فلسفة المصلحة

فلسفة المصلحة
د. إياد أبو الهنود
في قلب المأساة الفلسطينية المتجددة، حيث تُرتكب حرب إبادة مكتملة الأركان، لا تزال بعض الأطراف تصر على تمترسها خلف حسابات ضيقة تُقدّم مصلحة الفئة أو التنظيم على حساب المصلحة العامة لشعب بأسره، وتُطرح مبررات من قبيل "تعسّر المفاوضات"، أو "تباين الأولويات"، وكأنّ القرار الوطني بات رهينة لموازين داخلية لا لضرورات الكرامة الجماعية والبقاء.
في هذا المشهد المعقّد، تُطرح تساؤلات جوهرية: كيف نُعيد تعريف المصلحة؟ ومن يملك حق تقديرها؟ وهل يمكن للمصلحة أن تكون بوابة نجاة، أم معول هدم حين تُختزل في خلاص فئوي أو ذاتي؟
في أدبيات العلوم السياسية، تُبنى العلاقات بين الدول على قاعدة المصالح، وقد تتجلى هذه المصالح في صورة أهداف ذاتية تُقدّر من منظور كل طرف، أو مصالح مشتركة تتقاطع في أطر التعاون أو الصراع، ولطالما وُصم العمل السياسي بأنه “لا أخلاقي” بطبيعته، نظراً لما يتضمّنه من براغماتية وتبدّل في المواقف.
غير أن هذا الوصف، في تقديري، ينطوي على تبسيط مخل وظلم بيّن؛ إذ لولا نشوء العمل السياسي، كفنٍّ لإدارة الشأن العام وتنظيم المصالح وتوازن القوى، لما انتظمت الحياة بين الجماعات، ولغلبت شريعة الغاب، ولتحولت المجتمعات إلى ميادين للنجاة الفردية بأي ثمن.
بل إننا، إذا ما تعمقنا في النظر، نجد أن هناك مقاربات عديدة بين الفقه السياسي والفكر الإسلامي، الذي يتمحور في جوهره حول القيم الأخلاقية، ويكفي أن نتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، لندرك أن الأخلاق ليست ترفًا، بل هي عماد الرسالة وأساس البناء المجتمعي.
وفي الفقه الإسلامي قاعدة راسخة: جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي قاعدة ذات بعد أخلاقي عميق، لا تفصل بين الوسيلة والغاية، بل تشترط التوازن بينهما، كما أن فقه الأولويات، وما يتضمنه من مراعاة للواقع وتقدير للظروف، يؤكد على ضرورة تقديم مصلحة الجماعة على نزوات الأفراد أو مصالحهم الآنية.
وهذه المقاربة الأخلاقية تتجلى بأسمى صورها حين تُعلَى قيمة العمل الجمعي على حساب النزعة الفردية أو الحزبية أو الطائفية أو الفئوية الضيقة.
الفرق شاسع، بل جوهري، بين من ينطلق من رؤية مصلحية ضيقة تبرر له تغليب “خلاصه الخاص”، وبين من يُدرك أن خلاصه الحقيقي لا يتحقق إلا بخلاص المجتمع بأسره، فالمصلحة العامة لا تُقاس بالربح السياسي المؤقت، ولا تُجزَّأ على مقاسات التكتلات، بل تُبنى على سؤال: كيف نُبقي على الإنسان لنحمي المجتمع؟ وكيف نحفظ الكيان الجمعي لنصون مستقبل الكرامة الوطنية؟
هذا المقال ينطلق من فلسفة الحياة، لا فلسفة الموت، فالرغبة في النجاة، إذا اختُزلت في خلاص فردي أو فئوي، ستقود حتمًا إلى انهيار البنية الجامعة، وما أسرع ما تنهار المجتمعات حين تُدار بمنطق الأنانية السياسية أو العناد الأيديولوجي، حتى وإن بدا أحيانًا من طبائع البشر.
لكن الوطنية الحقة لا تستقيم مع العناد، ولا مع قصر النظر، ولا مع تغليب الذات على الكل، بل تستقيم فقط حين نُعيد تعريف المصلحة في ضوء القيم، وحين ندرك أن أقصر الطرق إلى النجاة هو طريق الجماعة، لا طريق الفرد.
د. إياد أبو الهنود
في قلب المأساة الفلسطينية المتجددة، حيث تُرتكب حرب إبادة مكتملة الأركان، لا تزال بعض الأطراف تصر على تمترسها خلف حسابات ضيقة تُقدّم مصلحة الفئة أو التنظيم على حساب المصلحة العامة لشعب بأسره، وتُطرح مبررات من قبيل "تعسّر المفاوضات"، أو "تباين الأولويات"، وكأنّ القرار الوطني بات رهينة لموازين داخلية لا لضرورات الكرامة الجماعية والبقاء.
في هذا المشهد المعقّد، تُطرح تساؤلات جوهرية: كيف نُعيد تعريف المصلحة؟ ومن يملك حق تقديرها؟ وهل يمكن للمصلحة أن تكون بوابة نجاة، أم معول هدم حين تُختزل في خلاص فئوي أو ذاتي؟
في أدبيات العلوم السياسية، تُبنى العلاقات بين الدول على قاعدة المصالح، وقد تتجلى هذه المصالح في صورة أهداف ذاتية تُقدّر من منظور كل طرف، أو مصالح مشتركة تتقاطع في أطر التعاون أو الصراع، ولطالما وُصم العمل السياسي بأنه “لا أخلاقي” بطبيعته، نظراً لما يتضمّنه من براغماتية وتبدّل في المواقف.
غير أن هذا الوصف، في تقديري، ينطوي على تبسيط مخل وظلم بيّن؛ إذ لولا نشوء العمل السياسي، كفنٍّ لإدارة الشأن العام وتنظيم المصالح وتوازن القوى، لما انتظمت الحياة بين الجماعات، ولغلبت شريعة الغاب، ولتحولت المجتمعات إلى ميادين للنجاة الفردية بأي ثمن.
بل إننا، إذا ما تعمقنا في النظر، نجد أن هناك مقاربات عديدة بين الفقه السياسي والفكر الإسلامي، الذي يتمحور في جوهره حول القيم الأخلاقية، ويكفي أن نتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، لندرك أن الأخلاق ليست ترفًا، بل هي عماد الرسالة وأساس البناء المجتمعي.
وفي الفقه الإسلامي قاعدة راسخة: جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي قاعدة ذات بعد أخلاقي عميق، لا تفصل بين الوسيلة والغاية، بل تشترط التوازن بينهما، كما أن فقه الأولويات، وما يتضمنه من مراعاة للواقع وتقدير للظروف، يؤكد على ضرورة تقديم مصلحة الجماعة على نزوات الأفراد أو مصالحهم الآنية.
وهذه المقاربة الأخلاقية تتجلى بأسمى صورها حين تُعلَى قيمة العمل الجمعي على حساب النزعة الفردية أو الحزبية أو الطائفية أو الفئوية الضيقة.
الفرق شاسع، بل جوهري، بين من ينطلق من رؤية مصلحية ضيقة تبرر له تغليب “خلاصه الخاص”، وبين من يُدرك أن خلاصه الحقيقي لا يتحقق إلا بخلاص المجتمع بأسره، فالمصلحة العامة لا تُقاس بالربح السياسي المؤقت، ولا تُجزَّأ على مقاسات التكتلات، بل تُبنى على سؤال: كيف نُبقي على الإنسان لنحمي المجتمع؟ وكيف نحفظ الكيان الجمعي لنصون مستقبل الكرامة الوطنية؟
هذا المقال ينطلق من فلسفة الحياة، لا فلسفة الموت، فالرغبة في النجاة، إذا اختُزلت في خلاص فردي أو فئوي، ستقود حتمًا إلى انهيار البنية الجامعة، وما أسرع ما تنهار المجتمعات حين تُدار بمنطق الأنانية السياسية أو العناد الأيديولوجي، حتى وإن بدا أحيانًا من طبائع البشر.
لكن الوطنية الحقة لا تستقيم مع العناد، ولا مع قصر النظر، ولا مع تغليب الذات على الكل، بل تستقيم فقط حين نُعيد تعريف المصلحة في ضوء القيم، وحين ندرك أن أقصر الطرق إلى النجاة هو طريق الجماعة، لا طريق الفرد.
التعليقات