الحلقة الخامسة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية

الحلقة الخامسة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية
رام الله -خاص دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .

وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.

دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الخامسة عشر من الجزء الثاني الفصل الخ والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن "صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية".

"صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية"  (4-5-6)
(4)
كان يوسف وصالح.. هما المذيعان المناوبان للفترة الصباحية التي كنا نبدأها عند السابعة وتستمر حتى الحادية عشرة.. ومع أن يوسف كان متسلحا بتجربة ثماني سنوات من العمل الاذاعي المتواصل، ومعظم تجربته كانت في زمن الحرب، الا انه كان بحاجة الى من يذكره بأهمية القراءة الهادئة حتى في ظل القصف الشديد.. فوجدانيات السربيوني وأمجد وقصائدهما. لا يمكن قراءتها بنفس الطريقة التي تقرأ بها تعليقات طاهر وميشيل.. فكان سريع الاستجابة وقد ادى دوره بكفاءة عالية.. ولا بد لي هنا ان اذكر ما رواه احد الزملاء حينما كان يتحدث يوسف عن انطباعه فيما لو ان الدبابات الصهيونية وصلت باب الاذاعة.. وقد رد على الفور.. بأننا سنخرج «بكلاشناتنا» ونقاتل حتى آخر قطرة دم.. اما صالح الذي لم يكن قد انهى بعد «تدريبه الاذاعي» فقد كان كثير الاخطاء.. ولكنه كان يتمتع بصوت هادئ وواثق.. مما خفف من أثر اخطائه اللغوية.. وجعله مذيعا مميزا.. يعتمد عليه وعلى زميله الأكثر تجربة في النهوض بالفترة الصباحية وانتقاء المواد الملائمة التي غالبا ما كانت تتجمع في المساء.

- وحينما تعمل اذاعة كاذاعتنا لفترة اطول مما كان معتادا فان مشاكل يومية مستجدة لا بد وأن تنشأ.. وهنا تبرز القدرات المتميزة في التعامل مع المشاكل والمفاجآت، ولقد حدث في احد الايام ان حضر يوسف وصالح لتنفيذ الفترة الصباحية. ولم يحضر المهندس المناوب بسبب انشغاله في نقل اسرته من منزله المصاب الى مكان اكثر أمنا وقد تصرف يوسف ازاء هذا الوضع على نحو جيد.. حيث كلف مهندس الارسال.. بتشغيل الاستوديو والتنقل بينه وبين جهاز البث.. ووجه نداء عبر الاذاعة.. دعا فيه كافة المهندسين الى الحضور للموقع وقد استمع طاهر الى هذا النداء.. فانتابه قلق شديد.. فتوجه على الفور الى الموقع ليجد معظم المهندسين فعقد اجتماعا سريعا.. وزع فيه المهام بشكل اكثر دقة من السابق وكلف المذيعين على سبيل الاحتياط بالتدرب على التشغيل ومنذ ذلك الاجتماع.. لم تصادفنا سوى مشكلة كبيرة سآتي على ذكرها. هل هذا الملجأ يكفي لاتقاء غارات الطيران؟؟ كان هذا السؤال يطرح على نحو يومي بل في كل ساعة.. ولم تكن الاجابة ممكنة عبر اللجوء الى خبير عسكري او خبير في الانشاءات.. ذلك ان مفاجآت الطيران الاسرائيلي لم تدع مكانا آمنا في لبنان كله.. ورغم ذلك لا بد من ايجاد جواب يبعد شبح الخوف والارتباك ويؤمن استمرار عمل الاذاعة.

- كان تركيزنا على الاذاعة البديلة.. وليد احساس مسؤول بأهمية الا نجد انفسنا في أية لحظة بلا اذاعة.. ولقد وفقنا في تجهيز بديل آمن نسبيا.. ان اهم محطاتنا - 20 - كيلوات وضعت في مكان يصعب اكتشافه وتوصلنا الى نظام عمل يضمن استمرار الاذاعة حتى لو قصف الموقع (95) الذي ظل آمنا بالصدفة حتى منتصف الحرب.

- وموقع (95) الذي هو عبارة عن ملجأ ضيق يستخدم كمخزن للحطب يكمن تحت عمارة مؤلفة من ستة طوابق كانت خالية تماما من السكان.. شهد صورا انسانية عميقة الابعاد، ولقد ضمت غرفته الرطبة والضيقة الاشبه بالممرات.. مجتمعا صغيرا.. نشأت بين اعضائه علاقات استثنائية فيها حب عميق وألم مشترك وانتظار جماعي لمصير مجهول منه ان تنهار البناية على الجميع.. نعم الجميع بدون استثناء ولقد احتدم جدل سياسي بين أمجد ناصر.. الشاعر الاردني المقاتل ويعقوب شاهين الذي تواجد معنا لأن الحرب بدأت قبل أن يغادر الى مقر عمله في اذاعتنا بالجزائر.. وقد احتدم النقاش ليصل الى حافة الاشتباك العنيف، وقد تبادل الكادران «عبارات انتقادية قاسية.. كنت اراقب المشاجرة السياسية العنيفة.. وانا اسمع.. رغم وجودنا في الملجأ اصوات الانفجارات الضخمة حولنا.. غير ان الأخ ميشيل النمري - الصحفي المعروف - استغرب برود اعصابي.. وبادرني بلهجة قاسية صارخا في وجهي يا رجل.. هل انت مسؤول الاذاعة.. ام مجرد متفرج على ما يحدث..؟

- اجبته ببرود استفزازي.. الآن.. انني متفرج.. وساد الصمت قرابة دقيقة.. ثم دعوت امجد ويقعوب للجلوس.. ولاحظت ان الجميع يراقب عملية حل المشكلة باهتمام بالغ.. لا اذكر ما الذي قلته في تلك اللحظات ولكنني اجزم بأن الاثنين احسا بفداحة الخطأ.. ولقد عرفت ذلك حين التصق يعقوب وامجد في عناق طويل وانصرف كل منهما الى عمله بهدوء وضمير مرتاح.

- كانت نعم. هي الفتاة الوحيدة بيننا في تلك اللحظة.. وما زلت اذكر تلك التحية النابعة من القلب، التي وجهها لها احد الاخوة عبر صوت فلسطين.. والتي هنأته عليها، واذكر انه كان يشير دون ان يسميها، للدفء الانساني الذي يشيعه وجودها.. والتي ختمها بهذه العبارة «ما اروع حضورك بيننا» كانت الوحيدة قبل ان تنضم سلوى العمد الى اسرة الاذاعة.. ونعم فارس.. فتاة لبنانية جنوبية من قرية شحور.. تفيض جمالا وعذوبة.. كالفراشة كانت تنتقل بين الاستوديو وغرفة التحرير والهندسة.. كانت مذيعة متميزة.. تراجع مادتها مرات عديدة وبلهفة قبل ان تذيعها، اما الآن وبداع من التحدي فهي تواجه جمهورها.. على الهواء مباشرة ولقد كان اداؤها رائعا.

- لم نكن في وضع يسمح لنا ان نناقش افكارها المتدفقة حول ضرورة التطوير حتى في ظل الحصار.. فلقد كنا جميعا نعرف انها حديثة العهد وكل حديثي العهد يملكون طموحات كبيرة.. حد الخيال.. وحدث ان واجهتني «نعم» في احد الممرات الضيقة في موقع (95) لتقول لي بكل ما لديها من رقة وعذوبة وتهذيب.. هل تسمح لي يا اخ نبيل باجتماع عمل لمدة خمس دقائق؟؟

- قلت لها حسنا لنعتبر انفسنا من اللحظة في اجتماع عمل.. لاحظت سعادة غامرة تملأ وجه «نعم» المذيعة المتدربة.. التي اتيحت لها فرصة مناقشة وضع الاذاعة كلها.. وشرعت نعم في سرد افكارها على مدى ربع ساعة.. لقد كنت مخطئا في تقدير قدراتها الابداعية.. وما زالت كلماتها عالقة في ذهني حتى الآن «اتعرف اننا نمر الآن في ظروف صعبة.. وأن الموت يحيط بنا من كل جانب. ولكن مقياس الالتزام لا يتحدد علي نحو دقيق الا في مثل هذه الظروف لذا فانني اقترح  اخ نبيل - ان ندخل انماطا جديدة في عملنا الاذاعي.. فلماذا لا يكون عندنا مسلسل يومي من واقع الحرب؟ لماذا لا يكون نصف عملنا خارج الاستوديو. ولماذا لا ننتج اغنيات جديدة.. اعرف انك ستلوذ بذريعة عدم توفر الامكانات - واسمح لي في هذه النقطة - ان اتحداك.. واتعهد بانجاز كل هذه الافكار ضمن الامكانات المتوفرة» - همست في داخلي وكأنني اقول.. أنّى لي ان اكبح جماح هذا الطموح النبيل.. اخرجت نِعم بضع اوراق مكتوبة وقالت هذه خطة عملي.. وسأبدأ بتنفيذها من اليوم.

- المسلسل اليومي «سلي صيامك».. وهذه ثلاث حلقات جاهزة من تأليف الروائي غالب هلسة.. وهذه خطة لتنفيذ التسجيلات الخارجية في المواقع المتقدمة.

- وهذه خطة لاعداد الاغنيات الجديدة.

واعترفت بهزيمتي امام الفراشة. .حين سمعت ومعي بيروت ثلاثين حلقة من برنامج «سلي صيامك» واستمعت الى اكثر من مائة تسجيل في المواقع المتقدمة.. كانت الموسيقى التصويرية فيها انفجارات القنابل.. وانقضاض الطائرات المغيرة.. ورشقات جميع انواع الاسلحة وضحكتها الأليفة التي لم تغب في زحمة القذائف والموت.. اما الاغنيات الجديدة - وهي قمة نجاح نعم.. فلقد سجلتها من مواقع المقاتلين اثناء زيارتها لهم بصحبة الفنانين المصريين عدلي فخري وزين العابدين فؤاد وابرز هذه الاغاني «من صبرا للمنارة».. «على بوابات بيروت» و«لسا السلاح يما معي».. و«ليش اخاف من الحصار» التي جرت كالتعويذة على جمع الألسنة ومنها:

لسا السلاح يما معي/ وليش اخاف من الحصار

هي قلبي طلقا بمدفعي/ وعظمي حربا ودمي نار

رفقاتي سبعة بالكمين/ صرختهم تزلزل جبل

ولو صحت يما العزوا.. وين/ يلبي صوتك مية بطل

رحمك الله يا عدلي فخري...

- لم تطوي الأيام حكاية نعم ولم يكن حديثها عن مقياس الالتزام في الظروف الصعبة.. مجرد كلام تعلمته من الكتب.. او علق على اطراف ذاكرتها من خلال جلسات التنظير التي تضج بها ساحتنا.. في السلم.. وانما كانت تعبيرا نابضا.. عن ارقى درجات الوعي في عقل وقلب الكادر الملتزم.. لم تكن نعم مراهقة سياسية.. ولا حالمة مترفة تتوارد الافكار في عقلها.. كتوارد ا لافكار في مخيلة فتاة جميلة لا علاقة لها بالدنيا سوى التلذذ بخيالاتها واوهامها.. لقد كانت.. «نعم» عضوا في حركة فتح.. وعملت في اكثر من جهاز ومؤسسة وقبل ان تستقر في الاذاعة.. كانت تحلم بالمسرح وانجزت على خشبته عملا ثوريا يمكن اعتباره محاولة طموحة وجادة وكانت تحلم بدور شعبي مؤثر.. فتدربت على السلاح وعاشت نبض الجماهير في حيها الوطني العريق «الشياح».. كانت تحلم بفلسطين لتدفع الأذى عن لبنان.. وقبل ان تسقط شهيدة.. تصادف ان التقت بالقائد ابو عمار على باب الاذاعة لتودع وصيتها الأخيرة «اخ ابو عمار.. انني احمل اليك هدية من حي السُّلم.. هل تسمح بأن اقدمها لك لقائد المعركة.. لم تكن الهدية وردة.. لقد قدمت له قبلة على كتفه المثقل بالهموم.. واجهش الاثنان - القائد والشهيدة - في بكاء حار..

.. لقد استشهدت «نعم» بعد ان ودعت ابو عمار

- لقد دفنت نعم.. او ما تبقى من جسدها النضر الشهيد.. تحت كومة من تراب وشظايا ودموع.. وحين ذهبنا لزيارة ضريحها في الشياح قال لنا احد الشباب: برغم كثافة الموت وسعار القذائف من كل نوع.. لقد تمت عملية الدفن بما يليق بشهيدة غالية وزرعت على هذا الضريح شجرة.. وكتبت على شاهدة القبر.. (هنا ترقد المناضلة «نعم فارس»).

(5)

- أربع ساعات قاتلة عاشها جمهور الاذاعة.. وكاد يحدث فيها انهيار نفسي جماعي.. فلقد بدأ القصف مبكرا.. ولا ابالغ لو قلت ان السماء في ذلك اليوم امطرت قذائف ورصاصا.. وان الارض كادت ترتحل الى السماء محمولة على سحب من النار الدخان والاشلاء البشرية.. انه يوم المحاولة الاسرائيلية الكبرى لاقتحام بيروت، وفي يوم كهذا.. تجتمع معظم مؤشرات الراديو على رقم «الف ومائة» وهو موقع اذاعة صوت فلسطين على لوحة الراديو.. كنا في اليوم السابق قد امضينا ساعات مضنية في العمل الموزع بين الجانب الاعلامي والجانب الهندسي.. فلقد لاحظ المستمعون ان خللا فنيا اعترى اذاعتنا وأثر على نحو سلبي في درجة وضوح الصوت.. حاولنا كل ما في وسعنا تدارك الخلل اثناء فترة البث.. ولكن دون جدوى.. ولقد ا فادني المهندسان احمد وجهاد.. بحتمية وقف الاذاعة قبل الوقت المحدد.. ليتسنى لهما اجراء صيانة شاملة على الاجهزة، واقترحت عليهما الا يفكرا بالتوقف قبل الموعد. وان يستغلا فترة المساء من العاشرة حتى ا لصباح لانجاز المهمة.. وبالفعل انهمك مهندسو الاذاعة طيلة الليل، وبدأوا بعملية التجريب ببث مباشر من جهاز الارسال.. وقد تداخلت فترة التجريب مع الوقت المحدد لبدء الارسال اليومي وهو السادسة صباحا.. في تلك اللحظات كان القصف العنيف كافيا لأن يوقظنا جميعا من النوم.. ولقد فوجئنا بأنه حتى السابعة صباحا لم يسمع من اذاعتنا سوى الموسيقى والأناشيد.. في حين ان بيروت تصلى بجحيم من القذائف.. والاذاعات الاخرى تتوقع ان هذا اليوم بالذات هو يوم اقتحام بيروت. اوعزنا للمذيع المقاتل احمد عبد الكريم المعروف باسم بن بيلا فلسطين بالتوجه الى سيارة الارسال.. وأوفدنا مذيعا الى الاستوديو مقدرين ان المذيع المناوب تأخر لسبب ما ورغم ذلك استمرت الاذاعة في تقديم الاناشيد حتى الثامنة لنفاجأ بعد ذلك بخطاب ارتجالي ينطلق من حنجرة قوية ولم يكن صعبا ان نعرف بأن صاحب الصوت هو الأخ ابو اياد.. بعد ذلك لامست اسماعنا المقدمة الموسيقية الجميلة للبرنامج الصباحي «صباح الخير».. ثم سمعنا رشاد ابو شاور يقدم حلقة جديدة من برنامجه اليومي «كلامنا بلدي».. ثم وبعد انتظار مر مثل كابوس.. انتظمت الاذاعة.

- ما السر في اقتصار الاذاعة من الرابعة صباحا حتى الثامنة على تقديم المارشات العسكرية والأناشيد.. لقد تبين لنا.. ان جهاز الوصل بين الاستوديو ومحطة الارسال اصيب بعطب مفاجىء عند الساعة السادسة صباحا اي لحظة بدء الفترة الصباحية المعتادة.. واصبح متعذرا على مهندس الارسال التقاط الصوت المنطلق من الاستوديو.. وفي الساعات التي كان فيها المستعمون يتمزقون قلقا وحيرة، كان المهندسون يبذلون جهودا مضنية لاصلاح جهاز الوصل وقد وقفوا في ذلك عند الثامنة صباحا.. لم يكن من السهل ايضاح الأمر.. ورغم ان المبررات الهندسية كافية لتفسير موقفنا الا ان الجميع سجل علينا خطأ كبيرا وصل الى حد اتهامنا بالتقصير.. ولقد سمعنا نقدا لاذعا.. ملأ قلبي حزنا.. حينما قال احد الاخوة القياديين: «ان بيروت كانت تحترق.. وشباب الاذاعة يغطون في نوم عميق».. ولقد ادركت في ذلك ا لموقف البعد المأساوي لعملنا في الاذاعة.. فمن غير المسموح به لهذه الشمعة التي تحترق وتذوب.. ان تنطفىء امام الاعاصير مهما بلغت همجيتها ووحشية قصفها وتدميرها.. ومع تسليمي بلا منطق هذا الافتراض الا انني اقول انه على حق وكل الذي استطيع فعله في حالة كهذه ان انصرف الي مجتمعنا الصغير الذي اسمه الاذاعة.. لأحاول مرة اخرى.. من أجل الا تنطفىء شمعتنا الصغيرة.

(6)

- في ذلك اليوم.. يوم المحاولة الكبرى لاقتحام بيروت توجهت الى الاستوديو.. منذ التاسعة صباحا.. وكان سبب تأخري هو جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات عن الموقف الراهن.. ولقد شعرت ان هذا اليوم ربما يكون اخطر ايام الحرب.. ومع ثقتي بمتانة الخطوط الدفاعية المقامة حول بيروت وصعوبة اختراق هذه الخطوط.. الا ان هواجسي وصلت بي حد تخيل الدبابة الاسرائيلية تقف تحت نافذة الاستوديو ولم يكن بوسعي في ذلك الوقت اتخاذ ترتيبات لمواجهة مثل هذا الاحتمال، فلقد ضاقت جزيرتنا واصبح كل شيء شديد الصعوبة.. بل صرنا جميعا - وكل في داخله - يتعامل مع اسوأ الاحتمالات.. وأسوأها بل شك كان دخول الاسرائيليين ووراءهم وتحت حرابهم ميليشيا الكتائب، لكننا قررنا الموت واقفين حتى آخر طلقة.. بل حتى آخر سكين في «مطبخ»..  فلم يكن لكبريائنا الثوري من خيار سوى القتال حتى اللحظة الأخيرة، كان قطع المسافة بين المقر المركزي للاذاعة والاستوديو.. اشبه برحلة يرافقك فيها الموت خطوة بخطوة.. وكنا قد اكتشفنا طريقا آمنا الى حد ما.. يمتد عبر الممرات الضيقة التي تتعرج وتتشابك بين غابة العمارات المرتفعة، وفي تلك الاثناء.. كان من قبيل المجازفة المستهترة ان تنتقل بسيارة او حتى دراجة فمن لا يموت بقذيفة مباشرة يمكن ان يتمزق من الشظايا المنتشرة في ا لهواء في كل انحاء بيروت وسمائها.. وقد قطعت المسافة بين المقر المركزي والاستوديو.. دون ان اشعر بما يجري حولي، ولا اظن ان الأمر متعلق بالشجاعة.. وانما بفعل احساس عميق.. بأنه لم يعد في بيروت اي مكان آمن على الاطلاق وبناء على ذلك.. يستطيع الانسان ان يستسلم بارتياح للحظ والصدفة مع قدر من التصميم على الوصول.. ولقد وصلت لأجد امامي المشهد التالي:

- في مكان صغير من العمارة.. توجد مساحة ضيقة يطلق عليها السكان بيت الدرج.. وقد كانت مساحة هذا المكان الذي وضعنا فيه الاستوديو الجديد متران عرضا بأربعة امتار طولا.. يأخذ الدرج حيزا منها.. والى جانب بيت الدرج.. يقع مخزن للأثاث القديم مساحته ثلاثة اضعاف بيت الدرج تقريبا ولم يكن للمكان كله مزايا أمنية استثنائية.. حيث انه مشرع من الجهة الغربية على البحر عبر ثلاث نوافذ كبيرة.. وكثيرا ما كنا نجازف بارواحنا لنقف خلف النوافذ.. لمشاهدة رشقات راجمات الصواريخ تخرج من عندنا او تنهمر علينا ولقد اختار حسن عصفور مناوب الاخبار هذا المكان كمقر ثابت له.. مستفيداً من وجود جهاز اللاسلكي والتلفون العسكري.. واجهزة الاستماع.. والثلاجة الصغيرة التي لم تكن تخلو من زجاجات الماء البارد.. في وقت كانت فيه هذه الزجاجات ارقى مستويات البذخ والترف في بيروت.. وحين كان المذيع ينتقل من الاستوديو الى مكتب الاخبار الذي يفصله عنه باب صغير.. ويتصادف ذلك مع قصف عنيف.. كان المهندس يبادره ضاحكا:

- كيف الاوضاع على خط التماس.. على كل حال الحمد لله على السلامة هذه المرة؟؟

فالشظايا دخلت - وبحجوم مرعبة - اكثر من مرة الى «مخزن» التحرير هذا.. وبأعجوبة لم تصب أحدا..

- وصلت الى الاستوديو.. حوالي التاسعة وعشر دقائق.. القصف تضاعف في تلك اللحظات.. كان الجميع يحتشد في الاستوديو.. يوسف يستلقي على الدرج منتظرا دوره في قراءة المادة المقررة.. والدكتور صلاح يذيع تعليقا سياسيا حول تفاعلات الحرب داخل اسرائيل.. ورشاد يشتبك في جدل صاخب مع المهندس صلاح الذي لم يطبع حلقات برنامج «كلامنا بلدي» على اشرطة كاسيت.. والحاج خالد مسمار الذي كان نائبا لمدير الاذاعة.. هو الآن مسؤول التوجيه السياسي في احد قطاعاتنا العسكرية.. ومعروف بصوته الاذاعي الجميل والذكي خصوصا في قراءة الوجدانيات - كان الحاج خالد ملقيا بكل ثقله «المتواضع» على الباب الخشبي الذي يفصل الاستوديو عن قسم الاخبار واول كلمة نطقت بها كانت موجهة للحاج خالد مسمار.. «ما الذي يدعوك للوقوف هكذا هل تحاول اتقاء القذائف بجسدك؟».

- ابتسم خالد بهدوئه المعروف - والذي له قصة تروى - وبادرني قائلا: ان اهتزاز الباب من جراء اصوات الانفجارات يصل الى الميكروفون.. لهذا احاول منع الاهتزاز.

- وعن هدوء الحاج خالد يروي احد الاخوة هذه الحادثة.

- في موقع الـ (95) وذات يوم من ايام حزيران المخيفة.. بدأت الطائرات قصفا مركزا على الفاكهاني اي حولنا - ورويدا رويدا.. بدأ القصف يقترب والعمارة تهتز بنا.. «اي تهتز؟» - بل قل كانت تميد.. وأخذت قطرات الماء تتساقط من سقف الملجأ ونثارة البويا والاسمنت «تتهرهر».. وبخلاصة بتنا في داخلنا جميعا.. مقتنعين انها النهاية.. كان يعقوب يقف صامتا بعصبية مكتومة.. في حين كان ابو زيد يصلي في غرفة الالآت والمحررون في غرفة التحرير الصغيرة الملاصقة للاستوديو، واجمون وكأن على رؤوسهم الطير.. وأحد الزملاء كان يرتعش بخوف ظاهر لا ارادي.. في حين كان ثمة سيكارة تحترق وحيدة فوق منفضة ملأى بالأعقاب المطفأة.. كنت ارقب المشهد لحظة شخصت نظري باتجاه الحاج خالد كان هادئا كعادته.. وطيف ابتسامة ما زال تحت شاربيه الاسودين المنتظمين فوق ثغر خجول ودقيق..

كان يمشي الهوينا.. ثم توقف فجأة وبدت عيناه خلف نظارته وفيهما شيء من القلق والاستغراب والتساؤل، في تلك اللحظة كان الجميع مطرقين.. بانتظار الكارثة.. عنف القصف وشرخ صوت انفجار بقية الأمل وأحسسنا ان كل شيء سينتهي خلال لحظة.. ما زلت اذكر تلك الحركة.. حين امتدت يده اليمنى واغلقت زر سترته العلوي بهدوء.. وكأنه ينطق في اعماقه بالشهادتين او هكذا خيل لي.. وبمزيج من خوف وتحد او ما يسمى انتفاضة اللحظة الأخيرة.. شعرت بضرورة ان اكتب شيئا متحديا.. واذكر ان فحواه.. كان يعني اننا صامدون هنا فوق او تحت هذا الدمار المقدس.. لا فرق.. وسيظل صوت فلسطين صادحا.. وستظل بنادق الثورة مشرعة.. حتى يوم ينطلق.. صوت فلسطين.. صوت جمهورية فلسطين الديمقراطية من القدس.. يعقوب قرأها.. وكأنه يقصف.. او كأنه يرد على القصف بقسوة.. بحد.. بثبات.. ولم نعد نذكر ما يحصل في الخارج.. حينما انطلقت اهزوجتنا الحبيبة «طالعلك.. يا عدوي طالع.. من كل بيت وحارة وشارع وكان الجميع يرددونها بحماس وفرح وبحركات اقرب الى الرقص.. وحينها افترت شفتا الحاج عن ابتسامة عذبة.. اعترف.. لقد كانت ابتسامة تمنحني الاطمئنان.. لذا حينما اغلق بحزن عروة سترته.. لا ادري لماذا شعرت ان النهاية اقتربت؟؛. لقد ندمت على هذا الشعور

- والآن اعود الى الشباب.. فقد كان صفير القذائف يمر فوقنا ويخترق آذاننا وكنت ألاحظ مجرى القذيفة على وجه يوسف الذي كان يحسب اللحظات الفاصلة بين صوت الصفير ودوي الانفجار.. مع احتمال ان تسقط واحدة على بابنا في أية ثانية. وكان «بن بلا» المدجج بالقنابل وقذائف الآر بي جي يطلق بين وقت وآخر فتاويه العسكرية محددا انواع القذائف والصواريخ.. مطمئنا الى ان احدا من الحاضرين لن يجادله في معلوماته خاصة وانه يحمل لقب المراسل العسكري للاذاعة ولابن بلا قصة تنطوي على قدر كبير من الطرافة سآتي على ذكرها في مكان آخر. وفي ذلك اليوم كانت بيروت تغرق في بركة بارود ودم وشظايا فقد توزع الموت في كل حي وشارع وبيت من الفنادق والروشة والحمراء شمالا حتى الاوزاعي والبرج والشياح جنوبا اي بيروت برمتها.. كانت تحترق وتتقطع وتئن لكنها تواصل التحدي.. في حين كان المدافعون عنها واقفين كالصخرة الصلبة دون ان يتراجعوا مليمترا واحدا..

- كان يعقوب شاهين.. غارقا حتى أذنيه في ازمة خاصة.. فقد كان ضيفا عند نسيبته الساكنة في احد اخطر المناطق.. وحين شمل التدمير بيت نسيبته.. لم يجد مكانا سوى الاستوديو يلوذ به، ولقد فوجئت بوجود سيدتين تجلسان على بعد اشبار من الميكروفون وقد وضعن ايديهن على آذانهن كي لا يسمعن القصف المتبادل بين المذيع والمدفعية الاسرائيلية.. نظر اليّ يعقوب معتذرا واحسست بأنه يترتب علي مهمة جديدة لهذا اليوم وهي ايجاد مسكن للضيوف الجدد.

- كثيرا ما كنا نخترق الوضع النفسي الصعب. بابتكار النكت والطرائف.. وكنا نستغل فترة اذاعة مادة مسجلة لنأخذ راحتنا في التهريج والضحك بصوت مرتفع حتى اننا كنا نستأذن المهندس.. اذا كان الوضع يتحمل تهريجا من العيار الثقيل.. وكان رشاد ابو شاور في الغالب هو نجم هذه اللحظات.. ولقد ولدت في ذلك اليوم طرائف عديدة.. اذكر منها انني قلت لرشاد هل تعرف «يا ابن كنعان» بماذا كنت افكر هذا الصباح.. فأجاب باللهجة الاستفزازية..

.. سأعطيك بعد إذن المهندس دقيقة واحدة

قلت: تخيلت اننا قد نطل من الشباك لنرى دبابة اسرائيلية توجه فوهة مدفعها نحونا ولنفترض ان مثل هذا الأمر حدث.. وكنت انت الواقف على الشباك فماذا تفعل؟

اجاب رشاد:

سأخرج رأسي من النافذة وأقول له:

- ما اسمك يا ولد..؟

ولنفترض انه قال: كوهين؟

سأقول له بعد ذلك: يا ولد (قف وفكر.. من يحاصر من)؟

- ولكل من هاتين العبارتين قصة تتعلق بالحرب..

- قف وفكر.. هي مقدمة النداءات الفاشلة التي كانت توجهها الاذاعة الاسرائيلية باللغة العربية لمقاتلينا.. بغية حملهم على القاء السلاح.. وقد تحولت هذه العبارة مع استمرار المعركة الى نكتة يتداولها المقاتلون وقد تم تطوير هذه النكتة حين قام خليل وغسان بتسجيلها في مقدمة النداء باللغة العبرية.. موجهة بالميكروفون على خطوط التماس للجنود الاسرائيليين الذين يحاصرون بيروت وقد جرت على خطوط التماس.. حوارات لا تنسى عبر هذه الاشرطة والميكروفونات.. بين مقاتلينا والجنود الاسرائيليين..

- اما عبارة من يحاصر من.. فلقد وردت في احد تصريحات بيغن ورسائل فيليب حبيب.. حين قيل ان عرفات يتصرف من موقع المحاصر بكسر الصاد وليس المحاصر بفتحه

التعليقات