أحمد عبد الرحمن يروي تفاصيل القبض على "الجاسوس ياسين" .. لماذا باع عرفات استثمارات المنظمة ومشاريعها ؟ وكيف كان "أبو عمّار" معرضا للاصابة بالشلل !

أحمد عبد الرحمن يروي تفاصيل القبض على "الجاسوس ياسين" .. لماذا باع عرفات استثمارات المنظمة ومشاريعها ؟ وكيف كان "أبو عمّار" معرضا للاصابة بالشلل !
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الثالث والعشرون:

حصان طروادة 


أصبحنا على قناعة تامة في منتصف عام 1992 أن مفاوضات واشنطن قد وصلت إلى طريق مسدود. فالرجل الفاضل د. حيدر عبد الشافي تسمر عند الثوابت ولم يتزحزح قيد أنمله. وفقد أعصابه واستقال من رئاسة الوفد وعاد إلى غزة حين يئس من إحراز اختراق يضمن ربط الفترة الانتقالية بالحل النهائي.  ويضع على رأس أولوياته وقف وتجميد الاستيطان والإنسحاب الكامل في نهاية الفترة الانتقالية من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 والقدس الشرقية، وعلى أن ينص الاتفاق الانتقالي على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في نهاية السنوات الخمس المتفق عليها كفترة انتقالية.  وكان فيصل الحسيني يرأس لجنة الإشراف على المفاوضات، ولم  يدخل وزارة الخارجية الأمريكية، إلا في الجولات الأخيرة وكذلك نبيل شعث الذي يمثل المنظمة مشرفا على المفاوضات. وحين جاء فيصل الحسيني بعد جولة من جولات التفاوض في واشنطن وسألته عن سير هذه المفاوضات وهل أحرزت تقدما قال لي فيصل: لم ننجح في إدخال حصان طروادة لتحرير المخطوفة "هيلين."

أما أبو علاء (أحمد قريع) فقد حدثني بعد عودته من لندن بعد لقاء حول المفاوضات المتعددة، وقال لي: قابلت في لندن باحثا اجتماعيا  من النرويج واسمه لارسن وكان معه أكاديمي إسرائيلي واسمه هير شفيلد، وقد عرضا عليّ إجراء مفاوضات سرية لأن هذه المفاوضات تحت أضواء الكاميرات في واشنطن لن تؤدي إلى نتيجة. وأضاف أبو علاء أنه فهم من الاثنين أن الكلام يدور حول مفاوضات بين المنظمة وإسرائيل، وسألني أبو علاء عن رأيي وبماذا أنصحه؟ وقلت له: لا أكاد أصدق أن إسرائيل قد وصلت إلى قناعة بأن حل هذا الصراع يمر عبر منظمة التحرير الفلسطينية.  ولكن إذا كان ما سمعته منك دقيقا، فعليك نقل هذا الاقتراح إلى أبو عمار وأبو مازن.  وللأمانة شجعت أبو علاء على مواصلة هذه اللقاءات. وتحت غطاء المفاوضات المتعددة بدأ أبو علاء يسافر كثيرا. وبعد فترة اختفى حسن عصفور، وهو يعمل مع أبي مازن في دائرة العلاقات العربية والدولية، وكان كذلك عضوا معنا في لجنة الإشراف على المفاوضات الثنائية في واشنطن.

قرر أبو عمار في منتصف حزيران 1992 أن يزور بغداد تعبيرا عن الوفاء للشعب العراقي. إلا أنه أراد أن يوجه بهذه الزيارة أكثر من رسالة إقليمية ودولية، والأهم رسالته إلى شخصه بالذات. فهو وإن قدم كل الدعم لمؤتمر مدريد للسلام، ويتابع بشكل تفصيلي لقاءات الوفد المفاوض في واشنطن، إلا أنه لا يطيق أن يسمع ما تقوله المعارضة بأنه أذعن للشروط والإملاءات الأمريكية، وأنه لا يختلف في شيء عن حلف حفر الباطن.  وكان يعتبر أن زيارة بغداد ولقاء صدام حسين تبدد الانطباع الخاطئ بأنه التحق بالمعسكر الأمريكي، كما أن زيارة بغداد هي رسالة للقوى الإقليمية التي تغلق عواصمها في وجهه لأنه  "حليف صدام" وقد أزعجه كثيرا تصريح أمريكي بعد خروجه سالما من سقوط طائرته، بأن أمريكا لم تقم بأي عمل للبحث عن الطائرة بواسطة الأقمار الصناعية. ويقول ردا على هذا التصريح: ولكن الأمريكيين هم الذين قدموا للإسرائيليين صور الأقمار الصناعية لقتلي في حمام الشط.

وقد حظي أبو عمار بتعاطف جماهيري واسع بعد حادثة الطائرة، وإذا أضاف إليها زيارة التحدي إلى بغداد ولقاء صدام حسين، فإن صورته أمام شعبه تبقى في مكانها الصحيح.  قائد وطني يخوض معركة تحرير وطنه، وليس ألعوبة في يد الأمريكيين كما هو شأن غيره من الحكام في الشرق الأوسط الذين أوقفوا كل أشكال الدعم له وللإنتفاضة على السواء، إلى حد أجبره على خفض الموازنات والرواتب، وأمر ببيع كل مشاريع الاستثمارات في إفريقيا وغيرها. باع شركة الطيران والسفن التجارية والأسواق الحرة والمزارع ومصانع الأدوية.  وكانت صدمة كبيرة له حين علم أن أعدادا من الكوادر والمقاتلين تترك مواقعها بسبب الأزمة المالية وتطلب اللجوء السياسي في أوروبا.  وما دام لا يملك حلولا لكل هذه الأزمات، فإنه يملك القدرة على التحدي وإغاظة أعدائه سواء بالتصريحات أو بالزيارات لبغداد ولدول "الضد" وهي الدول التي صوتت ضد التدخل الأمريكي.  وعاد التقارب مع الملك حسين، حين جمعهما خندق واحد مع صدام حسين.  كان عليه أن يسافر برا إلى بغداد، فليس هناك طيران بين العراق والعالم. وفي مساء ذلك اليوم زاره صديقه الدكتور أشرف الكردي، ولاحظ اضطرابا في نظرات أبو عمار، وأن وجهه شاحب، وحين سأله عن حالته الصحية قال له أبو عمار: صحتي على ما يرام، إلا أنني أشكو من صداع شديد بين فترة وأخرى. وبالفعل، كان أبو عمار، بعد عودته من ليبيا، يتحامل على نفسه وهو يتقبل التهاني بسلامته، وكان لا يبدو على طبيعته المعهودة، كثير النشاط، كثير الأسئلة. وكنت أجده كسولا وعديم النشاط ومهموما، وحين سألته ذات صباح وقلت له: اليوم "مش على بعضك " فقال لي "الدنيا مقلوبة"، ويضع رأسه بين يديه ويتوقف عن الكلام لبضع دقائق. إلا أن الفضل يعود للدكتور الكردي في إقناع أبو عمار بإجراء الفحوص الطبية في مدينة الحسين.  وهنا لا بد من الإشادة بالملك حسين الذي حضر إلى مقر الضيافة واصطحب أبو عمار في سيارته إلى مدينة الحسين الطبية لإجراء الفحوص على الفور. وقال الدكتور الكردي فيما بعد كانت حالته خطيرة جدا، وكان يمكن إن يصاب بالشلل. بقي الملك حسين لساعات إلى جانب أبو عمار، وأحضر أفضل وأكفأ الجراحين في الجيش الأردني الذين أجروا العملية لإزالة بقعة الدم المتجمدة فوق الجمجمة والتي تضغط على جهازه العصبي وتسبب له الصداع والاضطراب.

وصلنا عمان في اليوم الثاني أبو مازن وحكم وأنا، وذهبنا مباشرة إلى المستشفى، وكان أول من استقبل أبو مازن الدكتور الكردي الذي قال: العملية نجحت مائة بالمائة، وحين تدخلون للسلام عليه ستجدون رجلا آخر. وبالفعل، كان أبو عمار يسند ظهره إلى حافة السرير، ويمكنك أن تلمس الفرق الهائل بين المستشفى في طرابلس ومدينة الحسين الطبية. وحين جاء دوري للسلام على أبو عمار وتهنئته بسلامته أمسكت بيده وقلت له: "الآن على طائر الفينيق أن يحلق".  تعلمت بمرور الوقت التأثير الهائل لكلمات التشجيع على روحه المعنوية.  فحين يسمع أبو عمار كلمة لها دلالة تاريخية أو رمزية موجهة إليه، فإنه يمتلئ قوة وصلابة. كانت الكلمات ذات الدلالة أقوى من الدواء في التأثير على معنوياته وصحته.

وقال الدكتور الكردي إن الملك حسين قرر استضافة أبو عمار في قصر الهاشمية طوال المدة المقررة لنقاهته وراحته.  وكان هذا حديث الفلسطينيين في عمان في دوائر المنظمة وحولها يلهج بالثناء على الملك حسين الذي يزور أبو عمار في المستشفى يوميا، ويمكنك أن تتخيل مدى الاهتمام بأبي عمار حين يكون الملك حسين أول المهتمين.

هذه هي المرة الثانية التي رأيت فيها الملك حسين عن قرب.  وكانت المرة الأولى عندما انعقد المجلس الوطني في عمان في تشرين الثاني 1984. ولا أخفي أن لطفه وتهذيبه غير لدي الصورة السلبية التي كنت أحملها لسنوات طويلة عن الملك حسين بعد أحداث أيلول عام 1970. وحين انتقل أبو عمار من المستشفى إلى قصر الهاشمية في ضواحي عمان الغربية، كان الملك حسين يحرص على الحضور ليطمئن بنفسه على صحة أبو عمار، وكان يتحرك في صالونات القصر ويحرص على أن يبادلنا التحية ويصافحنا واحدا واحدا والكلمة التي يرددها دائما هي كلمة "سيدي" يقولها للصغير والكبير.

وبعد أسبوعين قضاهما أبو عمار في قصر الهاشمية كانت الصفحات السوداء في العلاقات الأردنية - الفلسطينية سقطت من الذاكرة.  ورحت أجد تفسيرا متأخرا لأحداث الماضي المؤلم. وتذكرت موقفين لجمال عبد الناصر، الموقف الأول حين رفض دعم حركة الضباط  للقيام بانقلاب ضد الملك حسين في عام 1956والموقف الثاني حين فوضه بإجراء الاتصالات مع أمريكا لاستعادة الضفة الغربية والقدس بعد حرب عام 1967. وقال عبد الناصر يومها، سيناء قضية سهلة والقضية الصعبة هي استعادة الضفة والقدس.

وتذكرت كيف كنا نتحدث في الماضي عن الكفاح المسلح والحرب الشعبية ونجري مقارنة بين الأردن وفيتنام الشمالية والسد الصيني والسد السوفييتي. ولكن قبل أن أفهم خطأ وعلى غير ما أرمي إليه، فإنني أقول لم يكن أمام ياسر عرفات غير أن يفعل ما فعل. فيصطدم بالوضع العربي اليوم ليتصالح معه غدا، طوال أربعين سنة قاد فيها الشعب الفلسطيني. وإذا كان قد نجح في تخليص قضية شعبه من الإلغاء العربي، فإنه كان كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

ولكن هذه الحميمية التي جمعت الرجلين في قصر الهاشمية في عمان لم تدم طويلا، بسبب اتفاق أوسلو فشمعون بيرس الذي وقع اتفاق لندن السري مع الملك حسين في عام 1986 أدرك إن الانتفاضة قد قلبت كل الحسابات وأبعدت الأردن نهائيا عن دوره التقليدي.  وأن الدور والقرار بعد فك الارتباط أصبحا في يد المنظمة ورئيسها ياسر عرفات وقال بيريز إن المفاوضات في واشنطن تراوح مكانها لأنها ليست مع الطرف الذي يقود الصراع والقادر على المساومة وعلى الاتفاق ولهذا دفع بيريز إلى توقيع اتفاق أوسلو السري بدل اتفاق لندن السري.

ولهذا حين سافر يائير هير شفيلد ورون بونداك إلى لندن لجس نبض ممثل المنظمة في المفاوضات المتعددة (أبو علاء) كان وراءهما في تل أبيب يوسي بيلين ويوري سافير والمايسترو لكل هذه العملية كان شمعون بيريز. وحين فاتح أبو علاء أبو مازن وأبو عمار بما جرى في لندن مع هير شفيلد، وظهور "تيري رود لارسن " على المسرح المعد ببراعة، وعرضه استضافة المفاوضات السرية في النرويج، وافق أبو عمار دون تردد، وكلف أبو مازن بمتابعة المفاوضات في القناة السرية التي اشتهرت فيما بعد بقناة أوسلو. ولم يضيع أبو عمار وقتا فهو يدرك أن مصير مفاوضات واشنطن الفشل لأن المسافة شاسعة في تقدير الموقف بين صاحب القرار وبين من يمثلونه ويأتمرون بأمره ويحملون تفويضا منه، لأنهم ليسوا على استعداد للمجازفة أو المغامرة أو المساومة.  أما الرجل الذي حفر الصخر ليعلن وجوده، فلا شيء عنده يوازي أهمية الأرض بكل القيود التي يفرضها المحتل، إنه الإرادي الذي يعلي دورالإنسان في صنع قدره وتاريخه، وهو كفيل بهذه الإرادة المطلقة على تذليل الظروف والعوائق الموضوعية التي تعترض إرادته، وليس لديه شك في ذلك، ما دام قادرا على أن يحمل وسام "أم المعارك" ويفاوض في واشنطن وفي أوسلو، هو القائد الوحيد الذي يحرص قبل كل قمة عربية أن يزور موسكو ومنها يتوجه إلى مكة المكرمة وبعدها يذهب إلى القمة العربية. وقد اقتنعت بجدية قناة أوسلو حين وصل أحمد الطيبي إلى تونس وقدم ورقة لأبو مازن وفيها 120 سؤالا. وقال إن هذه الأسئلة مصدرها إسحق رابين، إنه في حال الإجابة عليها، فإن الأمور المعلقة في المفاوضات ستحل.  ولم يدر في ذهني أبدا أن هذه الأسئلة تتعلق بقناة أوسلو، بل كنت أعتقد أن أسئلة رابين تتعلق بالجمود المسيطر على مفاوضات واشنطن.

ومن المفارقات المضحكة أن أبو اللطف، حين اعترض في آب 93 على عدم اطلاعه على هذه القناة السرية، قال له أبو عمار هذا ليس صحيحا، لقد سلمتك بيدي ورقة تتضمن الخطوط العريضة لاتفاق أوسلو في شهر نيسان، وضحك أبو اللطف وقال: ولكنك قلت لي أنها مشاريع حلول من أكاديميين أمريكيين ونرويجيين، وتبين أن أبو اللطف احتفظ بهذه الورقة في حقيبته ولم يطلع عليها طوال أربعة أشهر لاعتقاده بأنها واحدة من سيل المقترحات التي تصل الدائرة السياسية كل يوم.

أما لماذا لم يجر اطلاع أبو اللطف أو مشاركته، فهذا يعود في الأساس إلى موقفه الرافض لتجزئة الحلول، ويعتقد أنه يجب مواصلة العمل مع سوريا وغيرها وصولا إلى الحل العربي الواحد، وهو ما كان مستحيلا.

وكان أبو علاء وشمعون بيريز قد وقعا إعلان مبادئ اتفاق أوسلو بالأحرف الأولى في أوسلو في 20/8/1993، وقامت الدنيا الفلسطينية ولم تقعد، وانهالت الاتهامات على أبو عمار. واعتبر الملك حسين الاتفاق بأنه طعنة في الظهر.  ولهذا سرعان ما تجاوز كل العقبات، وبدأ يفاوض إسرائيل علنا وسرا حتى توصل إلى معاهدة "وادي عربة" وتبادل العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وأبقى الملك حسين للأردن حق الإشراف على الأماكن المقدسة في القدس. إلا أن قطار أوسلو لن يتوقف إلا في البيت الأبيض في واشنطن بعد تبادل رسائل الإعتراف المتبادل غير المتكافئ بين إسرائيل والمنظمة.  فالمنظمة تعترف بدولة إسرائيل، أما إسرائيل فتعترف بالمنظمة ممثلا شرعيا ورفض رابين أن يضيف "الوحيد" تاركا الباب الإسرائيلي مفتوحا على احتمالات المستقبل.

وفي الواقع، كنت في عمان أثناء إعلان نصوص اتفاق أوسلو، وتوقفت عند غياب الهدف النهائي وهو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعد خمس سنوات، وكذلك عدم ورود إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وترك الاستيطان والقدس واللاجئين والأسرى والأمن والحدود والمياه باعتبارها قضايا مفاوضات المرحلة النهائية.  واتصل معي أبو عمار من تونس ليقول لي: هذا هو برنامج السلطة الوطنية يا أحمد الذي عملنا من أجله طويلا.  إلا أنني قلت لأبو عمار: أنا الآن في عمان ولهذا أقول أنني مع الاتفاق وقد يكون لي رأي آخر حين أعود إلى تونس. أبو عمار فهم ما أعنيه فقال لي: بارك الله فيك يا خويا، أنا بستناك.  لما توصل بفهمك بعض الأمور.  وكان مغزى جوابي لأبو عمار بأنني لن أعطي موقفا علنيا ضد اتفاق أوسلو، وإنني في تونس سأحدد موقفي في الأطر الحركية وهذا ما حدث بالفعل.

وبعد عودة أبو عمار وأبو مازن وأبو علاء والوفد بعد توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض، بدأ الصحافيون الإسرائيليون يتدفقون على تونس لإجراء المقابلات مع هذه القيادات التي ستتولى المسؤوليات بعد أشهر في قطاع غزة وأريحا.

ذات مساء من شهر أكتوبر 1993 كنت عند أبو مازن في مكتبه ودخل أحد مرافقيه ليقول له إن عدنان ياسين من باريس يريد أن يتحدث معك، وسأله أبو مازن عن حالة زوجته المريضة والتي تتلقى العلاج في باريس، وأعطاني أبو مازن الهاتف وتمنيت الشفاء العاجل لزوجته. وبعد أيام وفي المساء أيضا كان على طاولة أبو مازن جهاز للضوء على شكل سمكة، وقلت لأبو مازن أنه جميل حقا، وبعد قليل نهض أبو مازن عن كرسيه لقضاء حاجة، وحين عاد طلب من شحادة مرافقه أن يساعده في تقديم الكرسي، وبدا لي أن الكرسي ثقيل، ولهذا سألت أبو مازن عن الضوء فقال لي: الكرسي والضوء أرسلها عدنان ياسين من باريس، والكرسي صحي تماما ومريح للظهر. ولكن من هو عدنان ياسين؟

عدنان ياسين مناضل قديم في "فتح"، والتحق للعمل في مكتب المنظمة في تونس منذ السبعينات، وتولى في المكتب مسؤولية الشؤون العامة، وهذا عنوان عريض يمتد من استئجار المكاتب إلى تجديد الإقامة وجوازات السفر، والحصول على التأشيرة، وحجز الغرف في الفنادق، واستقبال الضيوف، وتخليص السيارات من الجمارك. إنه باختصار شديد "المفتاح السحري" في مكتب المنظمة، وكنا نسميه "الماستركي"، وهو رجل خدمة عامة من طراز نادر. صبور وخدوم ومتواضع إلى حد أنه يأتي إلى مكتبك ليعرض خدماته عليك. وكل القادمين إلى تونس بحاجة إلى خدماته في الإقامة وتسجيل الأولاد في المدارس.  وقد روى عنه أحد الشباب قوله حين كان يأخذ الصور الشخصية لجوازات السفر يقول لصاحب الصور : هذه الصور الثلاث للجواز وهذه الصورة للموساد.  ولم يكن ليشك أحد في أن ما يقوله مجرد دعابة، مع أنه كان يعني ما يقول.

 أما كيف استطاع الموساد تجنيده وهو في هذا الموقع الحساس، فالمعلومات التي توصلت إليها أجهزة الأمن تتفاوت بين تجنيده في باريس أثناء مرض زوجته، ومعلومات أخرى أنه جند في تونس من خلال شبكة للموساد تعمل في تونس. وهذا التهذيب الهائل الظاهر من عدنان  ياسين في المكتب والعلاقات العامة كان يخفي شخصية أخرى لحقها الفساد الأخلاقي والمالي، حيث كان في الحقيقة مدمنا، والإدمان يفتح أكثر من باب للسقوط الأخلاقي. وأخيرا السياسي والوطني، والبعض قال أنه كان بحاجة إلى الأموال لمعالجة زوجته في باريس ودخل الموساد عليه من هذا الباب، إلا أن تغطية كاملة لنفقات العلاج والإقامة في الفندق كانت متوفرة أكثر من اللازم بحكم علاقاته المتشعبة، ولا أحد يرفض له طلبا، فهو "الماستركي" في تونس.

في ذلك المساء حدثني أبو مازن عن جيش من الصحافيين الإسرائيليين كانوا في زيارته في الصباح. وأبدى أبو مازن دهشته من هذا الإهتمام الإعلامي الإسرائيلي والدولي باتفاق أوسلو.  ثم قال أنه طلب إجراء فحص وتفتيش أمني في المكتب، حتى لا يكون أحد من هؤلاء الصحافيين يعمل مع "الموساد" ووضع جهاز تنصت في المكتب. وكان الخوف من أجهزة التنصت قد انتشر في أوساط المنظمة بعد اكتشاف ال (bugs) أي أجهزة التنصت بعد اغتيال رجل الأمن عاطف بسيسو في باريس، حيث، أثناء الفحص الأمني لمنزله، وجدت أجهزة الأمن أجهزة تنصت وإرسال مزروعة في جدران المنزل. وفي اليوم الثاني جاء فريق الفحص الأمني التونسي مع الفريق الفلسطيني، وشارك في الفحص ضابط مخابرات فرنسي، إلى مكتب أبو مازن. وكانت المفاجأة الكبرى التي صعقتنا وجود أجهزة التنصت في الكرسي وفي الضوء الذي قلت لأبو مازن عنه أنه جميل  ويشبه السمكة أو سفينة نوح.  وتم على الفور اعتقال عدنان ياسين الذي انهار دون حاجة إلى التحقيق، واعترف بتجنيده من قبل "الموساد"، وإن كان في البداية قال أنه تم تجنيده من قبل حلف شمال الأطلسي، وصدر الحكم بإعدامه، ثم جرى تخفيفه إلى المؤبد. أما المدة التي بقي فيها جهاز التنصت في مكتب أبو مازن فهي لا تزيد عن شهر واحد من نهاية أيلول 1993 وحتى نهاية أكتوبر من العام نفسه.

وقد ظلت الشكوك تحوم حول مسؤولية عدنان ياسين في اغتيال عاطف بسيسو في باريس في حزيران 1992. ربما إن كل ما كان يقع تحت يديه من معلومات كان يرسله إلى "الموساد"، ومنها مثلا صورنا الشخصية وجوازات السفر وأحوالنا الاجتماعية. وأخيرا تم إجراء عملية تبادل عدنان ياسين بالمناضل أحمد أبو السكر، الذي كان محكوما بعدة مؤبدات بعد عملية تفجير الثلاجة في سوق (محني يودا)  في القدس، والتي دمرت السوق وأودت بحياة العشرات من الإسرائيليين.  أما الجاسوس عدنان ياسين فقد أخرج من تونس وانقطعت أخباره واختفى من التاريخ.

تكشف عملية الشحن السريعة بعد توقيع اتفاق أوسلو في 13/9/1993 للكرسي والضوء المحشوين بأجهزة التنصت والإرسال هدية من عدنان ياسين إلى أبو مازن عن عقلية إسرائيلية منغلقة لا تثق بالآخر مطلقا، ولا تتورع عن القيام بأي عمل لمعرفة ما يدور في رؤوس الآخرين. وبعد أربع سنوات وكنت قد عدت إلى فلسطين قبل عام واحد، وكان أبو عمار يحرص على عقد جلسات مجلس الوزراء في أريحا. ولهذا الغرض أمر ببناء مقر جديد مجهز بأحدث التجهيزات، إلا أنه بعد اجتماع واحد لمجلس الوزراء في هذا المقر الجديد أمر بهدم الجدار المطل على الساحة الخارجية وأشرف بنفسه على عملية الهدم.  وكانت المفاجأة الكبرى حين أخرج العمال أجهزة التنصت والإرسال من هذا الجدار.  واتصل أبو عمار بالفرنسيين الذين قاموا بتزويد أمن الرئيس بجهازين حديثين للكشف عن هذا النوع من الأجهزة. وقد احتفظ أبو عمار بأحد الجهازين في غزة والثاني نقله من أريحا إلى رام الله.

الفصل الثاني والعشرون


الفصل العشرون


الفصل التاسع عشر


الفصل الثامن عشر


  الفصل السابع عشر
أحمد عبد الرحمن يروي شهادته : الانتفاضة الأولى تكسر الطوق وتعلن الاستقلال


الفصل السادس عشر

الفصل الخامس عشر




الفصل الرابع عشر


الفصل الثالث عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل الحادي عشر


الفصل العاشر


الفصل التاسع


الفصل الثامن :

الفصل السابع:


الفصل السادس :


الفصل الخامس 


الفصل الرابع



التعليقات