دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة التاسعة :استقبال اسطوري لعرفات في أثينا

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة التاسعة :استقبال اسطوري لعرفات في أثينا
مجلة فلسطين الثورة كان يرأس تحريرها احمد عبدالرحمن
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل التاسع:

سفر الخروج 


عرض أندرياس بابا ندريو رئيس وزراء اليونان على ياسر عرفات أن يقدم له جزيرة يونانية لإقامته ومقاتليه، تكريما لهذا المناضل في سبيل حريته وحرية شعبه. إنه زمن الأساطير، وكلمة فلسطين لاتينية يونانية، وأصل الفلسطينيين كما تقول بعض الروايات من جزيرة "كريت" اليونانية. ففلسطين في لغة اليوم هي "بلستينا" في التاريخ القديم، وهذه الأرض الواقعة بين البحر والصحراء تشكل العقدة لثلاث قارات. ويبقى سرها الدفين والذي لم يكتشف بعد، لماذا فلسطين دون غيرها أرض الرسالات السماوية الثلاث؟ ولماذا شهدت هذه البقعة الصغيرة من العالم الكبير معارك تاريخية حاسمة، الفراعنة والحثّيون، الفرس واليونانيون، والإسكندر المقدوني الذي صمدت غزة في وجه قواته، ونابليون الذي أعيته عكا فتراجع إلى مصر، وحطين التي غيرت التاريخ، وحروب القرن العشرين في فلسطين وعلى فلسطين. وقد تقرر الخروج بعد أن قال صائب سلام لأبو عمار: لقد نفذ السلاح والذخيرة من أيديكم وإن كنت تنتظر نصرة من أحد فأخبرنا لنصبر معك، ولا نرى بعد 88 يوما من الصمود أي أمل في النصرة من أحد. ولم يجد أبو عمار ما يقوله غير الإيماء الحزين بالموافقة. وعند خروجه قال: لو كانت بيروت مدينة فلسطينية فلن أغادرها أبداً. وكان العميد أبو الوليد قد أصر على أن أرافقه إلى سوريا، وقال إنه أمر باستئجار شقة في دمشق. وكانت علاقتي مع هذا الضابط الشجاع قد توطدت بحكم عملي اليومي مع أبي عمار. وغرفة العمليات التي يرأسها العميد أبو الوليد هي كذلك مركز قيادة أبو عمار. ولا يمر يوم دون أن نلتقي في غرفة العمليات لأن أبو عمار يضع الإعلام ودوره على نفس الدرجة من الأهمية التي يوليها للمقاومة والعمل العسكري. وكاد مصيرنا يتقرر مرتين سواء في القصف الجوي الإسرائيلي الذي دمر غرفة عمليات الغربي أو من "القنبلة الفراغية "التي دمرت بناية الصنايع. ولو تأخرنا نصف ساعة فقط لكنا تحت الركام مثل الضحايا الكثيرين. وكان بينه وبين نفسه يرى أن إصراري عليه في ذلك اليوم المشهود لتناول الغداء حيث أسكن في شقة في منطقة الحمراء بعد تدمير الشقة التي كنت أسكنها في الفاكهاني، كان يرى إصراري عليه تعبيرا عن صداقة وطيدة واحترام لا حدود له لقيادته الشجاعة. وكان لا بد أن أستأذن أبو عمار قبل أن أقرر الموافقة على العرض السخي من العميد أبو الوليد سعد صايل. وحين فاتحته بفكرة المغادرة مع أبو الوليد إلى سوريا، وقلت له: لا يوجد لدي أو زوجتي وأولادي أية أوراق ثبوتية أو جوازات سفر، وقد لا يكون سهلا علينا دخول اليونان، أما في سوريا فيدخل المغادرون على كشوف يوقعها العميد أبو الوليد.

ورد أبو عمار بجملة حزينة وجارحة حيث قال: وهل حين تغرق السفينة يبحث كل فرد عن مصيره الشخصي.

وأمر رئيس حرسه فتحي أن أكون وعائلتي إلى جانبه في السفينة المغادرة إلى اليونان. وأخبرت العميد أبو الوليد بما قاله أبو عمار، فقال: أتوقع ذلك، إنه لا يستغني عنك. " وقد غادر أبو عمار بيروت كأنه أحد أبطال الأساطير اليونانية فعلا. وداع، قدمه لبنان الوفي للقيم الرفيعة ولمن يحملها ويجسدها، لهذا القائد الذي ربط مصيره بمصير شعبه وأثبت في هذه الحرب أن مصيره الشخصي لا يعنيه فلا مسافة تفصله عن المقاتل واللاجئ الذي يناضل من أجل قضية عادلة. كل لبنان الوطني ودع أبو عمار بالزغاريد والرصاص والأرز، ورئيس الوزراء وقادة الحركة الوطنية كانوا في وداعه. وكان يوما لا ينسى في التاريخ، ومن المفارقات أن الصورة الوحيدة التي اعتبرتها الصحافة الإسرائيلية والفرنسية صورة العام بامتياز: هي صورة أبو عمار وبجانبه ابني "يزن"وهما ينظران إلى الأفق البعيد، وأبو عمار يردد للصحافيين على السفينة: من هنا إلى فلسطين."

وأبحرت السفينة عند الظهر باتجاه أثينا وترافقها السفن الحربية الفرنسية والأمريكية. واطمأن أبو عمار على مصير أهلنا في المخيمات مع وصول القوات الايطالية والفرنسية والأمريكية لهذا الغرض.

وفي أثينا، عاصمة اليونان، كان هناك الاستقبال الأسطوري، حرس شرف واستعراض ورئيس الوزراء باباندريو وكل الشعب اليوناني الذي يعشق الأساطير يرحب بأبي عمار. وحين وصلنا الفندق كان حكم بلعاوي سفيرنا في تونس ووفد رئاسي تونسي في طائرة خاصة لاستقبال أبو عمار ومرافقته من أثينا إلى العاصمة تونس. ولأنني يجب أن أرافق أبو عمار إلى تونس، فقد كان علي تأمين الأسرة التي لا تملك جوازات سفر. أما أبو عمار فلا توجد عنده مشكلة لا حل لها، ولهذا وخلال ساعتين، كانت لدي الأوراق الرسمية اليونانية التي تسمح لأسرتي بالسفر إلى قبرص والإقامة فيها لمدة شهرين، ريثما نحصل على جوازات سفر. وحكم بلعاوي النشيط والعملي والإداري الفذ قال: هذه مشكلة بسيطة نحلها خلال 24 ساعة بعد وصولنا إلى تونس. وأخذ الصور لكل أفراد العائلة ولي أيضاً. وبالفعل كانت جوازات السفر التونسية جاهزة بعد يوم واحد من وصولنا إلى تونس. وفي اليوم الثاني غادرنا أثينا بوداع حافل. ولن أنسى أبدا جمال اليونان الساحر على هذه الشواطئ الممتدة والتي تتحدث عن التاريخ. ودائماً وأبداً أظل مسحوراً بهذا التاريخ اليوناني الذي قدم للبشرية هذه العقول الجبارة التي رسخت عظمة العقل الإنساني.

الرئيس المجاهد الحبيب بورقيبة كان على رأس الاستقبال الحافل لأبو عمار في مطار قرطاج الدولي واصطحب أبو عمار إلى "قصر السعادة" وقال لأبو عمار هذا القصر هدية لك وتقديرا لكفاحك من شعب تونس. إلا أن أبو عمار شكره من قلبه على استقباله وتكريمه كل هذا التكريم وقال له: أرجو أن تقبل اعتذاري لأن علي أن أذهب إلى المقاتلين في وادي الزرقا، فهم عرفوا بوصولي ولا بد أن اطمأن عليهم. وكان معسكر وادي الزرقا يبعد أكثر من مائة كم عن تونس العاصمة. وأبو عمار لم يرتح ولو ساعة واحدة، واصطحبني معه إلى وادي الزرقا حيث المقاتلين الذين صنعوا مجد الصمود في بيروت، قد وصلوا ربما قبل يوم واحد فقط وهم يحفرون وينصبون الخيام ومرهقون وقلقون والمجهول أمامهم يعذبهم، وعليه أن يبعث الطمأنينة والثقة في نفوسهم. وقضى أبو عمار الليل بطوله يصافحهم ويطمئن على أحوالهم ويحل مشاكلهم كبرت أم صغرت. ولا أنس حين حاولت النوم في ساعات الفجر أن حشرة الناموس قد جعلت النوم من المستحيلات. إلا أن التعب والسفر والقلق قد هدني فعلا. وحين صحوت بعد ساعتين أو أكثر قليلا كنت منتفخا في يدي ورجلي ووجهي من قرص الناموس. وحين صحوت وجدت أبو عمار على أتم الاستعداد للمغادرة. وكنت إلى جانبه ونحن ندخل هذا الفندق الذي دخل التاريخ إنه "أوتيل سلوى" في ضاحية تونس الجنوبية في حمام الشط والذي تحول إلى قاعدة فلسطينية. وهنا تبدأ المرحلة التونسية التي استمرت من عام 1982 وحتى عام 1994.

كانت غرفتي ملاصقة لمكتب القائد العام وبجوار المكتب الغرفة المخصصة لمنامه. وقد يكون قد مضى يوم أو يومان، وأنا أقوم بعملية تكيف قسري مع الوضع الجديد الذي وجدت نفسي فيه. وجوه كثيرة كانت تتحمل مسؤوليات كبيرة، تجلس الآن في هذا المكان وعلامات الإحباط بدت وكأنها حصار آخر، والفلسطينيون من أنحاء العالم أصبح "أوتيل سلوى" قبلتهم، يأتون للسلام على أبو عمار، ويأتون يحملون الأفكار والحلول لحالتنا الراهنة. ولا أخفي أنني فكرت في استكمال دراساتي العليا في العلوم السياسية والتي كنت بدأتها في الجامعة الأمريكية في بيروت، بمساعدة البروفيسور حنا بطاطو، والبروفيسور القدير وليد الخالدي والدكتور رشيد الخالدي. وكنت قد حصلت على "27" ساعة من أصل "33" ساعة مطلوبة لتقديم رسالة الماجستير في العلوم السياسية. وكنت اتفقت مع البروفيسور حنا بطاطو على أن تكون رسالتي للحصول على الماجستير بعنوان: "اثر البترول في السياسة الدولية."وكنت بهذه الأحلام والآمال أحاول أن أحارب الفراغ وأحارب اللاجدوى وأحارب الإحباط الذي أصابني كما أصاب الكثيرين بعد أن أصبحنا بعيدين عن فلسطين والفلسطينيين. أما الناس في تونس فهم طيبون ويتحدثون العربية والفرنسية ولهم لهجة مميزة وألفاظ ومفردات تختلف في معناها عن لهجة المشرق العربي. ولم أفاتح أحدا بما يدور في رأسي. فأنا الذي قضيت حياتي كلها في هذا الأتون الملتهب بدأت أحلم في استراحة المحارب، ولكن إذا كنت تعمل مع أبو عمار فليس لك أن تفكر وحدك، وليس لك مشاريع خاصة. هناك فقط مشروع صناعة التاريخ الذي يسكن أبو عمار، وأنت حين ارتضيت لنفسك أن تكون معه وإلى جانبه في هذا المشروع العظيم، فإنما تسدد فواتير القهر والظلم والتجاهل الذي جعل الكثيرين في الجغرافيا المحيطة ينظرون إليك باحتقار، كلما أقدمت على فعل بسيط تعلن فيه حضورك، وإنك لست من هذا القطيع المخدر بالأوهام والأكاذيب، ووحدك ترفض أفكارك العظيمة وتتذكر ما قاله أبو عمار حول الهروب من السفينة الغارقة. وتخرج من صالة الفندق وتعود إلى غرفتك، فإذا رجال أبو عمار يبحثون عنك، وتدخل مكتب أبو عمار، وترى أن لا شيء قد تغير، إنه بكامل ملابسه العسكرية ووراء مكتبه ينهمك في الاتصالات والأوراق. ويقول لك: القمة العربية في فاس بعد ثلاثة أيام، ولا بد من كلمة لنا في هذه القمة. وأخذ يعدد لي عناصر الخطاب الذي سيلقيه أمام القادة والرؤساء العرب، وأنا أكتب رؤوس أقلام. فأنا أحفظه غيبا وأكاد أتوقع كل كلمة وكل موقف يريد أن يطرحه على الرؤساء العرب. ولن يطول الوقت أكثر من ساعتين حتى عدت إليه ومسودة الخطاب جاهزة لمراجعتها. وهو لا يترك كلمة أو جملة إلا ويتوقف عندها وهو يمسك بقلمه الأحمر. وحين يكتب بالقلم الأحمر سطرا أو أكثر أقول له لو تكمل الخطاب حتى نهايته فهذه موجودة، فيرد علي بقوله: "الله يفتح عليك أنا أرتب أفكاري كما أريدها أنا. " وحين ينتهي من المراجعة أقوم بإعادة كتابة الخطاب وأقدمه له ثانية. فيقوم بالشطب أو الإضافة. وفي الطائرة التي أقلتنا إلى مدينة فاس في المغرب، قام بمراجعة الخطاب وبيده قلمه الأحمر، وداعبته بكلمة القاضي الفاضل وقلت له: لو أن الكاتب قام بمراجعة ما كتب لما كتب كاتب شيئا." والقاضي الفاضل هو كاتب صلاح الدين. ويواصل أبو عمار انكبابه على الخطاب ويقول: "لكل شيخ طريقة." وحين اقتربنا من أرض المغرب، فاجأ أبو عمار الوفد والمرافقين بأن يهبط الجميع من الطائرة باللباس الرسمي المدني وربطة العنق. ولم أكن أعلم أن الملوك والقادة العرب قد قرروا استقبال أبو عمار في المطار. وكانت لحظة تاريخية لن ينساها التاريخ. فالأمة كلها بملوكها ورؤسائها تستقبل قائد الشعب الفلسطيني الذي صمد في بيروت 88 يوما ولم يرفع الراية البيضاء، ولم يغادر بيروت في حماية الصليب الأحمر الدولي بل صمد وصبر حتى حقق الخروج المشرف له ولرجاله. ولو كانت بيروت مدينة فلسطينية لما غادرها أبدا، وقد ظل يرددها لفترة طويلة.

وقفنا بعيدا وأبو عمار يخطو خطواته الواثقة فوق البساط الأحمر ويتجه بكل كبرياء لعناق الملوك والرؤساء الذين قدموا أقصى ما يمكن تقديمه لرجل نذر نفسه لمواجهة هذا الجرح النازف في الضمير العربي. وفي قصر الضيافة الذي خصصه له الملك الحسن الثاني، كان أحمد بن سودة، مستشار الملك، لا يفارقه أبدا. وفي جلسة القمة العربية ألقى أبو عمار خطابه. وكان خطابا تصالحيا مع الأشقاء جميعا. وفي السياسة طرح الممكن العربي وهو استرجاع الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967. وكعادته يرسل إشارات للقوى التي تقف وراء إسرائيل علها تتعقل وتعترف به وبشعبه. ويكتفي بالقول بأن نقاطا إيجابية في مبادرة ريغان، وإن القيادة تدرسها والباب مفتوح لمزيد من التوضيح المطلوب من أصحاب هذه المبادرة. وتمسك بالانسحاب الكامل دون قيد أو شرط وتمسك بالاستقلال الناجز وبالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهذا بالضبط ما يجب أن يصدر عن القمة العربية التي خرج ملوكها ورؤساؤها إلى المطار لتكريمه. ولا ينس أن يشيد بالأمير فهد ومبادرته. ويتحاشى ذلك الجدل العنيف بين الأسد وصدام حسين حول قضية ال "45"كم التي كانت حسب ما قاله الأسد في القمة، المدى الأبعد للهجوم الإسرائيلي. وقيل في حينه أن تطمينات أمريكية قد تلقاها الأسد حول حجم ومدى الهجوم الإسرائيلي، وبالتالي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، حين اقتربت القوات الإسرائيلية من سهل البقاع. فلم يكن هدفها الوحيد قوات الثورة الفلسطينية ضمن عمق"45"كم ولكن الهجوم الإسرائيلي البري والجوي كان يستهدف قواعد الصواريخ السورية في البقاع وكتائب الدبابات. وكانت الكارثة الجوية للمقاتلات السورية لا تقل فداحة عن  العدوان الجوي الإسرائيلي صبيحة الخامس من حزيران 1967 حيث دمرت الطائرات المصرية وهي في مرابضها.

أما ما حدث للطيران السوري، فكان في الحقيقة كمين جوي في غاية الدقة لتدمير المقاتلات السورية حيث خسرت سوريا"80"مقاتلة خلال أربعة أيام وهذا ما أجبر نظام الأسد على الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار صباح يوم 11حزيران 1982.

وقد أصدرت القمة العربية الثانية عشرة في فاس قراراتها، وخاصة اعتماد مبادرة الأمير فهد بما تضمنته من ضمان مجلس الأمن لأمن دول الشرق الأوسط. وقد أغضبت قرارات القمة أبو صالح وطلال ناجي وأبو ماهر اليماني أعضاء الوفد الفلسطيني. وأصدر أبو صالح وهؤلاء تصريحا صحفيا يعلنون فيه معارضتهم لهذه القرارات. والأمر الغريب هو الموقف العنيد والمتصلب من أبو صالح وخاصة أن بيننا علاقات صداقة ومودة شديدة على مدى سنوات. وحاولت عبثا إقناعه بأن ما نطلبه موجود في القرارات، الدولة المستقلة، تقرير المصير، حق العودة للاجئين، الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة. وفي الواقع غادر أبو صالح إلى دمشق ومعه طلال ناجي وأبو ماهر اليماني في طائرة الأسد. وهذا الموقف أثار شكوكا لدي بعد لقاء أبو صالح مع الأسد لمدة سبع ساعات في دمشق قبل فترة قصيرة.

وبعد انتهاء القمة العربية في فاس التي ركزت على إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف عدنا إلى تونس. وأخبرني أبو عمار في الطائرة أن الأسد لم يخرج مع الملوك والرؤساء العرب لاستقباله ولم يلتق معه أبدا أثناء أعمال القمة. وحدثني كذلك عن اتهام صدام حسين للأسد بالتواطؤ مع إسرائيل وأمريكا ضد الثورة الفلسطينية. وأما عن أبو صالح، فقال أبو عمار: "يبدو أن في رأسه موال." ولم يوضح ما يعنيه بالموال، وقلت لأبو عمار أن اغتيال ماجد أبو شرار في روما في 9/10/1981 قد ترك "أبو صالح"تحت رحمة أبو خالد العملة. وهناك معلومات غير مؤكدة أن أبو خالد العملة قد أقام علاقات مع المخابرات السورية ورد أبو عمار علي بقوله: "صح النوم، معلوماتك قديمة."

ومساء 14 أيلول 1982 كان الخبر الأول في الإذاعة والتلفزة أن انفجارا وقع في بيت الكتائب في الأشرفية. وجاء في الخبر الثاني أن بشير الجميل الذي انتخب رئيسا للبنان قبل أقل من شهر كان يرأس اجتماعا هناك. وجن جنون الناس في أوتيل سلوى من الفرح. فبالنسبة للفلسطينيين فهذا الولد الفاشستي الدموي هو من تجاوز كل الحدود وكل المحرمات، وسلم مفاتيح بيروت لشارون تماما كما فعلها الوزير العلقمي الذي سلم مفاتيح بغداد عاصمة العباسيين لهولاكو التتري في عام 1258 ميلادية ليقضي على الحضارة والعلم والثقافة في عاصمة الرشيد. وأما الخبر الثالث، فكان أن الانفجار كان كبيرا لدرجة أنه دمر كل المبنى على من فيه. وتبين بعد مرور ساعتين أن بشير الجميل قد قتل في الانفجار. وللتاريخ أقول أن المقارنة بين العلقمي والجميل كانت من أبو عمار. وكان قد تلقى دعوة لمقابلة بابا الفاتيكان في روما في اليوم الثاني 15/9/1982، ولم أكن ضمن هذا الوفد بل كلفني أبو عمار أن أبدأ في تجميع العاملين في الإعلام وفي مجلة "فلسطين الثورة" في قبرص لإصدارها من هناك. وكان استقبال البابا لأبو عمار وهو الأول يحمل رسالة لكل المسيحيين في العالم تتضمن مباركة قداسته لهذا القائد الفلسطيني. وفي الوقت نفسه تدين وبشدة الجرائم الإسرائيلية التي استمرت طوال 88 يوما ضد بيروت وضد المخيمات واللاجئين المشردين من وطنهم. وقد غادرت تونس صباح يوم 16/9/1982 لأبدأ إصدار مجلة "فلسطين الثورة" في قبرص، ولأنه لا يوجد خط طيران مباشر بين تونس وقبرص فقد قضيت الليلة في أثينا، وصباح يوم مجزرة صبرا وشاتيلا 17/9/1982 كنت في قبرص في نيقوسيا، مجزرة صبرا وشاتيلا التي دبرها شارون وآيتان ونفذها المجرم إيلي حبيقة وعصاباته الفاشية ستظل وصمة عار إلى الأبد في جبين المحتلين وعملائهم، وكما قال شاعرنا العظيم محمود دوريش : "صبرا هوية عصرنا حتى الأبد".

وبالطبع سرعان ما تنطلق سهام الحقد الأسود ضد أبو عمار وضد فتح من أولئك الذين كانوا أول من اقترح الخروج من بيروت تحت راية الصليب الأحمر الدولي. وأبو عمار هو الذي صمد طوال هذا الوقت من أجل أمرين إثنين، الأول: وجود ضمانة دولية لحماية المخيمات، والثاني: أن يضمن "الخروج المشرف." وأما حتمية الخروج فكانت دون مواربة مطلبا لبنانيا من الشخصيات التقليدية ومن القوى الوطنية على السواء بعد أن استحالت كل الحلول الأخرى. فإسرائيل لديها الدعم الأمريكي الأعمى من الكسندر هيغ وزير الخارجية الأمريكي، والأوروبيون في العادة يتبعون القرار الأمريكي مع بعض المواقف اللفظية التي لا تغير شيئا في القرار الأمريكي، والاتحاد السوفياتي غائب عن الساحة الدولية بعد وفاة بريجنيف.

وبدا شباب الإعلام ومجلة "فلسطين الثورة" يتوافدون على نيقوسيا. وبمساعدة الشباب العاملين في مكتب المنظمة أصدرت العدد الأول من "فلسطين الثورة" وعدد صفحاته "36"صفحة وليس "52"صفحة كما هو معتاد. وكتبت كل المقالات والتعليقات. واستعنت بالصحف القبرصية لأخذ الصور المناسبة للمجلة، ولأن قبرص بلد خدمات سريعة فإن المجلة صدرت فعلا وأرسلتها إلى أبو عمار وإلى عناوين كثيرة على مستوى العالم. ولم تمض سوى أيام قليلة حتى كان العدد الأكبر من هيئة تحرير "فلسطين الثورة" قد وصل إلى قبرص وبدأت المجلة تصدر أسبوعيا وبانتظام من قبرص حتى توقيع اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية ووصول أبو عمار إلى غزة أول تموز 1994.

الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع




التعليقات