الحلقة السادسة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: أين وصلت الحرب؟

الحلقة السادسة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: أين وصلت الحرب؟
رام الله - خاص دنيا الوطن 

خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة السادسة عشر من الجزء الثاني الفصل الخ والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن الحرب وشملها بعنوان : "أين وصلت الحرب؟".

"أين وصلت الحرب؟"

هذا السؤال هو الذي كان ينتزعنا من لحظات التهريج الصاخب.. انني لم اتلقى حتى الآن اي بلاغ عسكري يحدد سير المعركة ونتائجها الأولية والبلاغ الصباحي لم يعد كافيا ولا مناسبا لأن نبدأ به نشرة الظهيرة.. خاصة وان القصف لم يتوقف.. والمصادر الاسرائيلية العملية.. تقول ان الاسرائيليين احرزوا تقدما مهما على خطوط التماس.. كان عدم انتظام الاخبار، مشكلة يومية تتضاعف حين تنقطع وسائل الاتصال الداخلي ولا نجد بدا من الانتشار في اكثر من اتجاه لجمع الأخبار، وحقاذق الموقف، ولقد كنا حريصين دوما على ان تكون بلاغات العمليات المركزية هي الاساس الاخباري الرئيسي في تغطية الجانب العسكري من المعركة.. وحين كان يحتدم النقاش بين مناوب الأخبار والضابط المناوب في غرفة العمليات حول تأخر البلاغات.. كان مناوب الأخبار يلجأ الى استدراج الضابط بطريقة استفزازية كالقول: ان اذاعة اسرائيل تدعي بأن القوات الاسرائيلية احرزت تقدما مهما علي خطوط التماس فهل لديك ما ينفي ذلك.. ورغم خطورة هذا الاستدراج الاستفزازي وما ينطوي عليه من مغريات.. الا ان الضابط كان يجيب بحسم:

- لا علاقة لي بما تقول.. انتظر البلاغ الرسمي.. وحين كان يسأل الضابط المناوب عن المدة التي يتعين علينا انتظارها للحصول على البلاغ الجديد.. كان يجيب بلهجة عسكرية جافة.. لا اعرف انتظر.. سيصلك البلاغ فور صدوره.

- كنا دائمي التذمر من قلة البلاغات العسكرية وربما كنا نتخيلها قليلة بحكم حاجتنا الماسة.. لتقديم خبر جديد في كل نشرة.. ولكن.. حين كنا ندرس البلاغات العسكرية.. كنا نجد فيها دقة متناهية في تحديد الموقف.. وكان المذيعون ولعوامل انسانية صرفة.. يتفاعلون مع البلاغات من داخلهم.. فتراهم في قمة السعادة وهم يستقبلون بلاغا عسكريا يبدأ بعبارة:٬ تمكن مقاتلونا من افشال عملية انزال او محاولة اقتحام على هذا المحور او ذاك.. وكانوا يتسابقون على قراءة مثل هذا النوع من البلاغات.. واذكر انه في ذلك اليوم.. يوم المحاولة الكبرى والفاشلة للاقتحام - جاءنا البلاغ العسكري الرسمي متأخرا بعض الوقت.. وكان يتضمن اعلانا حاسما وواثقا.. بأن قوات الغزو فشلت في التقدم على اي محور من محاور التماس، وانها تكبدت خسائر فادحة في الارواح والمعدات، وان العديد من الدبابات الاسرائيلية - اكثر من عشرين - تشاهد مشتعلة على اكثر من موقع، ولقد اسعفتنا اذاعة صوت لبنان الكتائبية - حين اعلن ان رشقة من صواريخ (غراد) هبطت على عشرات من الجنود والضباط الاسرائيليين على المدرج الشرقي للمطار، وأصابت تجمعا للآليات والافراد اصابات مباشرة، وهذا يعني ان القتلى بالعشرات.. ومما عزز القول بفشل المحاولة الاسرائيلية.. وايقاعها خسائر مؤلمة في صفوف الغزاة.. تدخل الطيران الاسرائيلي على نحو متأخر.. وبكثافة شديدة.. حيث كان واضحا للجميع ان الطيران يقوم بعمليات انتقامية بعد فشل محاولة الاقتحام الواسعة.

- ولقد تنفسنا الصعداء.. حين اعلن الاسرائيليون انهم تمكنوا من التقدم مسافة عشرة امتار باتجاه المتحف.. ليعلق طاهر العدوان بعدها:

- سبحان مغير الأحوال.. كان الاسرائيليون في حروبهم العدوانية السابقة يتقدمون بأقصى سرعة بالدبابة.. ويقطعون الأميال في الساعة الواحدة وها هم الآن يفاخرون بتقدمهم لمسافة عشرة امتار.. اغلب الظن انها ليست صحيحة؟

- انجزنا يومنا الاذاعي والشاق، وعدنا جميعا الى المقر المركزي.. ولم نكن ندري ان بعض الأخوة تعرضوا لاحتمال  الموت مرات عديدة في طريقهم الينا.. وصلنا لنجد رسالة غير موقعة يحملها احد مرافقي القائد العام تتضمن دعوة لي لمقابلة الأخ ابو عمار.. وحين كانت الرسالة تتضمن اشارة الى وجوب احضار احد المهندسين.. كنت اعرف على الفور أن الأمر يتعلق بتوجيه خطاب حي للجماهير والمقاتلين عبر الراديو.. وكنت استشعر أهمية استثنائية لانطلاقة صوت عرفات عبر الاذاعة خاصة بعد يوم ثقيل من القصف والمعارك ومحاولات الاقتحام.

(7)

- كان شيئا يشبه الهدوء يخيم على بيروت في تلك الليلة، وحين كنت احس بحاجة للانطلاق بخيالاتي بعيدا عن اجواء الحرب.. كنت ألوذ بسيارتي الصغيرة.. وأجول بها ما تبقى من شوارع شبه آمنة.. ثم اطلق العنان لخيالي حيث تعبر صورة متلاحقة من تلك التي ترتبط بالحياة العادية في زمن السلم.. عن الزوجة بشرى والأولاد والأهل القلقين والمترقبين لحظة لقاء تبدو مع كل معركة، بعيدة او مستحيلة.. كنت افتح جهاز التسجيل واستمع الى أية اغنية ولن انسى ذلك الكاسيت الذي استمعت اليه في الطريق بين المقر المركزي واحد المقرات التي كان يتواجد فيها الأخ ابو عمار.. كان الشريط يحتوي على عدد من اغنيات الاطفال.. وفجأة انقطع صوت الأغنية.. لتنطلق مجموعة اصوات صاخبة.. كانت تسجيلا قديما لاستجواب اجراه طارق ابني الاكبر مع اخته «نرمين» وما اعذب ضحك الاطفال.. وما اثقله على الوجدان حين تستمع اليه في مثل هذه الظروف.،. لو لم يكن «ابو زيد بجانبي في تلك اللحظات لقمت على الاقل.. بايقاف السيارة.. والاجهاش في بكاء صريح».

وصلت الى مقر ابو عمار في حوالي الحادية عشرة ليلا.. وجدته محاطا بعدد من القادة والمساعدين، وكان الجنرال ابو الوليد الذي لا يعرف المجاملة.. يجلس على مقعد ملاصق لمقعد ابو عمار.. وما أن رآني حتى هب بكل ما فيه من صرامة عسكرية - كنت اجلها واحترمها وسأظل ما حييت اذكر من القائد الشهيد قوله ما الذي فعلتموه اليوم؟.. لقد استمعت الى تعليق لم يعجبني.. سألت العميد بلهجة فيها بعض المزاح.. اننا نذيع اكثر من خمسين تعليق في اليوم الواحد فأيها لم يعجبك؟؟

اجاب العميد بكل جدية: تعليق هاجمتم به كل العرب... بصوت الحاج خالد.. قلت: سيدي العميد.. وهل بعد كل الذي حدث.. بقي شيء يمنعنا من قول الحقيقة.

اجاب العميد: ان الهجوم في وضع كهذا قد يخلق بعض اليأس عند قواتنا.. وعليك ان تدرك كمسؤول.. بأن في داخلنا بقية اوهام قد تبدو مفيدة.. ومن هذه الاوهام احتمال تبدل ما في المواقف العربية.. عليك ان تضع هذا الاحتمال في عقلك.. انا لا ادعوك للترويج لمثل هذا الاحتمال.. ولكن يجب ان تظل النافذة مشرعة حتى النهاية.

- قطع ابو عمار حوارنا ليسأل ما اذا نا جاهزين للتسجيل؟

خلال ربع ساعة.. سجلنا نداء القائد العام لمقاتليه وجماهيره، واكثر كلمات ذلك الخطاب رسوخا في الذاكرة «ايها المجد اركع امام ابطال بيروت».

حملنا جهاز التسجيل والشريط المسجل عليه نداء القائد العام.. وتوجهنا الى الاستوديو.. وسلمنا الشريط للمهندس المناوب.. واصدرت له تعليمات باذاعته على التاسعة صباحا.

(8)

كانت وكالة الانباء الفلسطينية وفا.. قد اتخذت مقرا لها تحت الارض في قاعة اجتماعات المجلس الثوري لحركة فتح.. وكان خليل الزبن رئيس تحرير وفا في مكتب دمشق.. هو اكثر المسؤولين حضورا في ذلك المكان الخطر.. ولقد رغبت في تلك الليلة ان اقوم بزيارة له.. مستغلا فترة الهدوء التي تخيم على بيروت.. ومحاولا الافادة من الهاتف الدولي الذي ظل يعمل طيلة الحرب.. وقد اصطحبت المناضلة «جنين» في هذه الزيارة لتحاول هي الاخرى الاتصال مع باريس.

كانت بيروت غارقة في ظلام دامس.. الا من بعض وميض يصدر من مصابيح السيارات المجازفة بالتنقل تحت مرمى المدافع والرشاشات الاسرائيلية المحيطة ببيروت بإحكام «فظيع» من جميع الجهات.. واثناءها الحت علي رغبة جامحة بزيارة مقر الاذاعة القديم وما ان وصلت المكان الذي اعتدت ان اضع فيه سيارتي - في الظروف العادية - حتى تقدم مني احد رجال الحراسة.. آمراً باطفاء النور.. امتثلت له.. ثم عرفته علي نفسي..

سألته عن الاحوال.. ففهمت منه ان مجموعة قذائف انفجرت على سطح المبنى وفي الداخل.. وكان لا بد امام هذه المعلومات الجديدة.. من القيام بجولة تفقدية.. خاصة وان قسما لا يستهان به من الاشرطة والارشيف ما زالت في الموقع القديم..

صعدت مع «جنين» الى الطابق الثاني.. وكنا مع كل درجة نرتطم بالشظايا المتناثرة والحفر الصغيرة.. مما رسم صورة مرعبة لما سنجد من خراب وحرائق ولقد كانت مفاجأة لنا.. ان نجد الاستوديو والارشيف سالمين تماما الا من بعض الغبار.. قلت لـ «جنين» ونحن نتأمل الاستوديو الأنيق على ضوء شمعة كنا قد استعرناها من الحراسة:

- انظري يا جنين ما اجمل هذا الاستوديو.. لقد بنيناه بأيدينا «وشحذنا» هذه المسجلات الفخمة من احدى الاذاعات الشقيقة وهذه الخريطة المجسمة كالخنجر هي خريطة فلسطين.. لقد وضعناها في صدر الاستوديو.. كرسالة لجميع الزوار.. تقول فيها: اننا نعيش ونموت من اجل فلسطين.

- كانت جنين تنظر الي بتعاطف.. وكأنها تستمع مني الى تأبين في غير وقته لتجربة عزيزة على قلبي.. ففي هذا الاستوديو بالذات تمت اشياء مهمة.. رسائل ابو عمار في اعياد الثورة.. ندوات حول كافة المواضيع الثقافية والسياسية.. موسيقى واغنيات وحفلات صغيرة.. كانت نظرات جنين  الحزينة توشك ان تقول:

- لقد انتهى هذا الفصل من التجربة.

كان السكون شاملا لحظة وجودنا في الاستوديو.. ولما هممنا بالخروج.. انفتحت ابواب الجحيم مرة اخرى ودوت الانفجارات العنيفة حتى خيل لنا ان العمارة ستهوي.. ولقد امتلأ قلبي بالرعب.. وانا اشاهد وميض الانفجارات ينعكس خافتا على بقايا النوافذ.. وزجاج الاستوديو.. انه قصف مباشر للشارع الذي نحن فيه.. ولقد ايقنت بأن القذائف تنهال على مبنى الاذاعة حين رأيت بأم عيني باب الاستوديو الضخم يغلق ويفتح بفعل الاهتزاز.. ورائحة البارود والغبار المتطاير تملأ المكان.

تحاملت على نفسي كثيرا لأبدو هادئا.. واقترحت على جنين ان نهبط الدرج لنقضي بعض الوقت في غرفة الحرس الآمنة نسبيا من القصف المدفعي.. وقبل ان نصل الى الباب الذي كانت تفصله عنا خطوات قليلة.. انهمرت القذائف مرة اخرى ووجدنا انفسنا في زاوية الاستوديو صامتين بلا حراك.

جنين.. هل تعرفين ما يدور في خلدي الآن.. ان لدي احساس عميق بأن دائرة الموت اكتملت من حولي.. وأن الأقدار نسجت لي هذا الموت في المكان الذي أحب.. فلو قدر لأي منا ان ينجو هذه الليلة فليحكي القصة..

صمت القصف، فانطلقنا بسرعة نهرول على ا لدرج المحطم لنجد امامنا عنصر الحراسة واقفا بجانب السيارة المغطاة بالغبار.

سألته: أين بقية زملائك؟

اجاب: انهم في الملجأ.

وأنت.. لماذا تقف في عرض الشارع.. وأين كانت هذه الانفجارات؟

ضحك الحارس قائلا انها كالمطر في كل مكان.

كانت الحرائق الصفراء مغلفة بالدخان والغبار والشارع المهجور يبعثان في النفس احساسا بالكآبة والقلق.. ركبنا السيارة وانطلقنا.. باقصى سرعة. لكن باب الجحيم فتح مرة اخرى.. لأجد نفسي بعد لحظات.. امام العمارة التي كان يسكنها الشهيد ماجد ابو شرار.. تركنا السيارة وانزلقنا الى الملجأ الذي كان معرضا لبيع السيارات القديمة.. لنجد امامنا مجموعة من الشباب يحضرون الشاي.. القت جنين نفسها على فراش صغير وغطت على الفور في نوم عميق.. شربت الشاي مع الشباب.. الذين استغلوا فرصة وجود مدير الاذاعة بينهم فأمطروني بوابل من الاسئلة كان اكثرها ايلاما في نفسي.. سؤال أحدهم.. متى يبدأ الرحيل؟

كان صخر ابو نزار امين سر المجلس الثوري وصاحب شعار لازم تزبط.. كثير التردد على المقر المركزي للاذاعة.. وفي كل زيارة جديدة.. كان يبادرنا بسؤال.. هل أمنتم مقرا آخر ان لدي احساسا بأن هذا المقر الذي يضم حشدا كبيرا من الكوادر يمكن ان يقصف.. ومن أجل ان يدلل على جدية احساسه.. كان يعلن بأن هذه الزيارة ستكون الأخيرة.. وكنا نرد ا لكرة الى مرماه حين نطلب منه ان يتكفل هو بتجهيز المقر الجديد.. فلم يكن بوسعه الا دعوتنا الى العمل في مكتبه وكنا نعتذر لبعد مكتبه عن الاستوديو.

كان احتشاد الكوادر الصحافية في الاذاعة.. يبعث على القلق.. واحتمال تدمير المكان - كان واردا في اي لحظة – ذلك يعني خسارة فادحة على صعيد قطاع هام من قطاعات الثورة.. ولكن لا بد من المجازفة مع محاولة اتخاذ بعض الترتيبات الاحترازية.. وذات ليلة عقدنا اجتماعا لهذا الغرض بالذات واتفقنا على ان نتوزع على اربع اماكن متباعدة.. وان يتم الاتصال عبر نقاط محددة.

- حنا ورشاد وابو بشار وميشيل.. في مكان.

- السربيوني ونزيه وغالب وسلوى.. في مكان آخر.

- نبيل وطاهر.. في المقر المركزي.

المذيعون والمهندسون، في اماكن متفرقة تبعد عشرات الأمتار عن الاستوديو، ولقد تم التقيد بهذا التوزيع الجديد لأيام قليلة لنكتشف جميعا اننا لا نستطيع الابتعاد على الاقل في المساء.. حيث كانت اجتماعاتنا وحواراتنا تستمر حتى ساعات الصباح الاولى..

ان العلاقة التي نشأت بيننا في الموقع الجديد، لم تكن مجرد علاقة عمل.. فلقد ألفنا بعضنا البعض بشكل لم يسبق له مثيل وحين كان يتأخر اي منا عن الجلسة المسائية كنا نحس بفقده فيملأنا احساس جماعي بالشوق له والخوف عليه.. ولو جرب اي منا تحديد حجم علاقته بالآخر في الظروف العادية لوجدنا جميعا انها كانت علاقة عادية.. اما الآن فان الأمر يختلف.. انا بالفعل اسرة واحدة تعودت العيش تحت سقف واحد.. رغم الخطر المميت الواقف خلف الأبواب وبين المنعطفات وحتى الغرف..

- قصص كثيرة حدثت ومفارقات.. سوف تبقى.. باعتقادي راسخة في أذهان من عاشوها.. لقد كان احساسنا بالخيبة من الصمت العربي عميقا حتى النفي، ومع ذلك لم نفقد قدرتنا على استخراج الفرح من قلب المأساة.. فما يحصل كان مريرا وبلا حد.. منظر الاطفال المرتعشين تحت وابل القصف الاسرائيلي المتواصل، وتحس بذلك السكوت المميت في الصالونات العربية.. ومرارة الصمت حين كانت الطائرات الاسرائيلية توزع الموت بلا حساب في كل حي وشارع وبيت وملجأ.. وكنا في قلب المعمعة نرى كل ذلك.. وبدل ان نتمزق قهرا كنا نستحضر الضحكة.

- عشرات الاسئلة الخارجة من ألم عميق.. وصل حد السخرية.. وجهناها لبعضنا.. ولكنه الضحك من الألم.. او الرقص على الجراح. .كما فعل «فلاح».. حينما كانت الشظايا المخيفة تدخل الاستوديو والمخزن المجاور له.. فراح يرقص.. أكان تحديا للقذائف.. ام تسليما بأن على الانسان قبل ان يرحل ان يترك صورة «راقصة» في عيون زملائه، وذكرى متحركة مليئة بالانسانية.. وفلاح الذي اصيب بما يشبه رعدة المفاجأة.. او هول الضربة الاولى في بداية الحب لزم بيته واصيب بنحول سرعان ما تحول الى مرض معوي.. هذا الشاب الذي تدين له الاذاعة بالكثير قبل الحرب.. وبعد زوال رعدة الايام الاولى وفي ذات اليوم زاره احد الاخوة في بيته وبعد عناء، اقنعه بالخروج في نزهة الى الجامعة الامريكية، التي كانت بعيدة نسبيا عن القصف، وتمتاز بجو جميل يطرزه العشب والشجر وتلك الاطلالة الساحرة على بحر بيروت.. وحين بدأ فلاح يحس بالانتعاش، والأسى لأنه لا يخرج في مشاوير كهذه دوى انفجار مخيف.. حسبا للوهلة الاولى انه لا يبعد عنهما سوى امتار قليلة.. «ظناه قصف طيران».. فتراكضا وراء جذوع الاشجار اتقاء للاحجار المتساقطة من السماء كالمطر.. لقد كان الانفجار يستهدف عمارات يقطنها مهجرون في عين المريسة الملاصقة لسور الجامعة الامريكية، ولقد ذهب ضحيته اكثر من ثلاثمئة جريح وقتيل من الاطفال والنساء.. لعن فلاح حظه العاثر، وانهال بالعتب على زميله لكن ذلك كان كافيا.. لأن يكون فلاح في اليوم التالي بيننا على رأس عمله.. وبلا كلل..

اما سلوى.. تلك المشاكسة الشقراء الجميلة.. التي اخترقت الحصار وجاءت تشاركنا آلام «وأفراح» تلك الأيام.. فقد اخترقت الحواجز الاسرائيلية والكتائبية عن طريق طرابلس بعد ان قطعت دورتها التدريبية في المانيا الشرقية.. لقد قامت بنشاط ممتاز على صعيد عملنا.. وكان من الممكن ان تتعرض للأسر او الموت على احد الحواجز الاسرائيلية والكتآئبية فيما لو اكتشف أمرها.. وكلنا نذكر الآن كم كان حضورها حلوا بيننا.

(9)

الساعة السادسة صباحا.. صحوت على صوت الطائرات، المغيرة وهي تحلق بكثافة في سماء بيروت.. خرجت الى شرفة كنا نسميها شرفة الاستطلاع، فقدرت ان معركة هذا اليوم بدأت مبكرة.. بما حملني على الاعتقاد بأن محاولة جديدة لاقتحام بيروت ستنفذ هذا اليوم.. فتحت جهاز الراديو وسمعت اشارة افتتاح صوت فلسطين.. شرعت في ايقاظ طاهر والحاج خالد اللذين كانا نائمين في المقر - لم تمض بضع دقائق حتى كنا في الشارع.. متوجهين عبر الطريق المتعرج الى الاستوديو الذي كان قد نقل في الليل الى مكان جديد لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن المكان السابق.

وما ان وصلنا الاستوديو.. وكان ذلك حوالي السادسة والنصف صباحا حتى بدأت «حفلة» قصف الطيران.. كان محررو الاخبار يجلسون خلف مقاعدهم في العراء هربا من رطوبة الغرف المغلقة التي احدثت اكثر من اصابة مرضية لبعض الاخوة، التحق خالد بالاستوديو.. وبقيت انا وطاهر الى جانب المحررين وشرعنا جميعا في الكتابة على انغام الـ اف 15.. لم يكن سهلا على اي من الزملاء اكتشاف المقر الجديد مما احدث مشكلة حقيقية لنا.. وهي نقص المواد المكتوبة.. وبعد ان اعددنا برنامجا لمدة ثلاث ساعات توجهنا - طاهر وأنا - الى المقر المركزي في محاولة لجمع الكوادر وتأمين المواد الكافية ليوم اذاعي طويل.

كانت الشوارع مقفرة تماما حتى من المقاتلين الذين اتخذوا لأنفسهم اماكن غير مكشوفة، وحين وصلنا الى المقر بعد غياب لا يتجاوز الساعتين.. احسسنا بشوق بالغ له، فأحزننا الصمت المهيمن على المكان.. ومن الشرفة شاهدت ام بشارة جالسة على بلكونة منزلها في الطابق الثاني تشرب قهوتها الصباحية وكأنها تتحدى كل سلاح الطيران الاسرائيلي، وما ان رأتني حتى اشرق وجهها بالفرح وسمعت منها كلمات كالنسيم..

اين كنتم هذا الصباح.. لقد اشتقت لكم؟

دعتني ام بشارة لمشاركتها قهوتها واستسلم طاهر للنعاس مسترخيا على ارض الغرفة.. بدأ الشباب يتوافدون على المقر واحد تلو الآخر.. وكنت ارقب دخولهم من بلكونة ام بشارة.. ولما وصل العدد قرابة العشرة.. التحقت بهم.

كان كل واحد منهم قد احضر معه المواد التي اعدها لبرنامج اليوم دون ان ينسى احد ان يكتب الاحتياط الذي كان له لزوم دوما.. فيصل حوراني ومعه حلقة من برنامجه اليومي اضواء على جبهة العدو.. ونزيه ابو نضال «كلمة ورد غطاها» ورشاد ابو شاور «كلامنا بلدي» ومحمود السربيوني «صباح الخير» وحنا مقبل مجموعة تحليلات وتعليقات.. وابو بشار الساخط دوما على الأنظمة يحمل رزمة كبيرة.

ذكرت الشباب بالتعليمات الأمنية.. وبصعوبة بالغة تم تفريقهم.. على موعد جديد عند التاسعة مساء.. وبقيت مع طاهر بمفردنا.

كنا نراقب الاذاعة.. وكأننا نستمع اليها لأول مرة.. كان الصوت صافيا ونقيا، وكان يتناهى الى سمعنا معه.. اصوات الانفجارات القريبة وكأنها مؤثر صوتي تم اعداده بكفاءة مهنية عالية.. كان القصف عنيفا في ذلك اليوم اغلق طاهر الراديو وهم الصمت على الغرفة لقد بدأت القذائف تقترب حتى بدت اصوات الانفجارات وكأنها على بعد امتار منا.. واذكر اننا لمرات عديدة نهضنا واقفين بعد ان مالت بنا البناية فخيل لنا انها على وشك الانهيار.. ولعل اكثر الاصوات ازعاجا لنا تلك اللحظات.. هي المنبعثة من اهتزاز الستائر المعدنية التي تصدر اصواتا اشبه بفحيح الافاعي.

هتف طاهر لنترك المكان.. الى أين؟ هل لديك اقتراح محدد؟

الى الشارع.. لم تكن فكرة الشارع موفقة.. الى أين؟ وكأننا اتفقنا بالنظرات.. لنبق هنا..

هل لك يا طاهر ان تصف حالتنا.. الآن؟

لم يتحرك طاهر عن مقعده وقال بهدوء - اننا بالضبط مسلمون أمرنا لله.

في زمن الحرب وحين القصف واحتمال الموت.. يلوذ الانسان الى اختراع السكينة.. بالتعود او المكابرة.. ولقد تذكرت في تلك اللحظة.. كلمات كان قد قالها لي صديقي الحبيب ماجد ابو شرار.. حين اجرى عملية جراحية.. احس بعدها بألم حاد.. ولم يتعاطى المسكنات للتغلب على الألم.. قال لي يومها: ان قهر الألم يمكن ان يتم بالتعايش معه والتعود عليه ومصادقته.. وها نحن الآن نتعايش ونتعود.. ولكن..

كانت الطائرات الاسرائيلية.. تملأ سماء بيروت.. وكلما ضقنا ذرعا بالجلوس في الغرفة المغلقة كانت تسليتنا الوحيدة مراقبة الطائرات التي كانت تتخذ من منطقة تواجدنا طريقا تسلكه اثناء اغارتها على الضاحية الجنوبية.. كنا نشاهد البالونات الحرارية تتساقط من الطائرات وكأنها العاب نارية.. وكنا نعجب لهذا التدبير الاحترازي نظرا لمعرفتنا بحجم مقاوماتنا الارضية.. التي تكاد لا تذكر قياسا لما وصل اليه التسليح الحديث من وسائل عصرية في مقاومة الطائرات.. غير اننا نجد الجواب وهو الخوف.. نعم.. ان الطيارين الاسرائيليين يخافون من مقاوماتنا الارضية؟ خاصة بعد ان تمكنت هذه المقاومات الارضية المتواضعة من اسقاط عدد من الطائرات.. وحين كنا نشاهد طائرات «الكفير».. ونسمعها وهي تجأر كوحش في السماء متأهبة للانقضاض على اكواخ المخيمات والأحياء الفقيرة في بيروت، كان الألم يعتصر قلوبنا.. فيرتسم على شفاهنا سؤال مرير أين الطائرات العربية؟ ان خروج خمس طائرات عربية لمواجهة هذا الجنون الاسرائيلي الطائر.. من شأنه على الاقل ان يريحنا بعض الوقت ويبعدنا لو لساعة واحدة عن جحيم هذا الاستفراد المأساوي بنا.. تذكرت كلام ابو الوليد.. غير انها ومهما كانت منطقية لم تمنعني - وهذا ما فعله الجميع - من الكتابة بسخط ظاهر.. ضد الطائرات الملفوفة بالقماش والنائمة ببلاهة واستكانة مزرية في مخابئها.. انتظارا لعرض عسكري تحتفل فيه بيوم الاستقلال او بايام اخرى تحمل - يا للمفارقة - اسماء اعياد تعطل المدارس من أجلها.. لتكتب في السماء بأجنحتها اسماء لهذا الزعيم او ذاك.

التعليقات