لماذا يفلت الجناة من العقاب في فلسطين؟

لماذا يفلت الجناة من العقاب في فلسطين؟
فضل سليمان
خبير في الإعلام والمساءلة


لا يجوز فرض عقوبة من قبل الاجهزة الامنية، بل يجب أن يناط فرضها بالسلطة القضائية، كما لا يجوز أن تمتد العقوبة إلى غير المسئول عن الجريمة، كأحد أقاربه، أو أصدقائه. كما لا يجوز فرضها إلا إذا ورد النص عليها من المشرع في وقت سابق لارتكاب الجريمة، وتفرض من قبل محكمة جزائية مختصة.

تحليل مفهوم العقوبة 

العقوبة في القانون هي الجزاء الذي يقرره التشريع الجنائي لمصلحة المجتمع تنفيذاً لحكم قضائي على من تثبت مسؤوليته عن الجريمة لمنع ارتكابها مرة أخرى من قبله أو قبل الاخرين.

 والعقوبة كرد فعل اجتماعي هي لحماية أمن المجتمع وضمان استقراره، ولحماية الفرد من نوازعه الإجرامية. ولكن لا يحق للأفراد ان يقتصوا لأنفسهم من المجرمين؛ فالمجتمع وحده صاحب الحق والسلطة في التجريم والعقاب.

ويتضح مما تقدم أن العقوبة، التي توقع بالجناة ومرتكبي أعمال العنف، تهدف الى حماية القيم والمصالح الاجتماعية والى تحقيق العدالة والى اصلاح وتقويم إعوجاج الجاني من خلال إزالة الخلل  الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة، منعا له من الإقدام على الجريمة مستقبلاً.

فالغاية من تأسيس الدولة هي تحرير الفرد من الخوف، وجعله يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة، وإتاحة الفرصة لأبدان وأذهان المواطنين ان تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا دون إشهار لأسلحة الحقد، أو الغضب أو الخداع، ويتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف؛ فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة.

ماذا يعني مصطلح (الإفلات من العقوبة)

هي الحالات التي لا تتم فيها ملاحقة الجناة، أو يضبطون ولا تتم محاكمتهم، او يحاكمون ولا يتم تنفيذ العقوبة، ومفهوم الإفلات من العقاب يشير الى الإخفاق في جلب منتهكي حقوق الانسان والجرائم للعدالة، ما يعني إنكار حق الضحايا للحصول علي العدالة والتعويض المادي والمعنوي لهم. كما يعني العجز عن تسليط الضوء علي الجريمة وكشفها أمام الرأي العام .

أن الإفلات يعود اما إلى ضعف في المنظومة القضائية والتنفيذية، أو بسبب غياب الإرادة لدى النظام للمحافظة على مصالح شخصية.

في سنة 1993 في فينا تم التوافق دوليا حول ضرورة مقاومة الإفلات من العقوبة، لان معاقبة المجرمين من شأنها أن تعزز الإيمان بسيادة القانون وترسخ في الذاكرة الجمعية تجريم الدولة للإنتهاكات المرتكبة ومعاقبة المسؤولين عنها من أجل تفادي حصولها مستقبلا .

متى وكيف يحصل الإفلات من العقوبة؟

يحصل الإفلات إما بحكم الواقع أو بحكم القانون، ويمكن أن تتم عملية الإفلات من العقوبة في أي مرحلة، قبل العملية القضائية أو خلالها أو بعدها، أحيانا لا تجري التحقيقات حول الإنتهاكات او الجرائم، او عندما يؤمر بالتحقيق، فإن التحقيقات لا تنفذ أو لا تتابع إلى النهاية، او يتم التستر عليها أو التلاعب بنتائجها.

واحيانا تطول التحقيقات أو إجراءات المحاكمات لتصل الى عشر سنوات مما يشير إلى فشل الأجهزة القضائية، وقد تمتد الجلسات القضائية بحيث تنتهي الفترة القانونية لمحاكمتهم.

 او ربما تتجاهل السلطات السياسية في بعض البلدان عادة الأحكام الصادرة عن القضاء مما يقوض مبدأ سيادة القانون، أما الحصانة فانها تعتبر أكثر الأشكال فرصة لإفلات المجرمين او منتهكي القوانين او الفاسدين من العقوبات.

الاَثار الاجتماعية لظاهرة الإفلات من العقاب.

تعتبر زعزعة ثقة المواطن بأجهزة الدولة القضائية والتشريعية، وتعزيز ثقافة عدم احترام النظام العام والقانون والاحكام القضائية، من أهم اَثار إفلات الجناة والمجرمين من العقاب، لما ينعكس في ازدياد الجرائم وإزدياد إحساس المجرمين بعدم وجود رادع يمنعهم.

ان إستياء ذوي الضحايا، حينما يشعرون ان ‏المجرم تمكّن من الإفلات من قبضة العدالة، ويتجول بحرية خارج قضبان السجون، يمثل إساءة لسمعة الأجهزة الأمنية والسياسية والقضائية.

تجار الأغذية الفاسدة لا يعاقبون

التجار الفاسدون لا يعاقبون، هذه الحقيقة التي تبينت خلال تحقيق صحفي أشرفت على إنجازه نفذه الصحفي المتميز فارس كعابنة، وفي ثنايا قضايا ترويج البضائع الفاسدة التي أًعلن ضبطها خلال العامين الماضيين، فكشف التحقيق أن لا أحكام بالسجن صدرت بحق كافة التجار الذين ضبطوا بجرائم اقتصادية في 2015 حتى النصف الأول من العام 2016، منها قضايا ترويج البضائع الفاسدة، مع ان عدد القضايا وصل الى 114 قضية في محافظة رام الله فقط، خلال النصف الاول من 2016.( لغاية تاريخ إنتهاء التحقيق).

ورغم ان الكميات المضبوطة منذ بداية عام 2015 الى منتصف عام  2016 ، زادت عن 1400 طن من المواد الفاسدة، ورغم أن حالات التسمم بسبب الأغذية الفاسدة خلال 2015 فقط، زادت عن ( 140) حالة، رغم كل ما سبق لم يصدر أي حكم بالسجن في كافة القضايا التي ضبطت خلال العامين 2015 و2016.

فاسدون يفلتون من العقاب أيضا

ثغرات جلية تشوب التشريع الفلسطيني الخاص بالفساد من حيث التجريم والعقوبة، وهناك إشكالات تتعلق في القضاء والتنفيذ، وصعوبة في ملاحقة حاملي الهوية المقدسية، على الرغم من انهم يخضعون للولاية القضائية الفلسطينية، كما تغيب منظومة مكافحة الفساد في غزة بسبب الإنقسام السياسي، ما يستدعي تعديلا على العديد من مواد قانون مكافحة الفساد التي من شأنها ان تقلل من فرص إفلات الفاسدين من العقاب، ويستدعي أيضا الإسراع في تبني النظام الخاص بحماية المشتكين والشهود والخبراء، لتشجيع وزيادة الإبلاغ وتقديم الشكاوى وتقديم الشهادات على جرائم الفساد، كما أنه من الهام جدا تصنيف الجرائم الاقتصادية الكبيرة كجرائم فساد، ومطالبة وزارة الاقتصاد بوضع قوائم سوداء للشركات المتورطة بحالات فساد وسحب ترخيصها.

أطباء المهملين يفلتون من العقاب

يشير تقرير " ديوان المظالم " الفلسطيني، الى انه ليس هناك أرقام إحصائية دقيقة عن حجم الأخطاء الطبية التي تقع في قطاع الصحة الفلسطيني الخاص أو العام، وإنما توجد بعض الأرقام المتناثرة هنا وهناك، التي تدل على وجود عدد، ليس بالقليل، من قضايا الاخطاء او الاهمال او التقصير الطبي التي وقعت في المؤسسات الصحية.

وأشار التقرير إلى "عدم وجود نظام متكامل لتوثيق قضايا الأخطاء الطبية، ودراستها، وأنه ليس هناك تقبل حقيقي للتعامل مع قضايا الأخطاء الطبية، وفي أغلب الحالات التي أعترف فيها بوقوع خطأ طبي، لم يتجاوز الإجراء المتخذ بحق من أخطأ، إتخاذ إجراءات تأديبية فحسب."

"هناك مشكلة حقيقية في التحقيقات التي تجري من لجان التحقيق الطبية، حيث أنها نادرا ما تدين أحدًا بوقوع خطأ طبي، ولفت التقرير إلى أنه لا يوجد لدى نقابة الأطباء أو لدى وزارة الصحة لجان طبية فنية دائمة للتحقيق في الحوادث الطبية التي تقع." بحسب تقرير الهيئة الفلسطينية لحقوق المواطن.

نحن بحاجة إلى أستراتيجية لمناهضة الإفلات من العقاب

المجرم مجرم أيا كان انتماه السياسي او المناطقي ويجب ان يطبق عليه القانون حال مخالفته له، ولابد أن تترجم هذه الارادة على شكل مواثيق وعهود والتزامات سياسية وقانونية واجتماعية ووطنية، تكون قاعدة رصينة ومتينة تعتمد عليها الاجهزة التنفيذية والقضائية وتساعدهما على تنفيذ مهامهما ومسؤولياتهما بدرجة عالية من الثقة والطمأنينة.

ترتكز الديمقراطية وتبني على إحترام القانون، لذلك من البديهي أن تتم البرهنة على انه لا أحد يعلو على القانون ، ولا حتى الشخصيات السامية والعسكرية ورجال الشرطة، ويتعلق الأمر هنا، بأخلاق المسؤولية، وتكمن في التذكير الرسمي والدقيق بحدود سلطات المقررين والمنفذين، فمتخذوا القرارات والمنفذين على اختلاف مستوياتهم لم ولن تكن سلطتهم مطلقة أبدا، وهي محددة بمقتضى القانون بمعناه الواسع، فلا يحق لأي مسؤول أن يشيد لنفسه "حديقة سرية"، او يتصور أن بوسعه ان يمتلك سلطة التصرف دون التعرض للمساءلة والمحاسبة.

إنهاء الإفلات من العقوبة يحتاج لجهود متكاملة تبدأ بدور الأجهزة المختصة بإنفاذ أحكام القانون وتمر بالإعلام الجريء المسؤول، وصولا الى دور الأفراد، والمؤسسات المعنية، وانتهاءا بالقضاء المستقل والنزيه.

وعلى الإعلام تقع مسؤولية كبيرة، كسلطة رابعة، في ظل رخاوة السلطات الثلاث، إعلام جريء، مهني، منقب، ولديه احساس عالِ بمسؤولية الكلمة والصورة، مسلح باخلاقيات المهنة، واضعا نصب عينية العدالة والقيم الرشيدة وخير البلد واهله.