دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء !

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء !
رام الله - خاص دنيا الوطن
 صدح صوته في اذاعة صوت العاصفة منذ فجر الثورة الفلسطينية وكلف بملف الاعلام مع الشهيد ماجد ابو شرار , كتب واذاع بيانات الثورة الفلسطينية عبر مراحل النضال المتعددة, شارك في صناعة اعلام الثورة في عدة مواقع , وبعد ان عاد الى غزة كُلّف  بأمانة مجلس الوزراء ليعود من جديد ناطقا باسم الحكومة الفلسطينية التي ترأسها أبو عمار.

ترك العمل السياسي بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات واعتكف بعيدا عن الاضواء مبررا ذلك بـ"وعكة صحية" ولكن الحقيقة أن حزنا عميقا على أبيه الروحي "ياسر عرفات"أصابه ..

"عشت في زمن عرفات" , هو كتاب أحمد عبد الرحمن الذي أصدره في ذكرى استشهاد "والده الروحي" ياسر عرفات .. يحاول أحمد عبد الرحمن تدوين تاريخ ربما غاب أو غُيّب بسبب أو بدون ..

دنيا الوطن تنفرد بنشر كتاب أحمد عبد الرحمن الجديد , 28 فصل مليئة بالقصص والحكايا والتاريخ الذي يجب أن لا يغيب ..


الفصل الأول:

لم يبق غير هؤلاء 

تعال اسمع، إنهم ينادون عليك. قال صديقي نبيل الإمام، شاب قصير القامة يصرخ في ميكرفون وبأعلى صوته يقول: من أراد منكم تحرير فلسطين فليلتحق بقوات العاصفة، وظل يرددها عدة مرات.

قلت لنبيل: لم يبق غير هؤلاء وليكن ما يكون.

بالفعل اقتربت من الشاب القصير القامة وكان يضع مسدسا ظاهرا في حزامه.

 قلت له: سجل اسمي من فضلك.

وأسرع الشاب وسجل اسمي، قال لي هامسا: في الساعة السادسة صباحا انتظرك غداً على جسر فكتوريا في موقف باص الهامة ودُمَّر.

شكرته وصافحته ومضيت مع نبيل لتناول القهوة في مقصف الجامعة وسط ضجيج الطلبة.

_ إنك مجنون، ما الذي تفعله، هل تعرف إلى أين سيأخذونك؟ قال نبيل الإمام.

قلت له: لا شيء يمنعني من الالتحاق بهم.

 وقال نبيل: أمرك غريب.

قلت لنبيل: لا تستغرب من التحاقي بهؤلاء الذين لا أعرفهم، لكن الأمر بالنسبة لي إنني لم أعد أحتمل الحياة التي كنت أحياها، يجب أن أكون أمينا  مع قناعاتي، وهذه القناعات جعلتني أترك بيروت وأذهب إلى الجبهة في الجولان، وبالطبع لم نصل الجبهة ولم نحارب، فقد كان كل شيء قد انتهى بالغارات الجوية والالتفاف حول الجبهة، هذا ما قاله لنا الجنود والضباط الذين لم يتناولوا الطعام  على مدى ثلاثة أيام.

 الشاعر العراقي عبد الكريم  كاصد، كان معنا في هذه المجموعة الطلابية، وقد قال شعراً ما زلت أحفظه:

أنا الجندي المكلف صابر بن جحيش 

حياتي لم أر الجولان ولم أسمع بقلقيلية

وسجائري رخيصة من خصوصي  الجيش .

ضحك نبيل وأصر على كتابتها وفي المساء افترقنا، على أن نلتقي في يوم ما. ولم يتحقق هذا اللقاء أبدا، فقد قرر نبيل الإمام وضع حد لحياته لأسباب لا أعرفها، وعلمت أن الروائي حيدر حيدر كتب في مجلة المعرفة مأساة نبيل إمام دون أن أتمكن من الاطلاع عليها، لأنني غادرت دمشق.

في الساعة السادسة صباحا في الأيام الأخيرة من حزيران ذاته كنت على أتم استعداد بانتظار الشاب الذي سيأخذني إلى الفدائيين، حضر الشاب في الوقت المحدد تماماً وركبنا الباص ومعنا عدد غير قليل من طلاب الجامعة في موقف جسر فكتوريا، ولم يكن بيننا أي حديث، بل صمت مطبق، وفي موقف للباص قبل ميسلون شدني من يدي، ودون كلام قطعنا الشارع وصعدنا مرتفعا ترابيا. في خيمة صغيرة كان بانتظارنا شاب يلبس ملابس شبه عسكرية، ولا أبالغ إذا قلت أننا لم نتبادل التعارف، وكان كل متطوع يختار الاسم الذي يلائمه، وبالفعل اخترت "منتصر المقدسي" وبهذا الاسم نشرت مقالا سياسيا في مجلة "إلى الإمام " التي كانت تصدر في ذلك الوقت، والمقال مليء بالجمل الثورية التي كنت أحفظها عن ظهر قلب.

وقد فوجئت بأن المطلوب مني أن أعود في الغد للتدريب على استخدام السلاح، ولم تزد مدة التدريب كلها عن أسبوع واحد لفك وتركيب الكلاشنكوف والتمييز بين الألغام ضد الأفراد وضد الآليات، ولا أنسى ضخامة اللغم الصيني  الذي كان المدرب يقفز عليه ليؤكد لنا أنه مخصص ضد الدبابات والآليات الثقيلة، وفي الواقع انتهت فترة التدريب دون أن نطلق طلقة واحدة، وقال المسئول إن الدورة التي حضرتها كانت لعدد من طلبة الجامعات ولم يكن هدف الدورة التحاقهم الفوري بقوات العاصفة، بل كان عملاً تنظيميا في الوسط الطلابي في الجامعة لنشر أفكار فتح.

 وفي اليوم الثاني بعد عودتي من المعسكر وجدت في مقصف الجامعة من يسأل عني وكان السائل كما عرفني بنفسه عاطف أبو بكر ولم أكن قد رأيته من قبل، كان شابا نحيفا ويضع نظارات بشكل دائم ويتحدث بصوت خفيض، يحرص على التكتم الشديد في كل ما يقوله، وعلمت منه أنه مكلف بالاتصال معي للعمل  في التنظيم الطلابي لفتح ولم ينس أن يشير إلى أنه قد قرأ القصة التي كتبتها في مجلة الأسبوع العربي بعنوان "سجين زنزانة بلا رقم " وقد استوقفته كلمة واحدة كان يتمنى تغييرها وهي أن أستبدل كلمة "الصاعقة " في القصة بكلمة "العاصفة "، علما أنني عندما كتبتها لم أكن أعرف الفرق بين الصاعقة والعاصفة وقد حرص عاطف أبو بكر عندما قرر تشكيل اللجنة الطلابية أن أكون أحد أعضائها وأذكر أن هذه اللجنة كانت مسؤولة نظرياً عن الطلاب في دول الطوق باستثناء مصر التي كان لفتح فيها وجود طلابي قوي وقديم بحكم أن مؤسسي فتح كانوا في معظمهم من قطاع غزة سواء أكانوا مقيمين في القطاع أو عاملين في دول الخليج، وكان من بين أعضاء اللجنة شاب اسمه محمود الأسدي وشاب آخر اسمه عبد اللطيف يدرس في كلية الطب وبعد عشرين سنة اغتالته جماعة أبو نضال في مخيم اليرموك، وقبل الاستطراد لا بد أن أذكر أن عاطف أبو بكر وكان سفيرا في المجر بعد عام 1982 قد أعلن انشقاقه وانضمامه إلى جماعة أبو نضال وقد صدمت جداً حين علمت باغتيال الدكتور عبد اللطيف وكذلك حين علمت بانشقاق عاطف أبو بكر الذي اختلف فيما بعد مع أبو نضال ولجأ إلينا في تونس دون أن أراه، وكان الشاب حمزة الذي التحق بفتح مرافقا للشهيد أبو الهول وهو من نفذ جريمة  اغتيال الشهداء الثلاثة: أبو إياد وأبو الهول، وأبو محمد العمري قد اعترف بأن مهمته الأولى كانت تصفية عاطف أبو بكر الذي كان في حماية ضابط الأمن أبو ثائر الحنتولي.

لم يمض وقت طويل حتى أصبحت الوجه الطلابي المعروف لحركة فتح في الجامعة وحين حل موعد إجراء انتخابات الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا، وجدت أنني المرشح الأبرز لحركة فتح وكان هناك شاب آخر مرشح باسم فتح اسمه  "علي "، لم أكن أعرفه من قبل، وفي أثناء الاستعداد في أوساط الطلبة لإجراء الانتخابات اقترب مني شاب وعرفني بنفسه قائلا:  أنا طلال ناجي من جبهة تحرير فلسطين  ( ج.ت.ف ) .

طلال ناجي شاب وسيم طويل القامة وفي غاية اللطف والأدب والدماثة وقد لفت انتباهي أن يده اليسرى ليست يداً طبيعية وحين سألته عن السبب قال نتيجة انفجار داخل المعسكر وقد ربطتني علاقة قوية واحترام متبادل مع طلال ناجي طوال الفترة القصيرة التي قضيناها معا في اتحاد الطلاب وبحكم موقعي ممثلا لفتح في اتحاد الطلاب تعرفت على الكثيرين من أعضاء القيادة.

وكان لقائي الأول مع بشير المغربي وهذا هو الاسم الحركي لفاروق القدومي "أبو اللطف " وقد استقبلني في منزله بكل ترحاب، وكان حريصا على إظهار حركة فتح كحركة وطنية تضم تنوعا من القناعات الفكرية والسياسية ولكن بعد الالتزام والقسم فالهدف تحرير فلسطين وأضاف: فتح ترحب بكل أبناء الشعب الفلسطيني للانخراط في صفوفها والعمل من أجل تحرير فلسطين، وقال: أعلم أنك ذهبت متطوعا في الحرب وأنك تلقيت دورة تدريبية في معسكر الهامة ويشرفنا أنك ممثل فتح في اتحاد طلاب فلسطين، ويسعدني أن أتعامل مع الطلبة المناضلين والتقدميين واليساريين فهم المسلحون بالفكر والنظرية الثورية وقال الجملة الثورية المعروفة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية "وتوقفت عند جملته الأخيرة وما تعنيه بالنسبة لي وقلت له: في الواقع لست منتميا لأي حزب سياسي وقناعاتي السياسية والفكرية هي نتاج ثقافتي السياسية المحدودة وتجربتي الحياتية.

لكن الذي عرف عني بعد هذا اللقاء أنني يساري.

كانت فتح تعتبر نجاحها في انتخابات اتحاد الطلاب الذي كان ياسر عرفات رئيسه الأول وكان تحت مسمى رابطة طلاب فلسطين، دليلا على صحة السياسة التي تسير عليها فتح لتحرير فلسطين، وفي مقر القيادة ( 23)  ظهر أبو عمار فجأة بملابسه العسكرية والكوفية الفلسطينية على رأسه والمسدس على خاصرته وصافحني بحرارة وهو يقول أهلا بممثل فتح في اتحاد الطلاب، لم أكن هنا يوم الانتخابات ولكني تابعتها وعلمت بنجاح فتح وحصولها على مقعدين، وبأعلى الأصوات، وسرعان ما استدعى ربحي عوض حيث كلفنا بتوزيع البلاغات العسكرية والبيانات السياسية على الصحف والإذاعات وشدد على وكالات الأنباء والمراسلين الأجانب وقد قمنا بهذا العمل على مدى شهرين وبعدها استدعي ربحي عوض إلى القاهرة لحضور اجتماعات اتحاد الطلاب وكلفتني اللجنة التنظيمية بالسفر إلى الأردن لبناء التنظيم الطلابي لحركة فتح، دون أن تكون لدينا معرفة بحقيقة وجود تنظيم لحركة فتح في الأردن، وبالفعل غادرت إلى الأردن وفي نقطة الحدود في الرمثا لم يسألني أحد من المسئولين  عن نشاطاتي القديمة في الجامعة ولم يطلب أحد مني مراجعة المخابرات أو مصادرة جواز السفر، وبدا كأن ما كان يصلني عن وجود اسمي على الحدود لاعتقالي بمجرد عودتي إلى الأردن، مجرد دسائس طلابية كانت رائجة كثيرا في أواسط الستينات.

عمان مدينة الجبال السبعة والمخيمات كانت مدينة حزينة بسبب هذا النزوح الكثيف من الضفة الغربية، ثلاثة مخيمات تقام في نفس الوقت "شنللر"و"البقعة" ومخيم جرش، وأما المخيمات من عام 1948 فقد أخذت تتسع لتستوعب المزيد والمزيد من اللاجئين، مخيم الوحدات تضاعف سكانه عدة مرات في أشهر قليلة، ومخيم المحطة والجبل الشمالي ومخيم جبل النصر الحياة كالحة وكئيبة ولا شيء يبعث على الفرح إلا أن الحديث الذي يتردد في بيوت الأقارب كان الحديث عن الفدائيين وعن فتح في الأغوار والكرامة، كان الناس يبحثون عن بصيص أمل وسط هذا الدمار الشامل لوطن وشعب، وأردت بدوري أن أرى الفدائيين في الكرامة والأغوار؛ وفي سيارة أجرة عادية توجهت إلى بلدة الكرامة الطرق داخل البلدة غير معبدة، والأرض رملية ولفَّتني عاصفة ترابية لحظة نزولي من السيارة، وسرت عشرات الأمتار لأجد نفسي في مواجهة علم فلسطين يرفرف فوق بيت طيني، ولم يعترضني أحد وأنا أدخل البوابة الخارجية كان الواقفون هناك لا يعنيهم أمر من يدخل أو من يخرج.

أبو عمار لم يكن موجودا، وجلست بحرج شديد فلست مسلحا ولا أرتدي الملابس العسكرية، وقد أنقذني من هذا الوضع الشاذ دخول أحد الشباب وهو يحمل كلاشنكوفا، وكان من طلبة الجامعة حتى وقت قريب، أما كيف صار فدائياً ومقاتلاً، وفي بلدة الكرامة خلال أشهر معدودة  ، فهذا جعلني أنظر إليه باحترام شديد، لقد قطع المسافة الضبابية بين الفكر والممارسة إنه فدائي  وبرفقة رجل متوسط القامة وممتلئ ومسلح أيضا وأدركت من تصرفات الشاب أنه الأخ أبو إياد وقد غادر المكان مباشرة بعد مصافحتي إلا أن الشاب المرافق قال إنه سيعود بعد قليل، وبالفعل عاد بعد أقل من ساعة ومعه رزمة أوراق وقال لي: هذه البلاغات العسكرية يجب توزيعها في عمان والمخيمات وقد طلبوا مني أن أسلمها لك.

 وأشعرتني هذه المهمة أنني أقوم بعمل من أجل فتح مهما كان صغيرا أو بسيطا ولا يقارن بالفدائيين الذين يقطعون النهر ويطلقون النار على المحتلين الإسرائيليين، وقد رتب هذا الشاب العودة الآمنة إلى عمان بإحدى الشاحنات التي تنقل الرمل وقال لي هناك حواجز ونقاط تفتيش أقامها الجيش بين الكرامة وعمان، وبالفعل شاهدت بعض الحواجز العسكرية ولكن لم يعترضوا الشاحنة، ووصلت عمان بسلام، ولم أكن أعرف غير أقاربي اللاجئين في المخيمات، وأخبرت عددا من الشباب بالمهمة التي كلفت بها وهي توزيع البلاغات العسكرية وقد شعروا جميعا بالفخر عندما اكتشفوا أن قريبهم وابن عائلتهم واحدٌ من الفدائيين، وفي الليل قاموا بإلصاق البلاغات العسكرية على واجهات المحلات التجارية وعلى أعمدة الكهرباء وعلى الجدران ولوحات الإعلانات والدعاية، وقد قال لي الشباب المندفعون بجنون للالتحاق بالفدائيين: إن الناس يتوقفون قرب أعمدة الكهرباء أو الواجهات التجارية لقراءة البلاغ العسكري الصادر عن قوات العاصفة، وعزمت  في صباح اليوم التالي أن أذهب إلى الشوارع الرئيسة في عمان، لأرى البلاغ العسكري وأرى الناس وهم يتدافعون لقراءته، وقد حذرني الشباب من مراقبة رجال المخابرات المكلفين بالقبض على كل من يوزع منشورات للفدائيين، وقلت للشباب: لقد دخلت البلد بشكل شرعي ولا يوجد أي مبرر لاعتقالي، وبالفعل سرت في شوارع العاصمة وهي تغص بالناس ورأيت بعض البلاغات العسكرية ملصقة بالغراء على أعمدة الكهرباء ولوحات الإعلان، ورأيت المارة لا يتوقفون طويلا، بل بعضهم يقرأ كلمات الخط العريض ويمضي لشؤونه، وبعضهم يمعن النظر في أسماء الشهداء ومكان العملية الفدائية، والذي فاجأني أن أصحاب المحلات التجارية يقومون بتمزيق البلاغ أو نزعه عن الواجهة لأن الاحتفاظ به قد يعرضهم للمساءلة، إلا أن البلاغ العسكري في المخيمات كان يوزع ويلصق دون تدخل المخابرات أو الشرطة، وقد داومت على هذا العمل بين الكرامة وعمان عدة أسابيع، ولكن دون أن أتمكن من مقابلة أبو عمار حيث كان دائم الحركة والتنقل ولم أكن أقضي الليل في الكرامة مثل الفدائيين الآخرين بل أحمل رزمة البلاغات العسكرية وأتوجه إلى عمان للقيام بمهمة توزيعها وتعليقها من خلال الشباب الذين زاد عددهم في مختلف المناطق والمخيمات.

لم أكن بحاجة إلى بذل أدنى جهد لإقناع الشاب الفلسطيني للقيام بهذا العمل حين يسمع مني الكلمة السحرية حركة فتح، في مخيم البقعة ومخيم شنللر كان الشباب يتسابقون لأخذ البلاغ العسكري وقراءته وتوزيعه، وفي أحد الأيام، وكنت في مخيم البقعة وكان قد أقيم حديثا بعد الغارات الإسرائيلية على مخيم  الكرامة، وكان العفيف الأخضر وهو مفكر تونسي موجودا في نادي المخيم لحوار سياسي، وقد حضرت إلى النادي وعبرت عن اختلافي مع العفيف الأخضر حول بعض الشكليات اللفظية التي اعتبر تصدّرها للبلاغ العسكري دليلا على أن حركة فتح حركة يمينية ولم أجد أمامي غير الاستشهاد بهوشي مينه وماوتسي تونغ وحتى ستالين وقلت المهمة السياسية لنا هي تحرير وطننا وتجنيد كل القوى المستعدة للنضال، لأننا حركة تحرر وطني تضم مختلف الأطياف وهذه هي فتح، وليست حركتنا في وارد الصراعات الاجتماعية أو الفكرية، المهمة الآن مهمة وطنية تهم جميع الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم، وقد لقيت مداخلتي صدى طيبا لدى جمهور المستمعين وللتاريخ أقول إن العفيف الأخضر  ظل عنيدا ومصمما على رأية وقد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي قابلته فيها، وبعد الحديث في نادي المخيم سرت في شوارع المخيم  وحولي العشرات من الشباب الذين يطلبون التطوع وقد أعطيتهم اسم "صلاح التعمري" المسئول في الكرامة، عن استيعاب المتطوعين علما أنني لم أقابله أبدا في تلك الأيام، وبالنسبة لمهمتي الأساسية في الأردن، فقد عينت الشاب "نسيم اليتيم"مسئولا عن التنظيم الطلابي، ومع ظهور نشاط هؤلاء الشباب وقع خلاف بين التنظيم الموجود وبين نسيم اليتيم حيث اتهم "قدري" والذي ظهر أنه المسئول الأول والمعتمد في الأردن، نسيم اليتيم بأنه ليس عضوا في فتح، وقال لي نسيم فيما بعد أن قدري استغرب أن يحمل نسيم اليتيم كتاب "مرض الطفولة اليساري" للينين، وأذكر أن مواقف وحجج لينين في هذا الكتاب كانت سلاحا نظريا قويا في يدنا في مواجهة التنظيمات اليسارية، إلا أن قدري اعتبر ما يقوم به نسيم ومجموعات الشباب في المخيمات والكليات والجامعة لا تربطه أية صلة بمرجعية فتح في الأردن.

أنهيت مهمتي التنظيمية بتشكيل اللجنة الطلابية ورتبت استلام وتوزيع البلاغات العسكرية وغادرت عمان إلى دمشق يوم 20/3/1968، وصبيحة اليوم التالي فتحت المذياع على إذاعة لندن وإذا بالمذيع يقول: وصلنا هذا الخبر العاجل وقرأ التالي: إن الجيش الإسرائيلي بدباباته وآلياته قد اجتاز نهر الأردن إلى الضفة الشرقية باتجاه بلدة الكرامة حيث يتمركز الفدائيون، وأضافت إذاعة لندن نقلا عن المتحدث الإسرائيلي إن هدف العملية العسكرية الإسرائيلية هو القضاء على المخربين، وأخرجني الخبر الصاعق عن طوري، وصلت المقر في ساعة مبكرة ووجدت بشير المغربي وآخرين وبدا لي أنهم لم يناموا طوال الليل، فالإرهاق الشديد كان باديا على وجوههم جميعا. وكان الحديث كله حول العدوان الإسرائيلي الواسع النطاق على الفدائيين في الكرامة وسمعت "أبو اللطف" يقول بأن "أبو عمار" اتخذ قرارا بالصمود والمواجهة مخالفا قوانين حرب العصابات وإن بعض القادة الآخرين من خارج فتح وقوات العاصفة عارضوا قرار أبو عمار وفضلوا تطبيق قوانين حرب العصابات أو الأنصار، وعدم الدخول في معركة مواجهة دون وجود تكافؤ في القوى، وكشاهد عيان لما لمسته بنفسي في الكرامة فلا توجد تحصينات تصد الدبابات ولا يوجد سلاح مضاد للدروع، وما يملكه الفدائيون  سلاح فردي "الكلاشنكوف" وقنابل صغيرة الحجم معلقة في خاصرة الفدائي، كما شاهدت قاذف "أر بي جي "  في المقر المتواضع في الكرامة، ولهذا فوجئت بما قاله بشير المغربي عن قرار أبو عمار بالصمود والمواجهة مخالفا قوانين حرب العصابات ودون أن تتوفر لديه القوة أو الأسلحة لمواجهة هذه القوة الإسرائيلية التي زادها انتصارها السهل في حزيران 1967 غرورا وغطرسة، لم أتفوه بكلمة عن مهمتي في الأردن، بل رحت أبحث عن عمل أقوم به ووجدت أنيس الخطيب وأحمد الوحش وآخرين يطبعون البلاغات العسكرية والتصريحات السياسية ويقومون بتوزيعها بالهاتف فانضممت إليهم، وعند الظهيرة جاء من قال بأن الأخوة الفدائيين في معسكر الهامة يستعدون للتحرك إلى الكرامة، ووجدت أنني أكثر المعنيين بالذهاب إلى الهامة لأكون واحدا من الفدائيين المغادرين إلى الكرامة، وبالفعل قمت ومجموعة من الشباب الموجودين في المقر بالتوجه إلى الهامة وخلال نصف ساعة كنا نصعد الطريق إلى المعسكر وكانت مفاجأة مذهلة لي حين أمعنت النظر في الفدائي الواقف على أهبة الاستعداد وباللباس الفدائي الكامل ويحمل سلاح الكلاشنكوف وعرفته على الفور، إنه سعيد حمامي الصديق والزميل في الجامعة، والذي كان أبعد ما يكون عن أي التزام سياسي وكان أقرب إلى الوجودي، حين رأيته، انعقد لساني ولم أدر ما أقول.

 إن سعيد حمامي الساخر من السياسة والسياسيين أصبح فدائيا ومسلحا ويستعد للمغادرة إلى الكرامة، وأنا لا أزال في أول الطريق بملابسي المدنية وفي الواقع خجلت من نفسي وشعرت نفسي صغيرا أمام سعيد حمامي الذي قطع مسافة طويلة في زمن قصير، فقد طلق الوجودية وانتمى لحزب البعث ثم ترك حزب البعث والتحق بفتح وتلقى تدريبا عسكريا وأصبح فدائيا مقاتلا وعرفت منه فيما بعد أنه أحد الفدائيين الذين نفذوا عملية قصف إيلات بالصواريخ.

ضحك سعيد حين صافحني ضحكته المعهودة وقال التقينا أخيرا، وقلت: يسعدني أنك هنا، فقال: ويسعدني أن أراك هنا كذلك، وقلت لسعيد: جئت من المقر للالتحاق بالمجموعة الفدائية الذاهبة إلى الكرامة، وقال سعيد: الذاهبون فقط هم من تلقوا تدريبا عسكريا وتطعيما ميدانيا، ولا أعتقد أنهم سيأخذونكم.

قلت لسعيد: لسوء الحظ وصلت من عمان يوم أمس وأردت من قولي هذا أن أجعل المسافة بيني وبينه أقل مما يعتقد، ولكنه كان جبلا شامخا وكنت في واد سحيق ولولا كبرياء الشخصية التي تعطل أحيانا قفزات كبيرة إلى الأمام لطلبت منه مساعدتي في اجتياز هذه المسافة المرئية واللامرئية بين وضعه الجديد ووضعي المضطرب على السفح الآخر من الجبل كما يقول ريجيس دوبريه.

ودعني سعيد وهو يصعد إلى السيارة وكان يبتسم ويلوح بيده، وعدت إلى المقر حيث العمل الدؤوب لتوزيع ما يصل من أخبار معركة الكرامة، وأذكر أنني أضفت بعض الجمل للبيانات السياسية وقد وجدها بشير المغربي مناسبة تماما: معركة الكرامة معركة كل الأمة العربية، معركة الكرامة معركة الصمود الفلسطيني والعربي في وجه العدوان، معركة الكرامة: العسكرية الفلسطينية تفرض نفسها في وجه العدوان، معركة الكرامة قرار بالصمود فإما النصر وإما الشهادة.

وفي اليوم الثاني للمعركة عندما شاهد الناس الدبابات والآليات الإسرائيلية المحترقة في ميدان المعركة وصل مجد الفدائيين إلى السماء، وبدأ اسم ياسر عرفات يتردد على كل لسان وعلمت فيما بعد أن أبو عمار قرر دفن الشهداء في بلدة الكرامة وأرسل فقط جاثمين 17 شهيدا لتدفن في عمان حتى لا تصاب الجماهير بالإحباط. وقد علمت أن عدد الشهداء يزيد عن (90) شهيدا من فتح و 24 شهيدا من قوات التحرير الشعبية، وشهداء الجيش العربي الأردني بلغ عددهم 60 شهيدا.

وفي اليوم الثاني لمعركة الكرامة ظهر لديّ بشكلٍ واضح بطولات الجيش الأردني في التصدي للعدوان الإسرائيلي وللتاريخ أقول إن انتصار الكرامة قد صنعته وحدة الهدف ووحدة العمل ووحدة الإرادة بين قائدي المعركة ياسر عرفات واللواء مشهور حديثه الجازي، حيث عقد القائدان العديد من اللقاءات الميدانية والعمل المشترك لمواجهة قوات العدوان الإسرائيلي، وقد تعزز هذا التنسيق الميداني بقرار الملك حسين بالتصدي للقوات الإسرائيلية ، فأمر سلاح المدفعية بقصف الدبابات والآليات وتدميرها.

 في ذلك الوقت كانت الصورة الواضحة لدي عن حركة فتح أنها قوات العاصفة والذي يلتحق بفتح يذهب فورا إلى قوات العاصفة ولهذا بعد معركة الكرامة بأيام كان علي أن أجد مصدرا ودخلا ماديا يكفيني شخصيا، فليس لدي مسؤوليات عائلية وأسكن بالمجان في المدينة الجامعية ومدينة دمشق تمتاز عن غيرها من العواصم بأن تكاليف الحياة فيها ليست عالية وليست باهظة،  وجدت من مد يد المساعدة لي لإيجاد دخل معقول وكان أول من أوجد لي عملا لا يؤثر على التزامي بفتح هو المناضل الكاتب الفلسطيني فايز قنديل وهو عضو التنظيم الفلسطيني لحزب البعث ومسئول عن صوت فلسطين في الإذاعة ويقدم عدة برامج ثقافية وسياسية وتاريخية، وأوكل إليّ كتابة مادة عن فلسطين في مختلف المجالات دون أية قيود وأما الثاني الذي ساعدني فكان الصحفي والكاتب السوري فؤاد نعيسه وكان رئيسا لتحرير مجلة الاشتراكي الصادرة عن اتحاد العمال وبدوره لم يضع أية قيود أو اشتراطات بل طلب أن أكتب عن فلسطين، وبعد فترة قصيرة أصدر قرارا بتعيني سكرتيرا للتحرير، وكان ممن عمل معنا البدوي الطيب فؤاد بلاط الذي تولى فيما بعد رئاسة هيئة الإذاعة والتلفزيون ونقابة الصحفيين.

في هذه الأثناء ولمدة عام تقريبا واصلت العمل في اللجنة الطلابية وفي اتحاد الطلاب وسط خلافات داخلية وخلافات فصائلية، أما الخلافات الداخلية فكانت تعود إلى تغلغل التنظيم الطلابي في كل المعاهد والجامعات والمخيمات على حساب الشخصيات التقليدية التي اهتزت عروشها أمام طلبة صغار السن، أصبحوا يتحكمون في الدوام والدورات والمظاهرات وحتى حمل السلاح علنا.

ووجدت هذه الشخصيات التقليدية التي تسللت بدورها للالتحاق بفتح، لأن أبواب فتح مفتوحة للجميع، وأن الانتماء لفتح أصبح يزيد المرء وجاهة ومجدا،  وجدت هذه القوى في التعبئة السياسية التي نقدمها للشباب خروجا على مبادئ فتح وأهدافها. وقد فبركت هذه القوى بيانا سياسيا وموقعا باسم "التنظيم الطلابي اليساري لحركة فتح". والبيان المفبرك جعل أصابع الاتهام توجه لي، فأنا اليساري منذ لقائي مع بشير المغربي، وفي الوقت نفسه تقريبا كانت المشاحنات الطلابية في ذروتها، وتدخلت علنا وماديا في خلاف مع الطلاب البعثيين الذين مزقوا بيانا لحركة فتح على لوحة الإعلانات، وكان من نتيجة ذلك، اشتباك بالأيدي وتحطيم لوحة الإعلانات.  وتدخل اتحاد طلبة الجامعة ومنع الطرفين من تعليق البيانات من جديد. إلا أن أصداء هذا الاشتباك وتدخلي المباشر فيه وصل إلى حيث أعمل في جريدة الاشتراكي واستدعاني الرجل المهذب عبد الله الأحمد رئيس الاتحاد وطلب مني بأدب شديد تلطيف الأجواء في الجامعة وقرأ لي قرارات الحزب حول حرب التحرير الشعبية منذ فترة طويلة.

وتزامنت الأزمتان أزمة تنظيمية داخلية تعتبر التثقيف السياسي الثوري خطرا على فتح وأزمة في العمل، حيث شكرت عبد الله الأحمد وذهبت عند الأخ الكريم فؤاد نعيسه وقدمت له استقالتي من الجريدة، أما الأزمة الداخلية فتصاعدت حتى وصلت بشير المغربي مسئول التنظيم في ذلك الوقت وعضو القيادة العليا لفتح، وقال لي أنت الآن أنهيت دراستك الجامعية في الشهر الماضي كما علمت وكان هذا في دورة  شباط 69، ولم تعد طالبا ولهذا سنكلفك بمهام جديدة في الخارج وحين لم يجد مني أي اعتراض على أقواله قال لي: أصدرت قرارا بإرسالك إلى السودان للاتصال مع الحزب الشيوعي السوداني وتنظيم العلاقة بين فتح والحزب، وأنت خير من يقوم بذلك، وأصدر أمره بترتيب سفري إلى القاهرة وإلى السودان على وجه السرعة وهكذا انتهت مرحلة من حياتي السياسية امتدت من حزيران 1967 وحتى آذار 1969.





غلاف الكتاب