كيف استخدم ملوك مصر القديمة الفن "أداة حكم" سياسية ودينية؟

الملك رعمسيس الثاني يضرب الأعداء خلال معركة حربية عصر الأسرة الـ 19
Getty Images
جدارية تظهر الملك رعمسيس الثاني وهو يطأ بقدميه الأعداء ويضرب بقوة عدو خلال معركة حربية مع الحيثيين، معبد أبو سمبل، عصر الأسرة الـ 19

لعب الفن في مصر القديمة دوراً محورياً تجاوز حدود الجمال والزخرفة، ليصبح "لغة" رمزيّة فعّالة تعبّر عن السلطة والإيمان والهوية الجمعية؛ فلم يكن النحت والرسم والنقش الفني مجرد أعمال تستوحي موضوعها من الخيال، بل وسيلة تواصل تنقل من خلالها الدولة أفكارها، وتُكرِّس مفاهيمها، وتُرسّخ شرعيتها السياسية والدينية أمام الشعب والإله على حدّ سواء.

استخدم الملوك الفن كأداة سياسية، وظهروا من خلاله بصورة مثالية، وقدَّموا أنفسهم كأبناء للإله أو كممثلين للعدل والنظام على الأرض، وبنفس المنطق والقوة وظّفه الكهنة ورجال الدين لتسجيل تفاصيل الطقوس الإيمانية، وتمجيد الإله، وتأكيد الروابط الروحية بين الناس والمقدّس، وترسيخ سلطتهم الدينية، وهكذا أصبح الفن مرآة حقيقية و"لغة تواصل" داخل المجتمع المصري القديم، يُترجم قِيَمَه ويُدوِّن رؤيته للعالم الأرضي والسماوي، وعالم ما بعد الموت، بوسيلة تعبيرية شاملة.

وغطى الفن المصري القديم مرحلة امتدت لما يزيد على أربعة آلاف عام، ونستعرض هنا سر هذه الاستمرارية الأساسية في وسائل التعبير، ونسعى للإجابة عن تساؤلات من بينها: ما هي فلسفة ودوافع هذا التنوع الفني الهائل لدى المصري القديم بأساليب مختلفة؟ ولماذا بُنيت تلك الصروح الأثرية بأحجام شامخة؟ ولماذا حرص الملوك على نحت تماثيل عملاقة لهم ووضعها في واجهة المعابد الدينية؟ وما سر اجتهاد الفنان في رسم ونقل حركات وايماءات من الحياة اليومية ومشاهدها على جدران المعابد والمقابر؟

"الفن في خدمة الفكرة"

نقش للملك أخناتون وزوجته نفرتيتي وأطفالهما، يتوسطهما قرص الشمس بأذرع أشعته الباعثة للخير والحماية، تل العمارنة، عصر الأسرة الـ 18
Getty Images
نقش للملك أخناتون وزوجته نفرتيتي وأطفالهما، يتوسطهما قرص الشمس بأذرع أشعته الباعثة للخير والحماية، تل العمارنة، عصر الأسرة الـ 18

تخلق الصورة دائماً واقعاً لما تمثله في تاريخ مصر القديم، ولذا، كان وجودها هو المهم وليس فقط أن تكون موضوعاً للبحث والتأمل؛ فبعد أن أدرك المصريون صعوبة الإحاطة بالواقع من جميع جوانبه بسبب محدودية حاسة الإبصار، أقدموا على تشييد "بناء ذهني" حقيقي للصورة، جامعين في تآلف فني متناسق، عدداً كبيراً من الرؤى الفكرية داخل المشهد الواحد.

وتقول العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها "الفن والحياة في مصر القديمة": "يستطيع الفن أن يجسد شكلاً ما، أو يعيد خلقه من جديد، من هنا تأسست فلسفة الفن المصري القديم الذي اعتبر رسم الأشكال وكأنه عملية خلق جديدة، بل هو ثمرة تحليل واع وذاتي...، فعلى مدى آلاف السنين تطور الفن المصري تطوراً هائلاً، لكنه بالرغم من ذلك بقي على وفائه وإخلاصه لمطلبه الأساسي، ألا وهو: الاتحاد بين الملموس والفكرة السامية، وإقامة علاقة بين الأشكال النابضة بالحياة، والخلود بواسطة التماثيل أو الرسوم".

وتضيف أن "المفهوم الخاص بالحياة والموت هو المحرك الأساسي للفن" في مصر القديمة.
الإله آمون يقدم مفتاح الحياة والخلود
Getty Images
الإله آمون يقدم مفتاح الحياة والخلود "عنخ" للملك تحتمس الرابع، عصر الأسرة الـ 18

ويمكن تقسيم المدارس الفنية عبر عصور مصر القديمة إلى أربع مدارس، بحسب دراسة عالم الآثار المصري عبد الحليم نور الدين "تاريخ وحضارة مصر القديمة"، وهي المدرسة المثالية (التي أظهرت أصحابها في أفضل صورة ممكنة)، والمدرسة الواقعية (التي عبّرت عن واقع أصحابها وعصرها وانسحبت على الطبقات الدنيا)، والمدرسة المثالية الواقعية (وهي مزيج بين المدرستين السابقتين)، والمدرسة الآتونية (أو فن العمارنة في عصر الملك أخناتون)، وقد ظل لهذه المدارس وجودها على امتداد الحضارة المصرية، وإن ازدهر بعضها على حساب الآخر في بعض الفترات.

وعن المدرسة الآتونية يفسر نور الدين قائلاً: "لما كان الإله آتون هو الإله الذي خلق نفسه بنفسه، وهو صورة من إله الشمس الذي لم يخلقه أحد، جاءت تماثيل وصور الملك أخناتون (1360-1343 قبل الميلاد) وأسرته معبّرة عن تلك الصفة التي يتميز بها آتون، من حيث أنها جمعت بين الذكورة والأنوثة في تكوين واحد، وكأن أخناتون عمد – وهو يظهر نفسه بهذه الهيئة – أن يؤكد للناس في كل مكان أنه التجسيد البشري لذلك الإله الذي خلق نفسه بنفسه".
تمثال للملك أخناتون عصر الأسرة الـ 18
Getty Images
تمثال للملك أخناتون في هيئة جمعت بين الذكورة والأنوثة في تكوين فني واحد، عصر الأسرة الـ 18

كما تميّز الفن المصري القديم بفلسفة تقوم على الرمزية والوظيفة، لا على المحاكاة الواقعية أو الجمال المجرد، إذ كان الهدف من العمل الفني هو أداء وظيفة محددة، سواء دينية أو جنائزية أو سلطوية، عكست هذه الأساليب إيمان المصريين القدماء بمفهوم "ماعت" الذي مثّل النظام والعدالة، فجاءت أعمالهم الفنية معبرةً عن الثبات والديمومة والاتساق مع الكون الإلهي.

وتجلّت دوافع وفلسفة الفن بوضوح في العديد من الآثار التي لا تزال شاهدة على ذكاء حضاري، فعلى جدران معبد الكرنك، على سبيل المثال، نجد نقوشاً تمجّد انتصارات الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، وهي نقوش استُخدمت لترسيخ هيبته وسلطته بوصفه حاكماً مختاراً من الإله، وهو ما يعبّر عن الوظيفة السياسية والدينية للفن في آن واحد.

كما تعكس تماثيل رعمسيس الثاني (1279-1212 قبل الميلاد) في معبد أبو سمبل مفهوم القوة الإلهية، إذ صُوّر الفرعون بهيئة جبارة تمزج بين الإنسان والإله، في تجسيد لفكرة الحكم الإلهي.

كما وظف الملك رعمسيس الثاني الفن في التعبير عن مكانة محبوبته وزوجته الملكة نفرتاري في مقبرتها في وادي الملكات، وظهر البُعد الجنائزي والديني للفن في أبهى صوره، حيث تزيّنت جدران المقبرة بمناظر تُظهر الملكة وهي يستقبلها الإله في العالم الآخر، في تصوير يهدف إلى تأمين خلود روحها.

وتبرز هذه الأمثلة كم كان الفن المصري القديم ليس مجرد وسيلة زخرفية، بقدر ما كان يحمل رسالة سياسية وروحية وفلسفية عميقة ووسيلة للتواصل مع الشعب والعالم الإلهي، بهدف ترسيخ مفاهيم الخلود وجعل الحياة الأرضية متناغمة مع الإرادة الإلهية، فضلا عن ضمان استمرار هذا التناغم بعد الموت في عالم أبدي يتسم بالنظام والسلام.

"الفن في خدمة الملك"

جدارية الملك رعمسيس الثاني في أحد معاركه الحربية، معبد أبو سمبل
Getty Images
جدارية تظهر شجاعة الملك رعمسيس الثاني خلال أحد معاركه راكباً عربته الحربية مدافعاً عن أرض مصر، معبد أبو سمبل، عصر الأسرة الـ 19

كشف لنا المجتمع المصري القديم عن مكوناته وعناصره المتباينة بواسطة النقوش البارزة والتماثيل والرسوم، والتي تعتبر بمثابة معرض تصوير ضخم عن الملوك وكبار شخصيات تلك الفترة بأكملها، بالإضافة إلى القادة العسكريين وكبار أفراد الشعب المصري. وبفضل الفن، أُحطنا علماً كذلك بالشعوب الأجنبية، وسهل علينا تمييزها من خلال خصائصها العرقية وملابسها وصفاتها المختلفة.

وتصف نينا ديفيز في دراستها "مختارات من فن التصوير المصري القديم"، نقلا عن موسوعة الحضارة المصرية القديمة لسمير أديب، الفن المصري بأنه "له في أعماله تقاليد خاصة تبرز النواحي التي يريد الإفصاح عنها، والتعبير عن مدلولها بأيسر وسائل الأداء، في الرسم واللون والتوزيع والاتزان والتنسيق. فتجد الصورة الجميلة تدعوك إلى مشاهدتها وترغمك على الإعجاب بها بالشكل والوضع والروحية التي أرادها لها صانعوها، في الوقت الذي تخالف فيه هذه الصورة في جوّها وتكوينها ما يألفه المرء في الفنون المعاصرة".
معبد أبو سمبل الذي بناه الملك رعمسيس الثاني
Getty Images
تُعد واجهة معبد أبو سمبل من أبرز روائع الفن المعماري المصري القديم، تتقدّمها أربعة تماثيل عملاقة للملك رعمسيس الثاني، محفورة في الصخر، عصر الأسرة الـ 19

وحرص الفنان القديم على رسم أشخاصه تبعاً لمركزهم في البلاد، فصور الإله والملوك بحجم كبير نوعاً ما ومتميزاً بما يتفق مع مكانتهم أمام الشعب، وهي أحجام تفوق في ارتفاعها حجم كبار الموظفين، وتتفق مع الوقار المحيط بالملوك والإله ومع مركزهم الاجتماعي في الدولة، كما صُور كبار رجال الدولة في حجم أكبر نوعاً ما من صور الأشخاص الممثلين لأفراد الشعب.

كما استخدم الفن في تصوير الإله والملوك أوضاعاً محددةً بغية توجيه رسالة تنم على مكانتهم وفي أيديهم إمارات الشرف مثل "الصولجان" و"العصا الطويلة"، وذلك بحيث لا يخفي جزء من الجسم جزءاً آخر أو يقطعه.
جدارية ملونة للمعبودة حتحور وهي ترافق الملك رعمسيس الثاني في زيه الملكي
Getty Images
جدارية ملونة للمعبودة حتحور وهي ترافق الملك رعمسيس الثاني في زيه الملكي ماسكاً العصا الطويلة والصولجان، عصر الأسرة الـ 19

ويرى العالمان الفرنسيان، كرستيان زيغلر وجان لوك بوفو، في دراستهما "الفن المصري" أن الفنان "كان يضع جنباً إلى جنب، صوراً عديدة لنفس الشيء، ووجهة نظره لها مغزى محدد، ألا وهي أن ننظر إلى نفس الشيء، من زوايا مختلفة، وذلك لنتمكن من تكوين صورة إجمالية للشيء الذي نصوره".

ويضيفان: "طريقة تقديم (تصوير/تمثيل) الشيء، هي نفسها حقيقة هذا الشيء. فهذا التقديم، الذي لا تنطبق عليه قواعد المنظور، خلق أعرافاً فنيةً ذات قوة إلزام إجبارية" لمن يراها.

ويُعَدّ توحيد القطرين، الوجه البحري والوجه القبلي، على يد الملك نعرمر (حوالي 3150 قبل الميلاد) نقطة تحول مفصلية في التاريخ المصري القديم، وقد لعب الفن دوراً محورياً في تخليد هذا الحدث المهم وتأكيد رمزيته السياسية والدينية.

وسُجّل الحدث على صلاية من حجر الشست الإردواز، تعرف بصلاية نعرمر الشهيرة، والتي تُعدّ واحدة من أقدم الأعمال الفنية الرمزية في تاريخ الحضارة المصرية، حيث تُصوّر الملك نعرمر وهو يضرب أعداءه، ويرتدي في أحد وجهي اللوحة التاج الأبيض لمصر العليا، وفي الوجه الآخر التاج الأحمر لمصر السفلى، في دمج بصري قوي يرمز إلى وحدة أرض مصر تحت سلطانه.

كما امتلأت رموز اللوحة ومكوناتها بإشارات بصرية دقيقة تعبّر عن القوة والسيطرة الإلهية، مثل ظهور الإله حورس، وتجسيد الأعداء في هيئة مقهورة، مما يدل على أن توحيد قُطريّ البلاد لم يكن مجرد نصر سياسي، بل قُدَّم كفعل مقدّس برعاية الإله، وهكذا أصبح الفن في هذه الحقبة أداة بارعة لترسيخ صورة الملك كمُوحِّد ومُنقذ للبلاد، وجاءت رموز الوحدة مؤكدة على أن الملك ليس فقط حاكماً، بل هو الضامن للنظام الكوني والنظام السياسي في آنٍ واحد.

ويقول الفرنسيان كريستيان زيغلر وجان لوك بوفو: "كل تقاليد وأعراف الفن المصري موجودة هنا (في صلاية نعرمر)، وهناك كذلك الدليل على مولد الكتابة، هذا الدليل هو ذلك الشيء الذي يصور العلاقة الوثيقة التي تربط بين الصورة والكتابة. وهناك كذلك إدراج أو إدخال كل العلاقات التي تدخل في تكوين الفضاء، أو الحيز الذي يشغله التشكيل الفني".
الملك رعمسيس الثاني يمسك بيد واحد أعداء يمثلون جنسيات مختلفة
Getty Images
نقش ملون يظهر الملك رعمسيس الثاني وهو يمسك في هيبة بيد واحدة أعداء مصر من جنسيات مختلفة، عصر الأسرة الـ 19

كما لعب الفن دوراً بوصفه أداة رئيسية لتأكيد شرعية حكم الملك الفرعون وإضفاء طابع إلهي على سلطته، فلم يكن تصوير الملوك عشوائياً، بل كان محسوباً بدقة ليُظهر الملك دائماً في صورة مثالية: شاباً، قوياً، مهيباً، وأكبر من أعدائه أو تابعيه حجماً، كما ذكرنا.

فعلى جدران المعابد، كان يُصوَّر الملك وهو يهزم الأعداء بـ "يد واحدة"، في دلالة فنية رمزية على قوته الخارقة وحمايته لأرض مصر، وأبرز مثال على ذلك، رسوم معركة "قادش" الشهيرة في عهد رعمسيس الثاني، والتي صُوّرت على جدران معبد أبو سمبل، وعلى الرغم من أن النتيجة الفعلية للمعركة كانت غير حاسمة تاريخياً، إلا أن الفن هنا لم يسجل الحقيقة فحسب، بل شكّل رواية سياسية تخدم صورة الفرعون كبطل منتصر لا يُهزم.
جدارية تجسد مشهدا من معركة قادش للملك رعمسيس الثاني وهو يضرب الأعداء الراكعين له
Getty Images
جدارية تجسد مشهداً من معركة قادش للملك رعمسيس الثاني وهو يضرب الأعداء الراكعين له ويحرسه الإله الذي يقف أمامه في هيبة، معبد أبو سمبل، عصر الأسرة الـ 19

ولم يقتصر الفن السياسي على الجداريات، بل شمل أيضاً المعمار والتماثيل الضخمة، فالأهرامات نفسها كانت رمزاً للسلطة والخلود، وبُنيت لتُجسّد عظمة الملوك وقدرتهم على الانتقال للعالم الآخر مع الإله.

كما استخدم الملوك تماثيلهم الموضوعة أمام المعابد، مثل تماثيل رعمسيس الثاني في أبو سمبل، لإظهار الهيبة والسيطرة على المناطق الجنوبية للبلاد، وإرهاب الشعوب المجاورة وإبهارهم بحجم وقوة مصر ممثلةً في ملكها، فجاء هذا النوع من الفن المعماري ليس بهدف التعبير عن الجمال، بل كان رسالة سياسية حاسمة في الداخل والخارج.

وكان الملوك يتحكمون في كيفية تسجيل الأحداث، وبالتالي استخدموا الفن كوسيلة لكتابة "التاريخ الرسمي" بالطريقة التي تخدمهم، فعلى جدران المعابد، لم تكن تُسجل الهزائم أو الصراعات الداخلية، بل فقط الانتصارات والمشاريع المعمارية العظيمة والقرابين المقدمة للإله، ومن خلال هذا التوثيق الفني، جرى بناء سردية تُعظّم الحاكم وتُخفي نقاط ضعفه، مما رسّخ في الأذهان صورة محددة "لا تقبل الشك" لكونها منقوشة على حجارة المعابد وتُعرض في أقدس الأماكن.
معبد أبو سمبل للملك رعمسيس الثاني
Getty Images
تماثيل رعمسيس الثاني في أبو سمبل، تظهر الهيبة والسيطرة على المناطق الجنوبية للبلاد، وإرهاب الشعوب المجاورة

وتميّز عهد الملك رعمسيس الثاني، على سبيل المثال، باستخدام مكثّف للفن كوسيلة سياسية ودينية هدفها ترسيخ صورته كحاكم قوي، شبه إلهي، يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله، ويحكم بتفويض إلهي مباشر.

وقد تجلّى هذا التوظيف بوضوح في معابده الضخمة وتماثيله، كما في معبد أبو سمبل، حيث صُوّر رعمسيس جالساً متربعاً جنباً إلى جنب مع آلهة، داخل قدس الأقداس، في رسالة بصرية مفادها أنه ليس فقط ملكاً، بل شخصاً ذا طبيعة إلهية، وهكذا استخدم رعمسيس الثاني الفن ببراعة لدمج السياسي بالديني، وجعل من صورته رمزاً خالداً للقوة والخلود في ذاكرة التاريخ المصري.
الملك رعمسيس الثاني يجلس جنباً إلى جنب مع آلهة، داخل قدس الأقداس
Getty Images
الملك رعمسيس الثاني (الثاني من اليمين) يجلس جنباً إلى جنب مع آلهة، آمون ورع حور آختي وبتاح، داخل قدس الأقداس بمعبد أبو سمبل، عصر الأسرة الـ 19

ولم يكن الفن موجّهاً للناس فقط، بل كان يُستخدم أيضا لإيصال رسائل ملكية إلهية، وكأن الفن نفسه وسيلة تواصل سماوية، فكانت المعابد تمتلئ بالنقوش التي تُظهر الملك وهو يُقدّم القرابين للإله، للتأكيد على علاقته المباشرة به ودوره كوسيط بينه وبين الشعب، هذه المشاهد كانت تحمل في طيها رسائل سياسية بمذاق ديني موجهة للشعب أيضاً، تفيد بأن طاعة الملك تعني طاعة الإله، وتعني عدم الطاعة خروجاً عن النظام الكوني المقدس المعروف بـ"ماعت"، وبالتالي، أصبح الفن جزءاً لا يتجزأ من منظومة تثبيت السلطة وتقديسها في نظر الناس.

وتُعدّ الملكة حتشبسوت (1472-1457 قبل الميلاد) أبرز مثال على استخدام الفن لتعزيز شرعية الحُكم في مصر القديمة بأسلوب مزج الدنيوي المتعارف عليه بالديني المقدس، لا سيما وأنها تولّت العرش في سياق غير تقليدي بصفتها امرأة في منصب كان يحتكره الرجال.
تمثال للملكة حتشبسوت في واجهة معبدها في الدير البحري
Getty Images
تمثال للملكة حتشبسوت في واجهة معبدها في الدير البحري، ويظهر ملامحها الأنثوية وهي ترتدي زي الملوك الرجال وتضع اللحية المستعارة على وجهها، عصر الأسرة الـ 18

فمنذ بداية حُكمها، حرصت حتشبسوت على توظيف الفن بكل عناصره لترسيخ صورتها كأنها "ملك فرعون شرعي"، وليست وصية على العرش، فقد صوّرت نفسها في التماثيل بزيّ الملوك الرجال، مرتديةً التاج الملكي واللحية المستعارة، وبتكوين جسدي يُقارب الصورة التقليدية للملك الفرعون الرجل، وذلك لكسر الحاجز بين جنسها "الأنثوي" وطبيعة المنصب أمام الشعب.

كما زُيّنت جدران معبدها الشهير في الدير البحري بمشاهد تصويرية تُظهِر دعم الإله آمون لها، وقصص أسطورية تُثبت نسبها الإلهي، مثل نقش شهير يعرف بمشهد "الميلاد الإلهي"، الذي يُصوّرها كابنة مباشرة من صُلب الإله، في محاولة لتقديم شرعية دينية تُعزز مكانتها السياسية، وهكذا سخّرت حتشبسوت الفن كأداة ذكية لإعادة تشكيل تصور المجتمع عن الحُكم والهوية، وضمان استمرار سلطتها وسط نظام تقليدي صارم.
صف من مجموعة تماثيل متماثلة للملكة حتشبسوت تقف في واجهة معبدها في الدير البحري
Getty Images
صف من مجموعة تماثيل متماثلة للملكة حتشبسوت تقف في واجهة معبدها في الدير البحري، عصر الأسرة الـ 18

وبعد وفاة الملكة حتشبسوت، سعى الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، الذي شاركها الحكم لفترة طويلة، إلى تثبيت سلطته بشكل مطلق، فبدأ حملة ممنهجة مستعيناً أيضاً بناصية الفن كأداة لمحو ذكراها وهدم إرثها السياسي والديني. فعلى الرغم من أنها لم تكن غاصبة للسلطة بل وصية عليه في طفولته، إلا أن تحتمس الثالث نظر إلى حُكمها كتهديد رمزي لنظام الحكم التقليدي، فشرع في تشويه صورها ونقوشها في المعابد، ولا سيما في معبدها الجنائزي بالدير البحري، وهي قضية أثارت حيرة علماء تاريخ مصر القديم بين مؤيد ومعارض.

لجأ الفنانون في عهده إلى طمس ملامحها من الجداريات، وتكسير تماثيلها، وكتابة أسماء أخرى مكان اسمها، بل وأحياناً ترك الفراغات بلا نقش، في إشارة إلى إنكار وجودها تماماً، وكان هذا الطمس ممنهجاً ودقيقاً له أهدافه الدينية أيضاً.

لم يكتف تحوتمس الثالث بمحو صور حتشبسوت في الحياة، بل سعى لطمسها من الأبدية، نظراً لإيمان المصريين القدماء بأن الخلود مرتبط بذكر الاسم وصورة المتوفى، وهكذا أصبح الفن، الذي استخدمته حتشبسوت لترسيخ شرعيتها، أداة استخدمها ضدها خليفتها لاحقاً لطمس تلك الشرعية، في واحدة من أوضح صور الصراع السياسي في التاريخ المصري القديم.
تمثال للملك تحوتمس الثالث
Getty Images
تمثال فريد للملك تحوتمس الثالث وتظهر على وجهه ابتسامة خفيفة في رمزية الجمع بين الهيبة والرقة في ذات الوقت، عصر الأسرة الـ 18

ويقول العالم المصري رمضان عبده علي في دراسته "حضارة مصر القديمة": "في معبد الدير البحري نجد اسمي تحوتمس الثالث وابيه قد نُقشا في أماكن عديدة بدلاً من اسم حتشبسوت، كما أحاط المسلات التي أقامتها الملكة بالكرنك بأبنية حتى لا يظهر منها سوى القمة فقط".

ويضيف: "على الرغم من أن هذه الأعمال توضح لنا مدى ما كان يحمله (تحوتمس الثالث) من كره عميق لهذه الملكة، التي كانت السبب في تعاسته وإهماله في السنوات الأولى من حياته، فإنه كان ذو طابع لطيف ورقيق، فكان يحب نحت التماثيل وجمع الأزهار النادرة، ونقرأ أيضاً أن من الهدايا الثمينة التي أمر تحوتمس الثالث بصنعها لإهدائها إلى معبد آمون رع في الكرنك أوانٍ رسم تصميمها بنفسه".

وعن براعة استخدام الفن، لاسيما فن النحت، في ترسيخ شخصية كل منهما ورسم ملامحهما في ذهن كل من شاهد تمثالاً لحتشبسوت أو تحوتمس الثالث حتى وقتنا هذا، على سبيل المثال، يرى عبده أن الفنان المصري "جمع في تماثيل الملوك بين المثالية والجمال. وبلغت مدارس النحت غايتها في تماثيل الملكة حتشبسوت، التي مثلها أهل الفن في عصرها بأنوثة حلوة ناضجة، ولم يستثنوا من هذه الأنوثة وجوه التماثيل التي مثّلوا ملكتهم فيها رابضة على هيئة أسد".

وأضاف: "كما بلغت غاية أسمى في تماثيل تحوتمس الثالث الذي جمع فيها النحاتون بين الفتوة ورقة الطابع ونبل المشاعر، ومنها ما يصور الملك واقفاً وجاثياً خاشعاً ورابضاً على هيئة أسد".

بناء على ما سبق ظلت الصورة التي رسمها الفنان المصري القديم، تحوي في عقيدته عنصراً حيوياً وحياً فيما تمثله، فسواء مثلت الصورة إنساناً أو حيواناً أو شيئاً، فهي تمثل عموماً نوعاً من "الخلق" ينم عن جوهر ما تمثله وتكون جزءاً من شخصيته تتأثر به وتؤثر فيه، فالصورة مادامت كاملة فهي تمثل صاحبها كاملاً، وإذ تصدعت تصدع، وإن طُمست اختفى ذكره إلى الأبد، فالصورة تعبر عن "حقيقة" صاحبها وعن "حقيقة" المنظر، بمعنى أن العقائد الدينية والفكرية ألزمت الفنان باتباع هذه "الحقيقة" وهذا المنطق في أعماله على مر العصور.

"الفن في خدمة الدين"


كان الفن في مصر القديمة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الدينية، واعتُبر وسيلة مقدسة للتقرب من الإله وتمجيده، فالمعابد كانت مزيّنة بنقوش وجدران مليئة بالصور الرمزية للإله، وكل إله كان له ألوانه ورموزه وهيئته الخاصة، كانت هذه الصور وسيلة لفهم صفات الإله ومجاله الروحي، وبالتالي لم يكن الفن هنا وسيلة جمالية، بل أداة "تعليمية" و"تعبّديّة" ترسّخ معتقدات دينية بشكل بصري مؤثر، مثالاً على ذلك، الإله أوزير الذي كان يصور دوماً بلون أخضر رمزاً للحياة والبعث، أما ربّة الحق "ماعت" فكانت تُصوَّر بريشة على رأسها رمزاً للعدالة والنظام.

كان الإيمان بالحياة بعد الموت أحد الركائز الأساسية في العقيدة المصرية القديمة، وقد اضطلع الفن بدور محوري في تجسيد هذا الإيمان بصرياً، فغدت مقابر الملوك وغيرهم بمثابة عوالم متكاملة، تُصوَّر على جدرانها مشاهد تُظهر المتوفى وهو يواصل حياته في العالم الآخر، يأكل، ويشرب، ويمارس طقوسه، وكأن الفن يمنحه حياة أبدية.

واختلف الموضوع الفني للمناظر المنقوشة على الآثار بحسب الغرض الذي أنشيء الأثر من أجله، ففي المعابد خُصصت الجدران الخارجية لتسجيل أعمال الملك المهمة أمام الشعب، أما القاعات والأروقة الداخلية كانت تُخصص غالباً للمشاهد الدينية فقط.
الملك رعمسيس يقدم القرابين للإله حور
Getty Images
مشهد ديني يظهر الملك رعمسيس وهو يقدم القرابين للإله حور بخشوع، عصر الأسرة الـ 19

وفي مقابر الملوك، التي مُثلت فيها المناظر بالنقش أو الرسم التصويري، كانت الموضوعات دينية وجنائزية فقط، ومنها مناظر تمثل الكتب الدينية، إذ صوّر الفنان، على سبيل المثال، مشاهد من فصول كتاب "الخروج إلى النهار"، المعروف اصطلاحاً بـ "كتاب الموتى"، لمرافقة روح الملك أو المتوفى في رحلته إلى الآخرة، وتقديم مشاهد الحساب والبعث، فأصبح الفن وسيلة بصرية وشريكاً روحياً في العقيدة، يُجسّد المعتقد ويُفعّله.

كما لعب الكهنة دوراً بالغ الأهمية في إنتاج الفن الديني وتوجيه رموزه، إذ أولوا عناية فائقة بأدق تفاصيل النقوش والتماثيل، حرصاً منهم على أن تتوافق مع العقيدة وتحمل طاقة روحية مقدسة للمؤمن، فجاءت وضعية الأيدي، وحركات الجسد، وترتيب العناصر داخل النقوش، جميعها تحمل دلالات دينية عميقة، وكان من المألوف أن يُصوَّر الكهنة وهم يمارسون الطقوس أو يقدمون القرابين للإله، في تجسيد رمزي لدورهم كحلقة وصل بين العالم الأرضي والعالم الإلهي أمام المؤمنين.

وتقول لالويت في دراستها "الفن والحياة" إن المصريين القدماء "تميزوا، دون سواهم، بقوة العقيدة الدينية وعمقها، فكلمة (ديانة) كانت تعني التعامل، والصلة التي تربط بين البشر والإله".

وتضيف لالويت في دراستها "الفراعنة في زمن الملوك الآلهة" أن الفن المصري "فن نفعي، ولكن نفعيته على أكبر قدر من السمو، إنه فن يلعب دور الوسيط بتطلعه إلى الخلود، الأمر الذي يفسر وجود أعداد كبيرة من التماثيل والاهتمام بتشابهها فيما يتعلق بالوجه على الأقل، في حين كان من الممكن تجميل الجسد بعض الشيء، لضمان أن يحيا الإنسان شباباً أبدياً، وهو ما يفسر أيضاً مبادئ التعبير التصويري".

إن الروابط الوثيقة القائمة بين الملك والإله، هي الأصل الذي نشأت عنه كثير من الإبداعات التشكيلية الفنية التي بلغت أحياناً حداً فريداً من الشموخ، فنذكر على سبيل المثال تمثال الملك خعفرع (2437-2414 قبل الميلاد) المتربع على عرشه، ويظهر صقر الأسرة الملكية وهو يبسط جناحيه خلف رأس الملك لينقل له القوة الروحية، كما يشكل جناحا الطائر الإلهي وحدة متناغمة مع غطاء رأس الملك كإيماءة إلى الاتحاد الطبيعي الذي لا ينفصم بين الإله والملك.

وتقول لالويت: "الفن المصري ليس فناً سهلاً، بل يتضح أنه فن قائم على إعمال الفكر، يريد إدراك الواقع واستجلاءه، من كافة جوانبه المكانية وعبر امتداد زمني. فبعد أن يُبعث الإنسان حياً يصبح في وسعه الاستفادة من حياة الكون استفادة شاملة (للزمن الأبدي والزمن اللامحدود)، وإذا كانت طرق فناني مصر القديمة قريبة من طرق فنانينا المعاصرين، فإن البواعث التي كانت تحركهم مختلفة كل الاختلاف".

ويتّضح من خلال تتبع مسار الفن في مصر القديمة أن الفن لم يكن مجرد وسيلة زخرفية لا معنى لها، بل يحمل بُعداً أعمق وأقوى، يجمع بين السلطة والإيمان، استخدمه الملوك في ترسيخ حكمهم، وبث رسائل سياسية تؤكد قوتهم ومكانتهم الإلهية، في حين استُخدم نفس الفن لتوصيل معتقدات دينية، وتأكيد الصلة بين الإنسان والإله، وتوثيق رحلة الروح بعد الموت، وبذلك، أصبح الفن في الحضارة المصرية القديمة "لغة بصرية" كاملة، تنطق بكلمات لا تفوه بها الشفاه، وتُخلِّد رؤية مجتمع عاش على التوازن بين الحكم والقداسة، وبين الأرضي والسماوي، وبين الزمني والأبدي.

التعليقات