دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة العاشرة : اليوم ضاعت فلسطين

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة العاشرة : اليوم ضاعت فلسطين
مع سلطان عُمان
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..
الفصل العاشر :

اليوم ضاعت فلسطين 


عام 1977 قال السادات أن 99% من أوراق الحل في يد أمريكا. وفي 9 نوفمبر 1977 ألقى السادات خطابا، وألقى القنبلة القاتلة وأعلن أنه مستعد لزيارة إسرائيل من أجل السلام. وكان أبو عمار يحضر جلسة مجلس الشعب. وحين أنهى السادات خطابه وكما جرت العادة يقف أعضاء المجلس ويصفقون ووقف أبو عمار أدبا واحتراما وصفق مع المصفقين، وعاد إلى بيروت في اليوم التالي دون أن يصدق ما سمع من السادات، فلم يكن لديه علم باتصالات حسن التهامي مع عيزر وايزمان ومع موشيه دايان في المغرب.

وظل أبو عمار متشككا في إقدام السادات على الزيارة التاريخية لإسرائيل حتى يوم موعد الزيارة 19/11/1977 إلى لحظة هبوط الطائرة ونزول السادات من على سلم الطائرة وبيغين في استقباله. في ذلك اليوم طلب أبو عمار من أبو الهول مسؤول الأمن المركزي أن يقوم القسم الفني في الأمن بترتيب نقل حي ومباشر للحظة هبوط الطائرة في مطار بن غوريون / اللد. وظل هذا الترتيب سريا ولم يكن مع أبو عمار أحد غيري وأبو الهول. وبدا النقل الحي من المطار قبل وصول الطائرة بدقائق والمذيع يعدد أسماء المسؤولين الإسرائيليين الذي جاءوا لاستقبال السادات.

وكان أبو عمار صامتا طوال الوقت وعيناه لا تفارقان الشاشة وكأنه غير مصدق أن السادات سيصل فعلا. وظهرت الطائرة المصرية في الأجواء وأخذت تستعد للهبوط في أرض المطار، وأبو عمار يحملق ويمسك ذقنه بيده، ولم يكن شارد الذهن، بل كان غير مصدق لما يرى من حدث صاعق كان في أعماق نفسه لا يتوقع حدوثه أبدا، وحين ظهر السادات وهبط سلم الطائرة وراح يصافح مستقبليه قال أبو عمار جملة وحيدة ورددها عدة مرات: "اليوم ضاعت فلسطين."

وقد لا يصدق أحد أنني رأيت عينيه وقد اغرورقت بالدموع. وأبو عمار كان يقول عن نفسه دائما أنه مصري الهوى، ليس له ولفلسطين حليف ثابت وغير مراوغ غير مصر. والآن أسقط في يده. فرئيس مصر يزور إسرائيل. وأصبح ظهر أبو عمار مكشوفا من الأعداء والأشقاء على حد سواء. وتوليت تغطية الموقف بتصريح نسبته لأبو  عمار، بأن الثورة ضد هذه الزيارة المشؤومة لإسرائيل وهي تفريط بفلسطين ومناشدة للشعب المصري لرفض هذه الزيارة. وكان أبو عمار يعرف عن يقين أن رفض زيارة السادات بالنسبة لي لا يعني الارتماء في أحضان سوريا وغيرها من قوى المشرق والمغرب التي لا يمكنها أن تعوض غياب مصر. ومضت أكثر من عشرة أيام وأبو عمار في حالة ارتباك شديد دون أن يقطع الأمل بمصر. وعلق على خطاب السادات في الكنيست عن فلسطين والدولة الفلسطينية، بأنه "ذر للرماد في العيون. " وكنت ألمس أنه من جانب خفي يراقب الموقف المصري لحظة بلحظة، ولا يعير أهمية لاستقالة إسماعيل فهمي أو محمد إبراهيم كامل أو اعتراض الدائرة القانونية في وزارة الخارجية المصرية على اندفاع السادات غير المدروس وعدم إصغائه لرأي الخبراء في هذه المفاوضات التي أخذ السادات يديرها لوحده. وكان يقول: "مصر هي مصر وحاكم مصر فرعون."وفي الوقت الذي احتضن أبو عمار المعارضين المصريين الذين قصدوا بيروت، حيث الثورة، فإنه لم يقطع شعرة معاوية مع مصر من خلال سعيد كمال، فعزله وسحبه وأبقاه في الوقت نفسه. وكان أحمد صدقي الدجاني في موقع الحيرة وهو مقيم في مصر. أما جمال الصوراني فأبعدته المخابرات المصرية خارج الأراضي المصرية وأغلقت صوت فلسطين  وطردت الكثير من طلاب الجامعات من أبناء فلسطين لمعارضتهم زيارة السادات. وحامد أبو ستة قد أبعد أيضا. وتشكلت جبهة الصمود والتصدي في طرابلس الغرب في أول ديسمبر 1977 بعد أسبوعين من زيارة السادات. ولم يكن في وسع أبو عمار أن يرفضها، فذهب إلى ليبيا ووافق على الميثاق والبيان وعزل مصر. وكان الذي أغضب أبو عمار أن القذافي دعا الأمناء العامين للفصائل دون معرفة أبو عمار، وكظم أبو عمار غيظه ووقع مع الفصائل على "بيان الوحدة" الذي أعده القذافي. ولكنه لم يوقع بنفسه بل وقعه حامد أبو ستة عن المنظمة وعن فتح وقعه أبو إياد، وهكذا عرف أبو عمار كيف يبقي له هامشا مع مصر وحاكمها.

جاءت زيارة السادات لإسرائيل وقد أحكم حافظ الأسد سيطرته على لبنان كله. وتقلصت إلى حد كبير قدرة الثورة على التحرك ضد إسرائيل وسعد حداد. وقبل ذلك كان اغتيال كمال جنبلاط في 16 آذار 1977  قد أفقد الحركة الوطنية قيادتها الشرعية وراحت تنكفئ وتنقسم. ووقع اغتيال كمال جنبلاط أثناء الدورة الثالثة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة وسميت الدورة دورة، كمال جنبلاط.

 وحمل فوز جيمي كارتر بالرئاسة بعض الآمال والتصريحات لصالحنا من سايروس فانس وكارتر نفسه. إلا أن فوز حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغين في الانتخابات الإسرائيلية حطم كل الآمال والأمنيات الفلسطينية والعربية المعلقة على الرئيس كارتر. وشعر الأسد بخطورة الموقف خاصة بعد اتفاقية سيناء الأولى والثانية وتدهور علاقة السادات مع السوفيت وقوله أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا. ولهذا دعا الأسد لتشكيل وفد عربي موحد للمفاوضات بهدف تقييد السادات ولوقف خطواته المتسارعة وصولا لحل منفرد. وفي أوائل ديسمبر 1977، أطلق بريجنسكي صرخته المدوية "وداعا لمنظمة التحرير الفلسطينية " والتي أحسن أبو عمار توظيفها لتبديد الشكوك حول سياسة المنظمة النابعة من استقلاليتها وتجربتها المريرة في ممر الماراثون، وعدم استعداد أبو عمار لإسقاط مصر من حساباته تحت كل الظروف. وضاقت الهوامش أكثر فأكثر أمام المنظمة واشتد ساعد جبهة الرفض، وتراجعت واشنطن عن البيان السوفياتي _ الأمريكي  حول حقوقنا الوطنية ودور المنظمة. وعاد قيد كيسنجر ليقيد السياسة الأمريكية. ولم تقبل واشنطن باقتراح حول التمثيل من خلال الأكاديميين إدوارد سعيد وإبراهيم أبولغد. وأما سعيد كمال وهو دبلوماسي فلسطيني بارع فقد طواه النسيان لفترة طويلة بعد سيناريو فندق "ميناهاوس " الفاشل. وهل فعلا وضع المصريون العلم الفلسطيني؟ وهل فعلا رفضت إسرائيل دخول وفدها إلا بعد سحب العلم والاسم والبطاقة؟ وهل فعلا لم يذهب سعيد كمال وأحمد صدقي الدجاني إلى ميناهاوس؟ وفي هذا الجو الملبد بالغموض والغيوم، هاجمت إسرائيل قوات الثورة في الجنوب في 20 أيلول 1977 دون أدنى استفزاز فلسطيني بل لقطع الطريق على تصريح غامض من سايروس فانس حول الحقوق المشروعة للفلسطينيين. ومع أن جبهة الصمود والتصدي لم تحرك ساكنا ولم تتدخل إلا أن إسرائيل فشلت في تحقيق ما ترمي إليه. وجرى قصف شمال فلسطين بالمدافع بعيدة المدى، وهرب سكان كريات شمونة وكثير من المستوطنات مما أرغم إسرائيل على الموافقة على أول اتفاق لوقف النار بين المنظمة وإسرائيل. وكان أن عقد في ذلك الوقت مؤتمر الجزائر لوزراء إعلام جبهة الصمود والتصدي. وكان الوفد الفلسطيني يتشكل من ياسر عبد ربه ومن أحمد عبد الرحمن. وأصدر المؤتمر بيان الشعارات المعروفة. ولم نكن لنعترض على شيء. فنحن في موقف لا نحسد عليه. وحين انتهى المؤتمر قال لي ياسر عبد ربه، ما رأيك أن نمر على ليبيا فللجبهة بعض القضايا المالية، فالوزير الليبي أبدى استعداده لنقلنا معه فلديه طائرة خاصة. وبالفعل توجهنا إلى ليبيا بمعية الوزير الليبي، وفوجئنا في المطار أن الكاميرات من التلفزيون الليبي بانتظارنا ولحظة اقتربت الكاميرا قبل أن ندخل الصالة اختفيت بين الذين استقبلوا الوزير الليبي أمام سلم الطائرة وبالتأكيد لم أكن معروفا بحيث تركز الكاميرات علي.

وأدلى ياسر عبد ربه، وكان حينها عضو في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية وهو كذلك عضو في اللجنة التنفيذية  بتصريح للتلفزيون الليبي أكد فيه على الدور الليبي في مساندة الشعب الفلسطيني. نزلنا في فندق الشاطئ وهو ملتقى اللاهثين وراء المال الليبي، في ضيافة العلاقات الخارجية أو مكتب الاتصال الخارجي أو القومي. وتناولنا طعام الغداء بدعوة من مسؤول هذا المكتب. وبدا يتكلم بغطرسة وفوقية، وعلى الفور قمت بالرد عليه بكل عنف، وحاول ياسر عبد ربه ترطيب الأجواء وتناسي الخلافات القديمة، ولم يكن ياسر يؤمن بكلمة مما يقوله، ولكنه يجاري الأوضاع، فعليه أن يعود إلى بيروت وقد حقق شيئا لصالح الجبهة الديمقراطية واحتياجاتها.

على كل حال انتهى الغداء وعدنا إلى الفندق لنرتاح ووجدنا في الغرف الكتاب الأخضر والمؤلف العقيد القذافي. وبعد أقل من ساعة رن التليفون وقال المتحدث: أستاذ أحمد عبد الرحمن وقلت له نعم، قال تفضل تحت فنحن بانتظارك وقلت له من أنتم، فقال وكالة الأنباء.

وكان لدى ياسر خبرة أكثر مني، فقد أخبرني أنهم اتصلوا به قبل أن يتصلوا معي ولكنه اعتذر لأنه نائم ويشكو من صداع شديد. ولم يكن لدي خيار سوى أن أنزل إلى الصالة لمقابلتهم، وفي زاوية معزولة عن الصالون الكبير كان يجلس شاب ومعه جهاز تسجيل ووراءه يجلس رجل آخر صامتا وكأنه يراقب عمل الصحافي وسلمت عليهما وجلست قبالة الصحفي الذي أخذ يسألني عن الهدف من زيارة ليبيا، فقلت له في الحقيقة كنا نحضر مؤتمر وزراء إعلام جبهة الصمود والتصدي في الجزائر ونقلنا وزير الإعلام الليبي مشكورا، وغدا نغادر إلى بيروت.

وكان السؤال الثاني أكثر مباشرة وهو السؤال الذي قدم من أجله، إنه السؤال عن الكتاب الأخضر باعتباره الحل السحري لمعضلة البشرية، وقال الصحافي: نريد أن نسمع رأيكم في الكتاب الأخضر؟ 

وهنا طفح الكيل وأعترف أنني حنبلي في هذا الموقف كما في مواقف كثيرة. ورحت أجيب على السؤال بطريقة مسرحية هذا الكتاب يحتاج إلى سنوات وسنوات لفهم أفكاره ومعانيه البعيدة، إنه يحتاج إلى ثلاث سنوات حتى يمكن قراءته بمسؤولية والرد على أي سؤال حوله، لا يمكن قراءته في ساعة أو ساعتين، إنه بأهمية رأس المال لكارل ماركس.

وحين سمع الجالس وراء الصحافي الجملة الأخيرة قال للصحافي أغلق المسجل. وغادر والصحافي يجري وراءه.

وعدت إلى الغرفة واتصلت مع ياسر وأخبرته بما حدث فقال لي "خربت بيتنا." وناداني ياسر إلى غرفته فإذا الهاتف يرن وسأل  ياسر من المتحدث فقال: مدير الفندق وبعد دقيقة لا أكثر قال له ياسر: قل لهم شكرا وأغلق سماعة الهاتف وهو يقول لي: مكتب العلاقات الخارجية طلب إلغاء إقامتنا على حسابه، فنحن لم نعد ضيوفا عندهم. وبالفعل فوجئت من هذا التصرف الذي توقعه ياسر عبد ربه حين قال "خربت بيتنا".

وصباح اليوم التالي غادرنا إلى المطار. ولم يحضر أي من المسؤولين لتوديعنا أو على الأقل لتوديع ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية ونايف حواتمة وضيف وزير الإعلام الليبي. وفي المطار أخذوا حقيبة اليد التي نضع فيها بعض الملابس واختفت الحقيبتان في التفتيش وغادرت الطائرة المتوجهة إلى أثينا وبيروت. وقلنا لهم مستعدون للسفر إلى أي مكان وعلى أي طائرة المهم أن نغادر. وبعد سبع ساعات ومع اقتراب المساء، وجدوا لنا مكانين، ولكن في طائرتين مختلفتين واحدة إلى بلغراد والثانية إلى براغ.

كان عام 1979 عام غياب الهوامش أمام فتح. فالسادات وقع معاهدة السلام المصرية _ الإسرائيلية في أيلول 1978. وتبخر الأمل الضعيف في التزام السادات بما قاله في خطابه في الكنيست عن الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. والميثاق القومي أكتوبر 1978 بين البعثيين اعتبر قضية فلسطين قضية قومية. ومعنى قومية هنا مصادرة القيادة والقرار وإسقاط القيادة الوطنية وهي فتح واستبدالها بقيادة تابعة للبعثيين. وهنا نلاحظ أن الفصائل عامة ضعيفة الإيمان بجدوى الاستقلالية الفلسطينية وأمام أي بصيص أمل تترك فتح وحدها تدافع عن استقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية وتجري وراء سراب قومية المعركة. وحصل الشيء نفسه في أول اجتماع لجبهة الصمود والتصدي حيث كان الهدف من الاجتماع الانقلاب على فتح وإسقاط قيادتها. وفضح أحد الحاضرين لياسرعرفات وقائع الاجتماع السري طوال الليل مع الفصائل بمشاركة القذافي والأسد والهدف الوحيد كيف يمكن التخلص من فتح وياسر عرفات.

بعد عودتي إلى بيروت من  لقاء الجزائر وما حدث معنا في ليبيا، كتبت افتتاحية في "فلسطين الثورة" اليومية والأسبوعية وكانت تحت عنوان: ماذا فعلتم ضد كامب ديفيد؟ وأثار المقال ردود فعل غاضبة وخاصة من البعثيين في سوريا والعراق والعقيد القذافي. ولكن أبو عمار هذه المرة لم يعترض وينتقد ولم يوجه. ولهذا استرسلت في كتابة المقالات وقضايا الثورة حول كل صغيرة وكبيرة توجه ضد الاستقلالية الفلسطينية. وفي جلسة مع محمود درويش ومعي في قاعة فندق شيراتون بدمشق في ظل الميثاق القومي وانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في أواخر يناير 1979، فضح سعدون شاكر وزير الداخلية العراقي الخطة المرسومة لإعادة تشكيل اللجنة التنفيذية بأغلبية الفصائل التي تلهث وراء السراب. وقد أخبرت أبو عمار بكل تفاصيل لقائنا مع سعدون شاكر.

 وحين عرض زهير محسن خطة التشكيل الجديد للمنظمة ومعه الفصائل وجبهة الميثاق القومي، رفض أبو عمار الخطة ووقف وقال: من كان مع فلسطين ومع فتح فليغادر هذه القاعة وفي اللحظة نفسها بدأت على الفور الهتاف داخل القاعة "غلابة يا فتح غلابة" وأنا ابن فتح ما هتفت لغيرها. "وحملني عبد المحسن تل الزعتر على أكتافه وسار بي بين صفوف الأعضاء الذين وقفوا جميعا وغادروا القاعة. وانهارت الجلسة وانهارت المؤامرة على الشرعية وعلى حق الشعب الفلسطيني في أن يكون له حركته الوطنية وقرارها المستقل. وأعاد أبو عمار تشكيل اللجنة التنفيذية برئاسته ومشاركة الفصائل، واحتفظت المنظمة باستقلاليتها ورفض احتوائها من قبل أية جهة سواء كانت من دعاة قومية المعركة  في جبهة الصمود والتصدي أو جبهة الرفض الفلسطينية المدعومة من العراق.

وخرجت فتح سالمة من هذا المجلس الوطني الذي كان الأسد يسعى من ورائه إلى احتواء الثورة الفلسطينية وتقييد ياسر عرفات إن لم يستطع تغييره. وفي ذروة هذا الانتصار الذي حققته الحركة الوطنية بتأكيد استقلاليتها وقعت جريمة اغتيال أبو حسن سلامة مسؤول قوة ال (17) حيث جرى تفجير سيارته "بالرموت كونترول." فاستشهد ومن كان معه من حراسه. وكان أبو حسن سلامة قريبا جدا من أبو عمار وموضع ثقته والقوة التي باليد، كما كان يقول أبو عمار، وقد أدى اغتياله إلى فقد أبو عمار لفارس من فرسانه وإصابته صدمة شديدة. وعدت معه من دمشق إلى بيروت في ذلك المساء الحزين. وذهبت مباشرة إلى مكاتب "فلسطين الثورة" وكتبت مقالا في الجريدة اليومية بعنوان: "أيها الكبير تجمل بالصبر" وقد استعرت حديث الرسول الكريم وهو يتحسر على وفاة إبنه إبراهيم " إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون. " وفي المساء بعد التشييع رأيت أبو عمار يقرأ ما كتبت ويقول لي "بارك الله فيك." هذا هو الوفاء، وهذا هو قانون المحبة.

كانت خسارة أبو حسن بالنسبة لأبو عمار لا تعوض، كونه الذراع الأمني الضارب في الوضع الداخلي في غابة البنادق في جمهورية الفاكهاني. وأيضا كان أبو عمار يكلفه بإجراء الاتصالات مع حزب الكتائب ومع الجبهة اللبنانية للتوصل إلى اتفاق معهم يبعدهم عن إسرائيل ويضع حدا لخطة حافظ الأسد لاحتواء لبنان بمن فيه، ويصادر بالتالي الاستقلالية الفلسطينية واللبنانية سواء على الأرض أو في المجال السياسي. وقد تولى أبو حسن إجراء الاتصالات السرية مع المخابرات المركزية (CIA) لتأمين خروج الأمريكيين من بيروت وقدم الحماية للسفارة الأمريكية حين أصبحت بيروت ساحة حرب بين الغربية والشرقية خاصة مع انفجار  "معركة الفنادق"وبرج المر. أما الأمريكيون  فلم يقدموا شيئا للفلسطينيين بل ظلت عبارة بريجنسكي الشهيرة "باي باي PLO"على مدى سنوات تلخص الموقف الأمريكي والقيد الذي قيد  به كيسنجر السياسة الأمريكية بعد توقيع اتفاقية سيناء الثانية، حيث وافق للإسرائيليين على عدم الاتصال الأمريكي بالمنظمة أو دعوتها لمؤتمر جنيف إلا بعد موافقتها على شروط تعجيزية ما كان يمكن للمنظمة أن تقبلها وهي تخوض الحروب على كل الجبهات. ولهذا ضاعت النوايا الطيبة للرئيس كارتر ووزير خارجيته "سايروس فانس " بفعل صلابة القيد الذي وضعه كيسنجر. وعلى الرغم من أن الوعي الوطني العام ومنذ عام 1974 وبرنامج النقاط العشر أصبح أكثر واقعية لإدراك الحقيقة التاريخية المرة أن تحرير فلسطين  من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح أصبح هدفا مستحيلا، إلا أن الشروط الأمريكية _ الإسرائيلية كانت وراءها عقلية كيسنجر الشريرة، وهو العالم بأمور السياسة والصراعات في الشرق الأوسط، بحيث يضع شروطا لا يمكن لأبو عمار أن يقبلها لاستحالة تمرير هذه الشروط في الوضع الفلسطيني المعقد بحكم حالة التداخل والتشابك الصراعي بين أنظمة سايكس _ بيكو والثورة الفلسطينية. وحين خسرنا قاعدتنا الآمنة في لبنان بعد حرب عام 1982 كانت الانتفاضة الأولى في أواخر عام 1987 هي التي أنقذت الحركة الوطنية الفلسطينية وفتح وأبو عمار من الموت في المنفى. وعرف أبو عمار كيف يجعل منها الرافعة التاريخية لتحقيق أول إنجاز على أرض الوطن وهو قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. فالانتفاضة وضعت في بياناتها المتتابعة الأهداف المحددة لها وهي طرد الاحتلال من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف وقيام دولة فلسطينية مستقلة، وبهذا حددت الانتفاضة جهارا نهارا ما كنا نمرره في بياناتنا وقراراتنا من وراء ظهر كل اجتماع يعقده أبو عمار لتحديد الموقف السياسي، أمام التصلب المستميت للتمسك بكل صغيرة وكبيرة تخص فلسطين تحت عنوان "الحقوق التاريخية. "وهكذا كانت لغة الرفض تنطلق من الحقيقة التاريخية بأن فلسطين للفلسطينيين إن إسرائيل اغتصبت فلسطين وأقامت دولتها بقوة الاستعمار البريطاني والامبريالية الأمريكية.

 أما لغة السياسة الوطنية  البراغماتية فكانت تسعى لانتزاع ما تبقى من أرض فلسطين تاركة مهمة التحرير الكامل لفلسطين التاريخية للأجيال القادمة. فالصهيونية أقامت دولتها في فلسطين في ظل السيطرة الاستعمارية على العالم. ووجود دولة إسرائيل في فلسطين وفي ترسانتها القنابل الذرية لا يعني أن مصيرها محكوم بقوتها الذاتية وبدعم اليهود على مستوى العالم لها، وبأنها بالتالي دولة أبدية في فلسطين. فيهود اليوم هم غرباء عن يهود التوراة. إن هؤلاء من خارج نسيج الشرق الأوسط الذي تحدد خلال  أكثر من ألفي سنة، وهذا النسيج العربي هو الذي يشكل اليوم  الشرق الأوسط، ويهود إسرائيل  يرفضون الاندماج ويحاربون ضده. ولا يوجد في الأفق  أي استعداد لديهم  للاندماج في محيطهم. بل على العكس إنهم في حالة انكفاء متسارع. ولهذا يبقى يهود التوراة، يهود داوود وسليمان في توراة التاريخ. أما يهود الحاضر رغم لحاهم الطويلة ولباسهم الأسود فهم قادمون من بروكلين ومن وارسو. فهذا التمثل واستحضار شخوص الماضي  مسرحية هزلية لا تعدو تقليدا ساخرا لماض مضى ولن يعود. وخلاصة قصة الصراع هنا أن اليهود في فلسطين تحت اسم إسرائيل هم قوة استعمارية دخيلة ولا سبيل لبقائها إلا باندماجها في الشرق الأوسط. أما بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين فالاعتراف بإسرائيل كان ولا يزال الشرط الاستعماري للاعتراف بوجود كيان وطني فلسطيني على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية. وبدون هذا الاعتراف الاضطراري ما كان يمكن أن تقوم السلطة ولو على شبر واحد من أرض فلسطين. إن الاعتراف هو جواز المرور لإبقاء فلسطين على خارطة الشرق الأوسط في الزمن المستحيل. وهذه عبقرية ياسر عرفات الذي اجتاز حقول الألغام كلها حتى وصل إلى فلسطين. وإن خذله الحاضر فان التاريخ سينصفه في نهاية المطاف.

الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع




التعليقات