلسطيني. أما ما قاله العميد حول الموقف الأمريكي من الشرق الأوسط وفلسطين فكان كما يلي وبالحرف: لا يوجد مسؤول أمريكي وهو يجلس على الكرسي يملك الجرأة للحديث الصادق حول قضيتكم. وحين يترك الكرسي قد يتكلم، وإن تكلم بصراحة فإنه يحارب ويعزل. وذكر لي مثال "بول فندلي " الذي تجرَّأ على الحديث فخسر مقعده في مجلس الشيوخ، والرئيس كارتر خسر في الانتخابات السياسية الثانية لأنه تجرأ على تناول قضيتكم من الجانب الإنساني، دون أن يفعل شيئا على أرض الواقع من الناحية السياسية.

وهذا بالضبط ما حدث مع بليترو الذي مثل الجانب الأمريكي في الحوار الأمريكي _ الفلسطيني في تونس مع ياسر وأبو جعفر وحكم. إلا أن هذا الحوار توقف فجأة بسبب عملية بحرية لجماعة أبو العباس حيث أصرت الإدارة الأمريكية على إدانته وطرده من اللجنة التنفيذية. وكالعادة كانت الاعتبارات المتعلقة بالكرامة الوطنية تمنع أبو عمار من اتخاذ قرار يضعفه أمام شعبه ويظهره وكأنه يرضخ للاملاءات الأمريكية. وأقسى ما قام به أبو عمار أنه طلب من أبو العباس عدم حضور اجتماع اللجنة التنفيذية لحظة التقاط الصحافيين لصورة الاجتماع. وفي تلك الفترة من عام 1989 كان أبو عمار يقضي معظم وقته في بغداد، وأبو العباس المطرود من سوريا يقيم في بغداد. ولم يكن من اللائق بالنسبة للعراقيين أن يأخذ أبو عمار قراراً بإسقاط الحصانة عن أبو العباس الذي تحتضنه العراق. وهكذا توقف الحوار الفلسطيني - الأمريكي بانتظار محطة اتفاق أوسلو والتوقيع في البيت الأبيض في أيلول 1993 بحضور الرئيس بيل كلينتون.

الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع




التعليقات