دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة عشر : دور أبو مازن التوفيقي وواقعيته السياسية

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة عشر : دور أبو مازن التوفيقي وواقعيته السياسية
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الخامس عشر:

الرؤية أوضح في تونس
 

عاد أبو عمار إلى تونس بعد خمسة أيام من المحاولات التي بذلها الكثيرون لإقناعه بالعودة إلى تونس والاجتماع مع أعضاء اللجنة المركزية. وفي الحقيقة هناك من أجرى اتصالا مع الرئيس علي عبد الله صالح للضغط على أبو عمار للسفر إلى تونس. وفعلا هذا ما حدث. وعاد أبو عمار إلى مقر قيادته. وهذه اللجنة المركزية التي قادت فتح هي فعلا قيادة تاريخية بكل معنى الكلمة. فالغضب بينهم يقف عند حد، والخلاف السياسي يقف عند حد، ومهما ظهر بينهم من جفوة وتباعد وحتى قطيعة في الكلام والاتصال فيخطئ من يراهن عليه ويبني حساباته أن هذه القيادة قد فقدت وحدتها وتفرقت أيدي سبا. ويقف محمود عباس (أبو مازن) في نقطة الوسط. وحين يضمن صفاء الأمور بين أبو عمار وأبو إياد تصبح مهمته لعقد اجتماع اللجنة المركزية قريبة المنال. وبصمته الشديد يفاجئنا بأن اجتماع اللجنة المركزية سيعقد هذه الليلة، فيجري تنفيس الاحتقان الداخلي. وتسقط السدود بين المعسكرات. وهكذا ساد في فتح لسنوات طويلة اعتقاد أن أبو عمار وأعضاء اللجنة المركزية يوزعون الأدوار فيما بينهم.

 ومع أن أبو عمار وصل تونس غاضبا من التصريحات والبيانات التي صدرت من عدد من أعضاء المركزية للتنصل من زيارته للقاهرة بل ولإدانتها، فانه يرصد أوضاع اللجنة المركزية. فإذا أصيب أحدهم بالزكام يقوم بزيارته. وإذا وقعت مناسبة عائلية يكون ورد أبو عمار وهداياه المتواضعة في المقدمة. وإذا حضر ضيوف أجانب أو من عمان أو بيروت فيقوم حكم بترتيب غداء في منزله ويحضره الجميع، أعني أعضاء المركزية. وإذا حضر من كنا نسميهم "الكمبرادور "وهم حسيب الصباغ، وسعيد خوري، ومنيب المصري، وصبيح المصري، وعبد المجيد شومان، وزين مياسي، وباسل عقل،  هؤلاء موضع احترام وثقة من أعضاء اللجنة المركزية وأنهم يتركون أعمالهم ويتفرغون كليا لإصلاح ذات البين في لجنة فتح المركزية. ويجب ألا ننسى أبدا الدور الرائع لهذا القائد اللبناني الشجاع محسن إبراهيم القادر بثقافته وتجربته السياسية الطويلة على إزالة الجليد بين أعضاء اللجنة المركزية. ولا تستغرق كل هذه الجهود أكثر من أسبوع وبعدها يلتئم شمل اللجنة المركزية، وهذا هو الأهم. وأبو عمار لا يقول في الاجتماع أكثر من أنه وجد من واجبه أن يشكر مصر ورئيسها على دعمهم وتقديم الحماية الأمنية للبواخر التي غادرت طرابلس. وكان هناك تهديد إسرائيلي بالسيطرة عليها، وأخذ أبو عمار أسيرا. ويقول أبو عمار: "نعم، الزيارة قرار شخصي وليست قرار القيادة". فلم يكن هناك مجال لعقد اجتماع وأنا في البحر. والاتصالات التي جرت ليست كافية لتوضيح الأمور كلها للأخوة. والبيان الذي صدر عقب اجتماع اللجنة المركزية كان له هدف أبعد من التأكيد أن الزيارة شخصية وهذه قيادة لها خبرة في شؤون الساحة الفلسطينية. ولذلك حين أكد البيان أن الزيارة شخصية فهذا فتح الباب لاستعادة الحوار مع الفصائل. فلو قيل مثلا إن اللجنة المركزية توافق على الزيارة فان الفصائل وخاصة الشعبية والديمقراطية تصبح في وضع صعب للغاية، وهي المقيمة في دمشق. وهذا البيان الذي صدر بعد اجتماع اللجنة المركزية وفهمه الكثيرون انه مساس بمكانة أبو عمار كقائد للثورة ورئيس للمنظمة إنما يعكس النظرة الثاقبة التي ينظر فيها أبو عمار إلى الأمور. فهو من جهة حقق بزيارة القاهرة اختراقا لصالح الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى ترك الباب مفتوحا لحماية الوحدة الداخلية في الساحة الفلسطينية. والشرعية التي يصر عليها أبو عمار لا يمكنها أن تدوم بدون الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية لا تتحقق لأنها تمثل المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بل يتطلب تحقيقها بالإضافة إلى الأهداف السامية والمثل العليا الوطنية الصحيحة القائمة على الاستقلالية، والعمل الجاد لتعديل موازين القوى الداخلية لصالح الجسم المركزي وشحن ديناميكيته وحركيته لإدامة قدرته على جذب الأفلاك إلى دائرته وإطاره. وإذا كان أبو عمار في كل هذه المعارك التي يقودها قد حقق إنجازا لا تراجع عنه فهذا الانجاز هو تكريس الهوية الوطنية وتكريس الاستقلالية الوطنية وتكريس القرار الوطني المستقل. وهذا تم بالعمل والمبادرة. والمنشقون سواء وقفوا على يساره أو على يمينه فلا أثر لهم يحسب حسابه في الأوساط الوطنية التي أصبحت تعي خصوصيتها. فهذا الانجاز السياسي، وأعني به الخصوصية الوطنية الفلسطينية كانت تربته جاهزة لمن يحسن زراعتها. وهذا ما أدركته بوعي عميق النواة الأولى لحركة فتح التي أحسنت مخاطبة الفلسطينيين ولم تكن حركة تبشير بل كانت حركة عمل وفعل، وخدمها التاريخ من حيث لا تحتسب في هذه الحرب الكارثة عام 1967 التي وسط الدمار والضياع والاحتلال لكل فلسطين التاريخية، أوجدت الشرط الموضوعي والتربة الخصبة لظهور العامل الفلسطيني  بكل خصوصيته. وقد أسقط من وعيه أوهام الماضي ورهانات المستقبل وهو يخوض صراع البقاء في الزمن العربي الرديء، زمن القبائل والكيانات الهزيلة.

 وإذا كان العمل وليس التبشير هو أداة القياس لكل الأفكار فمن غير أبو عمار يمكنه القول أنه دخل مرتين إلى فلسطين لتعبئة الخلايا المقاتلة لحركة فتح، وظلت لغة أبو جهاد تحمل هذه الشحنة العاطفية منذ بدأ كتاباته الأولى في مجلة "فلسطيننا "في عام 1959 وحتى رسالته الأخيرة لقادة الانتفاضة في عام 1988 يوم اغتياله على يد الموساد في 16 نيسان 1988. ويمكننا أن نفهم عمق وتجذر الهوية والخصوصية الفلسطينية حين يصرح أبو إياد بأننا سنعقد المجلس الوطني على سفينة في البحر الأبيض المتوسط ولن نقبل من أحد أن يفرض علينا شروطه. وكمال عدوان الذي كان يردد دائما "عقيدتي فلسطين وكل العقائد في خدمتها. " والمساهم الأبرز في صياغة البرنامج السياسي والجملة السياسية بدعم قوي من أبو عمار وأبو إياد  هو محمود عباس ( أبو مازن ) الذي حفر عميقا في تاريخ اليهود والحركة الصهيونية في دراسة أكاديمية أوصلته إلى الواقعية السياسية العارية ليجد لشعبه مكانا في التاريخ بحكم أنه أحد القادة المؤسسين لفتح. فإنه حين وضع ثقله إلى جانب الواقعية السياسية وجدت الجملة السياسية الفلسطينية مكانها المركزي والمحوري في البرنامج الوطني العام. ولم تكن هذه المساهمة بالمهمة السهلة ولازالت تلقى المعارضة من مزيفي التاريخ.

إن السياسية الوطنية، الصحيحة القائمة على استقلالية الإرادة والقرار، هي مصدر القوة الأساسي لحركة "فتح" لدى الشعب الفلسطيني. وهذه السياسة أصبحت خيارا لا رجعة عنه بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. أما القضية الأهم وهي تعديل موازين القوى الداخلية، فإن أبو عمار بعد الخروج من طرابلس وزيارة القاهرة وحيث أصبحت تونس مركز قيادته، لم يهدأ ولم ينم على حرير استطلاعات الرأي التي أعطته تأييدا شعبيا غير مسبوق. إنه يعطي الوقت- كل الوقت- لإعادة بناء "فتح" بعد كارثة الانشقاق. والانشقاق له تداعيات بعيدة المدى. فهو انشقاق داخلي وانشقاق مع سوريا وقبل عشر سنوات كان انشقاق مع الأردن. وفي القواعد والبنية التحتية. هذه الانشقاقات المتتالية تقع ،عادة، في الأداة الفاعلة، فهي أصابت كوادر عليا في الجسم العسكري والمدني والمنظمات الشعبية. ولحسن الحظ أنها انشقاقات أفقية وليست عمودية بمعنى أنها تنحصر في فرد أو أفراد. والمنشق يخرج وحده من جسم "فتح". وهذا لا يمس التفاف الجماهير حولها وكانت هذه الخصوصية الوطنية التي جسدتها "فتح" هي القوة الحاسمة لعزل أي انشقاق، حتى لو كانت معه سوريا اللاعب المؤثر في الشأن الوطني الفلسطيني، بحكم موقعها في ساحة الصراع، وبحكم مواقفها التي لا تكلفها شيئا حين تقف على يسار "فتح" التي ترفع راية الاستقلالية الوطنية وتعتمد البرجماتية السياسية منهجا في عملها وعلاقاتها.

ورغم الرحيل القهري عن بيروت وطرابلس في عامين متتاليين، فإن عزيمة أبو عمار لم تضعف أبدا. فحيث هناك احتلال هناك مقاومة للمحتلين، وحيث هناك فلسطينيون هناك "فتح". ولا يمكن أن يرضخ أبو عمار لأية قوة تحاول إبعاده عن شعبه. وإذا كانت هناك مقاومة في جنوب لبنان فهي مقاومة فلسطينية - لبنانية ولا يقبل أي تسمية أخرى. وحين عاد الوئام إلى اللجنة المركزية، عاد أبو عمار إلى نظام حياته: المقاومة ثم المقاومة ولا شيء غير المقاومة. فالمقاومة أساس وجوده وجذر شرعيته وبدونها لن يكون أبو عمار، وبعد أن شكل من الضباط الكبار الهيئات المختلفة، كرس كل وقته للجنة لبنان، والمقاتلون يجب أن يعودوا إلى لبنان، لأنه لا يمكن أن نترك شعبنا تحت رحمة المنشقين وحركة "أمل" و"جبهة الإنقاذ" التي أرادها حافظ الأسد أن تكون بديلا لفتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية. ولهذا يأمر "فتحي" و"جمعة "المسئولان عن القوة البحرية بشراء السفن، ويتدفق مئات المقاتلين إلى المخيمات في بيروت والجنوب. ويأمر أبو عمار الوحدات التي كانت في الجبل بالتسلل إلى مخيمات بيروت. وترتكب حركة "أمل" بأمر من الأسد جريمتها في حرب المخيمات ضد ما تسميه "زمرة العرفاتيين."و تتلقى التسليح والدبابات من سوريا. والمهم ألا تعود "فتح" إلى لبنان.

ويضم الأسد كتيبة الأسد واللواء السادس من بقايا الجيش اللبناني لقوات "أمل" لمواصلة جريمتها في حرب المخيمات على مدى ثلاثة أعوام، وتتعرض المخيمات في بيروت والجنوب للقصف والحصار، وحتى تمنع  وكالة الغوث من تزويد مخيم الرشيدية بالمواد الغذائية. وفي مخيم برج البراجنة أصدر رجال الدين فتوى لأكل لحوم الكلاب والقطط بسبب وطأة الحصار. وفشلت حركة "أمل" في فرض سيطرتها رغم آلاف الأرواح بين قتيل وجريح، وبعد حركة "أمل" جاء دور المنشقين الذين اغتالوا علي أبو طوق قائد الصمود في شاتيلا وصبرا في آخر كانون الثاني 1987 الذي وقف في وجه قوات أمل واللواء السادس. ومرة أخرى أخرجت قوات "فتح" من مخيمات بيروت إلى مخيمات الجنوب تحت ضغط النظام السوري. وكان لا بد من الرد على وحشية وغطرسة حركة "أمل". وتحقق الرد في قرية مغدوشة أيلول 1986 حيث وجهت قوات فتح والجبهة الديمقراطية ضربة موجعة لحركة أمل في هذه المعركة الحاسمة وهي القرية الإستراتيجية التي تسيطر على الطرق إلى بيروت والجنوب. وبالطبع يجب أن لا ننسى المساعدة التي تلقتها قوات فتح من الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن التنظيم الناصري بقيادة مصطفى سعد. وهكذا عادت فتح إلى المخيمات في الجنوب دون أن يتوقف أبو عمار عن المحاولات الدءوبة لاستعادة السيطرة على مخيمات بيروت. وظل أبو عمار يحرك المقاتلين والسفن إلى شواطئ لبنان، وإسرائيل تعترض السفن وتصادرها، وتزج بالمقاتلين في سجونها، وحركة "أمل" والمنشقون و"كتيبة الأسد" من بعثيي لبنان يرصدون حركة أبناء "فتح"  للانقضاض عليهم كلما تلقوا الأمر بذلك من دمشق، فالكابوس الذي يؤرق الأسد هو عودة فتح إلى لبنان.

مع انهيار أوهام أبو صالح حول علاقته  مع الأسد وموسكو وفرض الإقامة الجبرية عليه، وصراع أبو موسى وأبو خالد على الزعامة، وتماسك حركة "فتح" قيادة وكوادر في لبنان وكل المخيمات،عادت إلى الحياة والعمل العلاقات بين الفصائل الأساسية "فتح" والشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وجبهة التحرير الفلسطينية وجبهة النضال وتم عزل الصاعقة والقيادة العامة والمنشقين.

لم يجد حافظ الأسد غير التهديد بأن من يغادر دمشق للالتحاق بياسر عرفات في تونس فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. هذا القرار معناه تعطيل اللجنة التنفيذية وتعطيل المجلس المركزي وهما أهم إطارين قياديين في الساحة الفلسطينية. وفي هذه الحالة تصبح شرعية اللجنة التنفيذية مهددة فعلا بحيث لا يتوفر النصاب لدى أي طارئ. وأصبح الوضع خطيرا فعلا حين صادرت المخابرات السورية جواز سفر محمد زهدي النشاشيبي ومنعته من مغادرة دمشق، وليس أمام أبو عمار إلا دعوة المجلس الوطني الفلسطيني في دورة عادية أو استثنائية لحماية شرعية اللجنة التنفيذية لتواصل قيادة الشعب الفلسطيني. وتدخل الأسد لمنع عقد المجلس في الجزائر. وذهب بنفسه في 27 آب 1984 إلى الجزائر. وأقنع الشاذلي بن جديد بالاعتذار عن الموافقة السابقة لعقد المجلس في الجزائر. وذهب أبو إياد إلى الجزائر وإلى اليمن الديمقراطي، ولم يجد غير الاعتذار من اليمن كما من الجزائر. ولهذا أدلى بتصريحه الشهير في ذلك الوقت "بأننا من أجل الحفاظ على الشرعية الفلسطينية وعلى القرار الوطني المستقل سنعقد المجلس الوطني على ظهر سفينة في البحر الأبيض المتوسط". وكان لا بد من إحياء العلاقات الداخلية بين الفصائل تمهيدا لعقد المجلس الوطني. ولهذا بدأت القيادة بإجراء الاتصالات لمباشرة الحوار الوطني في عدن في شهر نيسان 1984. وفي الجزائر وفي براغ تموز 1984. وفي عدن كنت إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول في هذا الحوار مع الشعبية والديمقراطية. وفي براغ كان أبو مازن يدير الحوار مع ممثلي الفصائل في جولة أخرى. وفي الجزائر وضعت اللجنة المركزية كل ثقلها لإنجاح الحوار. وبالفعل، تم التوقيع على اتفاق عدن - الجزائر على أساس جملة من المواقف السياسية المتشددة، ومنها رفض مبادرة ريغان، ورفض كامب ديفيد، ورفض العلاقات مع مصر، وإدانة زيارة أبو عمار إلى مصر.

في عدن وقعت مشكلة مع أبو علي مصطفى كنت طرفا فيها، حيث واصلت مجلة "الهدف"حملتها على أبو عمار وتحت صورته في المجلة كتبت بالخط العريض "المنبوذ."ووجدت المجلة أمامي في الفندق، فقرأت المقال السيئ جدا وجلست على الفور وكتبت افتتاحية "كلمة الثورة" لمجلة" فلسطين الثورة" وأرسلتها على الفاكس إلى المجلة في قبرص، وطلبت نشرها في الصحف اللبنانية. كما طلبت إرسالها إلى عدن حيث نجتمع في جلسات الحوار الوطني المليئة بالتوتر والاستفزاز لفتح. وأما أبو جهاد فكان يتجاوز هذا الاستفزاز. وفي المساء حين نشر ردي في "فلسطين الثورة "على ما نشرته مجلة "الهدف" ضد أبو عمار انفجرت الجلسة وتوقفت المحادثات وألغيت جلسة اليوم الثاني الصباحية، ما اضطر الرئيس علي ناصر محمد إلى دعوة الوفود كلها إلى جلسة مشتركة برئاسته لإصلاح ذات البين، وكانت له قدرة عالية على تذليل الصعوبات في العلاقات الشخصية بيننا نحن الفلسطينيين. ودعانا لتناول الغداء على مائدته، حيث عرفني على مستشاره السياسي وكان اسمه للمصادفة "أحمد عبد الرحمن. "وقد تم الاتفاق على رفع الجلسة في اليوم الثالث على أن يستأنف الحوار في الجزائر في منتصف تموز 1984. وبالفعل صدرت ورقة اتفاق في براغ حيث كان أبو مازن يرأس وفد فتح. وتم توحيد الأوراق وتوقيع اتفاق عدن- الجزائر في 20-7-1984، على أمل أن يتم عقد المجلس الوطني مباشرة في الجزائر. ولكن غياب خالد الفاهوم عن الحوار وهو رئيس المجلس الوطني وغياب "الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية واستحالة قبول المنشقين في أي حوار أو أي مجلس وطني، جعل الأسد يتحرك لرفض عقد المجلس الوطني في الجزائر أو عدن. وبالتالي أصبح الموقف محرجا للشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وبعض أطراف الفصائل الأخرى. إلا أن أبو عمار لن يسلم للأسد بوضع هذا "الفيتو" الخطير على الوحدة الوطنية. ولهذا قرر الاستمرار في الجهود لعقد المجلس الوطني وجاءته الموافقة من الملك حسين الذي رحب بعقد المجلس الوطني في عمان. وكان الملك حسين قد أعلن وقوف الأردن ضد المنشقين وضد محاولات نظام الأسد السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية. وطلب مني أبو عمار الذهاب إلى عمان للتحضير لعقد الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني والتي عقدت تحت عنوان :"دورة القرار الوطني المستقل. "وهذا العنوان يعكس الصراع المتصاعد مع نظام حافظ الأسد. وفي يوم وصولي إلى عمان عقدت مؤتمرا صحافيا في فندق "عمرة"وقرأت نصاً مكتوباً عن أهداف هذه الدورة، وهي حماية منظمة التحرير الفلسطينية والتأكيد على استقلالية القرار الوطني، ورفض الوصاية والاحتواء والتبعية. وقد رتبت استقبال الصحافيين العرب والأجانب وقاعة الصحافة في مدينة الحسين الرياضية. وعزل الأمن الأردني مدينة الحسين الرياضية والفنادق المحيطة ووضع قيودا مشددة على الحضور للمنطقة. وبدون الأوراق الرسمية من لجنة المؤتمر لا يمكن أن يدخل أحد إلى المنطقة.

تحدث الملك حسين في الجلسة الأولى في 22/11/ 1984 وعرض أفكاره حول ضرورة التعامل مع قرارات الشرعية الدولية والقرارين 242 و338، والعمل المشترك الفلسطيني – الأردني. وفي الواقع لم يكن الهدف من وراء دورة المجلس الوطني في عمان أي تناول للقضايا السياسية الشائكة، بل كان الهدف ترميم اللجنة التنفيذية للمنظمة التي كادت تفقد نصابها بسبب قرار الأسد بأن من يغادر دمشق إلى تونس للمشاركة في التنفيذية فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. كما صادرت جواز عضو اللجنة التنفيذية محمد زهدي النشاشيبي. وفي الوقت نفسه قاطعت الجبهة الشعبية ولا زالت عضوا في "جبهة الإنقاذ" مع "الصاعقة"و"القيادة العامة" والمنشقين وأقسام من جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. وبالطبع هناك ممثل الصاعقة مجمد خليفة وممثل القيادة العامة المخضرم طلال ناجي. وقد كنا في بداية عملنا أنا وطلال زملاء في الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا. وكان طلال في ذلك الوقت يمثل جبهة تحرير فلسطين "ج.ت.ف "وأنا أمثل حركة "فتح". وبالإضافة إلى هؤلاء هناك خالد الفاهوم الذي "قلبه مع علي وسيفه مع معاوية"، لأنه محكوم عليه أن يقبل ما يقبله الأسد ويرفض ما يرفضه، وكان مكرها أن يكون طاقية الخفاء لعش الدبابير المسمى "جبهة الإنقاذ". أما عبد الرحيم أحمد ممثل "جبهة التحرير العربية" فكان مع الشرعية وعقد المجلس الوطني في عمان لتجديدها. وهو رجل دمث ومهذب. وقد كان يشكو لي من الاتصالات الهاتفية أثناء دورة المجلس من الصحافيين والضيوف الذين يخلطون بين اسمينا عبد الرحيم أحمد وأحمد عبد الرحمن. وأرد عليه بأن مواقف الجبهة العربية الآن تؤهله تماما ليقوم بدور الناطق الرسمي للمجلس الوطني. فهناك انسجام كامل في المواقف بين "فتح"والعراق. والجبهة العربية في هذه الحالة مع الشرعية وتوقع على بياض لأبوعمار.

 أما الأمر الملفت في هذا التعاون مع الأردن فهناك جيل جديد من الصحافيين على صلة قوية مع النظام وقد جلسوا طويلا معي وأراحهم موقفي حين كنت أؤكد أن أيلول الأسود لا يتحمل مسؤوليته طرف واحد، بل المسؤولية مشتركة بين النظام والمنظمة. والأهم أنني صرحت علنا بأن "الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين، والأردن وطن الأردنيين وفلسطين وطن الفلسطينيين". ورفضت الوطن البديل الذي صرح به شارون حلا للقضية الفلسطينية. ولكني أضفت أن الأردن بلد صغير، ولا يمكنه مجابهة إسرائيل عسكريا ولكن – وهذا هو الأهم- ألا يقبل أي تورط مع إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.

 وسنحت لي الفرصة للحديث المباشر مع الملك حسين، وتأثرت كثيراً بلطفه وأدبه وتواضعه. فهو لا يخاطب أي شخص ولا يرد عليه إلا بكلمة "سيدي"، كما لفت انتباهي فريق المسئولين المباشرين الذين يعملون في الديوان الملكي: إنهم نخبة راقية من الموظفين الحاصلين على الشهادات الجامعية من أميركا وبريطانيا. إلا أن هذه الواجهة من المثقفين ليست هي التي تقرر العلاقات مع الفلسطينيين، سواء كانوا في الأردن أو في الضفة أو من قطاع غزة، فهذه العلاقات بدا لي أنها محصورة بجهاز المخابرات الذائع الصيت في الأردن. وكلمة "عليك مراجعة المخابرات، أو سحب الجواز في المطار أو على جسر الملك حسين ثم مراجعة المخابرات، هي أمور روتينيه في علاقة الأردن بالفلسطينيين.

قرر أبو عمار أن تكون جلسات المجلس الوطني  الفلسطيني جلسات مفتوحة. ووافق الملك حسين على  طلب أبو عمار أن ينقل التلفزيون الأردني كافة الجلسات على الهواء مباشرة، بحيث يتابع أهلنا في فلسطين وفي الأردن وسوريا ولبنان وقائع المجلس وقضاياه أولا بأول. وتعرف الناس على القيادة وأعضائها وقضاياها ونظام عمل المجلس الوطني وكيفية انتخاب اللجنة التنفيذية وممن تتشكل وكيف ينتخب أبو عمار رئيساً للجنة التنفيذية ومن هم المستقلون وكيف يتم اختيارهم،وكيف لم يتمكن المجلس بسبب نظامه المعقد من إسقاط  عضوية أحمد جبريل أو جماعة "الصاعقة". واستمعوا لكل  النقاشات العلنية وهي غير مسبوقة في الحياة السياسية العربية. كل ذلك جعل الجماهير الفلسطينية تلتف بقوه حول المنظمة وحول الاستقلالية الوطنية التي أصبحت هي المحرك وهي القوه الدافعة لأي توجه في الساحة الفلسطينية.أما قضية توفير النصاب، وكانت هي نقطة التحدي، فقد وقف ممثلو الجبهة الديمقراطية على أهبة الاستعداد خارج قاعة المجلس أثناء تثبيت العضوية للتحقق من النصاب وللدخول إلى القاعة في حال حصل نقص في العدد المطلوب لإكمال النصاب. وقد نجحت جهود أبو عمار بحضور 260 عضواً من بين 370عضواً هم أعضاء المجلس. وبهذا تحقق النصاب المطلوب الذي بموجبه تعتبر دورة المجلس الوطني شرعيه على الرغم من مقاطعة "الشعبية" و"الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. ولأن أبو عمار لا يريد القطيعة التامة مع نظام الأسد ,فلم يوافق على جميع الاقتراحات ومشاريع القرارات لطرد أحمد جبريل قائد "القيادة العامة" من عضوية المجلس الوطني. أما بالنسبة لخالد الفاهوم وكانت له مكانة خاصة عند أبو عمار فلم يكن ممكناً بقاءه رئيساً للمجلس الوطني، وعليه تم انتخاب"الشيخ الأحمر" أي التقدمي عبد الحميد السائح رئيساً للمجلس والذي استمر رئيسا من عام 1984حتى عام 1991م، وبعده انتخب المجلس الوطني سليم الزعنون رجل القانون والقاضي والشاعر رئيساً للمجلس. وبالمناسبة، فرئيس المجلس الوطني هو في الوقت نفسه رئيس المجلس المركزي الذي ينعقد أربع مرات كل عام بواقع مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.ويحقق أبو عمار في هذا المجلس ما سعى إلى تحقيقه وهو استعادة الشرعية بكامل قوتها وتحت رئاسته، وإسقاط "الفيتو" الذي اعتقد الأسد أنه سيعطل الشرعية الفلسطينية. وقد قلت له: إن الجماهير عبرت عن تقديرها لموقفه حين تمسك بنصوص القانون ورفض طرد أحمد جبريل وممثلي الصاعقة من المجلس قال لي "هذه شعرة معاوية مع معاوية. "

كانت دورة القرار الوطني الفلسطيني المستقل في تشرين الثاني 1984 توازي في أهميتها قرارات قمة الرباط في تشرين الأول عام 1974 التي نصت على أن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبعد شهر كامل من انتهاء أعمال المجلس الوطني وبالتحديد في"يوم 29/12/ 1984" أقدم المنشق أبو خالد العملة على ارتكاب جريمة اغتيال رئيس بلدية الخليل المبعد فهد القواسمة، الذي انتخبه المجلس الوطني عضواً في اللجنة التنفيذية. وقد قوبلت هذه الجريمة الدنيئة باستنكار عارم من جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وقد كتبت البيان الذي أصدرته القيادة حول هذه الجريمة وحملت المسؤولية لنظام حافظ الأسد.

 كانت حسابات  أبو عمار، وإلى جانبه أبو جهاد، أن هذه المصالحة الهادئة مع الملك حسين قد توفر المكان الأفضل لإدامة الاتصال مع الأرض المحتلة. وبالفعل، بدأ أبو جهاد عمله في عمان بهدوء تام، ووظف أموال اللجنة المشتركة في دعم الداخل، وأقام "حركة الشبيبة" ومئات اللجان والهيئات. وقد احتجت إسرائيل على نشاطات أبو جهاد الذي كان يعمل بهدوء وصمت. ودخل أبو عمار بكل ثقله على خط "القطاع الغربي" الذي يقوده أبو جهاد. وفي بغداد وفي تونس أخذ يستقبل كل أطياف الشعب الفلسطيني. فالبرتقال من غزة، يتعهد أبو عمار بتسويقه في الدول الاشتراكية، والزيت من الضفة تشتريه إيطاليا، و"مستشفى القاصد" تتولى السعودية تغطية نفقاته، والجامعات المتكاثرة في الضفة وغزة يجمع لها 60 مليون دولار ويمولها، والصحف ومكاتب الإعلام لا يبخل عليها باحتياجاتها، أما القادمون لمقابلة أبو عمار في تونس وبغداد فجوازات سفرهم لا تختم أبدا،ً ويتولى هذه الترتيبات عزام الأحمد في بغداد وحكم بلعاوي في تونس.

في بداية عام 1985كان أبو عمار عزز شرعية قيادته، واستعاد العلاقة مع مصر، وتصالح مع الأردن عن طريق عقد المجلس الوطني في عمان وعبر الدبلوماسية المرنة للمصالحة التي اتبعها مع الأردن ومصر. وعلى المستوى الدولي، كان يسعى لتعويض خسارة الثورة لقاعدتها في لبنان والعلاقة مع سوريا بكل ما تمثله من أهمية حاسمة في الشأن الفلسطيني. ومع القرار الذي مرره في المجلس الوطني حول الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين كان لا بد من خطوة مشتركه لإثارة الاهتمام الدولي، وأقدم أبو عمار على الخطوة التي فجرت الموقف من جديد وأعني توقيع الاتفاق الأردني –الفلسطيني في 11/2/ 1985، وتصاعد الغضب وردود الفعل بسبب أمرين أثنين: عدم وضوح أن الاتفاق ينص على دولتين مستقلتين، والثانية التضمين للقرار 242 دون ذكره نصاً عند الحديث في نص الاتفاق حول قرارات الشرعية الدولية وهذا القرار المشئوم هو القنبلة المتفجرة في الساحة وأي اقتراب منه يعني تفجير الساحة الفلسطينية، ومن يقبل من الفلسطينيين بعد جراح أيلول 1970 أن يكون للملك أي دور في الشأن الفلسطيني: هذه محرمات والذي يقترب منها إنما يقترب من حقل ألغام لا يخرج منه سالماً.. إلا إذا كان في دهاء ياسر عرفات. وقد عاد من عمان بعد أن وقع الاتفاق وهو يقول أن إل "S "موجودة في نص الاتفاق وقد يكون الأردنيون أسقطوها سهواً أو عمداً. وفي الانجليزية يقال (Two states) ولكن "لا حياة لمن تنادي" وفشلت هذه المحاولة فشلاً ذريعاً، فاللجنة المركزية رفضتها في بيان علني إثر اجتماعها في الكويت، وحاول  أبو إياد وأبو لطف في زيارتهما إلى عمان تعديل نص الاتفاق وتهدئة الأجواء مع الملك حسين، ولكن الملك لم يكن يملك هامشاً واسعاً لمواصلة التحرك السياسي مع المنظمة من جهة، ومع أميركا وإسرائيل من جهة أخرى. فكان هناك قيد كيسنجر الذي يحمل الإكراه والإملاء. فلا كلام مع المنظمة قبل أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود وبالقرار 242 وتنبذ الإرهاب وإلا (باي باي (PLO.

الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات