دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة : اكتشاف الجالية الفلسطينية في تشيلي

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة : اكتشاف الجالية الفلسطينية في تشيلي
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..


الفصل الرابع:

كان صديقا لنا 


في شهر شباط 1972 استدعاني أبو عمار وطلب مني أن أجهز نفسي للسفر إلى تشيلي، وبحكم سفرتي الأولى إلى أمريكا اللاتينية فقد اعتبرت خبيرا في شؤونها. وأخبرني أبو عمار أنه تلقى دعوة من الرئيس التشيلي الاشتراكي سلفادور اليندي لإرسال ممثل عن فتح لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي الثالث والعشرين. ولا بد أن أضيف سببا آخرا لاختياري لهذه المهمة هو الاعتقاد السائد في أوساط القيادة بأنني يساري وأتبنى الرؤية الماركسية للعالم والمجتمعات. 
وسلفادور اليندي اشتراكي عريق رشح نفسه على مدى عشرين عاما حتى فاز في الانتخابات الرئاسية عام 1970. ولا أنكر أن معلوماتي كانت عن تشيلي شحيحة، وكان مصدري الوحيد من وكالة الأنباء الكوبية ومن صحيفة الحزب الشيوعي الكوبي "سيرا مايسترا" وكان الدبلوماسيون الكوبيون نشيطين جدا في تلك السنوات، فكانوا هم والصينيون والكوريون الشماليون يؤمنون لنا نشراتهم مترجمة إلى اللغة العربية. 
وبالطبع، كان الشعار الثوري المسيطر في تلك الأيام هو شعار"تشي جيفارا" أكثر من فيتنام واحدة.  
عندما وصلت إلى سانتياغو عاصمة تشيلي كان قد وقع اغتيال رئيس أركان الجيش واعتبر هذا الاغتيال المقدمة لإحداث الانقلاب ضد النظام الاشتراكي برئاسة اليندي. وعرف العالم فيما بعد أن هنري كيسنغر هو الرأس المدبر للانقلاب في تشيلي واغتيال اليندي.

استقبلني المسؤولون في الحزب الاشتراكي، وفي اليوم الثاني مباشرة سافرنا في الباص مدة أربع ساعات حتى وصلنا مدينة "فلبريزيو" الساحلية والمؤتمر في الواقع كان بمثابة مهرجان شعبي حاشد. وكان فيديل كاسترو نجم المؤتمر. وبصعوبة بالغة وجد لنا المنظمون مكانا نجلس فيه. وكان المدعوون الأجانب لا يزيدون على ثمانية مندوبين من الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية وكذلك الجزائر ويمثلها وزير الصناعة الجزائري في ذلك الوقت، وهو شاب في غاية الأدب والأناقة.

وحين عدنا إلى سانتياغو دعاني الأمين العام للحزب لويس كورفلان لتناول الغداء في أحد المطاعم وشرح لي الوضع الصعب للنظام الاشتراكي بسبب الحصار الأمريكي، وأن الرئيس سلفادور اليندي يرفض اتخاذ أي إجراء لحماية النظام الاشتراكي مثل تسليح الحزب أو تشكيل ميليشيا شعبية لحماية النظام، وقال أن اغتيال رئيس الأركان التشيلي يؤكد أن الامبريالية الأمريكية مصممة على إسقاط النظام الاشتراكي.

وحتى هذه اللحظة لم أكن قد وقفت على الأسباب التي دعت اليندي لتوجيه الدعوة لحركة فلسطينية لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي. ولم أجد من المناسب أن اسأل الأمين العام عن سبب دعوتنا، ولهذا فضلت انتظار اللقاء مع اليندي. وقد خصص عشر دقائق لكل رئيس وفد.  وكنت الوفد ورئيسه على السواء. استقبلني الرئيس بعد أن استقبل رؤساء الوفود جميعا وحين دخلت مكتب الرئيس نهض وصافحني وكانت ملابسه عادية تماما لا تختلف عن ملابس رجل في الشارع وبدون ربطة عنق، وبدون الشكليات المعروفة التي ترافق الدخول على رؤساء الدول.

صافحني الرئيس اليندي وأجلسني بجانبه بكل هذا التواضع المفرط، وشكرني على الحضور وطلب نقل تحياته لعرفات الذي يحترمه، ثم دخل في الموضوع مباشرة وقال:"الشعب التشيلي اختار الاشتراكية عن طريق الديمقراطية والانتخابات وليس عن طريق الثورة، والمغتربون الفلسطينيون هم أكبر جالية في تشيلي، وقد كونوا ثروات كبيرة ولديهم مصانع وشركات وبنوك ورؤوس أموال ضخمة من عملهم في هذا البلد، وهم رأسماليون كبار، والذي أطلبه منك أن تتصل بهم هنا في تشيلي وتدعوهم بأن يوجهوا الأموال الفائضة لديهم  لتحرير وطنكم فلسطين بدل أن يحاربوا النظام الاشتراكي الذي اختاره الشعب التشيلي عبر الانتخابات الديمقراطية الحرة، وقال أنهم سحبوا رؤوس الأموال إلى الأرجنتين ونيويورك "والسكودو" أصبح بلا قيمة والآن الدولار يساوي"240 سكودو، وحين جرت الانتخابات كان الدولار يساوي 8 سكودو وقال لا نريد مصادرة أموالهم وتجارتهم ولكن ندعوكم لإقناعهم بعدم محاربة النظام الاشتراكي والوقوف مع الأمريكيين الامبرياليين.

وضغط على الجرس بجانبه فحضر أحد الموظفين حيث طلب منه أن يأخذني إلى النادي الفلسطيني في سانتياغو. وشكرني الرئيس مرة أخرى وودعني بحرارة وفي المساء دعا الرئيس اليندي رؤساء الوفود لتناول العشاء في منزله الشخصي ولم يكن أحد هناك غير زوجته، ولم أر له أولاداً، وكان لم يتبق من رؤساء الوفود إلا ستة أشخاص وأنا. وحول طاولة مستديرة في منزل قديم: الطاولة والكراسي والبرادي والصالون والجدران معتمة والأبواب داكنة، كأنه بيت مسكون من مئة عام، كان العشاء قصيرا وجلس اليندي معنا حول المائدة المستديرة وشرح تاريخ تشيلي وسكانها ومناجم النحاس، ثروة تشيلي الأهم، وعن طول سواحلها الممتدة لأكثر من أربعة آلاف ميل، وشرح لنا المؤامرات الأمريكية ضد النظام الاشتراكي وتهريب رؤوس الأموال ومنع السياحة إلى تشيلي، وطلب منا أن ننقل إلى دولنا هذه المؤامرات التي تنفذها أميركا وهنري كيسنغر مستشار الأمن القومي الأمريكي.

وصافحنا الرجل وودعنا بكل لطف وتهذيب وهو يقول: "سأجعل الأمريكيين يجلسون على الخازوق".

لم أكن أعرف الكثير عن الجالية الفلسطينية في تشيلي، وأنها أكبر وأغنى جالية فلسطينية في أمريكا اللاتينية، وأن لديهم فريق كرة قدم معروف على مستوى القارة. وعرفني هذا الموظف في الرئاسة على محام من أصل فلسطيني كان أجداده قد هاجروا من بيت جالا في القرن التاسع عشر. واستضافني لعدة أيام في سانتياغو وفي منزله على شاطئ  البحر، والمنطقة  كلها شاليهات للأغنياء من المهاجرين الفلسطينيين، وإلى جوارهم بعض المهاجرين الألمان، واليهود نفوذهم ضئيل في تشيلي.وقد قال لي ما خلاصته أن الفلسطينيين هنا مثل كل المغتربين. صحيح أنهم يحرصون على انتمائهم ولكنهم تشيليون ولديهم أحزاب ومصالح داخل البلد تضررت بسبب نجاح اليندي واشتراكيته.  ومثل كل بلد في العالم لا يمكن للرأسمالي أن يقبل النظام الاشتراكي. فالاشتراكية والرأسمالية نقيضان على مستوى العالم. وما قاله لك اليندي هو كلام مثالي لا معنى له.  وأنا أتحدث الإسبانية وأبي ما زال يحتفظ ببعض الكلمات العربية ولغتي الانجليزية نتيجة الدراسة في الولايات المتحدة، إنني مواطن تشيلي مائة بالمائة.

ورفعت تقريرا بعد عودتي لأبو عمار الذي أصبح مرجعي الوحيد سواء أكان هناك مفوض للإعلام أم لا؟ وقد ورد في التقرير أن الجبهة الشعبية لها نشاط في أمريكا اللاتينية وتردد إسم ممثل الشعبية جايل العرجا أكثر من مرة وهو من بيت جالا، وقد استشهد في عملية عنتيبي في أوغندة، ولسوء الحظ لم التق به.

أبو عمار التقط من تقريري ما يخدم أهدافه في تجميع كل قوى الشعب الفلسطيني أينما وجدوا. وبعد سنوات عدة صار لنا ممثليات في دول أمريكا اللاتينية. وفي دورة من دورات المجلس الوطني في الجزائر، وقد عينني أبو عمار الناطق الرسمي للمجلس، جاءني أعضاء في المجلس واحتجوا لغياب الترجمة الإسبانية فهم لا يجيدون غير اللغة الاسبانية وكانوا من دولة تشيلي. وبعد عام على زيارتي لتشيلي وقع الانقلاب العسكري الدموي بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه وقتل في الانقلاب الرئيس سلفادور اليندي وسقط النظام الاشتراكي وحل محله حكم عسكري دموي استمر من عام 1973_ 1989، حين عادت الحياة الديمقراطية.

ولكني لم أنس هذا الرجل اليندي. وحين عينني أبو عمار رئيسا لتحرير مجلة فلسطين الثورة المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وضعت صورة اليندي على غلاف مجلة فلسطين الثورة وبالحجم الكبير، كتبت تحتها العبارة التالية: كان صديقا لنا.