دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الثالث:

إذاعة أم رئاسة أركان ! 

تسلمت المسؤولية الكاملة عن إذاعة درعا في نوفمبر 1970 وكانت الأزمة مع الأردن في ذروتها، فاتفاق عمان الذي أعقب قرارات القمة الطارئة، أصبح حبرا على ورق بعد وفاة عبد الناصر وموقف وزير الدفاع حافظ الأسد ضد التدخل في الأردن، ووقوف القوة العراقية على الحياد. ولا يمر يوم إلا وهناك اشتباك وسقوط قتلى وجرحى واعتقالات وتدمير مؤسسات حتى الطبية منها في عمان. وعلى المستوى السياسي، كان المحامي إبراهيم بكر يرأس اللجنة المركزية لحركة المقاومة التي تشكلت على عجل قبل أيلول، بصفته نائب أبو عمار، وكانت هذه اللجنة تسعى لتهدئة الأوضاع قدر ما تستطيع إلا أن الوقائع على الأرض كانت كفيلة بإفشال كل المساعي التي تقوم بها.  فعمان لن تكون بعد الآن المسرح الدامي للدولة داخل الدولة.

 وفي عملي كمسؤول عن صوت العاصفة في درعا كنت أقدم للرأي العام كل الأحداث التي تقع على الأرض وأفضح كل الاتصالات السرية بين الأردن وإسرائيل وأمريكا، وقد أدت هذه المكاشفة اليومية بكل ما يجري إلى سخط إبراهيم بكر وما تبقى من القيادة في عمان عليّ شخصيا، وأرسلوا قرارا بعزلي عن المسؤولية في الإذاعة وأصدروا البيانات من عمان التي تعتبر الموقف السياسي الذي أقدمه بصوتي في الإذاعة لا يعبر عن رأي الثورة والمنظمة واللجنة المركزية للمقاومة. وبالطبع، لم أكن أتلقى التعليمات من عمان، ولم أكن أعتبر من تبقى في عمان هو جهة القرار التي علي التقيد بتعليماتها وموقفها السياسي. وكان المسؤول الأول الموجود في درعا في ذلك الوقت هو أبوعلي إياد، وكانت البرقيات من عمان تصله كما تصلني من زهير اللاسلكي الذي يدير هذه الشبكة الهامة للاتصالات بين مختلف المواقع. وقد استدعاني أبو علي إياد لمقر القيادة. ورغم حضوره الطاغي في القواعد والمعسكرات وحكايات الفدائيين في معسكر الهامة وفي مواقعهم المختلفة عن قسوته وجبروته فلم أكن قد قابلته. وكنت استمع إلى كلمات على لسانه يرددها المقاتلون والفدائيون الذين يعرفونه، فاعتقدت أنه فلاح فلسطيني صعب المراس وعنيد وشبه أمي، ولا أنسى أن أحدهم نقل جملة على لسانه قال فيها: "الشباب الفلسطيني بحاجة إلى تقليم وتهذيب حتى يثمر مثل الشجر ".

حين دخلت مقر قيادته كان الصمت مخيما تماما، فلا تسمع أحدا يكلم أحدا ولو همسا، وكان ينتظرني وطلب تقديم الشاي لي، والغريب أنه ظل صامتا لعدة دقائق ثم فاجأني بقوله "الأخوة في عمان يشكون منك ومن تعليقاتك، وأضاف، ولكن بعدم رضا، يطلبون مني أن أبعدك عن الإذاعة. ثم قال: أعرف أنه لا فائدة منهم في عمان ولا في غيرها. وكان يتكلم باللغة العربية الفصحى وليس باللهجة العامية الفلسطينية. وفي الواقع فوجئت من هذه اللغة التي يتحدث بها، إنها لغة أستاذ وليست لغة فلاح فلسطيني، لا يقرأ ولا يكتب.  وقلت له: يجب أن يعرف الناس والعالم ما يجري على الأرض، ولا أستطيع أبدا إخفاء حقيقة ما يجري، مقابل لقاء في عمان في غرفة مغلقة وظيفته أن يغطي على الجرائم التي ترتكب على الأرض. ويجب أن يعرف العالم أننا مظلومون وأن ما يجري من تصفية لوجود الثورة في الأردن لا يخدم غير إسرائيل.

صمت أبو علي إياد ولم يتكلم ثم ناولني البرقيات التي وصلت من عمان والتي تطردني من الإذاعة وتعتبرني شخصا غير مسؤول. فقلت له: أنا شخص منضبط، وإذا كنت موافقا على قرارهم فسأغادر الآن ولن أعود إلى الإذاعة. فما أقوم به ليس سياسة خاصة بي وليس رأيا شخصيا إنه موقف كل فلسطيني يعيش في الأردن.

وتناولت العشاء مع أبو علي إياد وحدثني عن حياته قبل الالتحاق بفتح وقبل الإصابة في وجهه ويديه ورجليه نتيجة انفجار لغم في معسكر الهامة كاد يودي بحياته وهذا كان في عام 1967.  وعرفت منه أنه خريج دار المعلمين، وعمل أستاذا في المدارس في قلقيلية وطولكرم قبل الالتحاق بفتح. وودعني أبو علي إياد دون أن ينطق بكلمة. ولم أره بعد ذلك أبدا. فقد غادر مقره في درعا إلى جرش وعجلون ليتولى  قيادة القوات في دبين. وفي يوم 17/7/1971 طلب مني أبو جهاد أن أرافقه إلى عمان مع اللجنة العسكرية السورية للعمل على وقف هجوم الجيش الأردني على الموقع الأخير للثورة في دبين وجرش وعجلون والأحراش. ونزلنا في فندق الأردن برفقة اللجنة العسكرية التي كان رئيسها الضابط السوري المسؤول عن الكلية العسكرية واسمه الدرديري. لم يمر الموكب في الطريق الجديدة بين عمان ودمشق والذي يخترق مدينة جرش. فقد كان الهجوم في ذروته. ومررنا طريق المفرق. وهذا جعل اللجنة العسكرية لا ترى ولا تسمع شيئا عما يدور في عجلون. وكان أبو جهاد لا يطلب أكثر من وقف القتال وإنقاذ أبو علي إياد وترك الفدائيين يغادرون المنطقة إلى سوريا. وكانت اللجنة العسكرية الأردنية تنفي روايتنا بالكامل. وجاءنا إلى الفندق إبراهيم بكر، وطلب منه أبو جهاد أن يتصل مع وصفي التل لوقف الهجوم والسماح للفدائيين بالمغادرة بمواكبة اللجنة العسكرية العربية.

 وضحك إبراهيم بكر حين قدمني له أبو جهاد وقال لي: الله يسامحك، وأضاف: هي إذاعة أم رئاسة أركان، ولم أعلق بكلمة، وكنت مشدودا إلى إلحاح أبو جهاد للإتصال مع وصفي التل وتأخر الاتصال، لأن وصفي التل رئيس الوزراء ليس موجودا في مكتبه. وفجأة سمعت حركة سيارات غير معتادة أمام الفندق ففتحت النافذة ونظرت إلى مدخل الفندق فإذا به يعج بالجيبات العسكرية التي تصوب رشاشاتها باتجاه واجهة الفندق حيث نسكن في الدور الرابع بجوار أعضاء اللجنة العسكرية السورية التي كان عدد أفرادها يزيد على عشرة ضباط.

وقلت لأبو جهاد: الفندق مطوق بالجيبات العسكرية والرشاشات مصوبة نحونا.

وقف أبو جهاد قرب النافذة وقال لإبراهيم بكر: ما هذا الذي يجري؟ هل هذا تصرف من يريد تهدئة الأمور؟ وهل المطلوب مغادرتنا؟

وأجرى إبراهيم بكر اتصالا لا أعرف مع من، إلا أنه قال لأبو جهاد وبالحرف الواحد: هؤلاء الجنود غاضبون، فالفدائيون قتلوا زملاءهم، وهم هنا بدون أمر وبدون تعليمات من القيادة، وسوف يجري رفع حصارهم عن الفندق على الفور.

ولم يغادر إبراهيم بكر الفندق وبقي معنا طوال ساعات النهار، إلا أن الجيبات العسكرية ظلت تحاصر الفندق، وفي اتصال آخر قال مسؤول أردني لإبراهيم بكر: هذه الجيبات هي حرس لحماية اللجنة العسكرية السورية و خوفا من انتقام الأهالي من أبي جهاد ومن معه.

أما المكالمة اليتيمة، والتي طال انتظارها بين إبراهيم بكر ووصفي التل، فقد أقسم وصفي التل أنه لم تطلق طلقة مسدس واحدة في عجلون، وأن الوضع هادئ جدا، وأن ما يجري هي مناوشات تجري السيطرة عليها وسببها اعتداءات الفدائيين على أهالي المنطقة.

وبالطبع كنا نسمع صوت قذائف المدفعية ونحن في عمان. كان وصفي التل صادقا في قسمه فالهجوم لا يتم بطلقات مسدس بل بالمدفعية والرشاشات الثقيلة والدبابات.

عند هذا الحد، قال أبو جهاد لإبراهيم بكر: للأسف الجماعة يريدون إراقة الدماء وغادرنا إبراهيم بكر قبل منتصف الليل بقليل. وقضينا الليل بطوله وصدى قذائف المدفعية تسمعه عمان كلها. ودون قصد مني ذهبت إلى الغرفة التي أنام فيها، فإذا هذه الغرفة بجانب غرف وفد اللجنة العسكرية السورية  أو الصالون حيث يجلسون وكان في زيارتهم رئيس الأركان الأردني في ذلك الوقت، وقد عمل فيما بعد سفيرا للأردن في البحرين، واعتبرت ما استمعت إليه دليلا على تواطؤ اللجنة العسكرية السورية مع الأردن وضد الثورة، فرئيس الأركان الأردني يطمئن  على وصول هداياه لضباط الكلية العسكرية السورية وهذا جعلني أغادر الغرفة وأنقل لأبو جهاد ما سمعت، فلم يعلق بل قال كلمته المعروفة: بسيطة يا أخ!!

وغادرنا عمان صبيحة اليوم التالي 18/7/1971. وكان كل شيء قد انتهى. تمت سيطرة الجيش على المنطقة بكاملها. وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل، ونجا من نجا. وحين وصلنا درعا، ذهبت إلى الإذاعة، وتابع أبو جهاد طريقه إلى دمشق. وكان يوما حزينا. اطلعت على نشرة الاستماع التي ترصد الأخبار من الإذاعات المختلفة ومنها إذاعة إسرائيل. وأوردت هذه الإذاعة إن قوات الاحتلال قد ألقت القبض على (  117 ) فدائيا هربوا من عجلون وقطعوا النهر وسلموا أنفسهم لقوات الاحتلال. وتجمد الدم في عروقي، فلم أكن أتصور، ولو في الخيال أن الفدائيين يهربون من نيران جيش عربي ويسلمون أنفسهم لإسرائيل. هذه الحادثة قلبت حياتي وأفكاري وقناعاتي، وتلك المسلمات الساذجة التي أصابتني بالعمى لسنوات وسنوات. ولم أر الواقع العربي المحيط بفلسطين على حقيقته. فالكيانات لا يعنيها غير وجودها. وقومية المعركة شعار أجوف في ظل الكيانات العربية التي لا طاقة لها على مواجهة إسرائيل، ولا حتى على حماية أرضها وسيادتها من الأعمال الانتقامية التي تقوم بها إسرائيل بعد كل عملية فدائية. وفي هذا الوقت لم أكن عضوا في أي إطار قيادي سواء في فتح أو في المنظمة.

 وكان إسقاط النظام الملكي في الأردن على كل شفة ولسان بعد تصفية وجود الثورة والفدائيين في الأحراش وعجلون. فهذا معناه القضاء على القاعدة الآمنة وإغلاق الحدود الأردنية، وهي أطول حدود مع فلسطين في وجه العمل الفدائي. وبيني وبين نفسي، وجدت أن شعارات إسقاط النظام وقيام حكم ديمقراطي في الأردن مجرد كلام فارغ مع أنني أسمح بإذاعة كل تصريح بهذا الخصوص من أي مسؤول فلسطيني. ولم أترك كلمة مسيئة للنظام الأردني أو أي مسؤول فيه إلا وتم إذاعتها على الناس. إلا أن حادثة هروب الفدائيين وتسليم أنفسهم لإسرائيل كانت صدمة الوعي التي نقلتني من عالم الأحلام والأوهام إلى الواقع المر، الواقع العاري الذي كشفت عورته هذه الحادثة التي أراد الجميع تجاهلها وعدم ذكرها. وقد توقفت عندها طويلا، وعدت إلى التاريخ الحديث من النكبة وما بعدها ومؤتمر أريحا وتسمية الضفة الغربية والضفة الشرقية. واعترفت بيني وبين نفسي أن الأردن هو الأردن وأن فلسطين هي فلسطين، وأن ما حدث في أيلول وبعده في الأحراش قد أكد هذه الحقيقة. ولم أكن مقتنعا بأن مهمتنا لتحرير فلسطين تبدأ بإسقاط النظام الأردني وبعده اللبناني وبعده السوري ثم العراقي ثم لا أدري مَن من الأنظمة يجب إسقاطه حتى تمهد الطريق لتحرير فلسطين. وجدت هذا كله نقيضا لفتح التي رفعت شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية لحماية نفسها من التدخل العربي في شؤونها. وللأسف كل هذا شعارات، فالثورة التي فجرتها فتح تدخلت فيها كل القوى العربية، ومن يجرؤ على الادعاء بأن هذا النظام أو ذاك لا شأن له بتحرير فلسطين. أليست فلسطين هي قضية العرب القومية؟

وقد وجدت أن علي أن أكون صادقا مع نفسي ومع تحليلي للإحداث التي وقعت. ولهذا كتبت التعليق السياسي الذي غير حياتي، وأعلنت إلغاء مؤتمر أريحا وإلغاء وحدة الضفتين التي هي في حقيقتها ضم قسري لشرق فلسطين لإمارة شرق الأردن التي أصبح اسمها المملكة الأردنية الهاشمية. وعدت إلى قرارات الجامعة العربية ضد الضم، وقول الملك عبد الله  بأنها "وديعة" سترد إلى أصحابها بعد تحرير فلسطين.

وتحدثت عن تجريد الجهاد المقدس من سلاحه على يد غلوب باشا قائد الجيش الأردني. وعدت إلى القائد الأردني عبد الله التل وما رواه عن حرب1948 وإلى الياهو ساسون وما رواه عن اجتماعات الشونة مع الملك عبد الله.

وجن جنون الكثيرين من هذا التعليق السياسي الذي غير مسيرتي السياسية. فقبل عامين انتقدت بقسوة الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، وأصبحت أقول اليوم وبالفم الملآن يجب عدم الخلط بين الأردن وفلسطين بعد الآن فهناك فلسطين وهناك الأردن. وفي أوائل أيلول 1971 انعقد المؤتمر الثالث لحركة فتح في حمورية في ضواحي دمشق، وقد كنت عضوا فيه. وقبل أيام من انعقاد المؤتمر كنا ننزل في فندق تدمر أنا وماجد أبو شرار وأبو صالح ومعنا فائق وراد، الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني_ الفلسطيني، وكانت الواقعية السياسية المرة لهذا القائد الشجاع تدمر كل أحلامنا وأوهامنا، فهو يتحدث عن الشرعية الدولية، وقرار التقسيم الظالم للحق الفلسطيني وأنه صدر باسم الشرعية الدولية التي وقف الفلسطينيون والعرب ضدها. وبدل تشكيل حكومة فلسطين وإعلانها دولة كما فعلت الحركة الصهيونية أخطأت القيادة الفلسطينية، وشكلت في وقت متأخر "حكومة عموم فلسطين" التي ألقت الأمم المتحدة رسالتها في سلة المهملات. فقد كانت ضد قرار التقسيم الذي يحظى بالشرعية الدولية. وإسرائيل، قبلت القرار، وأعلنت دولتها في 15 أيار 1948.وبعد ستة أشهر أعلنت حكومة عموم فلسطين. واسم الحكومة وحده يكفي لعدم التعامل معها.  والأدهى من ذلك أن العرب كلفوا أنفسهم بالمهمة الباقية:  فالملك فاروق أصدر أمرا بجلب المفتي من غزة إلى القاهرة وفرض عليه الإقامة الجبرية غير المعلنة، وعين حاكما عسكريا وإداريا لقطاع غزة. والملك عبد الله في عمان جرد الجهاد المقدس من سلاحه، وسجن قياداته، وضم الضفة الغربية عسكريا وسياسيا في ظل اتفاق سري مع إسرائيل.

وفي لحظة حميمة بيننا نحن الثلاثة أبو صالح وماجد وأنا حضر كمال عدوان، وكان فلسطينيا حتى النخاع وهو القادم من أصول حزبية إسلامية، وهو الذي قال: عقيدتي فلسطين وكل عقيدة من أجل عودتها وتحريرها.

واكتشفت أن ماجد أبو شرار ونمر صالح (أبو صالح) يقتربان مما يقوله فائق وراد ومما سبق وأذعته على الملأ من إذاعة صوت العاصفة في درعا بإلغاء وحدة الضفتين واعتبار مؤتمر أريحا مؤتمرا مزورا وما حدث ضم بالقوة وليس بالرضا، دون أن أتبنى قرار القيادات الفلسطينية كلها بإسقاط النظام الأردني بل استبدلته بإلغاء وحدة الضفتين.

كمال عدوان استمع لكل كلمة قالها فائق وراد. وفي الحقيقة لم يقدم رأيا معارضا، بل أخذ يفكر فيما سمع، وكانت علاقتي معه وطيدة إلى الدرجة التي تسمح بأن يناقش أفكاره معي.

بدأ المؤتمر الثالث لفتح في أول أيلول 1971 في حمورية القريبة من دمشق. وحيث أنني لم أكن على اطلاع كاف بما جرى في أيلول وقبل أيلول وما حدث من اعتقال أبو إياد وأبو اللطف والقرار الذي أصدره أبو عمار بحل أجهزة الأمن، وما حدث في الأحراش من مأساة كان يمكن تجنبها كما قال البعض من أعضاء المؤتمر، والموقف من النظام الأردني والوضع في جنوب لبنان. ولم أُدلِ برأيي في أي من هذه القضايا ولم يكن لي الحق في ذلك. فلم أكن مشاركا في كل هذه الأحداث. ولهذا بقيت صامتا طوال اليوم الأول، وفي اليوم الثاني كذلك. أما في اليوم الثالث فقد طلبت الحديث أمام المؤتمر. وفي البداية أكدت أن حركة فتح هي الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني وهي العمود الفقري للثورة، ولهذا عليها أن تجيب على الأسئلة التي تواجه شعبنا، ما دامت قد حررت العقل والوعي والإرادة. نحن هنا نتحدث عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح وهذا هدف استراتيجي بعيد المدى، ولكن أليس لدينا أهداف مرحلية؟

وما هو موقفنا من أرضنا الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وأكاد أقول إننا نعرف هدفنا الذي حددناه لأرضنا المغتصبة عام 1948 أما أرضنا المحتلة حديثا عام 1967 فلا موقف ولا جواب قدمناه لشعبنا باسم حركتنا فتح. الأنظمة العربية صاحبة البلاغ العسكري رقم واحد أجمعت الآن أن المطلوب تحرير الأرض العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967 واختفى شعار التحرير الكامل، وسؤالي المحدد ما هو موقفنا من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ هل نوافق على إعادتها للمك حسين الذي اتخذنا قرارا بإسقاط نظامه؟ وهل نقبل أن يعود قطاع غزة لمصر؟ وبدأت ضجة في القاعة تقاطعني وتطالب بتقديمي لمحكمة عسكرية، وكان الذي رفع صوته عاليا هو الحاج إسماعيل جبر وحوله عدد من العسكريين ولم تفاجئني الأصوات والمقاطعة، فواصلت كلامي وقلت الكلمة التالية: إن الشيخ الجعبري الذي وقع اتفاق أريحا سيكون في نظر شعبنا وطنيا أكثر منكم إذا لم تحددوا الموقف المطلوب من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. لم يكن كلامي مكتوبا بل كان مرتجلا، ولسوء الحظ أو لحسن الحظ من وجهة نظر التاريخ، فقد لاحقني هذا التسجيل المحفوظ عند صخر أبو نزار في مكتب التعبئة الفكرية. كان دائما يجري توزيعه على أعضاء المؤتمرات في الحركة كونه شهادة على القطرية والشوفينة والانعزالية والانهزامية اليسارية والتبعية للاتحاد السوفييتي. وفي حالتنا المأساوية من السهل إطلاق الاتهامات وإلصاقها بالخصم دون حساب أو عقاب أو يقظة ضمير.

على كل حال لفت انتباهي أن شركائي الثلاثة في هذا الطرح أبو صالح وماجد أبو شرار وكمال عدوان، لم يؤيدوا ما قلت ولم يعترضوا عليه. أما أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف فقد تشاغلوا. أما أبو مازن فكان يجلس مع أبو يوسف النجار خارج القاعة ولم يكن بيننا علاقات عمل. فقد تعرفت عليه في عمان قبل أيلول بفترة وجيزة وكان يتولى مسؤولية التنظيم.  واللقاء الثاني في درعا وكان يتابع أحداث عمان في أيلول 1970، ولم يبادر لأي تعارف أو حديث مع أحد منا نحن الذين نتردد على مقر القيادة. ولهذا لم أتحدث معه حول القضية السياسية التي فجرت قنبلتها في المؤتمر الثالث.

وللحقيقة والتاريخ فإن كمال عدوان وهو مهندس كما هو معروف، ناداني بعد انتهاء  جلسة المؤتمر وقال لي التحليل التالي للقضية: "يا أحمد، إذا أضأت شمعة داخل أربعة جدران وأغلقت عليها الباب فلن يراها احد، والأفضل أن تظل الشمعة بلا جدران وبلا باب حتى تضيء الظلام المحيط بنا "وكان يقصد بالشمعة الثورة وفتح، استمعت جيدا وفهمت منه أنه ضد الطرح الذي قدمته، ولكن أضاف من حقك أن تقول رأيك وأنا أحترم شجاعتك.

صدمني كمال عدوان لأنه كان المسؤول الأول عن عملي في الأعلام.  ولهذا قلت له لن تستطيع بناء قاعدة آمنة للشمعة المضيئة إلا في الأرض الفلسطينية، والضفة والقطاع والقدس هي ما تبقى من فلسطين من المنظور الدولي وعلينا أن نحصل عليها ونترك للأجيال شمعة مضيئة آمنة في فلسطين تجعل الهدف التاريخي في متناول اليد والقدرة.

وفاز أبو صالح وكمال عدوان بعضوية اللجنة المركزية وماجد أبو شرار بعضوية المجلس الثوري وكذلك ناجي علوش وأبو داود وأبو خالد العملة وصخر حبش وعباس زكي.  وارتكبت حماقة ورشحت نفسي لعضوية المجلس الثوري وكان سقوطي مؤكدا بعد الذي قلته عن أن الشيخ الجعبري سيكون وطنيا أكثر منكم إذا لم تأخذوا موقفا من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967.

ولكن بعد المؤتمر لاحظت أن أبو عمار وأبو إياد وأبو صالح صاروا يحرصون على الاتصال معي ودعوني لحضور الاجتماعات والندوات. أما ماجد فقد عبر عن تأييده لكل كلمة قلتها في المؤتمر. أما كمال عدوان فقد ترك الإعلام وتسلم مسؤولية القطاع الغربي، أي العمل في الأرض المحتلة، وبالتالي ابتعد عن الإعلام. ومن المفارقات أن أبو عمار جاء ذات يوم بعد المؤتمر إلى الإذاعة وحدثني عن مهمة عمر السقاف، وكيل الخارجية السعودية الذي زاره في  دمشق. وفهمت من أبي عمار أن الأردن لم يعد يعترف باتفاق القاهرة الذي أنجزه عبد الناصر قبل وفاته المفاجئة بيوم واحد، ولا حتى باتفاق عمان الذي حدد الوجود الفدائي خارج المدن في الأحراش وعجلون. وبالتالي فالقاعدة الآمنة في الأردن قد انتهت. وروى أبو عمار أن هناك قيودا على التحرك والقيام بعمليات من الجولان وأنه لذلك يعتبر ثلوج جبل الشيخ أحن على الثورة من الأنظمة العربية.  وغادر أبو عمار وجلست وحدي وكتبت تعليقا سياسيا ضمنته تقريبا ما قاله أبو عمار ولكن دون ذكر الأسماء. وفي اليوم الثاني كنت عند أبو عمار في مقر قيادته بدمشق المعروفة (23) فإذا به في غاية العصبية والتوتر ويستدعي على عجل محمد أبو ميزر، مسؤول الإعلام المركزي وحنا مقبل وأبو نضال غطاس، وكانوا يصدرون صحيفة فتح اليومية في دمشق. وانتبهت للضجة والعصبية. وسألت مهند العراقي، مسؤول المكتب، وبصوت خافت، فصراخ أبو عمار يفرض الصمت على الجميع.  وقال لي مهند أن ذلك بسبب مقال في الجريدة أغضب السوريين و "أبو عمار سعد" - معتمد فتح في سوريا -  نقل لأبو عمار غضب الرئيس حافظ الأسد، ولأن هذه المشكلة في الإعلام وقد تعودت على هذا النوع من المشاكل مع القيادة فقد خرجت من غرفة أبو عمار وأعطاني مهند جريدة فتح لأقرأ المقال أو التعليق المشكلة وكانت صدمتي لا توصف حين قرأت السطر الأول.  فالمقال هو التعليق الذي كتبته وأذعته من صوت العاصفة في درعا قبل يوم واحد. والشباب في الإعلام فرغوه من الاستماع ونشروه في الجريدة دون علمي، سواء لأنه وافق قناعاتهم أو لأنهم يعتقدون أن ما يذاع هو موقف رسمي بحكم علاقتي اليومية والوطيدة مع أبو عمار.

 وأصبحت في موقف لا أحسد عليه، فالتعليق لا يحمل توقيعي أو إسمي. ولكنه مقالي وموقفي ولا أستطيع أن أهرب من هذه المسؤولية رغم أن غضب أبو عمار قد بلغ الذروة، وحين يحضر أبو ميزر وحنا مقبل وأبو نضال فهم سيقولون أنه تعليق إذاعي من صوت العاصفة ولهذا قلت لنفسي يجب ألا أنتظر حتى يأتوا وتكون المواجهة مع أبو عمار بحضورهم ولهذا قررت أن أدخل مكتبه وأقول له الحقيقة وهي أنني كتبت هذا التعليق وأذعته من الإذاعة ويبدو أن الشباب نشروه في الجريدة.

حين دخلت قلت لأبو عمار مباشرة ولكن بحذر شديد وبصوت هادئ هذا المقال في الجريدة في الأساس تعليق في الإذاعة قبل يومين، ولم أكن أعلم أنهم أعادوا نشره في الجريدة.

ذهل أبو عمار وصمت لأكثر من دقيقة وقال بعد قليل وقد هدأ غضبه: يا ابني، ما حدثتك به عن عمر السقاف وما جرى معه في عمان ودمشق هو تفاصيل وجزئيات لم تكن بحاجة إليها لتأكيد الموقف العام للثورة، الجماهير يعنيها الخط العام وليس أدق التفاصيل فالتفاصيل متغيرات آنية وليست ثوابت.  ولا يمكنك أن تضع النظام في الأردن والنظام في سوريا في سلة واحدة. وأضاف أبو عمار: قبل ثلاث سنوات كنت مسجونا في سوريا والآن كما ترى، انقلب الوضع بعد وفاة عبد الناصر "ربك يستر"، وبصراخه وعصبيته واتصالاته الغاضبة بالهاتف كان يوصل رسالة للأسد بأنه ضد ما نشر في صحيفة فتح وهذه طريقة معروفة لأبو عمار يغضب ويصرخ ويضرب الطاولة ويغادر الغرفة ثم يعود، وكنا نقول أنه يرسل رسائل.

وحين وصل أبو ميزر ومعه حنا مقبل (أبو ثائر) وأبو نضال غطاس كان قد انتهى من توجيه الرسائل لتهدئة الجهة السورية الغاضبة. لكن إذاعة عمان كانت تعيد للمرة الألف تعليقا بعنوان: "ماذا يريد ياسر عرفات "والهدف توتير العلاقة مع سوريا والسعودية، لأن ما ذكرته في تعليقي هو أقوال عمر السقاف ضد الأردن وسوريا وكان من الواضح أن هذه المعلومات والمواقف مصدرها أبو عمار شخصيا.

محمد أبو ميزر(أبو حاتم) من الرعيل الأول لفتح. وفي سنوات التأسيس والبناء كان ممثلا لفتح في الجزائر. وهو من أصدر بيان الدولة الديمقراطية للمسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين، من باريس قبل سنتين. وأحدث هذا البيان ضجة عالمية ورفضاً إسرائيلي، وكان بمثابة أول تناول جدي من فتح للوجود اليهودي في فلسطين. وكان أبو عمار يعامل رجال الرعيل الأول بكل احترام ويحرص على علاقة قوية معهم. ولهذا لم يوجه أي نقد حول نشر المقال في صحيفة فتح بل قال وضعنا صعب الآن، ونحتاج إلى التقاط أنفاسنا.

وكان الحدث الكبير قد وقع في القاهرة يوم 28 نوفمبر 1971. فأمام مدخل فندق شيراتون أطلقت النار على وصفي التل، رئيس وزراء الأردن، وقتل على الفور. وتناقلت وكالات الأنباء بيانات منسوبة لمنظمة أيلول الأسود تعلن مسؤوليتها عن عملية الاغتيال. وكما هو معروف فوصفي التل كان المسؤول الأول في الأردن بعد الملك حسين والذي أدار المعركة ضد الثورة بعد استقالة الجنرال محمد داود، وكان كذلك المسؤول عن تصفية قاعدة الثورة الآمنة الأخيرة في الأردن في جرش وعجلون وعن مقتل أبو علي إياد والذي لم يتم العثور على جثته. في هذا الوقت استدعاني أبو عمار على وجه السرعة إلى مقر القيادة في(23) في السبع بحرات، وطلب عدم نشر أي تعليق على عملية الاغتيال والاكتفاء بإيراد الخبر كخبر فقط وكما نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية.  وقال أنه ضد الاغتيالات فهذه سيف ذو حدين. وبعد أسبوعين وقعت محاولة فاشلة لاغتيال زيد الرفاعي في لندن حيث أصيب بجرح بسيط في يده وكان يركب سيارته في الشارع العام في لندن ولم أتوقف في تقديم الخبر عند أسبابه المتعلقة بدوره ضد الثورة بل أذعت خبرا عاديا كما لو كان خبرا عن حدث في أمريكا اللاتينية.

الفصل الثاني

الفصل الاول