الحلقة الرابعة عشر الجزء الثاني من كتاب "صوت العاصفة" بعنوان: صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية

الحلقة الرابعة عشر الجزء الثاني من كتاب "صوت العاصفة" بعنوان: صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية
رام الله -خاص دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الرابعة عشر من الجزء الثاني والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن "صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية".

"صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية".

الرابع من حزيران.. عام 1982.. الوقت ظهرا بعيد الثانية بقليل.. غرف واروقة الاذاعة في حي الفاكهاني ما زالت تغص بالعاملين فيها وبزوارهم على غير العادة في مثل هذا الوقت من النهار وفي ذلك الكيلومتر الحبيب الى قلوب من عاشوا فيه حتى الاندماج.

- الفاكهاني الخطر حتى الموت في كل لحظة.. والعذب حتى اللهفة على كل حجر فيه، كان عالمنا بل كان عالما لجميع اولئك الذين ضاقت بهم بلدانهم على رحبها. لم تتسع لهم غير الزنازين والمنافي والمقابر.. فاتسع لهم على - ضيق مساحته - .. ولم تتسع لآلامهم وطموحاتهم واحلامهم ايضا.. وجنباً الى جنب كان ينطلق «صوت فلسطين» مع مكبرات الصوت التي تدعو لتظاهرة تضامن او لتشييع شهيد او احتفال بذكرى انطلاقة هذا الفصيل او ذاك.. وكانت تتلاحق صور الشهداء مع ملصقات العدد الجديد من مجلة «الرصيف» التي ابتكرها جملة وتفصيلا الشهيد علي فودة.

- الثانية ودقائق.. السربيوني يكتب حلقة لبرنامج «صباح الخير» عن نكسة الخامس من حزيران.. أمل.. تراجعها.. نِعَم في الزاوية تراجع اقوال الصحف - بعض الضيوف يطالعون جرائد منثورة على طاولات المحررين.. «يوسف» يحمل صخبه الأليف في ردهات المبنى.. كان ثمة ضجيج انساني حي.. يتحرك باتساق غير متوقع.. وفجأة انفجر كل شيء.. وانقلب الهدوء المشوب بصخب عادي الى حركة صاخبة.. مرتعشة.. فالقصف كان على بعد مئات الأمتار.. وشعر الجميع وكأن البناء قد تحول الى ركام كان مشهد الاطفال والنساء والحوامل منهن وهم يتحاملون على انفسهم للوصول الى ما يتصورونه ملاذا.. يثير الما مرا.. لكن الموت القادم من الجو.. استمر وبلا انقطاع يذبح الهدوء البريء موقعا في المدينة الرياضية - الملاصقة للفاكهاني وما حولها عشرات القتلى والجرحى.. وهكذا دخلت بيروت رحلة الموت والتحدي من اوسع الابواب وبلا رحمة.

- يوم السادس من حزيران عام 82 - وعند حوالي الساعة الواحدة ظهرا توقفت اذاعة صوت فلسطين.. كنا في ذلك الوقت قد اعددنا نشرة اخبارية فيها عرض للموقف السياسي والعسكري حيث كان القصف قد بدأ قبل يومين.. وكنا جميعا نترقب عملية الاجتياح الشامل:

- كان تقديري ان سبب التوقف هو القصف الاسرائيلي غير ان النزعة الانسانية للتفاؤل صورت لي ولو بنسبة ضئيلة احتمال ان يكون السبب مجرد عطل فني كتلك التي كنا نعتذر عنها بين وقت وآخر.. ولقد بادرت منذ اللحظة الاولى للاتصال بالقسم الهندسي لمعرفة حقيقة الموقف.. ومعالجة الخطأ الفني.. وفي نفس الوقت شرعت وزملائي في الاذاعة باعداد المحطة البديلة التي هي عبارة عن سيارتين كبيرتين - تحملان اذاعة كاملة بقوة عشرين كيلوات.. ومع رغبتي في ان يكون ما حدث للمحطة الرئسية - ذات الخمسين كيلوات - مجرد خطأ فني الا انني بدأت التعامل مع الوضع الجديد على اساس ان الاذاعة الرئيسية قد توقفت تماما عن العمل. ولا بد من اعداد العدة لعمل اذاعي في ظروف بالغة الصعوبة مع التركيز على حقيقة مزعجة وهي ان الطائرات الاسرائيلية التي استطاعت قصف المحطة الرئيسية يمكن ان تفعل نفس الشيء مع المحطة البديلة.

(لقد شعرت بالرعب لمجرد تخيل اننا سنخوض حربا كبرى.. بلا اذاعة).

ودون عرض التفاصيل المثيرة لصعوبة الاتصال بالمحطة المتوقفة وما مر علينا من ساعات غموض واضطراب في تحديد سبب التوقف - فقد عرفت اخيرا أن لا أمل في تشغيل المحطة الرئيسية.. لأنها دمرت بالكامل بفعل غارات جوية مكثفة.

***

- كنت امضي معظم الوقت في مقر العمليات المركزية.. وكان زميلي طاهر العدوان نائب مسؤول الاذاعة يدير العمل المباشر من موقع (95) الذي هو مقر الطوارئ للاذاعة.. ولقد احسست بقدر من التوازن النفسي والارتياح حين ابلغني طاهر ان لدينا الآن محطتين جاهزيتن للعمل - احداهما بقوة كيلوات واحد - وتكفي لتغطية منطقة بيروت وبعض الجبل والاخرى بقوة عشرين كيلوات. لم اكن متأكدا الى اي مدى ستصل.. ولكنها على كل حال افضل بكثير من لا شيء. اذكر ان الاخ ابو عمار طلب مني تقديم تقرير حول (وضعنا الاذاعي الآن) مع عرض عدة اقتراحات تؤمن تجاوز كارثة توقف المحطة الرئيسية - وأمر عددا من الاخوة الضباط بتقديم التسهيلات الضرورية لتأمين مكان آمن للاذاعة المتنقلة.

واثناء مناقشة على اعلى المستويات لوضعنا الاذاعي، اقترح احد الاخوة ان اتوجه الى العواصم العربية بغية الحصول على محطة بديلة ولو من ضمن الاذاعات العربية القوية المسموعة.. فاعتذرت عن قبول هذا الاقتراح.. وقدمت اقتراحا بديلا وهو ان يُجري اخوتنا القياديون المتواجدون خارج لبنان.. اتصالا مع من يشاؤون من العرب لافتتاح محطة او برنامج جديد، وقد أُخذ باقتراحي وعلمت فيما بعد ان احدا لم يستجب..

- بدأ العمل على المحطتين البديلتين بعد عشر ساعات من التوقف، ولن انسى تلك اللحظات التي استمعت فيها الى رواية شاهد عيان عما حدث لمحطة الارسال الرئيسية التي تقع فوق مرتفع اسمه «سيبروب» بالقرب من مدينة صيدا.. كان الجمهور عندنا يستمع الى اذاعتنا عبر آلاف اجهزة الترانزستور.. وكان البعض يخرج الى اسطح العمارات العالية رغم القصف الشديد لمشاهدة لوحة حية مليئة بالصور.. تنطوي على صراع مرير بين صوت فلسطين المنطلق عبر الأثير من خلال هوائي مرتفع فوق الجبل وبين الطائرات الاسرائيلية التي تعاقبت غاراتها عليه بشكل كثيف ومتواصل.. كانت لحظات مثيرة حقا. فالجمهور الذي يستمع للاذاعة يعرف ان الصوت الذي يصل عبر الراديو ينطلق من تلك النقطة بالذات.. وليس كل الجمهور يعرف تفاصيل العمل الاذاعي، والفرق بين الاستوديو ومحطة الارسال فمعظم الناس يعتقدون ان الاذاعة كلها بمهندسيها ومحرريها ومذيعيها، يتواجدون الآن تحت القصف.. وهذا ما اضفى عاملا استثنائيا للاثارة والاهتمام ورصد نتائج المعركة من خلال نبرة المذيع وقوة تدفق المارشات العسكرية والاهازيج الثورية.

- كانت صيدا وجوارها في تلك اللحظات.. تسمع صوت فلسطين وتترقب بقلوب منفطرة عملية قتل هذا الصوت.. وبين الغارة والأخرى كان الناس في صيدا وعين الحلوة والمية ومية.. يحبسون انفاسهم انتظارا لما هو قادم.. وكانت تصدر صيحات التضامن: الاذاعة صامدة.. حيا الله الشباب.. الله يسلم وقبل ان يسمع الناس صوت الانفجار  الممتزج بنعيب الطائرات المغيرة في سماء الجنوب.. توقفت الاذاعة.. وساد الصمت الحزين واطبق على صدور مستمعينا.

- انتظم العمل في «اذاعتنا» البديلة ضمن الوضع الجديد، واحتشدت الكوادر في ملجأ (95) - وبدأ يومنا الاذاعي برسالة موجهة للمقاتلين بصوت الأخ ابو عمار، واقلعت الاذاعة على امواج الأثير معلنة ان حربا اشرس من كل ما سبقها، تشتعل الآن على ارض لبنان.. وان الصمود الشعبي المسلح هو ضمانة الاستمرار.. وقلنا في اول تعليق اذاعي.. ان أفق معركتنا.. هو استمرار المواجهة وايقاع اكبر قدر من الخسائر في صفوف المعتدين.

- في اليوم التالي.. انضم الى جهاز الاذاعة عدد من الكوادر الجديدة ولقد واجهنا أزمة حقيقية في تأمين مكان ملائم للجميع.. لم نجد سبيلا الى حلها سوى الانتشار في عدة مواقع.. وتنسيق الاتصال بين هذه المواقع والمراكز على اساس ان وسائل الاتصال المتوفرة في تلك اللحظة.. وهي التلفون والسيارة وجهاز اللاسلكي وكلها عرضة للدمار في أية لحظة. واتفقنا على ان نتناوب عملية جمع المواد وتزويد المركز بها ولو كلف الأمر ان نمشي خمسة كيلومترات «في النقلة الواحدة».. ولقد وجدت نفسي امام موقف جديد لم يسبق ان واجهته طيلة حياتي الاذاعية وعناصر هذا الموقف الجديد هي التالية:

- اضطراب وسائل الاتصال العادية واحتمال انقطاعها في أية لحظة.

- تواجد حشد كبير من الكوادر معظمهما لم يشارك في العمل الاذاعي قبل الحرب وكل واحد من هؤلاء.. له اجتهاده السياسي الذي قد لا يتطابق مع خط الاذاعة واسلوب تناولها للأحداث.

- ولقد تعاملت مع هذه العناصر المستجدة على النحو التالي:

- حل معضلة الاتصال بالطريقة التي اشرت اليها.

- بالنسبة للطيران.. لا مناص من تعزيز روح التحدي والتعود على الخطر مستفيدين قدر الامكان من وهم ان الملجأ يكفي ولو نسبيا لاتقاء الموت.. ولكن ضربة كلية الهندسة ودمارها المروع ازالا هذا الوهم نهائيا من نفوسنا جميعا وبقي عامل النبل الثوري المحرك الدفين الاقوى.

- اما الموضوع الثالث وهو الاكثر صعوبة فقد تمت معالجته باجتماع سريع وضعنا فيه الخط السياسي للاذاعة.

اولا: الاتفاق على تحديد حجم المعركة الراهنة.. وهي باختصار معركة غير عادية، ينتظر ان تطول على نحو لم يسبق له مثيل وان تكون من اشرس المعارك التي تواجهها الثورة في تاريخها، وعلى هذا الاساس لا بد من رفع مستوى التعبئة عبر الاذاعة - الى حدودها القصوى.

ثانيا: ان كثافة الاجتياح الاسرائيلي.. واستخدامه الاسلحة كافة بما فيها جميع المحرمات، واحتمال ان تصل المعركة الى قلب بيروت.. يرتب علينا نمطا مختلفا في المعالجة فنحن مثلا معرضون لأن نخسر كل يوم موقعا جديدا، لذلك يجب ان يكون واضحا لدى جميع المعلقين والمذيعين كيفية الاعلان عن سقوط اي موقع بما يجنبنا محاذير ايقاع الجمهور في دوامة الارتباك والاحباط والانهيار النفسي. ويضمن لنا خلق جو من الثقة بالاذاعة والتعامل مع الحقائق بثبات. يتعين على كل العاملين في الاذاعة ان يستوعبوا الحقائق وان ينقلوها للجمهور باسلوب ذكي، ولقد اتفقنا على اطار عام للمعالجة، وهو التركيز على الشواهد الحية التي تجسد اهمية هذا النوع من المواجهة، مع الحرص على ان تستند هذه الشواهد الى اعترافات العدو.. او تقارير الاطراف المحايدة. وموضوعيا لم يكن بوسعنا كقوات الثورة من حيث عددنا وتسليحنا.. ان نهزم الجيش الاسرائيلي المسلح حتى الاسنان بأحدث المنتجات الحربية الامريكية.. لكن علينا ان نقرر شكل المواجهة، بأعصاب باردة قدر الامكان. تنزع الهالة المفزعة عن وجه الغزاة وآلتهم الحربية، وتجعلنا ومعنا وشعبنا - نتخذ قرار البطولة الواقعية.. بتحد اخذ في بعض الوقائع شكل الاسطورة.

ثالثا: ان حشدا من الاذاعات المعادية الناطقة باللغة العربية - ومنذ اليوم الأول - وأبرزها صوت اسرائيل كان يبث في بداية الحرب بلا توقف.. وصوت لبنان الكتائبي الذي كان بمثابة المصدر الاخباري والاستخباري للاذاعة الاسرائيلية - كانت هذه الاذاعات - تنفذ خطة نفسية مركزة.. وبالتالي فعلى اذاعتنا مواجهة هذه الحرب.. والرد على مزاعمها وكمائنها.. باسلوب مقنع دون الانجرار الى دائرة الدفاع المباشر عن النفس.. وانما باعتماد الدفاع الهجومي.. فمثلا حين روجت اذاعة صوت لبنان الكتائبية.. لخبر مفاده.. انهيار القيادة المشتركة.. واستشهاد عدد منها.. عالجنا الموقف.. باذاعة تصريح رسمي قصير.. ينفي هذا الخبر، وقد تم تعزيز هذا التصريح.. بتعليق اذاعي تم فيه شرح اسباب لجوء العدو الى مثل هذه الاخبار، والسبب الرئيسي هو افلاس الغزو في احداث الانهيار مما يحمل قادة الغزو على اللجوء الى الاكاذيب.. ومن اجل الاجهاز على هذا النوع من الحرب النفسية.. اجرى مندوب الاذاعة لقاءات مع القادة الذين زعم انهم قتلوا.. وبهذا الاسلوب في المواجهة سجلنا نقطة ثمينة في مرمى الاذاعات المعادية مما خلق جوا شعبيا ايجابيا لصالحنا، وسلبيا تماما تجاه معظم الاخبار التي كانت تبث من الاذاعات المعادية:

رابعا: ان طبيعة المعركة لا بد وان تنعكس بشكل واضح على الخط العام للاذاعة لكي لا توقع الجمهور في مأزق ان ما يجري هو معركة مصيرية.. لو خسرناها.. انتهت الثورة.. وسحقت القضية.. كان حتميا بالنسبة لنا ان نظهر اهمية المعركة مع التركيز على التوجهات السياسية العامة، التي تجسد استمرار الثورة والقضية، فكان لا بد ونحن في اقسى الظروف.. من التحدث بهدوء وثقة عن مبادئ ثورتنا.. وعمق قضيتنا في الوجدان العربي والعالمي.. ولقد حرصنا بالفعل على جمع كل التصريحات والاشارات الصادرة عن الجانب المعادي، التي يفهم منها بوضوح ان الثورة مستمرة ودعم ذلك بوقائع حية مثل مقاومة شعبنا في الوطن المحتل، والتفاعلات السياسية التي تحدث على الصعيد الدولي، وتؤكد بشكل حاسم ان حركة الشعب الفلسطيني مستمرة، وان قيادة منظمة التحرير ستبقى في قلب الأحداث، وان القضية الفلسطينية ستزداد رسوخا على جميع المستويات.. لقد كان بديهيا ان نتحدث عن رؤيتنا الواضحة للسلام العادل.. وألا نرتهن للحرب والحصار وانعدام التكافؤ.. بل لا بد من زرع بذور المستقبل انطلاقا من ان الثورة مستمرة.. سواء كسبت المعركة او تراجعت الى مواقع جديدة.

لقد كان الجميع مستوعبا تماما لهذه الحقائق التي تشكل بمجموعها الخط العام للاذاعة.. لذا لم نكن بحاجة للرقابة على المواد المكتوبة وتسنى لنا ان نعبر هذه المعركة بأقل قدر من الأخطاء.

التعليقات