دنيا الوطن تنشر حصريا كتاب "صوت العاصفة" للكاتب نبيل عمرو ..الحلقة الخامسة: "المحبة والصداقة"

دنيا الوطن تنشر حصريا كتاب "صوت العاصفة" للكاتب نبيل عمرو ..الحلقة الخامسة: "المحبة والصداقة"
رام الله -خاص دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الخامسة ننشر تجربته الجميلة والتي تكللت بـ "المحبة والصداقة" .

المحبة والصداقة

حين اصبحت المسؤول الاول عن الاذاعة وكان ذلك في القاهرة وفي بيروت كنت اعمل وزملائي ليل نهار وكل ساعة كان يتعمق في داخلي اليقين باستحالة النجاح والتقدم في العمل الاذعي، دون ان تؤمن بجدوى ما تعمل ودون ان تحب ما تعمل .

في القاهرة كان لدينا مساحة وقت واسعة تمكننا من ممارسة الحياة العادية في مدينة الاحلام الساحرة القاهرة، لم تكن كما هي الان شديدة الازدحام وكثيرة فيها صعوبات الحياة. لم يكن الغلاء قد غرز انيابه الحادة في حياة محدودي الدخل، كانت مرتباتنا تكفي لحياة عادية مستقرة، لم تكن باذخة بل كانت معقولة، لا اذكر اني ركبت تاكسي اجرة  الا مضطرا وفي حالات نادرة، فهنالك الاوتوبيس المميز الذي سعر تذكرته خمسة قروش يحمل الرقم "خمسمئة"، كنت وصديقي الحبيب حتى الان خالد مسمار نقطع مسافة كيلو مترات مشيا حتى نصل الى ميدان العتبة ليأخذ هو الاوتوبيس الى سكنه في الازهر وانا اخذ الاوتوبيس خمسمائة ليقلني الى منزلي في مصر الجديدة وكنا في حالات كثيرة نكرر هذه الرحلة الشاقة مرتين يوميا وعلى الطريق الطويل بين الشريفين ومحطة الاوتوبيس كنا نتبادل الحكايات البسيطة الجميلة، كان خالد يراكم لاخرته اجرا وهو يحاول هدايتي للصلاة وكنت اصغي له باحترام وحين اضطر لاجراء جراحة في الكلى قمت بدور الشقيق والاب والام ازوره كل يوم في المستشفى حاملا معي زجاجة من العصير الطازج وما تيسر من اطعمة خفيفة تحضرها زوجتي بشرى التي كانت تعتبر خالد بمثابة اخ قريب لها، كان جو العائلة الحميم يخيم علينا جميعا ونحن في بلاد فيها رائحة غربة عن الوطن، لقد نجحنا قبل اجادة فنون العمل الاذاعي في خلق جو عائلي حميم بيننا، نحن الذين ليس لنا اقارب من لحمنا ودمنا في البلاد الاخرى فخلقنا من انفسنا لانفسنا صلة قربى عميقة اخالها ظلت حية وترافقنا حتى الان، كان فؤاد ياسين بمثابة الاب الذي يفتح صدره لنا يستمع الى شكوانا يعالج مشاكلنا اذ لا عمل دون مشاكل وكنا نعمل كثيرا ونتنافس واحيانا نتشاجر  كان فؤاد هو ضابط ايقاع حياتنا داخل المكان الحميم الذي اسمه صوت العاصفة ،كات القيادات الفلسطينية وفي مقدمتها ابو عمار وابو جهاد وابو اياد وابو الهول، وكل من يحتل موقعا قياديا في الثورة يعتبر زيارة الاذاعة والاجتماع بكادرها واجبا يكاد يكون الزاميا ومن المرات النادرة التي كان ياسر عرفات يشعر بحتمية ملازمة المستشفى لعارض صحي يلم به، كان يفعل ذلك في القاهرة يغادر الى المستشفى من الاذاعة ويعود من المستشفى الى الاذاعة.

أول مقابلة ... على القمة  وجائزتها قلم بثلاثين قرشا

استدعاني فؤاد وقال لي بصوت خفيض كما لو انه يودعني سرا

لقد اتفقت مع القائد العام – نادرا ما كنا نستخدم مفردة الرئيس في وصف عرفات – على ان نجري معه حديثا اذاعيا طويلا ، وسأمنحك اول فرصة هامة في حياتك الاذاعية فانت من سيجري الحوار وسيكون ذلك غدا، الحديث سيكون مسجلا ولكن عليك ان تجري الحديث كما لو انه يذاع على الهواء مباشرة

هوى قلبي من هول المفاجأة، لم يكن قد مضى على وجودي في الاذاعة اكثر من عدة شهور لم اكن قد نضجت سياسيا ومهنيا الى درجة محاورة ياسر عرفات ولم اكن اعلم او اتوقع انني بعد سنوات ساكون واحدا من طاقمه الخاص الذي يعمل معه ويسافر معه واحيانا يختلف معه.

انها المرة الاولى التي أُجري فيها مقابلة اذاعية، والمصيبة انها ستكون مع القائد العام... لماذا مصيبة انها فرصة ثم ان الامر ليس صعبا كما تتخيل، قال فؤاد وراح يشرح لي شروط المقابلة الاذاعية الناجحة

اولا.. لا تخف من القائد العام انه وان كانت له هالة مميزة الا انه بسيط للغاية هيئ نفسك لحوار مع انسان عادي الا انه في موقع غير عادي، من الان وحتى ظهر الغد حضر نفسك جيدا، سوف اعطيك المحاور التي تتناولها معه وانت قم باستخلاص الاسئلة وصياغتها وعند العاشرة صباحا سنلتقي لنناقش الامر

لحظت استغرابا في عيون زملائي الذين رأوا انني غير جدير بامتياز كهذا، ان الذي يجب ان يحاور القائد العام هو مدير الاذاعة او نائبه او كبير المذيعين، وكان عندنا كبير مذيعين شديد التميز ومكتمل الكفاءة المهنية هو رسمي ابو علي.

كانت ساعات شاقة تلك التي امضيتها وانا اعد اطار واسئلة المقابلة تخيلت نفسي وقد اصبت بحالة من الحمى الا انني نمت ليلتها نوما عميقا.

اعجب فؤاد بالاطار الذي وضعته والاسئلة التي استخلصتها من محاور الحديث المفترض، وحين وصل القائد العام للاذاعة قدمني له فؤاد بصورة فيها تزكية لي وتشجيع لي امام نفسي .. وضع القائد العام يده فوق رأسي وقال مازحا خف علي في الاسئلة انا لسه مريض، كانت مزحة الرئيس مفتاحا سحريا لمقابلة ناجحة اديتها دون ارتجاف او ارتباك..

بعد انتهاء المقابلة تناول القائد العام قلما يكتب بالوان متعددة وقدمه لي هدية ظننت ان القلم نادر وباهظ الثمن وحين سألت صاحب مكتبة في ميدان التحرير ان كان عنده قلم مثله وكم ثمنه قال لي انه صناعة صينية وثمنه ثلاثون قرشا.

الجو العائلي مرة اخرى

عودة الى الجو العائلي وتاثيره المباشر في اداء العمل الاذاعي بصورة جيدة

كان فؤاد الذي يكبرنا بما يقارب العشرين سنة، يشدد في توجيهاته لنا، على حتمية ان يكون المذيع مرتاحا كي يشعر المستمع بالارتياح، ان المذيع المجهد او الذي يعاني من مشاكل حياتية وعدم استقرار لا يستطيع تحييد صوته واداءه عما يشعر به، اذا ما دخل استوديو التسجيل وهو في هذه الحالة او دخل الى ستوديو الهواء لتلاوة نشرة اخبارية او تعليق، وكان يستخدم عبارة صارت محفوظة لنا عن ظهر قلب " ان لم تستطع الدخول الى الاستوديو دون ان يكون لديك مشاكل في الاصل فعلى الاقل حاول وضع المشاكل خارج الاستوديو وانساها ولو مؤقتا"

الا ان مشاكلنا كانت قليلة وكلها من النوع الذي يمكن تجاوزه او نسيانه، كان يساعدنا على اقتناص السعادة والهناء، اننا جميعا اصدقاء، ومتقاربون في الوعي، والمستوى المعيشي، ويجمعنا حلم واحد  وانتماء واحد، كنا دائمي التزاور والتفاعل في معظم شؤون حياتنا تزوج كثيرون اثناء العمل وكنا نشكل من انفسنا وعائلاتنا حاشية للعريس كي نقوي حضوره بين انسباءه الذين هم غالبا من المصريين.

ما ان يمرض احدنا حتى نقوم جميعا بالواجب، لم تكن المسافات التي تفصل بيين الاحياء التي نسكنها في العاصمة الكبرى، لتحول دون الزيارة المواظبة والتناوب على الوقوف الى جانب سرير المريض، حين اضطررت لاجراء جراحة لاستئصال اللوزتين في احد مستشفيات مصر الجديدة وكنت قد انجبت ابني البكر طارق، فان الذي اخذني الى المستشفى كان فؤاد والذي اخرجني خالد مسمار والى ان تعافيت لم اشعر ولو للحظة واحدة انني بعيد عن الجو العائلي او ان احدا من زملائي في الاذاعة تأخر عن زيارتي والسؤال عني.

هذا الجو ضروري في الحياة واكثر ضرورة في الغربة، الا انه شرط حتمي للنجاح حين يتعلق الامر بالعمل في الاذاعة وتحديدا في صوت العاصفة.

فترة استثنائية

علمنا عبر برقية عاجلة من برقيات وكالة انباء الشرق الاوسط، التي تقع في الطابق الثاني من مبنى الشريفين ان السيد وصفي التل رئيس وزراء الاردن ووزير الدفاع قد اغتيل ظهر اليوم في ردهة فندق شيراتون الجيزة في القاهرة، بدأت الاخبار تتواتر علينا تباعا ووجدنا انفسنا في حالة استنفار وحين يقع حدث كهذا فان الكادر القيادي الرئيسي الموجود في القاهرة يفضل الحضور الى الاذاعة حيث الاخبار من منابعها الاصلية والتوجيهات المباشرة والفورية من القيادة، لتحديد الموقف والمعالجة كان واضحا لنا ان شبهة تقديم الاجهزة المصرية تسهيلات مهمة لتنفيذ عملية الاغتيال فكرة منطقية فمن يستطيع دخول فندق يقيم فيه جميع وزراء الخارجية والدفاع العرب، ومن يتجاهل حتمية الاجراءات الاستثنائية والصارمة التي ينبغي ان تتخذ لحماية اكثر رجل في العالم اشكالية انذاك وهو وصفي التل الذي حمَّله الفلسطينيون وحلفاؤهم مسؤولية مباشرة عن كل ما حدث في ايلول 1970 في الاردن.

كانت التعليمات تقضي باظهار الحياد في صياغة الخبر دون اظهار اي قدر من الابتهاج او الشماتة او اية اشارة توحي بتبني العملية او تأييدها او تبريرها، الا ان هذا لم يكن هو المثير في الامر، لان المثير حقا هو ذلك الذي حدث بعد اشهر قليلة حين قدم منفذو العلمية الى المحكمة وكان هنالك قرارا مصريا لجعل المحاكمة بمثابة عمل سياسي وتعبوي من الدرجة الاولى. انها محاكمة لأيلول..

فتحت مصر كل الابواب لجيش من المحامين العرب الذين قدموا من كل حدب وصوب ليس  من اجل تبرئة المنفذين وانما من اجل ادانة وصفي التل والنظام في الاردن على احداث ايلول.

كانت الاذاعة قد اعدت برنامجا مميزا لتغطية الحدث الكبير " المحاكمة" لقد اجرت ساعات طويلة من التسجيلات الموجهة مع جميع المحامين الذين سيترافعون، وقررت الاذاعة في اجتماع الخطة تسجيل وقائع المحكمة واذاعتها اي ان وقتا طويلا ستستهلكه الاذاعة في هذا الامر بالذات.

كان ابرز المحامين واشدهم لفتا للنظر هو السيد احمد الشقيري الرئيس الاسبق لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان المغفور له "ابو مازن" احد اهم خطباء العربية ان لم يكن اهمهم ثمة ملامح مشتركة بين طريقته في القاء الخطاب وطريقة احمد سعيد في قراءة التعليق، كنا نسجل المرافعات وننقلها ونذيعها على حلقات في تلك الاثناء ارتفعت نسبة متابعي صوت العاصفة الى عشرات اضعاف النسبة العادية وتأكد لنا وللمرة المائة ربما ان الايام العادية والاحداث العادية الخصم الفعال لاذاعتنا بينما الاحداث الصاخبة هي التي توفر للاذاعة ازدهارا واسعا فتقفز من ذيل قائمة الاذاعات المؤثرة الى رأسها.

اخفاق

لم تكن اذاعة صوت العاصفة مجرد لوحة مجد ونجاح باهر، بل كان لها اخفاقات مدوية خصوصا في امر المعالجات المتسرعة لبعض القضايا واحيانا المبالغة فيها وعدم منطقية بعض الاخبار التي لا يقبلها العقل خصوصا حين نصف المعارك ونغالي في ارقام خسائر العدو، كان من أخطائنا التي تأخرنا كثيرا وطويلا حتى تفاديناها حين كنا ننسب ضحايا حوادث الطرق في اسرائيل لعمليات ثوارنا وكما نستخدم لازمة مملة تقول والجدير بالذكر ان العدو دأب على اخفاء خسائره بتحميلها الى حوادث الطرق، كان تبريرنا لهذا النوع من الخطأ الفادح ان الأخبار تأتينا من المركز اذا فهو الملام، وكان تفسيرنا لخطأ المركز يقوم على اساس الحرص على تقوية معنويات الجمهور دون ان ننتبه الى ان حصيلة خطأ متراكم كهذا هي إضعاف مصداقية الإذاعة ما يضعف ثقة الجمهور بها وبالثورة اجمالا.

وخطأ اخر وقعنا فيه وقد تم تداركه بعد وقت قصير وهو  اتهام العمال الذين يعملون في اسرائيل بالعمالة ومطالبتهم بالتوقف عن العمل وذلك عبر نداءات مباشرة بهذا المعنى، لقد توقفنا عن معالجة هذه المسألة الشائكة بعد ان جائتنا نداءات صريحة ملخصها قبل ان تمنعوا العمال من العمل في اسرائيل وفروا لهم عملا او دخلا لا يميتهم من الجوع .

وكذلك الامر مع الشرطة وقطاعات اخرى من الموظفين إلاّ ان عجلة الاحداث التي تدور بلا هوادة طوت هذه الامور ولم تعد بحد ذاتها قضايا مفصلية للثورة واذاعتها .

فؤاد ياسين وتعليم القيادة

لو اسميت هذه المخطوطة، فؤاد ياسين لما اوفيت الرجل حقه، لم يكن مجرد مؤسس لاذاعة ثورية، كما لم يكن بالتأكيد يؤدي وظيفة على النمط التقليدي، كان مجددا ومبدعا،ـ وكان قائدا بكل ما للكلمة من معنى ايجابي، كان يوجهنا وكنا نصغي اليه، من خلال وعينا لتاريخه في الحقل الاذاعي وتفوقه المهني علينا جميعا، فقد عمل سنوات طويلة في اذاعة دمشق، وسنوات اخرى في صوت العرب، وحين كلف بتأسيس صوت العاصفة، وضع كل الدروس التي تعلمها في الاذاعتين الكبيرتين في مفاعل ابداع وتجديد واضافة، كان اكبرنا سنا ويكتب التعليق الاساسي للاذاعة، وكان بعنوان " كلمة الجماهير الثورية" يحفظ الشعر ويجيد اللغة العربية والانجليزية وعلى نحو معقول " العبرية " التي تعلمها وهو في الخمسينيات من عمره، كنا نتسابق على قراءة المادة التي يكتبها .. فهو صاحب الكلمات السلسة المنتقاة، والجمل القصيرة الواضحة والجذابة، كنا نقرأ تعليقه وهو مكتوب بخط اليد، الفاصلة في مكانها والنقطة، وبداية السطر وكل ذلك كان يوصل الفكرة بلا عناء.

في الاجتماع الفصلي الذي ينعقد كل ثلاثة اشهر، ويتم فيه وضع خطط الدورة الاذاعية الجديدة، بحيث يتم تثبيت البرامج الناجحة واستبعاد التي لم تنجح واستبدالها ببرامج جديدة، قرر فؤاد الاقدام على تجربة غير مسبوقة، وهي ان يتولى ادارة الاذاعة ليوم واحد احد الكوادر من المذيعين او المحررين واعلمنا ان خطته هي التالية:

حين يعقد الاجتماع اليومي الذي لم تنقطع عنه الاذاعة الا حين الغيت، يكون رئيس الاجتماع هو الرجل المناوب وليس المدير، ويكون قد استمع قبل يوم الى البرنامج من الفه الى يائه، ليضع ملاحظاته عليه وليعد مقترحات المعالجة ليوم مناوبته، وبذلك يصبح المناوب هو المدير الفعلي للاذاعة وصاحب القرار النهائي في برنامجها، فهو من  يوزع المواد على الكتاب والمذيعين، يراجع الاخبار والبرامج والتعليقات وله حق الشطب والاضافة ياتي الى الدوام عند التاسعة صباحا ويغادر عند التاسعة مساءً، اما مدير الاذاعة فكان له يوم كالاخرين ولم يكن يتدخل الا في الشؤون الادارية.

سألت فؤاد ياسين، ما الذي يجعلك تفكر بهذه الطريقة .

قال: الحاجة

قلت وما حاجتك لنظام كهذا ؟

قال حاجتنا وليس حاجتي، ان هذه الاذاعة يجب ان تتحول الى مدرسة لتخرج القادة الاذاعيين فلدينا اكثر من اذاعة في اليمن والجزائر وبغداد وربما بهذه التجربة ارسل اي واحد منكم الى اي اذاعة لنا واكون مطمنئا لسير العمل، وضع فؤاد خطته موضع التنفيذ وبذلك يكون قد اسس لجيل مهني من القادة الاذاعيين الذين تسلموا مصير جميع اذاعات الثورة حيثما وجدت.

اذاعة الازمة

قبل ايلول 1970، لا اعاد الله مثله علينا وعلى اشقائنا في بلاد العرب، كانت تجري مناوشات شبه يومية بين الفدائيين والقوات الاردنية، وكان بعضها يتطور ويتسع ليشكل مقدمة لمعارك واسعة النطاق في العاصمة الاردنية عمان، واحيانا مدن اخرى، وحين تتمادى الاشتباكات ويتورط المستوى السياسي في ازمة علنية، تتحول لإذاعة من ناطق باسم الثورة الى ناطق باسم الازمة، كانت الاذاعة بمثابة جيش الهجوم المرعب، الذي تخشاه الانظمة، نظرا لقوة تأثيره في الجمهور وكلما كانت الازمة تجد سبيلها الى الحل  كانت تهدئة الاذاعة هي البند رقم واحد، في اي بيان مشترك او اعلان عن اتفاق، في تلك الازمات التي تواترت ما قبل ايلول لم اكن اكثر من مستمع مواظب للاذاعة اتفاعل مع كثيرين غيري معها واستقي منها اخبار الازمة وتطوراتها وقد عرفت فيما بعد ان خطا ساخنا كان ممتدا بانتظام وتواصل بين مركز القيادة في عمان وادارة الاذاعة في القاهرة، كانت الاخبار ترد لحظة بلحظة وكانت الازمة بمثابة تجديد لشعبية الاذاعة وسيطرتها شبه المطلقة على الاثير  حيثما يصل ارسالها هذا النوع من الازمات افضى اخيرا الى المعركة الكبرى التي دونت في التاريخ بعنوان ايلول الاسود 1970، في تلك الاثناء كانت اذاعة العاصفة من القاهرة قد اغلقت وتمت الاستعاضة عنها باذاعة بدائية تغطي بالكاد بعض مناطق عمان حملت اسم "زمزم"، كانت بعيدة كل البعد عن مستوى اذاعة العاصفة، من القاهرة، الا انها كانت توفر مصداقيتها من حرارة المعارك، وبطولة المذيعين المواظبين على اداء عملهم تحت القصف دون ان يظهر اي قدر من الرعب او الهلع  على اصواتهم، كان المواطنون يسمعون الى جانب صوت المذيع ربحي عوض وخالد مسمار اصوات القذائف وهي تنهمر على الموقع او في محيطه، وكان المحيط جبل الاشرفية في عمان وبعد ان بدا واضحا سيطرة النظام على العاصمة، وبدأ اخلاء الفدائيين عن مواقعهم في عمان، اخليت الاذاعة الصغيرة لتهاجر الى درعا اقرب مدينة سورية على تماس مع الحدود الاردنية، كان صوت العاصفة من درعا بمثابة الشهقة الاخيرة التي صدرت عن تجربة الثورة في الاردن، كان لديها بعض امل في ان يستعيد الفدائيون نفوذهم على الفردوس الجغرافي الذي طردوا منه، الا انها هي بالذات اقتلعت من جذورها والذي فعل ذلك هو اليات الجيش العربي السوري حيث لم تستطع الدولة الحليفة تحمل صوت العاصفة ينطلق من ارضها وهي بصدد مصالحة مع النظام الاردني بعد ان قاطعته وخاصمته لردح من الزمن.

تابعونا في الحلقة السادسة من كتاب "صوت العاصفة" وحلقة جديدة بعنوان : "ازمة أخرى"

التعليقات