الحلقة الثامنة عشر والأخيرة من كتاب "صوت العاصفة" بعنوان: "وداعاً.. ايتها المدينة العظيمة"

الحلقة الثامنة عشر والأخيرة من كتاب "صوت العاصفة" بعنوان: "وداعاً.. ايتها المدينة العظيمة"
رام الله - خاص دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الثامنة عشر والأخيرة من الجزء الثاني الفصل والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن الحرب وشملها بعنوان : "وداعاً.. ايتها المدينة العظيمة"

"وداعاً.. ايتها المدينة العظيمة"

كنا ندرك اننا مغادرون بيروت لا محالة.. واقل ما كان يؤلمنا هو الحصار الاسرائيلي المحكم المصحوب بشتاء من القذائف والنار.. فلقد كان هذا الحصار بمثابة نموذج مبسط لحصار فولاذي اوسع.. هو الحصار العربي.. وحين كنا نتحدث عن آفاق معركة بيروت.. كنا نتناسى الحجم الاسرائيلي.. فيستأثر الحجم الاوسع بكل حديثنا وخواطرنا واستنتاجاتنا.. فهذه دعوة من وراء البحار للانتحار حفاظا على شرف الامة، وهذه دعوة اخرى بالمرونة والتعقل لعدم اعطاء الجيش الاسرائيلي مبررات لتدمير بيروت.. وكل ساعة بل كل لحظة.. نستمع من محطات الاذاعة العربية - وما اكثرها - تتغنى ببطولاتنا.. وتندد بسخط شديد بالتخاذل العربي.. وحقا ان شر البلية ما يضحك.. فحين نستمع الى عشرات الاذاعات العربية.. تندد بالصمت العربي والتخاذل العربي والتمزق العربي.. كنا نتسائل.. ترى من يهاجم هؤلاء؟ من المسول عن الوضع العربي.. وكان العم عمر الذي يقدم الشاي لنا يجيب دائما «الحق على الطليان».

ان الجميع يصفق لهذا العرض الدامي.. جحيم من النار يلف بيروت وتحت النار والدخان حفنة من الرجال يقاتلون.. ويجدون وقتا للابتسام ويخترعون نوافذ للامل.. والشعراء يؤلفون قصائد جديدة.. والفنانون يرسمون لوحاتهم في الاقبية الرطبة.. واحد اعضاء القوات المشتركة يعقد قرانه على حبيبته في خط النار، وكل العواصم غارقة في اضوائها ولياليها الصاخبة.. ترسل صرخات الاعجاب عبر الاثير.. كما لو انها صرخات منتشية تنطلق من حناجر مشاهدي مباراة مثيرة في كرة القدم، ونحن في بيروت نعيش حياتنا الجديدة بين الحقائق الصارخة التي نواجهها في كل لحظة.. وبين الاحلام التي لم نتخلى عن التعلق بها ولم لا؟ نتخيل ونحلم.. فذلك امر يتعلق بثقافتنا وتربيتنا.

كانوا يستعيرون لنا من التاريخ اجمل ما فيه.. ويزرعوه في عقولنا الصغيرة. لتتراكم طبقات من الامجاد الماضية بالاعتزاز والحماس.. الى حد لا يبقي مكانا في عقولنا.. نتساءل فيه عن حالتنا.. نحلم ونتخيل.. فالثورة كما افهمها لا تحرم الحلم والخيال ولا تقطع الانسان عن جذوره.. ولا تقتلعه من تراثه.. ان الثورة محاولة جدية لقطع المسافة الواسعة بين الحلم وجعله حقيقة.. كما هي شريان يربط تراث الشعب منذ بدء الزمن الى ما لا نهاية.. وحين تنبت في ارضنا العربية ثورة حاولت ان تضع الناس امام اجابة صحيحة عن سؤالهم العام الكبير.. ما العمل؟ حدث ما حدث..

الى البحر..

لقد اتيحت لي فرص كثيرة.. لمعرفة العديد من الاخبار قبل الاعلان عنها، واهم خبر عرفته في الايام التي سبقت خروجنا من بيروت.. هو ان ابو عمار سيغادر الى اثينا.. وان السفير اليوناني في بيروت هو الذي يجري الترتيبات اللازمة لذلك عبر اجتماعات متصلة مع ابو عمار والعميد ابو الوليد.. ولقد كان المقر المركزي للاذاعة.. هو مكان هذه الاجتماعات التي ظلت طي الكتمان. كما شهد نفس المكان اجتماعات على نطاق آخر تتعلق بعملية الرحيل عن بيروت..

وكلمة الرحيل.. كانت قاسية وموجعة للنفس والوجدان، فكل الذين يتأهبون للرحيل.. يمتلكون ملايين التفاصيل التي تشدهم الى بيروت. وتجعلها مدينتهم الحبيبة.. بل ان كثيرين منا.. تعرفوا على بيروت واحبوها بعمق في الشهور الثلاثة الاخيرة - اي شهور الحرب والحصار- ومع ذلك فلا بد من مواجهة الحقيقة بكل شجاعة.. ولا بد من توطين النفس وترويضها على القبول بما بعد بيروت.. وما بعدها قاسي وصعب ولكنه عظيم اذا ما صار بداية جديدة.. او استمرارا للثورة من مواقع جديدة..

كانت امتع الساعات في حياتي العملية.. هي تلك التي اقضيها مع زملائي في الاذاعة نفكر معا ونخطط معا ونعمل معا كفريق واحد.. يؤدي عرضا يوميا يحاكمه الجمهور لحظة بلحظة.. وكنت احس بمتعة لا حدود لها.. وانا اشارك في اجتماع لكادر الاذاعة نناقش فيه شؤونا وشجوننا بكل انفتاح وحرية.. غير ان اقسى اجتماع عقدته كان ذلك الاجتماع القاتم الذي تم في مساء يوم ما من ايام بيروت لتنظيم عملية رحيل كادر الاذاعة الى عدد من الدول العربية..

لم يدقق احد منا في البلد الذي سيتوجه اليه.. فكل العواصم بعد بيروت.. ذات لون واحد وبعد واحد.. ومعظم الذين شاركوا في هذا الاجتماع قالوا بمرارة ولا مبالاة.. نحن جاهزون للسفر الى اي مكان وبعضهم تساءل عن امكانية البقاء.. ولقد وجدت نفسي وزميلي طاهر في موقع القرار فاقترح طاهر ان يتوجه معظم كادر الاذاعة الى الدول التي نملك فيها اذاعات وبرامج مثل الجزائر واليمن الجنوبي والشمالي اما الباقي فيتجمعون في دمشق.. ليكونوا جاهزين لبدء العمل في اي مكان جديد.. وفي هذا الاجتماع الكئيب اقترح احد الاخوة ان نناقش موضوع وقف الاذاعة من بيروت.. فرفض هذا الاقتراح.. بدافع المكابرة ليس الا..

على شرفة بيت هند جوهرية.. الذي قدمته لنا في الايام الاولى من الحرب كمقر مركزي للاذاعة.. كنا نجلس بشكل يومي.. ونتحدث في اي شيء الا ما له صلة بالعمل.. وكأننا اتفقنا جميعا على ان هذا المكان مخصص لاسترجاع الذكريات.. وتبادل الحكايات والطرائف.. وكم كنا نحب تلك الشرفة رغم ضيق مساحتها كانت دائما تغص بالجالسين حتى في ساعات يكون فيها استئناف القصف محتملا.

عقب اجتماعنا القاتم.. وجدت نفسي وحيدا على تلك الشرفة الحميمة.. وبدأ شريط من الصور يمر في خاطري.. سلمان الهرفي.. وهند جوهرية.. يقتحمون علينا موقع الـ 95 طالبين قبولهم كمتطوعين للعمل في الاذاعة.. فكلفناهم بمهمة لا تحتاج الى مهارات اذاعية متخصصة وهي تحضير اللقاءات الميدانية مع المقاتلين معتمدين بشكل رئيسي على المذيعة نِعمْ..

ولقد قطعنا شوطا لا بأس به في هذا المجال.. وفي منتصف الطريق تمزقت اطراف سلمان بفعل انفجار سيارة ملغومة في قلب بيروت ونجا من الموت بأعجوبة خارقة.. وها هو الآن يتأهب للرحيل محمولا على محفة في جوف باخرة ستلقيه على شواطئ الاغريق ليبدأ من هناك.

ام بشارة التي لم اتحدث عنها مطولا على صفحات هذا الكتاب.. تقف على شرفتها منذ الصباح الباكر تركز بصرها علينا تبتسم بحنو دافئ تلوح بقبضتها ليعم الفرح بيننا.. هذه السيدة الكبيرة.. قالت لي عصر ذلك اليوم.. انكم سترحلون وسأظل وحدي.

صور تمر فيهتاج الوجدان وتشتعل المشاعر الى ان يسيطر الحزن بهدوء في النفس المثقلة قهرا ومرارة وخيبة امل.. ولقد انتزعت نفسي من تلك الحالة الوجدانية المهتاجة.. حين امسكت بالقلم لاكتب تعليقا بعنوان:

وداعاً.. ايتها المدينة العظيمة.

لقد جاء يوم الرحيل.. كنت واحدا من عدة كوادر تقرر ان تغادر على نفس الباخرة التي اقلت قائد الثورة ياسر عرفات، لقد كانت نقطة التجمع هي مكتب القائد العام في حي الفاكهاني.. وحين وصلت الى هناك.. كان القائد العام قد وصل لتوه.. وصعد الى الدور الخامس حيث مكتبه في الظروف العادية، هرع الجيران للسلام على ابو عمار.. كانت الدموع تملأ عيونهم.. وبعضهم لم يستطع النطق في تلك اللحظات النادرة.. لحظات التأثر العميق في وداع جار غير عادي احب الناس واحبوه وتعودوا عليه.. وخاضوا معه اكبر تجربة في تاريخهم وها هو يتسرب منهم مغادرا الى اي مكان.. لم اتمكن من الصعود الى الدور الخامس واكتفيت بمراقبة الشرفة التي اطل منها عرفات وجيرانه علينا تأملت مكتب القائد العام الواقع في قبو البناية.. لم يقصف هذا المكان رغم انه معروف جيدا للاسرائيليين.. فلقد آثر شارون ان يحافظ عليه كما هو ليتقط فيه صورا استعراضية يبيعها امجادا فارغة للاسرائيليين او يطبعها على بطاقات المعايدة وطوابع البريد. ولم يتحقق لشارون حلمه هذا رغم انه وقف بدبابته على بعد ميلين لا اكثر..

لقد قلت بيني وبين نفسي.. لو ان جدران هذا المكتب تستطيع الكلام لو انها تقول للناس حكايات واسرار هذه الغرف الصغيرة التي كان عرفات يسهر فيها من بداية الليل حتى ساعة الشروق، يلتقي بمبعوثين من مختلف انحاء العالم.. يعقد اجتماعات للجنة المركزية والقيادة المشتركة.. يتخذ قرارات كبيرة.. وعلى سطح المكتب سرادق دائم لتقبل العزاء بالشهداء.

هبط عرفات الى الشارع الضيق.. انهمر مطر الارز والورود.. وامتلأ الشارع بالمودعين، ولم أر في حياتي مئات الاشخاص يبكون في لحظة واحدة الا في ذلك المشهد المؤثر..

التفت الى جانبي ورأيت «عم عمر» ذلك الكهل الطيب الامين الذي كان يقوم على خدمتنا ويعاملنا بحنو ومحبة كما لو انه اب للجميع.. كان يجهش بالبكاء مددت يدي وقلت وداعا يا عم عمر.. عانقته بانفعال وكأنني اودعه للمرة الاخيرة.. كل حجر وورقة وذرة هواء في اذاعتنا ببيروت كان عمر واحد من مؤسسيها وبُناتها منذ الايام الاولى وحتى يوم الرحيل.

كان ابو محمد السائق الشجاع والذي اسميناه ابو نبيل.. يقود بي سيارة التويوتا الصغيرة كان شاحب الوجه.. ولم يستطع الكلام فلربما كان الموقف بالنسبة له اكبر من قدرته على التعبير.. انطلقنا خلف موكب عرفات لنصل اخيرا الى منزل كمال جنبلاط ومقر الحزب التقدمي الاشتراكي.. كان عرفات يعشق هذا الاسم.. كمال جنبلاط.. كان يحبه بعمق.. ويحترم ذكراه وكان يقول عنه دائما انه جيوش تحارب معنا.. مضت قرابة ساعة التقى خلالها ابو عمار بوليد جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي وكثيرين من قادة الحركة الوطنية.. اندلع صوت الرصاص وانهمر مطر الارز والورد، وعرفنا ان القائد انهى زيارته الوداعية لذكرى أقرب الاقربين الى قلبه. وانطلق الموكب المهيب باتجاه دار رئاسة الوزراء في محلة الصنائع.. ومن هناك الى ميناء بيروت.

كان الوقت يمضي متسارعا.. وكلما اقتربنا من لحظة الفراق، كنت اتخيل بيروت بكل اهلها وجبروتها اشبه بقلب كبير ينبض بصوت عميق فيهزني من الاعماق لم التفت لفخامة طابور حرس الشرف الذي اصطف لوداع عرفات.. لم ادقق في وجوه المودعين فكل لبنان كان هناك حتى الاعداء.. كانوا يراقبون المشهد الكبير من فوق اسطح العمارات المرتفعة.. وكان ياسر عرفات وهو يستعرض بصعوبة حرس الشرف.. يصر على ان ينظر الى اعلى.. رافعا اشارة النصر التي اشتهر بها، راسما ابتسامة عريضة على وجهه بينما داخله يشتعل بمشاعر عاصفة..

وقف رجال الكفاح المسلح بانتظام ليؤدوا تحية القائد العام على انغام النشيد الوطني وتحت ظلال العلم الفلسطيني.. ولكم رأيت رجال الكفاح المسلح في مشاهد احتفالية.. غير ان الشيء الذي رأيته لاول مرة.. هي تلك الدموع التي كانت تنساب بصمت من مآقي الجنود الاشداء.. الذين كانوا بالامس على خطوط التماس..

تجمعنا في داخل الباخرة.. لم اتابع المشهد الاحتفالي الاخير والذي شارك فيه القادة والزعماء.. تناهي الى سمعي صوت كلمات متبادلة.. وسمعت عن وسام صمود بيروت الذي تم تسليمه لرئيس الوزراء اللبناني.. تفرق الجمع وخرجنا كلنا الى شرفة السفينة اليونانية «اتلانتك» لمحت وجه سلوى العمد.. «بنت الشعب» وقد طغى عليه احمرار شديد.. لوحت بيدي لهذه الزميلة المناضلة وتذكرت انها اخترقت الحصار وجاءت لتموت او تعيش مع الثورة.. وها هي تودعنا الى البحر..

اطلقت الباخرة صفارتها القوية.. لم يبق امام اعيننا سوى محسن ابراهيم.. ووليد جنبلاط.. همست في اذن القائد العام قائلا.. انها المرة الاولى التي اشاهد فيها محسن ابراهيم يجهش بالبكاء.. رد القائد بنبرة متهدجة.. كان الله في عونه ان على اكتافه ثقل كبير كبير.. دخلنا الى قلب السفينة.. اخترت لنفسي مقعدا بجانب احد البحارة اليونانيين.. وكان عرفات وعدد من مرافقيه يجلسون في ركن بعيد.. لم تمض دقائق حتى انتظم مسار السفينة.. وقفت والزميل صالح قلاب في المقدمة نشاهد قطع المواكبة وهي مدمرة امريكية واخرى فرنسية.

ثم انضمت مدمرة يونانية، سألني صالح.. ماذا ستفعلون بالاذاعة.. تذكرت واقعة حدثت قبل ايام قليلة.. حين زارنا الاخ ابو جهاد نائب القائد العام في المقر المركزي.. وتناقشنا معه في مستقبل الاذاعة.. واقترح ان نقيم اذاعة في عرض البحر.. اذا ما رفض الاشقاء العرب اعطائنا مكانا لاذاعة كانت السفينة تشق سطح البحر والسماء الزرقاء تغلف وحدتنا.. وبيروت تبتعد عنا..

احسسنا جميعا برغبة في التحلق حول عرفات.. وكأنه لم يكن امامنا سوى واحد من خيارين.. اما ان نستسلم لعاطفتنا الملتهبة فننفجر بالبكاء.. واما ان نتعامل مع الحقيقة بقدر عال من الموضوعية والواقعية والصرامة.. وكان ان اختار عرفات بالنيابة عنا. استدعى حسن احد المرافقين والمسؤول عن جهاز اللاسلكي.. واملى عليه برقية عاجلة للجميع.. وافونا بالموقف.. وفي اليوم التالي.. كان مشروع ريجان هو اول عمل جدي يناقشه القائد معنا على ظهر السفينة اليونانية.

شهادة من ارض الوطن

تمثل اذاعة فلسطين بالنسبة للشعب الفلسطيني في كل مكان، وخاصة داخل الارض المحتلة، رمزا للهوية الوطنية الكفاحية لهذا الشعب. ونورد هنا مقالا كتبته صحيفة الاتحاد الصادرة في فلسطين المحتلة في العاشر من ايلول بعنوان «صوت فلسطين» يتحدث المقال عن الاذاعة ودورها خلال الحرب، ومكانتها في وجدان الشعب، وموقعها في مسيرة كفاحه.

ها قد مر علينا حوالي اسبوعين لم نستمع خلالهما الى الصوت الوحيد من بين جميع الاذاعات في المنطقة الذي احببناه ووثقنا به واعتمدنا عليه في معرفة حقيقة ما يدور في لبنان خلال الحرب - الا وهو «صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية».

لقد احترمنا هذا الصوت قبل الحرب ايضا. لانه على الرغم من امكانياته المادية الفقيرة وساعات بثه المحدودة، نجح في ان يكون اذاعة وطنية حرة لشعب مكافح تتقدم وتتطور باستمرار. ولكل دوره ومسؤوليته خلال الحرب، تضاعفا بما لا يقاس حتى بات الصوت الذي لا غنى عنه، الصوت الصادق والمسؤول والموضوعي والواقعي.

اذكر انه في اول يومين من الحرب انقطع عنا ولم تنفع كل الجهود لاسترداده. وفي اليوم الثالث للحرب (6 حزيران 1982) كنا في «حيص بيص» بالنسبة لحجم الحرب ومداها واتساع نطاقها. كان «صوت اسرائيل» يتكلم عن عملية «سلامة الجليل» ويدعو الفدائيين الفلسطينيين واللبنانيين واهالي صور وصيدا والدامور للاستسلام. وكانت الاصوات «الموضوعية جدا جدا» من لندن تمزق الاعصاب في تقاريرها المتوازنة بين اسرائيل واذاعة الكتائب في لبنان. وكانت «مونت كارلو» تخبرك: اعلن وزير الدفاع الاسرائيلي.. وقال - سنقضي على المخربين - حسب تعبير.. عدد القتلى حتى الآن الفان و.. مالبورو سيجارة الرجال.

وما كان ممكنا الا ان نعتمد على «صوت اسرائيل» محاولين قدر الامكان عدم الوقوع في مطبات حربه النفسية. وقد انعم علينا «صوت اسرائيل» هذه المرة بحملة اعلامية كاذبة من اولها الى آخرها حتى صار ضروريا اسقاطه من الحساب.

وبعد فترة من مرمطة الاعصاب وشراء جهاز اذاعي متطور وباهظ الثمن تمكنا من التقاط صوت فلسطين - بأهازيجه الوطنية «ما بنسلم ما منتحول يا وطني المحتل» واخباره الدقيقة وتحليلاته الصحيحة ومواقفه المسؤولة.

استمعنا اليه وواصلنا الاستماع. واذا بالمقاتلين الفلسطينيين الذين يدعوهم الجيش الاسرائيلي المغوار الى الاستسلام يردون الصاع صاعين ويكبدونه خسائر لم يتوقعها احد. واذا بالمقاتلين الذين جاء جيش اسرائيل لسحقهم وتصفية قيادتهم وقضية شعبهم يواجهونه ببسالة لم يشهدها في كل حروبه (باعتراف قادته وضباطه). واذا بالمقاتلين الذين حرضهم صوت اسرائيل على اصدقائهم وحلفائهم - استسلموا لن ينفعكم السوفييت ولا السوريون ولا قادتكم المغامرون على حساب ارواحكم- واذا بهم يسقطون اربع طائرات اسرائيلية (اعترفت اسرائيل بثلاث منها) ويأسرون الجنود الاسرائيليين ويعرقلون تقدم الجيش المعتدي ويصدونه على مختلف الجبهات ويمنعونه بالتالي، بصمودهم الاسطوري، من احتلال بيروت الغربية.

ويحكي صوت فلسطين عن حرب الانصار الفتاكه التي اخفتها السلطات الاسرائيلية فترة طويلة.. واضطرت الى الحديث عنها فقط بعد ان صارت سيرتها على كل لسان.

ويحيي صوت فلسطين رجاله بالاهزوجة الشعبية الوطنية -

يا حلالي يا مالي

حياكم الله مرحبا حيي الرجال الثائرين

ياللي سمعتم للنداء من صوتنا الحر الامين

من شعبنا رمز الابا ومن ثورته ع الغاصبين

تنحررك يا بلادنا ونعود بالنصر المبين.

ويبث صوت فلسطين الاهازيج الجديدة المنطلقة من قلب الخنادق والملاجئ والمستشفيات والمدارس والعمارات المهددة كلها بالقصف والتدمير الوحشي. ويبث الزغاريد فتتغلب على اصوات القصف وتودع وتستقبل الشهيد تلو الشهيد. ويبث اغاني الثورة العربية الجديدة - مارسيل والقعبور ونعم. ويحكي عن الجرائم وعن البطولات. ولا ينسى في عز القتل والدمار ان يقول: شعب فلسطين يريد السلام العادل. يقول ويعيد. ولا يخطئ في تحديد الصديق والعدو. ولا يعرف الخنوع والمواقف المائعة. يتكلم عن الحب والانسانية. عن الارض والذاكرة. عن الحرب والسلم. عن الثورة والمستقبل. عن اخوة الشعوب والديمقراطية. لا نسمع فيه اي صوت للفاشية الشوفينية او العنصرية او الحربجية او التوسع والعدوان.. تلك التي نجدها «حبطرش» في صوت اسرائيل بكل لغاته.

في 28/8/1982 سكتت اذاعة صوت فلسطين لم تسكت فجأة. فقبل يوم اعلن المذيع بصوت الرجال ساعة فراق غال وعزيز اعلن عن توقف البث من بيروت حيث سيخرج كادر العاملين في الاذاعة مع سائر الثوار الذين سيخرجوا كي لا يجلبوا المزيد من الدمار على اهل بيروت الغربية.

وفي اسرائيل، حيث يبحثون بسراج وفتيل عن اخبار تبين انهم انتصروا في لبنان وتتستر على هزائمهم المتلاحقة عسكريا وسياسيا، ابرزوا الخبر بشكل غير عادي. عشر سنوات تجاهلوا صوت فلسطين واليوم اعترفوا به وبأهميته فنشروا الخبر على عرض ستة اعمدة وفي رأس صفحات الاخبار في الصحف (يديعوت احرونوت 29/8) وابرزوه في الاذاعة والتلفزيون ليظهروا انه انتصار. ولم يتورع هؤلاء عن استخدام كلمات: لم يعد هناك صوت اسمه صوت فلسطين.

اية اوهام تلك. اية اوهام! هل يمكن ان يتلاشى صوت فلسطين؟ في يوم من الايام تساءلت رئيسة حكومة اسرائيل الراحلة غولدامائير: «اين هو الشعب الفلسطيني؟». واذا بهذا الشعب يقف كالمارد يواجه جيشها الجبار ويقض مضاجع ورثتها في كل مكان تواجده.

كذلك صوت فلسطين.

لقد سكتت الاذاعة في بيروت. لكنها لم تسكت الى الابد. سكتت لكي تبث بعد النصر المبين من القدس العربية المحتلة عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة. وحتى ذلك الحين سيبقى صوت فلسطين يصدح، اقوى من اي وقت مضى وفي كل مكان يتواجد فيه الفلسطينيون: في الناصرة وحلحول وغزة والجليل، في حيفا وتل ابيب ونابلس وعكا ويافا. في قبرص وتونس ودمشق وباريس. دائما سيصدح هذا الصوت وسنسمعه اثر كل كذبة جديدة يبثها «صوت اسرائيل» واثر كل تصريح عدواني جديد يتباهى به ويكرره واثر كل فعلة احتلالية عنصرية. ولن نسمح بأن يخبو هذا الصوت مهما يكلفنا هذا من ثمن.

المؤلف

نبيل عمرو، شغل المواقع الرسمية التالية:

سفيرا لدولة فلسطين لدى الاتحاد السوفياتي.

عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني الاول

وزيرا للشؤون البرلمانية

وزيرا للاعلام

سفيرا لدى جمهورية مصر العربية ومندوبا دائما لفلسطين لدى جامعة الدول العربية.


















التعليقات