دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثامنة: الحرب الرابعة

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثامنة: الحرب الرابعة
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الثامن:

الحرب الرابعة 1982 


يعتبر كثيرون أن الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 هو بحق الحرب الرابعة بين إسرائيل وجيرانها حتى وإن اقتصرت هذه الحرب في معظمها على المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية التي استمرت 88 يوما وانتهت برحيل المنظمة وقواتها عن لبنان، والخروج العسكري للثورة من جميع دول الطوق وتشتيت هذه القوات في عدة بلدان عربية. أما سوريا فقد دخلت الحرب بطيرانها وبقواتها في البقاع وبلواء من الجيش كان يتمركز في بيروت ومناطقها المحيطة. وتوقفت المواجهة السورية _ الإسرائيلية جواً وبراً يوم (11) حزيران 1982 باتفاق معلن لوقف إطلاق النار. وبقيت قوات الثورة والحركة الوطنية وحدهما في المعركة.

 ولا بد لنا بدايةً أن نعود إلى الوراء قليلا للوقوف على أسباب هذه الحرب الشاملة ضد الثورة وكيف تمكنت إسرائيل من تهيئة الظروف لشنها والتي انتهت بخروج الثورة من لبنان. وأول ما يجب التأكيد عليه هنا أن إسرائيل لا تخوض حربا واسعة النطاق وتحتل خلالها عاصمة عربية وتستمر الحرب لمدة 88 يوما بدون أن تضمن التأييد الأمريكي لهذه الحرب. وكانت الساحة الدولية تمر بتطورات نظرت إليها أمريكا نظرة سلبية. فقد كانت أميركا تخرج لتوها من فترة ولاية الرئيس كارتر "الضعيف" الذي حكم لأربع سنوات تعرضت خلالها لإهانة في طهران بعد سقوط شاه إيران على يد أية الله الخميني واحتلال السفارة الأمريكية واعتبار من فيها رهائن وفشل العملية العسكرية "الأميركية "لتحريرهم. وهناك أيضاً احتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي في عام 1979 وهو عام انتصار الثورة الإيرانية. وظهر مد سوفيتي في اليمن الجنوبي  وفي أثيوبيا وفي أنغولا. وهذا الوضع الدولي حمل للرأي العام الأمريكي صدمات متلاحقة وتراجعا في النفوذ والهيمنة على مستوى العالم. وفي نوفمبر 1980 كان الفائز في الانتخابات الرئاسية رونالد ريغن الجمهوري المتشدد. وعين ريغان الجنرال الكسندر هيغ وزيرا للخارجية. وفي شباط 1982، كان هيغ يوقع مع شارون وزير الدفاع الإسرائيلي اتفاق التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل وأمريكا. وقد حمل الاتفاق نصاً واضحاً وصريحاً حول الإرهاب ومحور الشر في العالم.

وأما الوضع العربي فلم يكن أحسن حالا فقد اغتيل الرئيس السادات على يد الجماعة  الإسلامية المتطرفة في 6 أكتوبر 1981. وكانت مصر معزولة عربيا وفي الفصل الأخير من المفاوضات مع إسرائيل لاستعادة سيناء. وهذا تحقق في نيسان 1982. وأما العراق فكان في حالة حرب مدمرة مع إيران الخميني. وفي لبنان فشل حافظ الأسد في احتواء بشير الجميل الذي أعلن صراحة تحالفه مع إسرائيل وقضى على نمور كميل شمعون وعلى مردة فرنجية وأصبح القوة العسكرية الوحيدة في الوسط الماروني. وهذا الوضع أجبر الأسد على إرخاء قبضته على الثورة والحركة الوطنية. وكانت إسرائيل قد دمرت المفاعل النووي العراقي "أوزريك" في صيف 1981 دون أن يقوى العراق الغارق في حرب مع إيران على الرد. وجاء الرد العراقي على يد  جماعة أبو نضال التي أطلقت النار على السفير الإسرائيلي في لندن، والذي حمل  مناحيم بيغين  منظمة التحرير  المسؤولية عن هذه العملية الإرهابية. ويقول حاييم هيرتزوغ في كتابه عن حروب إسرئيل أن حكومة بيغين قد استغلت العملية الإرهابية لاغتيال السفير الإسرائيلي في لندن لشن الحرب التي أعدت لها منذ زمن بعيد للقضاء على منظمة التحرير في لبنان. ويضيف هيرتزوغ أن مناحيم بيغين كان يعلم تماماً أن منظمة التحرير لا علاقة لها بهذه العملية الإرهابية. ومن غرائب الصدف أن التدخل السوري في لبنان في عام 1976 ضد الثورة، كان بدوره يتخذ له ذريعة عملية إرهابية نفذتها جماعة أبو نضال ضد أحد الفنادق في دمشق وحمل حافظ الأسد المسؤولية عن هذه العملية للمنظمة. وقام بإعدام الثلاثة الذين نفذوا عملية الفندق في ساحة دمشق لتأليب الرأي العام في سوريا ضد الثورة وبالتالي الموافقة على التدخل العسكري. وبدأ الغزو الإسرائيلي بعد ست سنوات بالتمام والكمال من التدخل السوري في لبنان وذلك يوم الخامس من حزيران 1982.

أما على الصعيد الفلسطيني واللبناني، فالوضع كان في حالة ترقب للعدوان. فأبو عمار أعلن التعبئة العامة أكثر من مرة وأمر بالدورات التدريبية لجميع العاملين. وفي الدورة الخاصة بالعاملين في المؤسسات كنت من ألقى  كلمة الخريجين في نهاية الدورة. وحضر الحفل في الملعب البلدي في الفاكهاني قادة الثورة، ورجال الصحافة والمواطنين.

في ظل هذه الظروف المعقدة كان أبو عمار يتحدث ليل نهار عن "عملية الأكورديون" وهي الإطباق على الثورة من الجنوب والشمال من إسرائيل وبشير الجميل. وما بدا أنه تغيير في موازين القوى في الشرق الأوسط بسقوط شاه إيران حليف إسرائيل لم يدم طويلا. وما ردده أبو عمار من شعارات لاستنهاض الهمم لمواجهة إسرائيل وقوله الشهير من "خراسان إلى صور" جبهة ضد إسرائيل سرعان ما أسقطه صدام حسين الذي تولى السلطة الكاملة في العراق بعد نجاح ثورة الخميني. وأمام ما طرحه الخميني عن تصدير الثورة لم يكن أمام صدام حسين غير إعلان الحرب ومهاجمة إيران. وهذه الحرب التي حاول أبو عمار التوسط لوقفها دون نجاح، أحدثت الانقسام الأخطر بين سوريا والعراق، حيث وقفت سوريا مع إيران ضد العراق لأن العراق هو المعتدي وهو الذي بدأ الحرب كما ادعى الأسد، وإن كانت الأسباب الحقيقية تعود إلى الماضي السحيق والصراعات الدينية بين السنة والشيعة.

ومنذ شهر شباط 1982 وأبو عمار يسعى لتوفير السلاح والعتاد لمواجهة العدوان الحتمي كما كان يقول. وثبت أنه كان على حق. وفي هذا السياق، كان يبحث عن صواريخ "سكود" المتوسطة المدى لقصف شمال إسرائيل في حال قامت  بهجومها المنتظر. وقد حاول الحصول على هذه الصواريخ من ليبيا. إلا أن القذافي أرسل عبد السلام جلود إلى حافظ الأسد ليخبره عن طلب أبو عمار للصواريخ التي يصل مداها إلى "70 " كم، وفي ما إذا كان الأسد يوافق على إعطاء هذه الصواريخ لأبو عمار. إلا أن الأسد جن جنونه، واعتبر إعطاء هذه الصواريخ لأبو عمار بمثابة دعوة  لإسرائيل لشن الحرب على سوريا. وتبين أن الاتحاد السوفييتي لا يسمح للدول الاشتراكية ببيع هذا النوع من الصواريخ لأي دولة إلا بموافقته. وأما لماذا هذه الصواريخ المتوسطة المدى والتي يصل مداها إلى عمق إسرائيل فمرده إلى نتائج المواجهة في عام 1978 وفي تموز عام 1981، حيث كان قصف المستوطنات بمدافع الهاوتزر "155 " وبصواريخ الغراد المطورة الأثر الحاسم في إجبار إسرائيل على وقف النار وبوساطة أمريكية وسعودية، وبالتالي أصبح أبو عمار مسكونا بالحصول على صواريخ "سكود " هذه وهي الأبعد مدى من المدفعية ومن صواريخ الغراد.

وبحكم علاقتي اليومية معه، فقد أصبحت بدوري مهتما بموضوع الصواريخ هذه، مع أنني أبعد ما يكون عن كل سلاح. وقد حدث بمحض الصدفة أن وفرت لأبو عمار أجهزة كومبيوتر صغيرة ودقيقة لضبط الإحداثيات للمدفعية، وهذا جعلني خبيرا عسكريا. وبالفعل رحت أبحث عن تجار السلاح في بيروت. ولم يكن من الصعب العثور عليهم. وقلت لأحدهم نريد صواريخ "سكود" المتوسطة المدى وقال هذا أمر سهل. وطلب مهلة لمدة أسبوع. وعاد تاجر السلاح، كما وعد، وهو يحمل صورا لصواريخ سكود هذه. وقال لي: الآن هناك مشاكل في بولندا، والبلد على وشك الانهيار بسبب حركة العمال بزعامة "ليش فاليسا " وترسانة بولندا من الصواريخ أصبحت في يد التجار الألمان. وأخذت الصور والكتلوجات لأبو عمار الذي انتعشت آماله وهو يرى الصور ويقرأ في الكتالوجات. والغريب أن تاجر السلاح هذا زودني بمواد مماثلة ولكن من الصين الوطنية / فرموزا. سابقا.

وتعامل أبو عمار مع الأمر بكل الجدية والسرعة، وأمرني بالإمساك بهذا الخيط لعل وعسى. وبالفعل استدعى اللواء أحمد عفانة "أبو المعتصم" وأطلعه على الصور والشروحات المرفقة، وطلب منه التحرك فورا للحصول على هذه الصواريخ. وبالفعل، في اليوم الثاني كنا أنا وأبو المعتصم في مطار بيروت والجهة المقصودة زيورخ في سويسرا. والمفارقة هنا أنني بصعوبة تعرفت على أبو المعتصم في مطار بيروت. فقد كان متنكرا فعلا. وبعد الظهر كنا في زيورخ وفي الفندق المحدد كما اتفقنا مع تاجر السلاح. وفي اليوم الثاني كان يجب أن يحضر التاجر الألماني "موللر" ولكنه طلب لأسباب أمنية أن نلتقي معه في لوكسمبورغ المدينة الدولة. وسافرنا إلى هناك مباشرة فالوقت ضيق وأبو عمار يلاحقنا لحظة بلحظة. وفي لوكسمبورغ حضر "موللر" وقال "المال أولاً"،  وقال له أبو المعتصم في اللحظة التي تصل فيها الصواريخ إلى عدن نسلمك المال. ليست هذه المشكلة. فقال "موللر" ممنوع علينا إرسال أي سلاح لأي دولة شيوعية ولهذا لا نستطيع إرسال هذه الصواريخ إلى عدن. وأمامكم حل آخر أن تحصلوا من وزير دفاع في دولة افريقية، كينيا أو تنزانيا على طلب السلاح. وعليكم نقله من هذه الدولة إلى حيث تريدون. وقد وقع الغزو الإسرائيلي ونحن نسعى لتأمين ما طلبه تاجر السلاح "موللر." وقد بدأ الغزو بهجوم بري على كل المحاور من مدينة صور إلى العرقوب. وكان أبو عمار خارج لبنان،  ودخل ليلا إلى بيروت وفي الرابعة من صباح يوم 6 حزيران 1982 كان الهاتف يرن والذي على الخط كان أبو عمار. أما الغارات الجوية في ذلك اليوم فاستهدفت غرفة العمليات في كلية الهندسة التابعة للجامعة العربية في الفاكهاني. والصواريخ التي أصابت قاعدة هذا المبنى الضخم كانت بهدف تدمير غرفة العمليات على من فيها. كما أصابت الصواريخ بنايات الصادق وهي أكثر من سبع بنايات ضخمة ولنا فيها مكاتب ومقرات. وقصفت الصواريخ مقر الأمن الموحد ودمرت واجهته ومقر صامد ودمرته. وفي اليوم الثاني كانت البرقيات من الجنوب تتحدث عن هجوم شامل وواسع النطاق حيث واصلت الدبابات تقدمها على كل المحاور. وفي اليوم الثالث من أيام الغزو وقع الحدث غير المنتظر. فقد أسقط الفدائيون بنيرانهم طائرة إسرائيلية والطيار وقع أسيراً في يد قواتنا. وأنه غير مصاب وقد تم نقله على الفور إلى بيروت. وبالفعل وصل الطيار الإسرائيلي وكان معصوب العينين وهو ضخم الجثة كما بدا لي حين أدخلوه إلى الطابق الأرضي. وقد أسعد هذا الخبر أبو عمار حيث قال: هذا فأل حسن، وردد الآية "وإن ينصركم الله فلا غالب لكم." وحين نزلت إلى الدور الأرضي كان الطيار الإسرائيلي يرتجف من الخوف وقلت له أنت "أسير حرب " وستعامل على هذا الأساس. ومع القصف المتلاحق لمنطقة الجامعة العربية والفاكهاني، قمت بنقل العاملين في الإعلام إلى بناية في منطقة "الحمراء" حتى يواصلوا إصدار الجريدة اليومية ونقل أخبار الغزو الإسرائيلي إلى العالم. وأقام محمود اللبدي مسؤول الإعلام الخارجي في حينه معرضا أمام بناية الإعلام لكل أنواع القذائف الإسرائيلية التي تتساقط علينا في بيروت.

وفي اليوم الحادي عشر من حزيران، وكنت إلى جانب العميد أبو الوليد في غرفة العمليات التابعة للقطاع الغربي، وكانت الاتصالات الهاتفية قد قطعت أو الغيت ويبقى الاتصال الفردي المباشر. وحوالي الساعة الثانية عشرة جاء أحد مرافقي أبو عمار يدعو أبو الوليد. ولحسن الحظ، أن أبو الوليد أصر على اصطحابي معه في سيارته. فتركت سيارتي والمرافقين أمام عمليات الغربي. وكان أبو عمار في مكان قريب جدا ملاصق لغرفة العمليات الرئيسة التي نعرفها بأنها غرفة عمليات "35" وجدنا أبو عمار وكان أمامه زيت زيتون وجبنة وصحن فول وخبز وقال "جيتو في وقتكم " ودعانا لتناول الفطور معه. واقتربنا من الطعام فإذا أزيز الطائرات الإسرائيلية يملا الجو، وإذا الصواريخ تصيب إصابة مباشرة غرفة العمليات "35"، ووصلت الشظايا إلى المكان الذي نجلس فيه، وأمسكت بشظية أمام الباب فإذا بها نار تغلي. فألقيتها من يدي. وشدني أبو عمار وهو يقفز خارج هذا البيت العتيق وهو يقول علينا أن نغادر المنطقة كلها، يبدو أننا مرصودون. وكانت سيارته قد وصلت من مكان ما وفيها فتحي كبير مرافقيه وندعوه "فتحي سلبد "، وكنا في السيارة أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس الغربي وأنا وانطلقت السيارة كالصاروخ باتجاه الشرق للابتعاد عن المنطقة التي تقصفها الطائرات، وفتحي الرازم "سلبد" كان يقود السيارة بأعصاب حديدية رغم أن أزيز الطائرات الإسرائيلية نشعر به وكأنه يلاحقنا. ويبدو أننا في آخر منطقة البسطة في اتجاه الشرق، بنايات شاهقة تحيط بالشارع، ولكن لا توجد حركة. فالناس يختفون في منازلهم كلما سمعوا أزيز الطائرات. وقال أبو عمار لمرافقه العقيد فتحي: أدخل في هذه البناية، لا بد أن فيها دوراً أرضياً، ودخلت السيارة في الساحة المغطاة تحت المبنى، فتح أبو عمار قبلنا الباب الموصل إلى الدور الأرضي وقال هذا مخزن وغير مسكون. ودخل أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس الغربي وأنا وراءهم، وفجأة رأيت أبو عمار يختفي ويعلو فوقه شيء أبيض. وأما أبو الوليد وأبو فراس فهما أطول من أبو عمار، فغرقا حتى الرقبة. وأسرعت إليهما، فإذا هذا المخزن مليء بالقطن المنفوش الذي  يغطي الدرج والمدخل. وبصعوبة أطل رأس أبو عمار حيث أمسك به العميد أبو الوليد وأبو فراس الغربي وبدأنا نضغط القطن وندفعه إلى الداخل. وكان بيد فتحي خشبة طويلة يدفع بها القطن، ولكننا شعرنا بضيق التنفس، وكأنه لا يوجد هواء بل ذرات تتطاير وتحط فوقنا من القطن الذي أحاطنا بشكل كامل. وما هي إلا دقائق قليلة حتى بدأ أزيز الرصاص يرن في آذاننا وكأنه يصيب البناية التي اختبأنا فيها.

ولأن أبو عمار لديه حاسة استشعار فلكية فقد أمر فتحي بمعرفة ما يجري ولماذا إطلاق الرصاص، وهذه المنطقة بعيدة عن المنطقة الشرقية حيث بشير الجميل والكتائب. خرج فتحي وتبعته بهدوء إلى طرف المدخل بحيث لا يصيبنا الرصاص الذي توقف. وظهر ثلاثة رجال في الشارع وسألهم فتحي ما هذا إطلاق النار؟ فقال أحدهم: هؤلاء "زعران الحارة " وقد انتهى الإشكال. ويبدو أنهم عرفونا من لهجتنا المختلفة عن اللهجة اللبنانية فقالوا في صوت واحد نحن في خدمتكم، تفضلوا. وشكرهم فتحي. وعدنا مسرعين إلى القبو لطمأنة أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس. وقال أبو عمار: هل عرفوا أننا هنا؟

 قال فتحي: لا، ولكن عرفوا أننا فلسطينيون.

وقال أبو عمار علينا أن نغادر هذا المكان. وطلب من فتحي أن يتجنب الشوارع الجانبية وأن يسلك شارع المزرعة. وفي اللحظة التي كنا نقترب فيها من مكتب المنظمة في الشارع المقابل، وهناك ممر للمشاة فوق الشارع، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف الممر ومكتب المنظمة. فأسرع فتحي واتجه إلى اليمين بعيداً عن الشارع الرئيس إلى داخل منطقة المزرعة. ودخلنا إحدى البنايات التي يعرف فتحي من يسكن في إحدى شققها الكثيرة. والمفاجأة أننا وجدنا أبو جهاد وأم جهاد في هذه الشقة وهما في غاية القلق علينا. وتعانق أبو عمار وأبو جهاد وتكررت مرات عدة "الحمد لله على السلامة" لم يكن لدينا معلومات عن القصف الإسرائيلي لغرف العمليات، عمليات الغربي والعمليات "35". وأخبرنا أبو جهاد عن تدمير مدخل البنايتين وأن عددا من الشباب استشهدوا ولم يحدد عددهم ولم نعرف أسماءهم. وعلمت فيما بعد أن سيارتي قد دمرت وأن الشاب الذي يقودها قد نجا بأعجوبة فلم يكن داخل المبنى.

وكانت الصدمة الكبرى لأبو عمار، إعلان وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل يوم 11 /6/1982. وقال أبو عمار كلمته المشهورة "يا  وحدنا." وفي تلك الظروف لم يكن من السهل أن نلتقي يوميا. وكان أبو عمار يرسل أحد مرافقيه لإحضار من يريد من العاملين في الأجهزة. وكان كل أعضاء القيادة أبو جهاد، أبو إياد، أبو الهول، لديهم مسؤوليات أمنية وقوات تحت إمرتهم. وكان في بيروت أحمد جبريل وكان مريضا ونايف حواتمة وجورج حبش وأبو العباس وطلعت يعقوب وعبد الرحيم أحمد وأبو ماهر اليماني. وكان العميد سعد صايل يتولى الإشراف الكامل على الدفاعات عن بيروت وإلى جانب أبو عمار دائما وأبدا، وهو يشرف بنفسه على القطاعات والمحاور؛ والمعركة استمرت بالقصف المتواصل لأحياء بيروت الغربية والمخيمات. وفقدنا القائد الضابط الشجاع في معركة خلدة على أبواب بيروت الشهيد العقيد عبد الله صيام. واعترف العدو أن نائب رئيس أركان جيشه قد قتل في معركة الدامور.

وانقطعت الاتصالات بعد عشرة أيام تقريبا مع القوات  في الجنوب. ووقعت معركة قلعة الشقيف البطولية، وبدأت إسرائيل تحكم تطويق المخيمات وتسيطر على الطرق لعزل بيروت الغربية. والذي حدث على مدى شهر كامل، أن قوات العدو الإسرائيلي رغم هذا الحشد الهائل من الدبابات خضعت للواقع الذي ساد في بيروت من عام 1976 وحتى عام 1982 أي أن هناك خط "ماجينو" بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. وبالفعل فإن بيروت مدينة عصية على الغزاة. وأبو عمار وهو يتحدث عن عملية "الاوكورديون،"كان يجهز بيروت للصمود في وجه الحصار والغزاة. لقد أمر بحفر الآبار في الطريق الجديدة والفاكهاني، وبنى الملاجئ في المخيمات، وأمر الخبراء والمهندسين بتحديد الأماكن الصالحة لاحتماء الناس من الغارات، في الجامعات والمعاهد، والمدينة الرياضية. لقد فشلت إسرئيل  في  تحقيق هدفها المستحيل وهو قتل أبو عمار وأعضاء القيادة، حاولت ذلك أيضاً خلال قصف غرف العمليات التي شهدت ثلاث منها القصف بين الحادي والعشرين من حزيران  والرابع من آب. كانت غرفة العمليات الأولى تقع تحت بناية ضخمة لا زالت غير مسكونة. وكنت مع أبو عمار وهو يلقي نظرة على الأدوار السفلية. كانت غرفة العمليات المقصودة تقع دورين تحت الأرض، ووجدها أبو عمار مناسبة ما عدا مدخلها المكشوف. ولم يتم الدوام فيها أبدا. إلا أننا في اليوم الثاني وجدناها مقصوفة بالصواريخ التي أصابت مدخل الأدوار السفلية وأغلقت بالدمار والركام.

أما غرفة العمليات الثانية فكانت ملاصقة لثكنة "الحلو" القديمة للجيش اللبناني. ويبدو أن أبو جهاد هو من جهزها لزمن الحرب. وكان مسؤولها الضابط مأمون مريش. وأما المشرف على إدارتها الداخلية فكان نبيل أبو ردينة. وكان هذا القبو مهجورا لزمن طويل، وتجهيزه على وجه السرعة لم يجعله صالحا، حيث أزيز الحشرات والناموس القارص. ولهذا طلبنا من نبيل أبو ردينة  أن يزودنا بقاتل الحشرات المشهور "بيجين" وقلنا يومها ما دام "بيجين." قد فشل في قتلنا فعلى الأقل فليقتل الحشرات. إلا أننا لم نهنأ طويلا في هذا المكان الآمن والقريب من ثكنة الحلو، لأن علينا أن نغادر أي مكان مهما كان حصينا بمجرد سماعنا أزيز الطائرات فهذا يعني القصف الفوري بالصواريخ والقنابل التي تزن طنا. وذات مساء بدا وكان الطائرات فوقنا بالضبط، فقفز أبو عمار ولحقته تاركا الأوراق والبيان على الأرض ورأيت أبو عمار يقف ويتطلع إلى السماء ويقول "هبت رياح الجنة." ونغادر المنطقة. وبيروت العظيمة هذه لا تبخل على محبيها بالحماية. ونأوي في مدخل إحدى البنايات حتى تنتهي الغارة التي استهدفت بصواريخها غرفة العمليات التي كنا فيها والملاصقة لثكنة الحلو المهجورة. وليس هناك غارة بلا ضحايا سواء من العسكريين أو من المدنيين. وبدا لأبو عمار أن الطائرات تحاول اصطياده، لأنه حيث تواجد هناك غارات ولهذا غير السيارات والملابس. وفي ليلة قاسية نام لأربع ساعات في سيارة صغيرة تابعة للإعلام الايطالي من نوع "اوتوبيانكي" ولا يخطر على بال أحد أن فيها ياسر عرفات، وهي ملقاة في شارع جانبي بالقرب من فندق الكومودور، فندق الكتيبة المقاتلة من الصحافيين والمراسلين الأجانب الذين اتخذوا من هذا الفندق مقرا لهم. وهذه السيارة الصغيرة والتي لا تتسع لشخصين، قامت بعمل عظيم بعد أيام، حيث تم فيها نقل جندي إسرائيلي تم أسره من منطقة دوار سفارة الكويت القريبة من مخيم شاتيلا. حيث أقام جيش الاحتلال سدا ترابيا وفوقه خندق وتسلل الأبطال إلى حيث جندي الحراسة وتحت تهديد السلاح سحبوه من الخندق وظلوا يزحفون على بطونهم والأسير بين أيديهم والمسدس مصوب على رأسه حتى وصلوا إلى مخيم شاتيلا وهناك لم يكن من وسيلة صالحة لنقله غير ملفتة للانتباه غير سيارة الإعلام "الاوتوبيانكي" وفقد مناحيم بيغين عقله وجن جنون شارون. وكان فيليب حبيب يقوم بالوساطة المعهودة حول شروط المغادرة من بيروت. وكان ذلك في أوائل آب 1982.

وقرر مناحيم بيغين أن "الإرهابي ذو اللحية " لن يغادر بيروت ومن معه إلا بعد الإفراج عن الأسيرين الطيار والجندي. وكان الأسيران  ورقة قوية بيد أبو عمار. فضاعف شروطه التعجيزية لفيليب حبيب وشفيق الوزان، رئيس وزراء لبنان يومئذ وصائب سلام. فأصر على "الخروج المشرف " وليس تحت الراية البيضاء وفي سيارات الصليب الأحمر الدولي. الخروج بالعدة والعتاد وتأمين  "الحماية للمخيمات" وجاءت القوات الدولية. والله وحده يعلم كيف تم سحب هذه القوات قبل مجزرة صبرا وشاتيلا بأربعة أيام. غادرت القوة الايطالية والفرنسية  والأمريكية المنطقة يوم 10/9/1982 ووقع اغتيال بشير الجميل يوم 14/9/1982. وأمر شارون بالمجزرة في صبرا وشاتيلا ليلة 16/9/1982 والمنفذون كانوا جماعة "إيلي حبيقة " الذي صار وزيرا في حكومة لبنان ومقربا من سوريا، وتم اغتياله بعد سنوات في سيارة ملغومة. أما اغتيال بشير الجميل فقد نفذه شاب من الحزب القومي السوري، حيث قتل بشير وأركان قيادته عن بكرة أبيهم وقيل أن المخابرات السورية وراء عملية الاغتيال.

أما أبو عمار والقيادة الفلسطينية واللبنانية فقد ظل هاجسها المخيف الغارات الجوية بعد أن ثبت أن التقدم البري قد توقف. وغابة البنادق تثير الخوف لدى شارون. فلا يأمر باقتحامها خوفا من الخسائر. وأكثر ما يرعب إسرائيل خسائرها في الأرواح. أما الطائرات فلا زالت تزمجر ليل نهار في الأجواء. وقيل في الأيام الأخيرة أن إسرائيل تجرب أسلحتها في حرب بيروت وتدرب طياريها الجدد على الإغارة والقصف وإصابة الهدف بعد أن نفذت الذخائر من المضادات الجوية.

هناك محاولتان من طيران العدو لقتل أبو عمار ومن معه. كانت المحاولة الأولى قصف غرفة العمليات في بناية الصنايع القريبة من رئاسة  الوزراء اللبنانية وبجانبها حديقة الصنايع، وكان مسؤول هذه الغرفة العقيد زياد الأطرش. وتحت ضغط الحصار والملاحقة قرر أبو عمار الانتقال إليها على أمل أن  تشكل رئاسة الوزراء حماية من القصف الإسرائيلي. ورافقت أبو عمار إلى هذه البناية السكنية المنكوبة. دوران تحت الأرض ومستودع كبير يتسع لمئات الأشخاص. وقد أعجب أبو عمار أيما إعجاب بهذا الملجأ الآمن، والذي كان العقيد زياد الأطرش يستخدمه غرفة عمليات ومنه يشرف على المجموعات التي تراقب البحر من عين المريسة وحتى الروشة. ولحسن الحظ أن أبو عمار لا يستقر في مكان لمدة طويلة.

إلا أن ارتياحه النسبي لهذا الجوار الآمن - وأعني رئاسة الوزراء - ،  جعله يطمئن بعض الشيء فيعقد الاجتماعات ويحضر أبو جهاد وبعض أعضاء القيادة. وذات مساء وقع انفجار لم نعرف أسبابه في حديقة الصنايع. وكنا على وشك دخول البناية. وكان أبو جهاد موجودا ينتظر أبو عمار. وفقد أبو عمار أعصابه وهو يأمر بإخلاء غرفة العمليات ومغادرة الجميع ويصرخ بمرافقي أبو جهاد، لأخذ أبو جهاد والابتعاد فورا عن البناية. وتبين فيما بعد أنها مجرد أصابع "TNT" قام أحدهم في الحديقة بالعبث بها وانفجرت وأحدثت هذا الصوت وهذا الذعر الذي أصابنا في هذا المكان الذي اعتقدنا أنه الملاذ الأخير الآمن في كل بيروت. وذات يوم قصدت هذه البناية صباحا بل في منتصف النهار. فوجدت شفيق الحوت والسفير الايطالي ينتظران أبو عمار. وقلت لهما: احتمال أن يأتي أبو عمار ولكن ولا أدري أين هو بالضبط. وعند الساعة الواحدة اقتنع شفيق الحوت بأن أبو عمار لن يحضر. فاستأذن هو والسفير وغادرا. وبقيت أنا والعميد سعد صايل، فقلت لأبو الوليد: الساعة الآن وقت غداء، وكنت في حينه استأجرت لي وله شقتين في قلب الحمراء خلف فندق الكومودور، وكان نادرا ما يأتي إلى هذه الشقة، وكان مدير مكتبه  المهندس غسان إسماعيل يتولى  الاتصالات مع الجانب اللبناني لترتيب لقاءاتهم مع أبو الوليد، وضغطت عليه بقوة لتناول الغداء معا في البناية في الحمراء. ورغم تردده  الشديد، ذهبنا معا في سيارته، والمكان لا يبعد أكثر من ربع ساعة عن منطقة الصنايع، والشوارع عموما خالية والصيف في أواخر تموز 1982 شديد الحرارة، وصلنا البناية وأصر أبو الوليد أن يذهب إلى شقته حتى يرتاح، إنه شديد التهذيب وشديد الخجل رغم أننا أصدقاء منذ أحداث أيلول 1970 وحين كان قائدا لقوات اليرموك في منطقة درعا وكنت مسؤول الإذاعة التي تبث من درعا وموجهة لفلسطين والأردن. وناديت مرافقه وأعطيته بعض الطعام علبة "تن"وزجاجة ماء ورغيف خبز، وجلست لتناول الطعام وكانت الساعة بالضبط الواحدة وأربعين دقيقة. فإذا دوي هائل يشق عنان السماء. وكان المهندس غسان إسماعيل جالسا معي، فقفز على الفور إلى سطح البناية ليرى أين القصف ومن أين يتصاعد الدخان. وعاد مذعورا وهو يقول الدخان يتصاعد من جهة منطقة الصنايع. ولم أتناول لقمة واحدة ونهضت.

 وهبطت مسرعا وكان العميد أبو الوليد ينتظرني وهو يقول "ربك يستر" وكان يخشى أن يكون أبو عمار قد حضر بعدنا إلى غرفة العمليات في هذه البناية التي لم يبق غيرها فكل غرف العمليات قد دمرت وقصفت. وأصبحنا مقتنعين أن هناك مراقبة دقيقة لتحرك أبو عمار. وحين وصلنا الصنايع، كانت الصدمة المذهلة، ليس هناك بناية على الإطلاق وهي بناية من خمسة ادوار ومسكونة. ولكن ما هذا الذي حدث؟ البناية كلها اختفت وما يظهر ركام مفتت ويتصاعد دخان قليل، وقال لي أبو الوليد: هذه هي "القنبلة الفراغية." وكنا أبو الوليد وأنا أول من وصل إلى هذه الكارثة التي لم نر لها مثيلا طوال أيام القصف سواء بالطائرات أو المدفعية. البناية بكل سكانها وغرفة العمليات بكل من فيها وأستطيع أن أقدر أن العدد يزيد على عشرين فدائيا وعدد السكان عرفت فيما بعد أنهم (250) إنسان بين طفل وامرأة وشيخ. أسر بكاملها اختفت تحت الركام. وحتى إخراج الجثث من تحت هذا الركام لم تكن عملية سهلة. ولكن السؤال المحير أين أبو عمار لا يوجد أثر له أو لمرافقيه. وأخذ الناس المفجوعون على أحبتهم تحت الركام يصرخون ويستنجدون بالعلي القدير لينتقم من إسرائيل. وجاءت سيارات الإسعاف وسيارات الإطفاء وجاءت فرق الإنقاذ وجاءت الجرافات فليس غيرها يصلح لإخراج  الجثث من تحت هذا الركام الذي أحدثته "القنبلة الفراغية" التي لم أسمع عنها من قبل. ابتعدنا قليلا من وسط الناس الذين يبكون ويصرخون. فإذا أحدهم وهو مرافق لأبو عمار يقترب من العميد أبو الوليد ويهمس في أذنه. وتغيرت ملامح أبو الوليد من الغضب الصامت غضب المقهور أمام كارثة دمرت الحياة، دمرت أسراً بكاملها، قضت على الأطفال الذين كنا نداعبهم على مدى أسبوعين. وشدني أبو الوليد من يدي وهو يقول "الحمد لله الحمد لله." وسرنا معا بخطوة سريعة وأبو الوليد عسكري عتيد وعنيد وصلب البنية ولا يعرف المشي مثل أي رجل عادي. له خطوة متزنة وكأنه في عرض عسكري. وقطعنا الشارع وسرنا تحت أشجار كبيرة وقديمة. وبعدها هناك بين البنايات، بيت قديم، وربما كان بيت الحارس الذي يشرف على هذه البناية الشاهقة بالقرب منه. وحين دخلنا هذا البيت العتيق لم يكن في انتظارنا غير أبو عمار ومعه أربعة أو خمسة من مرافقيه  الأبطال وعلى رأسهم فتحي الرازم "سلبد" الذي يسهر على راحة أبو عمار ولا يعرف النوم ولا يعرف الراحة في الليل أو في النهار.

العميد أبو الوليد عانق أبو عمار مهنئا وهو يقول "الحمد لله على سلامتك"،  كنت على حق حين قلت لنا أمس أن البناية مرصودة.

ظل أبو عمار صامتا. فقد رأى من وراء الأشجار الدمار الذي أصاب هذه البناية وسكانها وأبناءه الفدائيين. وللحق كان حزيناً وإن كان مصفحاً من داخله بصفيح القضية التي يحارب من أجلها. كان يتأثر ثم يستعيد تماسكه ويواصل العمل كالمعتاد. وقال أخيرا: هذا قدرنا وطلب مني أن أكتب البيان عن هذه الكارثة وعن "القنبلة الفراغية"التي ألقاها العدو على هذه البناية وهو على يقين أن أبو عمار داخل البناية. ولكن الله سلم. ومرة أخرى ألغى أبو عمار كل شبكة الاتصالات وكل الهواتف وكل السيارات وكل الملابس لتضليل المخبرين، لأن بيروت مدينة مفتوحة وبشير الجميل متواطئ مع شارون، وهذا أمر لا جدال فيه.

وضاقت بيروت وضاقت الدنيا، ولكن أبو عمار لا يتراجع عن تصميمه على الصمود ما دامت بيروت وأهلها صامدين. وإذا به يترك المنطقة كلها ويذهب إلى الفاكهاني الذي لحقه دمار هائل والمكاتب مهجورة، وهناك يسجل موقفا شجاعا قل نظيره. إنه يتفقد الأفران ويمسك رغيف الخبز، ويحمل الأطفال ليعطي صورة للعالم إنه صامد ولن ينحني للعدوان الإسرائيلي. ويومها يصرح مناحيم بيغن: هذا الرجل ذو اللحية، هل هو الذي يحاصرني أما أنا الذي أحاصره."وكان بيغن يرفض ذكر اسم أبو عمار، بل يقول "الرجل ذو اللحية."

ورتب له محمود اللبدي مسؤول الإعلام الخارجي لقطة مصورة  في ذروة القصف والحرب. إنه يجلس بهدوء ويلعب الشطرنج. وأذهلت هذه الصورة مناحيم بيغن وشارون، حيث كان شارون يهدد بأنه سيأخذ أبو عمار أسيراً ويضعه في قفص معلق في مروحية إسرائيلية ليراه العالم كله. إلا أن صورة الجنرال وقائد الصمود الذي يجد الوقت ليلعب الشطرنج قد جعلت العالم ينظر باحترام إلى هذا الرجل المدافع عن حق شعبه في الحياة والحرية، وفي الوقت نفسه كان داعية السلام الإسرائيلي يوري افنيري قد اجتاز كل خطوط المعارك وجاء لمقابلة أبو عمار الذي استقبله وقنابل الطائرات تتساقط فوق أحياء بيروت ومخيماتها. وقال أفنيري: إنه يدعو العالم للتحرك لوقف هذا العدوان الوحشي الذي تشنه بلدي "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني: وأدعو العالم إلى إنصاف هذا الشعب وتمكينه من إقامة دولته الفلسطينية المستقلة جنبا إلى جنب وعلى قدم المساواة مع دولة إسرائيل.

وقد يكون في حصار بيروت وصمودها الذي استمر 88 يوما دون أن يحرك مجلس الأمن الدولي ساكنا، أكبر دليل على تواطؤ دولي وبالإجماع لمنع التغيير الكبير في الشرق الأوسط لمصلحة خلق القوة القادرة على تحرير فلسطين. فأيلول الأسود في الأردن عام 1970 كان وراءه تواطؤ دولي، وجاء الرئيس الأمريكي نيكسون على ظهر المدمرة الأمريكية "سراتوجا" ليقدم الإنذار تلو الإنذار لسوريا التي تدخلت قيادتها إلا أنها انقسمت تحت ضغط التهديدات الدولية والإسرائيلية. وأصبحت الدبابات السورية التي دخلت الأردن مكشوفة لضربة جوية إسرائيلية لأن قائد سلاح الجو السوري حافظ الأسد أدرك أن التدخل في أيلول كان مغامرة غير محسوبة. وفي حزيران عام 1976. جاء الدور على نظام الأسد ليقوم بما قام به الملك حسين في أيلول 1970، ووفر الملك حسين للأسد الموافقة الإسرائيلية المشروطة بعدم وصول الجيش السوري إلى الجنوب والى الحدود. ولأن للأسد حساباته الخاصة من وراء التدخل في لبنان، ولم يكن من بينها توفير الأمن على الحدود مع إسرائيل، بل كان حريصاً على نظامه كما الملك حريصا على عرشه، ولهذا فالأسد وقف عند تحقيق هدفه الخاص من وراء التدخل. إلا أن الأمن الإسرائيلي بقي مهددا من وجود الثورة في لبنان وفي مواجهة "البطن الطري"لإسرائيل، فوقعت العملية العسكرية التي أصابت إسرائيل كلها بالذهول والصدمة. أنها عملية الشاطئ في (11) آذار 1978 بعد أكثر من عامين على التدخل السوري وتشكيل قوات الردع العربية. وأدت هذه العملية بقيادة دلال المغربي إلى مقتل (36) إسرائيليا والسيطرة على الشاطئ لساعات طويلة. وردت إسرائيل على هذه العملية باجتياح جنوب لبنان في عملية أسمتها عملية الليطاني والتي أدت إلى تشكيل القوة الدولية "اليونيفيل" والى إصدار مجلس الأمن للقرار 425 الذي يطلب من إسرائيل الانسحاب من جميع الأراضي اللبنانية. وبالطبع لم تنسحب إسرائيل. وأمدت سعد حداد بقوتها العسكرية للسيطرة على القرى في الجنوب.

 وفي ظل عدم الحسم السوري ضد الثورة كان لا بد من الحرب الرابعة في عام 1982 لاستكمال ما عجز عن تنفيذه نظام الأسد، ولكن بعد توفير التواطؤ الدولي المطلوب، وحين غادر أبو عمار بيروت رد على الصحافيين بقوله " من هنا إلى فلسطين" وقبل هذا الخروج المشرف في نهاية آب 1982 لقوات الثورة وفصائلها والقيادة إلى تونس، كان هناك يوم لا ينسى، إنه يوم عيد ميلاد أبو عمار الذي يصادف الرابع من آب. وكانت قد مضت عدة أيام ولم أعرف أين يتواجد أبو عمار. إنه يعرف كيف يجد أياً منا نحن العاملين معه بشكل يومي، والسؤال عن مكانه لأي أحد هو مخاطرة. ولهذا في صباح هذا اليوم جاء فتحي وبمجرد حضوره إلى حيث نعمل في الجريدة اليومية، أعرف أن المطلوب أن أرافقه إلى حيث أبو عمار، وعلى الفور ودون كلام ودون أن أستأذن من العاملين أنسلُّ خارجا وبصمت وراء فتحي، وبمجرد اقترابنا أوقف فتحي السيارة  في زاوية ومشينا خطوات قليلة وكأننا مواطنون عاديون، وكان الشارع الذي انحرفنا منه إلى اليمين هو شارع مستشفى الجامعة الأمريكية، وسيارات الإسعاف بصافراتها لا تتوقف أبدا عن نقل الجرحى إلى المستشفى. نحن إذن في مواجهة مستشفى الجامعة ولا نبعد عنه مائة متر على أبعد تقدير، إنه مكان آمن حقا، وهبطت وراء فتحي إلى الدور الثالث تحت الأرض، وأعتقد أنه كراج للسيارات، وجدت أبو عمار ونايف حواتمة ومحسن إبراهيم وجورج حاوي الذي أحضر لأبو عمار كعكة عيد ميلاده على شكل دبابة "ميركافا" الإسرائيلية التي يدمرها الصامدون في بيروت بقذائف (الآر بي جي ) وكتب تحتها عبارة من التوراة. وهؤلاء اللبنانيون العظام كانوا أروع الأصدقاء وأصدق الحلفاء في الزمن الصعب، بل في الزمن العربي الرديء وفي لحظة انقلبت فرحتنا بعيد ميلاد أبو عمار إلى كابوس مرعب.

إن القذائف تنهال على البناية ولا نعرف إذا كانت قذائف مدفعية أم طائرات تقصف البناية، ومن أين يأتي هذا القصف، هل من البحر؟ وهل من المنطقة الشرقية حيث بشير الجميل يأتمر بأمر شارون وجيشه، أما كعكة الميركافا فلم تمس أبدا، ولا بد من مغادرة هذا المكان، خوفا من تدمير البناية على رؤوسنا أو تدمير المدخل ونموت بالاختناق داخله. وأصدر أبو عمار أوامره بالتحرك على النحو التالي خمسة سيارات تخرج في موكب حتى يعتقد من يراقب المبنى أن أبو عمار قد خرج. وخرجت السيارات الخمس. وبعدها بدقائق قليلة كان أبو عمار ونايف حواتمة وأنا معهم في سيارة وحيدة وبلا حراسات نخرج من المبنى ونتجه إلى منطقة "كلمنصو." وهذه المنطقة تكاد تكون مطلة على بيروت الشرقية، ووجدنا مكانا لنا تحت الأرض في بناية قديمة، ودخلنا فإذا به مكان مهجور، ومليء بمواسير الماء الذي يتسرب على أرض هذا المكان المعتم ورائحته لا تحتمل، بسبب الرطوبة، وأعتقد أن هذه المواسير الضخمة كانت للمياه العادمة. وتوقف القصف بعد وقت قصير من خروج السيارات في الموكب الوهمي. وقرر أبو عمار أن نغادر وليس معنا أحد غير نايف حواتمة وبالطبع ( فتحي سلبد). وكانت وجهتنا منطقة فردان وفي مدخل بناية وفي كراج مغطى توقفت السيارة وقفز أبو عمار مسرعا وتبعه أبو النوف وأنا معهم، إنه مقر صغير للحزب القومي السوري في مقابل فندق البريستول. وكان خاليا  تماما ويبدو أن فتحي خلع الباب بالقوة. ومنذ وقت طويل لم نر الشمس الساطعة بحرارتها اللاهبة كما تدخل علينا الآن من النافذة المطلة على الشارع. وعند حلول الظلام تفرقنا، ولم نلتق طوال عشرة أيام. وكان الاجتماع الحزين الأخير في قبو السجاد عند محسن إبراهيم في منطقة المزرعة، يومها كان الخروج قد تقرر.

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع