صناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمع

صناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمع
صناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمع

بقلم: حلمي أبو طه

في مجتمعاتنا، تتكرر ظاهرة غريبة لكنها ليست عشوائية، حيث يُصنع الأبطال الزائفون بينما يُقصى الصادقون. نجد أنفسنا أمام واقع تُعاد فيه صياغة مفاهيم الخير والشر، لا وفقًا للقيم والمبادئ، بل استناداً إلى العاطفة والانحيازيات الشخصية. في هذا السياق المشوَّه يتحول الشخص الغير سوي إلى "بطل وقائد ملهم" ويُقدَّم في ثوب الضحية. ضحية للظروف بدلاً من محاسبته على أفعاله، بينما يُنظر إلى الشخص الصادق والأمين " نظرة ازدراء، بوصفه شخصاً خارجاً عن السرب لمجرد أنه لا يزين الواقع بأوهام جميلة، أو لا يشارك في لعبة المجاملات الزائفة. ويُدفع به إلى هامش الصورة.

المشكلة الأساسية تكمن في أن العاطفة أصبحت المحرك الأساسي للحكم على الأشخاص والأحداث، فلم نعد نحكم على الأشخاص والمواقف من خلال معيار القيم والمصداقية، بل من خلال الشكل والأسلوب. والانطباع السريع أصبح للمظهر الخارجي والكاريزما سحر خاص يُغري الجماهير. بالمقابل حين يظهر من يتحدث بوضوح وشفافية عن المشكلات، فإنه يُوصف غالباً بالهمجية أو السذاجة، أو "غير دبلوماسي"، وكأن الصراحة باتت تُحسب على أنها قلة وعي أو عدم فهم "للعبة". هذه المعادلة المختلة تُنتج بيئة لا تحتمل المواجهة، حيث يتم الترويج للتزييف كوسيلة للبقاء. والنزاهة ترفاً لا مكان له في واقعنا.

وفي ميدان علم السياسة والإدارة، تتجلى هذه الظاهرة وتظهر أكثر وضوحاً، إذ يُصنع القادة أحياناً على أسس دعائية وفقاً لقدرتهم على تحريك الإعلام وتوجيه الرأي العام، بدلاً من أسس كفاءة حقيقية، أو رؤاهم الإصلاحية. حيث يصبح الصوت العالي بديلاً عن الفعل، والشعارات بديلاً عن الخطط، والعلاقات بديلاً عن الإنجازات. يُمنح الولاء الأولوية على الكفاءة، وتُصبح الجرأة في كشف الخلل خطراً يهدد الاستقرار، في حين أن السكوت على الفساد يعتبر "حنكة سياسية". وهكذا يتم إقصاء العقول القادرة على الإصلاح لصالح شخصيات تجيد التلاعب بالرأي العام، مما يعمّق أزمة الإدارة ويؤدي إلى ترسيخ الفشل على أنه الوضع الطبيعي.

ولعلّ الأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة لم تعد حبيسة الدوائر السياسية والإدارية، بل أصبحت نمطاً ثقافياً يتسرب إلى الحياة اليومية. حين يصبح معيار النجاح هو القدرة على دغدغة المشاعر وتجميل الكلمات، بدلاً من الالتزام، والمثابرة، والإنتاج الحقيقي. مما يخلق فجوة بين الواقع والمتطلبات الفعلية للتقدم، ويزرع بذور الإحباط في نفوس الشباب. مما يؤدي إلى فقدان الأفراد الثقة بالمجتمع ومؤسساته. فتنتشر ثقافة الإحباط، حيث يدرك أصحاب الكفاءة أنهم لن يحصلوا على فرصتهم إلا إذا خضعوا لمنطق التملق أو التخلي عن قناعاتهم، وأن ذلك هو الطريق الأسرع إلى "النجاح"، بينما يصبح "الناجح" هو من يجيد التلاعب بمشاعر الناس لا من يمتلك الحلول الفعلية.

ولا يمكن الحديث عن هذه الظاهرة دون الإشارة إلى دور "صناعة الصورة" الحديثة — من الإعلام إلى الدراما والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي. فكم من فيلم مجّد شخصية فاسدة بوصفها ضحية ظروف؟ وكم من مسلسل أظهر الانتهازي الذكي كبطل شعبي؟ وكم من نجم على مواقع التواصل بنى مجده على الإثارة والسطحية، بينما يظل أصحاب الفكر والمضمون الحقيقي بعيدين عن الضوء؟ هذه الرسائل المتراكمة تعيد تشكيل وعي الأجيال، وتُشوه مفاهيم النجاح والبطولة والنزاهة. الفن والإعلام ليسا مطالبين بأن يكونا أدوات دعاية، ولكن حين يتحولان إلى منصات لتمجيد الخداع وتلميع الزيف، فإنهما يصبحان جزءاً من المأزق، لا من الحل. إنهما يسهمان، عن قصد أو غير قصد، في تكريس النموذج المقلوب: حيث يصبح المزيف بطلاً، والحقيقي عبئاً.

ما نحتاجه اليوم ليس مجرد تصحيح مفاهيم، بل إعادة بناء وعي شامل يُعيد التوازن بين العاطفة والعقل، بين التعاطف والعدل، وبين الهوية والانفتاح. حيث لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض وهو يكرّس التزييف ويقصي المصلحين، ويكافئ المتلونين. فالقوة الحقيقية لا تأتي من صناعة أوهام، بل من مواجهة الحقائق والعمل على تحسينها. الحل يبدأ بإعادة الاعتبار للقيم الحقيقية: الكفاءة، الصدق، والاستحقاق، بحيث يصبح النجاح مرتبطاً بالقدرة على تحقيق التغيير الحقيقي وبإحداث الأثر، لا القدرة على جذب التعاطف العابر. فخطر الأبطال الزائفين، لا يكمن في وجودهم، بل في أن المجتمع يصدقهم ويمنحهم شرعية لا يستحقونها، ويقصي من يمتلك القدرة على الإصلاح، وهنا يكون التحدي الحقيقي: هل نملك الشجاعة لكسر هذه الحلقة وإعادة الأمور إلى نصابها؟

التعليقات