دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثامنة عشر : الطامة الكبرى

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثامنة عشر : الطامة الكبرى
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..
الفصل الثامن عشر :

الطامة الكبرى 


لم يكن يخطر في بال أحد أن صدام حسين، بعد انتهاء هذه الحرب المدمرة التي أودت بحياة أكثر من مليون عراقي وإيراني، كان يعد العدة لمغامرة أخرى أكثر خطورة، ودون أدنى دراية بالوضع الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفرد أمريكا بالقرار الدولي ناهيك عن الاعتبارات القومية. وهكذا وقع المحظور صبيحة يوم 2 آب 1990 عندما أرسل صدام حسين دباباته وفرقه العسكرية واحتل دولة الكويت، وأعلن أنها الولاية العراقية رقم (19).

أي كارثة لحقت بنا جراء هذا الاحتلال لدولة الكويت؟ فأين تقف المنظمة من هذا الاحتلال الذي يخالف كل القيم والمواثيق العربية، فالكويت دولة مستقلة وعضو في الجامعة العربية وعضو في الأمم المتحدة، فكيف يقبل المجتمع الدولي باحتلال دولة عضو في الأسرة الدولية؟ وكيف تقبل الدول العربية هذا الاحتلال؟ أما المنظمة فقد وقعت في الشرك بين المطرقة والسندان. هناك مئات الآلاف من الفلسطينيين في الكويت، وهناك الموقع الأخير لقيادة أبو عمار في بغداد. وهناك الدعم السخي من صدام حسين للقيادة والقوات. ولهذا أصبحنا في وضع لا نحسد عليه، فنظام الأسد ضدنا، والملك حسين أدى دوره بنجاح مع صدام حسين، ومع إسرائيل أيضا، والتزم ضبط الحدود أمام أي محاولة فدائية. واندفع الأسد لتأييد التدخل الدولي، وذهب إلى الاشتراك العسكري في حلف"حفر الباطن". وفي المقابل، أعاد احتلال لبنان، وطرد رئيس الجمهورية ميشيل عون إلى فرنسا. أما المنظمة فلم يكن أمامها غير الانسياق وراء المناخ الشعبي المتعاطف مع صدام حسين، وخاصة أن الملك حسين وقف ظاهريا على يسار المنظمة، وصدق الرأي العام ما قاله صدام حسين من الربط بين انسحابه من الكويت وانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية. وأقول للتاريخ إن عبد الرحيم أحمد، في مرحلة ما، أخذني خارج غرفة الاجتماع في مقر أبو عمار في بغداد، وقال لي: أرجو ألا تنجروا كثيرا وراء هذا الربط الوهمي بين الانسحاب من الكويت والانسحاب من الأراضي الفلسطينية. هذا ليس إلا للاستهلاك لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي.

لم يكن أبو عمار بحاجة لمعرفة هذه الحقيقة، ولكنه صار بلا هوامش بعد القمة العربية التي وافقت على طلب السعودية للمساعدة العسكرية من أمريكا لكبح جماح صدام، الذي احتل بعض الأراضي السعودية وهدد باحتلال مكة المكرمة.

وعبر عدد من أعضاء القيادة، وخاصة أبو إياد وأبو مازن و أبو الأديب، عن عدم  تأييدهم لاحتلال الكويت، بل وطالبوا - من خلال النصيحة - صدام حسين في اللقاءات الخاصة بالانسحاب إلى الحدود الدولية، وحتى بالبقاء في المنطقة المتنازع عليها، أما دوله الكويت فلا يمكنه البقاء فيها، سواء كان هذا الاحتلال رفض عربيا أو دوليا، وخاصة إن النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أصبح طليق اليدين على المستوى الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

ظلت المواقف العلنية التي يعبر عنها  أبو عمار حائرة في حقيقة الأمر. ولم يكن قادرا أن يدعو علنا إلى انسحاب العراق من دولة الكويت، بل كانت تصريحاته ضد التدخل الأمريكي، وهذه التصريحات لم تكن لتجد أذانا صاغية لدى أمراء الكويت أو ملوك السعودية أو حتى حسني مبارك، وأصبح هناك في المنطقة كتلتان: دول تقف ضد العراق، ودول تميل إلى الموقف العراقي بفعل الضغط الجماهيري. وهكذا وقعنا في الشرك، وأصبحنا من المجموعة التي صوتت في قمة القاهرة ضد طلب التدخل الأمريكي، وأطلقت دولة الكويت على هذه المجموعة "دول الضد"وضمت المنظمة والأردن و السودان و تونس و الجزائر و موريتانيا و اليمن.

بعد حديث عبد الرحيم أحمد معي  حول عدم  الانجرار الزائد وراء شعارات صدام حسين، أدلى أبو عمار بتصريح أشار فيه بحذر شديد إلى استعداد العراق للانسحاب من الكويت. وفي مساء ذلك اليوم، فوجئنا بالتلفزيون العراقي يعلن أن الرئيس صدام حسين سيعقد مؤتمرا صحافيا. وبعد دقائق ظهر صدام وأجاب على سؤالين الأول حول ما قيل عن استعداد العراق للانسحاب من الكويت. قال صدام : الكويت بلادكم وفلسطين بلادكم وتمسكوا ببلادكم. أما السؤال الثاني فتناول ما قيل من تصريحات من بعض المسئولين حول استعدادكم للانسحاب.  وأجاب صدام: ليقل أي مسئول ما يريد أن يقول، أما موقفنا فنحن نقرره. والكويت بلادنا وفلسطين بلادنا. وانتهى المؤتمر الصحافي، وفيه الرد القاطع على محاولات أبو عمار للإفلات من الالتحاق الكامل بالموقف العراقي.

بعد هذا التصريح، وكنت أجلس مع أبو عمار في مكتبه في بغداد، أحضر أحد الشباب تصريحات في " لوموند " الفرنسية للرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، وفيها يقول: على صدام حسين أن ينسحب من الكويت دون تأخير، ويمكنه الاحتفاظ بالمنطقة المتنازع عليها بين البلدين، وأن يبدي استعداده للتفاوض، أما بقاؤه في الكويت وتهديداته للسعودية فهذا سيؤدي إلى تدمير العراق. أبو عمار قرأ هذا التصريح بصوت مسموع، وقال معلقا: هذا رجل دولة يستحق الاحترام. وكم أتمنى لو أن صدام حسين يستمع إلى هذا الكلام من رجل لديه خبرة طويلة في السياسة الدولية.

في اليوم التالي غادرت بغداد إلى لندن، وبعد ثلاثة أيام عدت إلى بغداد، وفي الطائرة قرأت مجلة "تايم" الأمريكية، وفيها تغطية كاملة للموقف الأمريكي من احتلال الكويت، وواضح فيها أن أمريكا التي حشدت القوات إلى السعودية بقيادة الجنرال "شوارزكوف"، لا تقوم بمناورة لتخويف العراق، بل ستحارب ومعها 32دولة عربية وأجنبية. وتوقفت عند مسألة من يعلن الحرب في أمريكا، ومن يأخذ هذا القرار، حيث كان هناك في بغداد تقدير إن الرئيس بوش لن يخوض الحرب، فالحزب الديمقراطي ضد الحرب. وقرأت في مقال "التايم" إن إعلان الحرب يقوم به الرئيس ومعه خمسة مسئولين لا أكثر، وإعلان الحرب هو حصرا مسؤولية الرئيس وليس الكونغرس. وفي تاريخ أمريكا أعلن الرئيس الأمريكي الحرب (32) مرة والكونغرس أعلن الحرب خمس مرات فقط. وفي العدد نفسه استعراض مطول للقوة الأمريكية وأنواع الصواريخ والطائرات وحاملات الطائرات التي تحيط بالعراق، وان وزارة الدفاع قد زودت إسرائيل بالأسلحة والقواعد المضادة للصواريخ، لأن العراق كان يهدد بقصف إسرائيل بالصواريخ البعيدة المدى التي تحمل "الجمرة الخبيثة". وبعد عودتي إلى بغداد  بيوم واحد أخذني أبو عمار ضمن الوفد الفلسطيني الكبير إلى اللقاء مع صدام حسين، وكنت أجلس في آخر مقاعد الوفد، ويجلس صدام في المنتصف، وعن يساره القادة العراقيون باللباس العسكري، وبينهم طارق عزيز، ووزير الداخلية، ولطيف نصيف جاسم وزير الثقافة، ووزير الإعلام محمد سعيد الصحاف. وقد سيطر على الجلسة الرأي الذي يقول بأن أمريكا لن تحارب، فالخلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي لا يمكن الرئيس بوش من إعلان الحرب. ثم إن العراق حشد قوات ضخمة أكثر من القوات الأمريكية. وفي الواقع، كتبت ورقة صغيرة بالمعلومات التي قرأتها في مجلة "تايم"عن الجهة التي تعلن الحرب في أمريكا وهي حصرا الرئيس الأمريكي ومعه خمسة مسئولين، وقرأ أبو عمار الملاحظة ولكنه لم يقلها بنفسه، بل فهمت من إشارته أن استأذن منه وأقولها للرئيس صدام مباشرة. وهكذا فعلت، إلا إن الرجل لم يعر أية أهمية لما قلت بل قال: لقد أعددنا أنفسنا لكل الاحتمالات. وأضاف صدام حسين جملة أثارت دهشتي فعلا فقد قال بالحرف الواحد: إن هناك انزياحا للخرائط على المستوى الدولي فلماذا لا يقع هذا الانزياح في الشرق الأوسط ونستعيد أرضنا ونحقق وحدتنا؟.

 في جلسة كهذه لا يمكن إجراء أي مناقشة مع صدام حسين. إنه يقول كلمته ولا أحد يملك الجرأة على مناقشته، إلا إنني في يوم آخر وقد دعانا للغداء مدير المخابرات د.فاضل البراك تجرأت على الحديث الصريح، وقلت للبراك: أخشى أن العراق في خطر، فالحرب واقعة لا محال، ومن غير المنطق القول إن العراق سيهزم أمريكا والعالم. كان كلامي لفاضل البراك خطيرا إلى درجة أنني أدركت أنه يود لو لم يسمعه، فحتى استماعه سيترتب عليه مسؤولية، وهو المسئول عن المخابرات. اختفى فاضل البراك، وتبين فيما بعد أنه أعدم ولا أعرف ما هي تهمته.

بعد فشل لقاء طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف أصبحت الحرب واقعة لا محال، والأمر المأساوي إن مئات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين في الكويت قد بدأوا ينزحون إلى الأردن،  بعد أن نزح مئات الآلاف من أبناء الكويت، بما فيهم أفراد الأسرة الحاكمة إلى السعودية والإمارات، وبدا واضحا إن احتلال الكويت يعني تفريغه من الأسرة الحاكمة ومن الشعب الكويتي، ومن أكثر من مليون فلسطيني ومصري. وقد تمكن عدد من الفلسطينيين الذين نزحوا من الكويت من الاجتماع مع أبو عمار، ورووا له ما يلاقيه السكان والفلسطينيون من ضغوط لمغادرة الكويت وكأن هناك خطة لهذا الغرض، وقد أشار أبو عمار لما يجري في الكويت في لقاء مع طارق عزيز الذي نفى علمه بأي شيء من هذا القبيل، وقال: يا أخ أبو عمار هذه روايات كاذبة يروجها الطابور الخامس ضد العراق.

أعتقد أن طارق عزيز كان مغلوبا على أمره، فهو رجل ذكي، إلا إن غياب أية هوامش لإبداء الرأي في القيادة العراقية يفرض عليه أن يكون حريصا حتى لا يتفوه بكلمة خارج الموقف الرسمي. وبالطبع، كان من المستحيل على القيادة العراقية معرفة ما يجري حقيقة في الكويت، لأن الأمر محصور في الدائرة الضيقة المحيطة بصدام حسين. وهكذا وقعت نكبة فلسطينية ثانية. نصف مليون فلسطيني يغادرون الكويت إلى الأردن وكندا واستراليا وماليزيا والجزائر والإمارات، ولم يكن أبو عمار في وضع يسمح له بوقف هذه النكبة، والأدهى من ذلك إن عددا قليلا من الفلسطينيين كان يعمل علنا مع الجيش العراقي في الكويت، وهذا جعل ما تبقى من أبناء الكويت يصب جام غضبه على الفلسطينيين الناكرين للجميل، فشعب الكويت الذي احتضنهم لا يستحق هذه المعاملة، وجرى نقل بعض تصريحات أبو عمار بشكل مشوه، وهو لم يقل يوما إنه يؤيد احتلال الكويت، ولم يتلفظ بكلمة واحدة إن الكويت هي المحافظة (19)في العراق. كان يتحدث دائما ضد التدخل الأمريكي، وخاصة بعد تصويته في قمة القاهرة ضد التدخل، ولكن جرى تشويه مواقف أبو عمار، ومواقف الفلسطينيين، على الرغم أن القادة التاريخيين من "فتح"، أبو إياد وأبو مازن وأبو الأديب وخالد الحسن (أبو السعيد، ) كانوا يقفون علنا ضد احتلال الكويت، ويعتبرونه مغامرة خطيرة ستؤدي إلى تدمير العراق.

اقتربت ساعة الحرب لتحرير الكويت بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي، وأدرك أبو عمار أن الحرب واقعة لا محالة، ومادامت طبول الحرب تقرع فأين موقع أبو عمار؟ وأين تكون قيادته لمساعدة العراق ضد التدخل والحرب الأمريكية. وفي الواقع، كان الاتفاق مع صدام حسين أن يذهب أبو عمار إلى عمان لتكون قيادته في الأردن ما دام الملك حسين يؤيد العراق، ويطلق على نفسه لقب "الشريف حسين".وبالفعل، غادر أبو عمار بغداد بعد ظهر يوم 14-1-1991 وكنت معه، وكذلك عزام الأحمد، وكان المفروض أن صدام حسين قد رتب الأمور مع الملك حسين لضمان قبوله بإقامة أبو عمار في عمان. وصلنا عمان بعد مغيب الشمس بقليل، فإذا الملك حسين في المطار، وبكامل ملابسه العسكرية، وكأن الحرب ستقع هنا في الأردن، وإلى جانبه الأمير حسن، ولي العهد، وزيد الرفاعي ومضر بدران، وكان الطيب عبد الرحيم هو السفير في عمان، والطيب يحظى باحترام كبير من الملك ورجال الدولة الأردنية، وما دام الملك حسين بكامل ملابسه العسكرية وحضر إلى المطار على غير عادته، فلا بد أن شيئا قد تغير في الموقف الأردني تجاه السماح لأبو عمار بالبقاء في الأردن. ومن المعروف أن الرأي العام الأردني والفلسطيني في الأردن كان يقف مع صدام حسين على أمل أن تتحقق الوعود بتحرير فلسطين على يد الجيش العراقي ورأى الناس أن صدام هو خليفة جمال عبد الناصر، وأصبحت بغداد محجة للوفود العربية من المحيط إلى الخليج.

استقبل الملك حسين، بلباسه العسكري وأوسمته ومسدسه، أبو عمار في صالة كبار الزوار في المطار، واختفى الرجلان في قاعة صغيرة. وتكومنا نحن المرافقين لأبو عمار والوزراء الأردنيين في غرفة ضيقة بانتظار انتهاء نتائج اللقاء المغلق بين أبو عمار والملك حسين.استمر اللقاء حوالي نصف ساعة. وخرج الملك هادئا، وأما أبو عمار فكانت عيناه تعكس اضطرابه الشديد وحيرته. إنه لا يجد مكانا تحت الشمس يكون فيه قريبا من شعبه وقريبا من وطنه. وقفنا جميعا صامتين. ولم يقل أبو عمار غير كلمة واحدة "جاهزين".وبالفعل، كانت الطائرة العراقية الخاصة التي أهداها صدام حسين قبل سنوات لأبو عمار جاهزة للإقلاع. ولكن إلى أين؟ هل إلى بغداد أم إلى أين؟ علما أنني كنت قد رتبت أموري على البقاء في عمان إلى جانب أبو عمار. كبير المرافقين العقيد فتحي وحده يعرف لأن أبو عمار يعتبر حركة طائرته سرا من الأسرار إلا عن فتحي. وكعادته ودع الملك حسين أبو عمار بكل اللطف والسلوك المتمدن الذي يميز شخصيته. أبو عمار لن يبقى في الأردن. فالملك حسين لم يف بوعده لصدام حسين. ولهذا فالطائرة الخاصة تعود إلى بغداد. في الطائرة قال أبو عمار الحرب واقعة لا محالة. فشلت كل الجهود لنزع فتيل الحرب، وفشلت كل الوساطات سواء من الروس أو الفرنسيين أو الأمين العام للأمم المتحدة "بيرز ديكويلار." ولا أعرف ما الذي في رأس صدام حسين وعلى ماذا يراهن، وهل من المعقول أن يهزم العراق كل هذه الأمم؟ هتلر قاد ألمانيا، وهزمته أمريكا وروسيا. للأسف كل شيء انتهى، والكارثة واقعة لا محالة.

قلت لأبو عمار: يبدو أن الملك قد استقبلك في المطار لقطع الطريق على طلب صدام منه أن تكون في عمان إذا وقعت الحرب.ورد أبو عمار بمرارة: كنت أتوقع ذلك. فالملك ليس في وارد فتح الجبهة الأردنية أمام الثورة، وهو لديه خبرة طويلة ويعرف أن الأمريكيين سيربحون الحرب وأنا مقتنع بذلك. ولهذا قد يكون رده على صدام بالموافقة على إقامتي مجرد مجاملة، وظل يتردد في استقبالي إلى أن صدر قرار مجلس الأمن بإعلان الحرب على العراق. وفي هذه الحالة انتهت العلاقات العامة و"الشريف حسين"، وعاد الملك إلى مواقفه وموقعه المعروف. وحسم موقفه بترك سفينة صدام تغرق وحدها.

كان أبو عمار يهدف من وراء بقائه في عمان "فتح" الجبهة الأردنية ضد إسرائيل. فهذا قدره الذي ألقاه التاريخ على كاهله، وليس له أن يهرب من قدره، ولم يكن يوما في وارد تغيير أي نظام عربي. وفي الحقيقة، لم يكن يعلم أن صدام حسين سيقدم على هذه المغامرة، كما لم يكن على علم وهو يستمع لخطاب السادات أن هذا الأخير سيخرج على نص الخطاب ويعلن أنه سيزور إسرائيل. وبالطبع، وقف أبو عمار لرئيس مصر كما وقف جميع من في القاعة ولكن التاريخ لا يرحم، حيث يسجل المنتصرون التاريخ على هواهم، ويقولون أن أبو عمار قد صفق للسادات. وفي الحقيقة التي لا يذكرها التاريخ أن أبو عمار حين رأى السادات يهبط من على سلم الطائرة في مطار اللد دمعت عيناه وقال "اليوم ضاعت فلسطين". أما مع مغامرة صدام فقد سعى جاهدا أن يكون القرار عربيا لإخراج الجيش العراقي من الكويت، وذكر القادة العرب في قمة القاهرة، أن عبد الناصر في زمن عبد الكريم قاسم أرسل قوات مصرية إلى الكويت، ويجب أن يكون القرار عربيا والتدخل عربيا حتى لا تسقط المنطقة كلها تحت سيطرة أمريكا. وفي هذه القمة بالذات أعلن أكثر من مرة أنه ضد احتلال الكويت وسيعمل المستحيل لإخراج القوات العراقية. ودعا إلى تشكيل وفد عربي إلى بغداد قبل صدور قرار القمة بطلب التدخل الأمريكي، و"إذا فشل الوفد خذوا القرار وسأوافق عليه".

 وفي الحقيقة، لم يكن تصويت أبو عمار ضد قرار القمة بطلب التدخل الأمريكي موافقة على مغامرة صدام باحتلال الكويت، بل كان يكرس سابقة تاريخية بأنه ضد التدخل الخارجي في الشأن العربي. وقال لي: لقد صوت في القمة ضد مصر وضد السعودية وهما الدولتان الأهم بالنسبة لفلسطين. أما الأسد فصوت إلى جانب طلب التدخل الأمريكي، وهو منسجم في المصالح مع كيسنجر منذ عام 1976. وما دام الأمريكيون وإسرائيل سمحوا له بالتدخل في لبنان، فإنه يذهب معهم إلى حيث يريدون، وأنت تعرف وكنت معي حين زرت مصر، والتقيت مبارك بعد حرب طرابلس، ومصر مقيدة بقيود كامب ديفيد، ودور مصر القومي مشلول، ولهذا تعيث دول القبائل والأقليات فسادا في المشرق العربي، وأنت تعلم أنني كنت على الدوام ضد أي قرار أو موقف يدعو إلى إسقاط النظام الأردني، ولم أكن إلى جانب كمال جنبلاط والحركة الوطنية اللبنانية حين دعوا إلى إسقاط" الصيغة اللبنانية"  وإلغاء ميثاق عام 1943 بين الطوائف اللبنانية. وهل يمكن لأحد أن يصدق أنني مع احتلال دولة الكويت في هذه المغامرة المجنونة من صدام حسين. فهذا الاحتلال لدولة قائمة ومعترف بها لم يعد ممكنا حتى تجاه إسرائيل التي اغتصبت وطننا وأقامت دولتها بقوة السلاح. فما بالك إذا كانت دولة عربية مثل الكويت التي تحتضن قرابة نصف مليون فلسطيني الذين يتعرضون الآن لنكبة ثانية؟ والآن الملك حسين قلب لصدام حسين ظهر المجن، ولا مكان لنا في الأردن لتحويل المعركة ضد إسرائيل. والملك يجيد لغة الحساب والمصالح. ولهذا أعود إلى بغداد وأنا لا خيار لي سوى الوقوف في وجه التدخل الأمريكي، وهذه شهادة أقدمها للتاريخ: لست عاطفيا ولا ساذجا حتى أغرق في الأوهام بأن صدام سينتصر على الأمريكيين ناهيك عن احتلال الكويت واعتبارها المحافظة "19"في العراق، وهذا أمر لا يمكن قبوله أو التسليم به أو اعتباره سابقة يمكن البناء عليها في هذا الوضع العربي غير المستقر. إن الوحدة العربية لن تقوم بإلغاء الكيانات بالعمل العسكري والانقلابي، بل بالاعتراف بهذه الكيانات التي أصبحت حقيقة راسخة على الأرض، والشعب الذي تشكل في إطار الكيانات حين يجد أن مصلحته تكمن في الوحدة فإنه يقرر ذلك عبر إرادته الحرة وبالخيار الديمقراطي، أما القول إن الوحدة تتحقق بالإلغاء والاحتلال فهذه مجرد مراهقة سياسية ستكون لها نتائج كارثية.

كانت الطائرة قد دخلت المجال العراقي، وأبو عمار ترتسم على وجهه هموم الدنيا كلها. ومن المطار إلى مقر قيادته كان صامتا. ولأنه رجل لا تحكم الأوهام حساباته الدقيقة، فإن المعركة واقعة خلال يوم أو يومين وربما خلال ساعات. وما دام القرار الآن الصمود في وجه التدخل الأمريكي، فإنه سيبقى في بغداد. وخلال ساعة بعد وصولنا دار الحديث عن تأمين غرفة عمليات آمنة داخل بغداد يقيم فيها أبو عمار، وبدأ عزام الأحمد يتحرك لترتيب الأمور قبل صباح اليوم التالي ، وناقش عزام عن غرفة العمليات والهاتف الذي يعمل عبر الأقمار الصناعية لأن الأمريكيين سيدمرون شبكة الاتصالات، وخلال ساعتين كان عزام قد لبى  طلبات أبو عمار ونفذ  تعليماته، وأصبحت غرفة العمليات جاهزة لاستقباله في أي وقت يشاء هذه الليلة أو في الصباح الباكر. وقد أمر أبو عمار الشباب والمرافقين بترتيب أوراقه وأجهزته للانتقال على الفور، فالأمريكيون سيقصفون هذا المقر في أول غاراتهم الجوية. وفي الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 14-1-91 كنت أجلس إلى جانبه في مكتبه في هذه الفيلا التي أسميناها مقر أبو عمار ومركز قيادته، وهموم الدنيا كلها تدور في رأسه، في هذه الساعات المصيرية التي تسبق "عاصفة الصحراء، " ويعبر عن ألمه وحزنه لأن الأنظمة العربية: مصر وسوريا والسعودية، أعطوا غطاء لأمريكا لتدمير العراق بدل أن يتحملوا المسؤولية لحماية الأمن القومي، ويقوموا بما قام به عبد الناصر أيام تهديدات عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت.

وكالعادة، لا ينقطع رنين الهواتف في هذا المقر، ولا يتوقف جهاز اللاسلكي عن إرسال البرقيات. إلا أن عادل، وهو المسئول عن الهاتف الخاص لأبو عمار، دخل مسرعا وكان في حالة اضطراب شديد على غير عادته وقال لأبو عمار: أخ أبو عمار حكم من تونس يريد أن يكلمك لأمر هام جدا.رفع أبو عمار رأسه من بين يديه ورفع سماعة الهاتف وهو يقول: نعم يا حكم.. ماذا تقول يا حكم؟ جرح أبو إياد؟ أين هو الآن؟ وأين كان موجودا، ويواصل أبو عمار صراخه. يقول حكم: عند أبو الهول، ماذا حصل لأبو الهول، وفي أي مستشفى؟ أريد أن أطمئن عليهم، أريد الاتصال بهم، كيف حصل هذا؟

عند سماعي وقفت بجانب أبو عمار وكان يرتجف. إنه يكاد ينفجر من هول ما سمع. إنه يصرخ ويبكي، ولم يكن في قدرتي أن أساعد في تخفيف توتره وعصبيته كما هي عادتي حين يواجه مأزقا. ضاعت الكلمات كلها. إنه يعرف أن حكم قال كلمات قليلة للتخفيف على أبو عمار وأن كارثة وقعت في تونس، وما دام لا يستطيع أن يتحدث إلى أبو إياد وأبو الهول حتى بعد مرور عشرين دقيقة على مكالمة حكم فالكارثة وقعت لا محالة.

  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات