قائد لا قيادي

قائد لا قيادي
بقلم: د. إياد أبو الهنود
منذ أن بدأت ملامح الكيان الاجتماعي تتشكّل، من الأسرة إلى القبيلة فالعشيرة، برز “الأب” بوصفه أول تجلٍّ للقيادة، غير أن الأب لم يكن دومًا واحدًا في المعنى والدور؛ فثمة من تولّى المسؤولية بحسّ عميق، يرعى ويحمي ويوفّر، لا بعينه فقط بل ببصيرته، وثمة من اكتفى بأداء وظيفة سطحية، يسدّ الرمق ويغيب حين تشتدّ الحاجة.
ومع تطوّر المجتمعات، وانتقال مركز الثقل من العائلة إلى الدولة أو التنظيم، تغيّر اسم الدور ولم تتغيّر حقيقته: من “أب” إلى “قائد”، لكن الفارق ظلّ حاضرًا؛ فكما لم يكن كل أب أبًا، لم يكن كل من لُقِّب بـ”قيادي” قائدًا فعليًا، وهنا يبرز السؤال: ما الفرق بين القائد والقيادي؟
القائد هو من يملك بصيرة ورؤية تتجاوز اللحظة، من يُلهم الناس بالفعل لا بالقول، ويتقدّم الصفوف قبل أن يُطلب منه؛ شرعيته لا تنبع من موقع حزبي أو تكليف تنظيمي، بل من ثقة الناس به وتأثيره فيهم.
في المقابل، “القيادي” غالبًا ما يكون مجرد صاحب لقب، يدور حيث تدور التعليمات، ويكتفي بلغة الخطب والاجتماعات دون أن يخطو خطوة واحدة إلى ساحة الفعل الحقيقي.
في الحالة الفلسطينية، بات هذا الفرق أكثر إيلامًا من أي وقت مضى، ففي خضمّ ما تتعرض له غزة من أبشع صنوف الإبادة الجماعية، حيث يُهدم البيت تلو الآخر على رؤوس ساكنيه، برز القادة الحقيقيون في الظلال: مسعف يشقّ طريقه وسط الركام لإنقاذ مصاب دون ضمان نجاته الشخصية، وطبيب في مستشفى مدمّر يُصرّ على إجراء عملية رغم قلة الأدوات، وأب يسعى جاهدًا لتأمين المأوى والطعام لأسرته وذويه بشق الأنفس، وأمّ تطعم أبناءها من فتات الخبز وتمنحهم الأمل، ومعلّم يواصل درسه رغم غياب المدرسة، وناشط يوثّق الجرائم رغم التهديد، ليصبح هدفًا للاعتقال أو القتل، هؤلاء لا يحملون ألقابًا، لكنهم يمارسون القيادة بالفعل، ويكتبون التاريخ بالدم والكدّ لا بالبيانات والحوارات الفارغة.
في المقابل، وعلى مسرح السياسة والميدان، برز شكلٌ آخر من أشكال “القيادة”، تمثّل في إدارة الصراع وضبط الإيقاع، كما تجلّى في مواقف القيادة الرسمية الفلسطينية – ممثَّلة في منظمة التحرير– التي، رغم ما تتعرض له من ضغوط هائلة وسياسات تهدف إلى تقويض سلطاتها ومحاصرة دورها، اختارت عدم الانجرار إلى مواجهة شاملة في الضفة الغربية، على الرغم من الاقتحامات والاجتياحات والاستفزازات المتكررة.
ورغم أن البعض رأى في ذلك تراجعًا، فإن آخرين اعتبروه موقفًا عقلانيًّا نابعًا من وعيٍ بطبيعة المشروع الإسرائيلي الساعي إلى استدراج الفلسطينيين إلى صدام دموي يُجهز على ما تبقّى من مقومات القضية، ومن إدراكٍ لموازين القوى الدولية التي تُعلي من شأن المصلحة على حساب المبادئ.
ولذلك، لجأت القيادة إلى أدوات بديلة: العمل الدبلوماسي، والتحشيد الشعبي، وتفعيل القانون الدولي، مسجّلة حضورًا متواصلًا في المحافل الدولية، وقدّمت ملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها، ونسّقت جهودها مع الأطراف الدولية والإقليمية والعربية لوقف المقتلة وضمان إدخال المساعدات إلى غزة.
ورغم محدودية أدوات الفعل المباشر، فقد حافظت هذه الجهود على صورة فلسطين كقضية تحرّر، وواجهت محاولات طمسها أو اختزالها، رافضة الانجرار إلى ردود أفعال انفعالية، ومتمسكة بخطاب الدولة وشرعية القانون.
إن الفعل المدروس، مهما بدا محدودًا، يبقى أقوى من الصمت أو العدمية، ويُبقي القضية حيّة في وجه محاولات تطبيع اللامبالاة مع الإبادة.
هنا تتجلّى القيادة بصيغة مختلفة: ليست بالهتاف، بل بضبط الإيقاع، وكبح الفعل حين يخدم العدو، وإفشال المخطط لا الانزلاق إليه، فإن كنت تدرك أهداف عدوك وتسعى لإفشالها، فإن التحكّم في التوقيت والسياق يصبح من أرقى مراتب القيادة؛ فليس كل من يردّ قائدًا، ولا كل من يصمت جبانًا؛ الفارق يكمن في الوعي، والنية، والبوصلة.
أما “القياديون”، فكثير منهم غابوا خلف الميكروفونات، أو ظهروا فقط لتوزيع اللوم، أو لتبرير العجز، أو لمناورة سياسية جديدة؛ بين من يفاوض على صموده، ومن يساوم على دمه، ضاعت بوصلة القيادة.
القيادة لا تُمنح، بل تُكتسب بالفعل والتضحية والرؤية، ولا خلاص لنا إلا حين نختار من يقودنا نحو الحياة، لا من يقود خطانا إلى الخطابة والمراوحة.
قد يبدو الحديث اليوم عن آليات تمكين القيادات الناشئة من رحم المعاناة رفاهيةً لا وقت لها، في ظلّ تصاعد العدوان، وسقوط الضحايا، وانشغال الجميع بهول الفاجعة.
لكن تسليم أنفسنا لمنطق اللحظة وحده، دون نظرة تستشرف اليوم التالي، هو في ذاته شكلٌ من أشكال العجز؛ فالبصر وحده لا يكفي، بل لا بد من البصيرة التي ترى ما بعد الرماد.
إن الفوضى العارمة التي يسعى الاحتلال إلى ترسيخها، عبر تكريس التخلف، وضرب النسيج الاجتماعي، ودفع الأمور نحو الاقتتال الداخلي، قد تبلغ مداها في سيناريوهات الحرب الأهلية التي يُراد لها أن تكون “البديل الذاتي” عن الاحتلال المباشر، وهذا يستدعي مقاومة واعية، لا تكتفي برفض الواقع، بل تبادر إلى إعادة تنظيم الصفوف، حتى وإن بدا ذلك، للوهلة الأولى، ضربًا من المستحيل.
ومن هنا، فإن أحد أبرز التحديات الوطنية اليوم هو الشروع الفوري في تحويل دينامية الفعل الشعبي إلى مسار قيادي منظّم؛ البداية تكون برصد القيادات الميدانية التي برزت في العمل الإغاثي، والطبي، والإعلامي، والمجتمعي، دون أضواء أو تكليف رسمي، هؤلاء لا بد أن يُنظر إليهم لا كأبطال لحظة، بل كنواة لقيادة جديدة تعبّر عن الوجدان الشعبي.
ولتحويل هذا الرصد إلى مسار بنّاء، لا بد من تفعيل آليات مجتمعية مرنة، مستقلة عن المعايير الحزبية الضيقة، قادرة على التقاط هذه المبادرات وتوثيقها ومرافقتها، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تمكين مؤسسات الشرعية الفلسطينية من أداء هذا الدور، عبر تطوير أدوات تقييم تستند إلى الفعل الملموس والتأثير الفعلي.
تأتي بعد ذلك خطوة التأهيل؛ إذ لا يكفي احتضان الكفاءات، بل لا بد من الاستثمار في تطويرها، نحتاج إلى برامج تدريبية متدرجة، تنطلق من المهارات الأساسية في الإدارة والعمل المجتمعي، وتصل إلى بناء القدرات السياسية والفكرية، بما يتيح لهذه القيادات الصاعدة التهيؤ لتحمّل المسؤولية الوطنية مستقبلًا بكفاءة واقتدار.
ثم يأتي التمكين، لا كمنحة فوقية بل كالتزام وطني، يفتح المجال لهذه الطاقات للمشاركة الفاعلة في صنع القرار، عبر إدماجها في الأطر التمثيلية، وتوفير الدعم السياسي واللوجستي والمعنوي، وإزالة العوائق البيروقراطية والحزبية والثقافية التي تعيق صعودها.
ولكي يستدام هذا المسار، لا بد من تكريس المشروع الوطني من خلال تعزيز أسس الديمقراطية التي تضمن التجديد القيادي والتداول، وتحافظ على استقلالية القرار الوطني، وتوازن بين أشكال المقاومة المختلفة: الشعبية، السياسية، والقانونية؛ وبذلك، لا تبقى القيادة الميدانية على الهامش، بل تصبح شريكًا في صناعة القرار، ورافعةً لمشروع وطني جامع قادر على مواجهة الاحتلال وتبعاته، لا بردود الأفعال، بل بإرادة واعية واستراتيجية.
أما إذا تُركت هذه المبادرات دون رعاية وتأطير، فإننا سنكون أمام خطر حقيقي: غياب الترجمة المؤسسية للفعل الشعبي، واتساع فجوة الثقة بين الناس والبنى الرسمية، وفتح الباب أمام قوى الأمر الواقع أو التدخلات الخارجية لملء فراغ القيادة؛ وهذا يعني، ببساطة، إعادة إنتاج الإخفاق، وتفويت فرصة ثمينة لبناء قيادة فلسطينية نابعة من التجربة.
إن من يقود في الزمن الأصعب لا يحتاج إلى ألقاب، بل إلى ضمير حيّ وبوصلة صادقة؛ وهؤلاء، لا سواهم، هم قادة الحياة، لا خطباء الموت.
أما إذا تُركت هذه المبادرات دون رعاية وتأطير، فإننا سنكون أمام خطر حقيقي: غياب الترجمة المؤسسية للفعل الشعبي، واتساع فجوة الثقة بين الناس والبنى الرسمية، وفتح الباب أمام قوى الأمر الواقع أو التدخلات الخارجية لملء فراغ القيادة؛ وهذا يعني، ببساطة، إعادة إنتاج الإخفاق، وتفويت فرصة ثمينة لبناء قيادة فلسطينية نابعة من التجربة.
إن من يقود في الزمن الأصعب لا يحتاج إلى ألقاب، بل إلى ضمير حيّ وبوصلة صادقة؛ وهؤلاء، لا سواهم، هم قادة الحياة، لا خطباء الموت.
بقلم: د. إياد أبو الهنود
منذ أن بدأت ملامح الكيان الاجتماعي تتشكّل، من الأسرة إلى القبيلة فالعشيرة، برز “الأب” بوصفه أول تجلٍّ للقيادة، غير أن الأب لم يكن دومًا واحدًا في المعنى والدور؛ فثمة من تولّى المسؤولية بحسّ عميق، يرعى ويحمي ويوفّر، لا بعينه فقط بل ببصيرته، وثمة من اكتفى بأداء وظيفة سطحية، يسدّ الرمق ويغيب حين تشتدّ الحاجة.
ومع تطوّر المجتمعات، وانتقال مركز الثقل من العائلة إلى الدولة أو التنظيم، تغيّر اسم الدور ولم تتغيّر حقيقته: من “أب” إلى “قائد”، لكن الفارق ظلّ حاضرًا؛ فكما لم يكن كل أب أبًا، لم يكن كل من لُقِّب بـ”قيادي” قائدًا فعليًا، وهنا يبرز السؤال: ما الفرق بين القائد والقيادي؟
القائد هو من يملك بصيرة ورؤية تتجاوز اللحظة، من يُلهم الناس بالفعل لا بالقول، ويتقدّم الصفوف قبل أن يُطلب منه؛ شرعيته لا تنبع من موقع حزبي أو تكليف تنظيمي، بل من ثقة الناس به وتأثيره فيهم.
في المقابل، “القيادي” غالبًا ما يكون مجرد صاحب لقب، يدور حيث تدور التعليمات، ويكتفي بلغة الخطب والاجتماعات دون أن يخطو خطوة واحدة إلى ساحة الفعل الحقيقي.
في الحالة الفلسطينية، بات هذا الفرق أكثر إيلامًا من أي وقت مضى، ففي خضمّ ما تتعرض له غزة من أبشع صنوف الإبادة الجماعية، حيث يُهدم البيت تلو الآخر على رؤوس ساكنيه، برز القادة الحقيقيون في الظلال: مسعف يشقّ طريقه وسط الركام لإنقاذ مصاب دون ضمان نجاته الشخصية، وطبيب في مستشفى مدمّر يُصرّ على إجراء عملية رغم قلة الأدوات، وأب يسعى جاهدًا لتأمين المأوى والطعام لأسرته وذويه بشق الأنفس، وأمّ تطعم أبناءها من فتات الخبز وتمنحهم الأمل، ومعلّم يواصل درسه رغم غياب المدرسة، وناشط يوثّق الجرائم رغم التهديد، ليصبح هدفًا للاعتقال أو القتل، هؤلاء لا يحملون ألقابًا، لكنهم يمارسون القيادة بالفعل، ويكتبون التاريخ بالدم والكدّ لا بالبيانات والحوارات الفارغة.
في المقابل، وعلى مسرح السياسة والميدان، برز شكلٌ آخر من أشكال “القيادة”، تمثّل في إدارة الصراع وضبط الإيقاع، كما تجلّى في مواقف القيادة الرسمية الفلسطينية – ممثَّلة في منظمة التحرير– التي، رغم ما تتعرض له من ضغوط هائلة وسياسات تهدف إلى تقويض سلطاتها ومحاصرة دورها، اختارت عدم الانجرار إلى مواجهة شاملة في الضفة الغربية، على الرغم من الاقتحامات والاجتياحات والاستفزازات المتكررة.
ورغم أن البعض رأى في ذلك تراجعًا، فإن آخرين اعتبروه موقفًا عقلانيًّا نابعًا من وعيٍ بطبيعة المشروع الإسرائيلي الساعي إلى استدراج الفلسطينيين إلى صدام دموي يُجهز على ما تبقّى من مقومات القضية، ومن إدراكٍ لموازين القوى الدولية التي تُعلي من شأن المصلحة على حساب المبادئ.
ولذلك، لجأت القيادة إلى أدوات بديلة: العمل الدبلوماسي، والتحشيد الشعبي، وتفعيل القانون الدولي، مسجّلة حضورًا متواصلًا في المحافل الدولية، وقدّمت ملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها، ونسّقت جهودها مع الأطراف الدولية والإقليمية والعربية لوقف المقتلة وضمان إدخال المساعدات إلى غزة.
ورغم محدودية أدوات الفعل المباشر، فقد حافظت هذه الجهود على صورة فلسطين كقضية تحرّر، وواجهت محاولات طمسها أو اختزالها، رافضة الانجرار إلى ردود أفعال انفعالية، ومتمسكة بخطاب الدولة وشرعية القانون.
إن الفعل المدروس، مهما بدا محدودًا، يبقى أقوى من الصمت أو العدمية، ويُبقي القضية حيّة في وجه محاولات تطبيع اللامبالاة مع الإبادة.
هنا تتجلّى القيادة بصيغة مختلفة: ليست بالهتاف، بل بضبط الإيقاع، وكبح الفعل حين يخدم العدو، وإفشال المخطط لا الانزلاق إليه، فإن كنت تدرك أهداف عدوك وتسعى لإفشالها، فإن التحكّم في التوقيت والسياق يصبح من أرقى مراتب القيادة؛ فليس كل من يردّ قائدًا، ولا كل من يصمت جبانًا؛ الفارق يكمن في الوعي، والنية، والبوصلة.
أما “القياديون”، فكثير منهم غابوا خلف الميكروفونات، أو ظهروا فقط لتوزيع اللوم، أو لتبرير العجز، أو لمناورة سياسية جديدة؛ بين من يفاوض على صموده، ومن يساوم على دمه، ضاعت بوصلة القيادة.
القيادة لا تُمنح، بل تُكتسب بالفعل والتضحية والرؤية، ولا خلاص لنا إلا حين نختار من يقودنا نحو الحياة، لا من يقود خطانا إلى الخطابة والمراوحة.
قد يبدو الحديث اليوم عن آليات تمكين القيادات الناشئة من رحم المعاناة رفاهيةً لا وقت لها، في ظلّ تصاعد العدوان، وسقوط الضحايا، وانشغال الجميع بهول الفاجعة.
لكن تسليم أنفسنا لمنطق اللحظة وحده، دون نظرة تستشرف اليوم التالي، هو في ذاته شكلٌ من أشكال العجز؛ فالبصر وحده لا يكفي، بل لا بد من البصيرة التي ترى ما بعد الرماد.
إن الفوضى العارمة التي يسعى الاحتلال إلى ترسيخها، عبر تكريس التخلف، وضرب النسيج الاجتماعي، ودفع الأمور نحو الاقتتال الداخلي، قد تبلغ مداها في سيناريوهات الحرب الأهلية التي يُراد لها أن تكون “البديل الذاتي” عن الاحتلال المباشر، وهذا يستدعي مقاومة واعية، لا تكتفي برفض الواقع، بل تبادر إلى إعادة تنظيم الصفوف، حتى وإن بدا ذلك، للوهلة الأولى، ضربًا من المستحيل.
ومن هنا، فإن أحد أبرز التحديات الوطنية اليوم هو الشروع الفوري في تحويل دينامية الفعل الشعبي إلى مسار قيادي منظّم؛ البداية تكون برصد القيادات الميدانية التي برزت في العمل الإغاثي، والطبي، والإعلامي، والمجتمعي، دون أضواء أو تكليف رسمي، هؤلاء لا بد أن يُنظر إليهم لا كأبطال لحظة، بل كنواة لقيادة جديدة تعبّر عن الوجدان الشعبي.
ولتحويل هذا الرصد إلى مسار بنّاء، لا بد من تفعيل آليات مجتمعية مرنة، مستقلة عن المعايير الحزبية الضيقة، قادرة على التقاط هذه المبادرات وتوثيقها ومرافقتها، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تمكين مؤسسات الشرعية الفلسطينية من أداء هذا الدور، عبر تطوير أدوات تقييم تستند إلى الفعل الملموس والتأثير الفعلي.
تأتي بعد ذلك خطوة التأهيل؛ إذ لا يكفي احتضان الكفاءات، بل لا بد من الاستثمار في تطويرها، نحتاج إلى برامج تدريبية متدرجة، تنطلق من المهارات الأساسية في الإدارة والعمل المجتمعي، وتصل إلى بناء القدرات السياسية والفكرية، بما يتيح لهذه القيادات الصاعدة التهيؤ لتحمّل المسؤولية الوطنية مستقبلًا بكفاءة واقتدار.
ثم يأتي التمكين، لا كمنحة فوقية بل كالتزام وطني، يفتح المجال لهذه الطاقات للمشاركة الفاعلة في صنع القرار، عبر إدماجها في الأطر التمثيلية، وتوفير الدعم السياسي واللوجستي والمعنوي، وإزالة العوائق البيروقراطية والحزبية والثقافية التي تعيق صعودها.
ولكي يستدام هذا المسار، لا بد من تكريس المشروع الوطني من خلال تعزيز أسس الديمقراطية التي تضمن التجديد القيادي والتداول، وتحافظ على استقلالية القرار الوطني، وتوازن بين أشكال المقاومة المختلفة: الشعبية، السياسية، والقانونية؛ وبذلك، لا تبقى القيادة الميدانية على الهامش، بل تصبح شريكًا في صناعة القرار، ورافعةً لمشروع وطني جامع قادر على مواجهة الاحتلال وتبعاته، لا بردود الأفعال، بل بإرادة واعية واستراتيجية.
أما إذا تُركت هذه المبادرات دون رعاية وتأطير، فإننا سنكون أمام خطر حقيقي: غياب الترجمة المؤسسية للفعل الشعبي، واتساع فجوة الثقة بين الناس والبنى الرسمية، وفتح الباب أمام قوى الأمر الواقع أو التدخلات الخارجية لملء فراغ القيادة؛ وهذا يعني، ببساطة، إعادة إنتاج الإخفاق، وتفويت فرصة ثمينة لبناء قيادة فلسطينية نابعة من التجربة.
إن من يقود في الزمن الأصعب لا يحتاج إلى ألقاب، بل إلى ضمير حيّ وبوصلة صادقة؛ وهؤلاء، لا سواهم، هم قادة الحياة، لا خطباء الموت.
أما إذا تُركت هذه المبادرات دون رعاية وتأطير، فإننا سنكون أمام خطر حقيقي: غياب الترجمة المؤسسية للفعل الشعبي، واتساع فجوة الثقة بين الناس والبنى الرسمية، وفتح الباب أمام قوى الأمر الواقع أو التدخلات الخارجية لملء فراغ القيادة؛ وهذا يعني، ببساطة، إعادة إنتاج الإخفاق، وتفويت فرصة ثمينة لبناء قيادة فلسطينية نابعة من التجربة.
إن من يقود في الزمن الأصعب لا يحتاج إلى ألقاب، بل إلى ضمير حيّ وبوصلة صادقة؛ وهؤلاء، لا سواهم، هم قادة الحياة، لا خطباء الموت.
التعليقات