التطبيع العربي مع إسرائيل: من المقاطعة إلى ورقة ضغط لخدمة القضية الفلسطينية

التطبيع العربي مع إسرائيل: من المقاطعة إلى ورقة ضغط لخدمة القضية الفلسطينية
التطبيع العربي مع إسرائيل: من المقاطعة إلى ورقة ضغط لخدمة القضية الفلسطينية

بقلم/ حلمي أبو طه

لطالما اعتُبر التطبيع مع إسرائيل قضيةً حساسة في الوعي العربي، وتاريخياً ارتبط بالخيانة والخذلان والتفريط بالقضية الفلسطينية. فقد نشأت سردية جماهيرية وسياسية ترى في أي علاقة مع إسرائيل خروجاً عن الثوابت، وتفريطاً بحقوق شعب ما زال يرزح تحت الاحتلال. لكن المتغيرات الإقليمية والدولية، وتحوّلات موازين القوى، إلى جانب الجمود السياسي للقضية، وما تمر به غزة الان من حصار وابادة تدفعنا اليوم إلى إعادة التفكير– لا إلى التراجع عن المبادئ – ولا بهدف القبول المطلق بالتطبيع، بل بهدف تحويله من تنازل إلى أداة ضغط سياسية. بما يخدم المصلحة الفلسطينية العليا، بدل أن يكون مكافأة مجانية لإسرائيل، في ظل تسابق عواصم الدول العربية نحو التطبيع والتناغم مع حكومات تل ابيب. منها ما هو على استحياء ومن تحت الطاولة، ومنها ما وصل إلى التزاوج وفقط ينتظر اشهار الزواج.

ليس من الضرورة السكوت على طرح الموضوع فهو يسلط الضوء على منظور واقعي وسياسي معقد تمر به القضية الفلسطينية، وأصبح واقع نعيشه في ظل متغيرات الواقع السياسي والجغرافي بالمنطقة. ولكنا مدعوين إلى التمييز الحاسم بين التطبيع المجاني الذي تمنح فيه الدول العربية أوراقها دون مقابل، والتطبيع المشروط الذي يُدار بعقلانية استراتيجية تجعل من كل خطوة أداة ضغط لتحقيق مكتسبات وطنية وقومية. وتاريخياً الرفض المطلق للتطبيع لم يُغيّر من سلوك إسرائيل، ولم يحقق اختراقاً في ملف التسوية. بل على العكس، فإن كثير من اتفاقات التطبيع الحالية لم تربط ذلك بتنازلات إسرائيلية حقيقية تجاه الفلسطينيين، بل أعطت إسرائيل قبولاً عربياً مجانياً، مما جعل إسرائيل المستفيد الوحيد. ومن هنا، فإن التحول المطلوب هو أن تُصبح عملية التطبيع أداة تفاوض مشروطة؛ أي لا يتم إلا بمقابل واضح.

التطبيع ليس مجرد "وجهة نظر"، كما أنه ليس بالضرورة خيانة للقضية. فالأصل في الموقف العربي أن يرفض التطبيع بكل أشكاله، ومن هنا نثمّن عالياً مواقف الدول التي ما تزال ثابتة على هذا المبدأ المشرف. لكن من المهم التمييز بين شكلين مختلفين من التطبيع: فثمة فارق جوهري بين "تطبيع مجاني" و"تطبيع مشروط". الأول، يُكافئ إسرائيل بلا مقابل، فيمنحها شرعية ومكاسب دون مقابل، ويُفرغ القضية الفلسطينية من محتواها السياسي والإنساني. والثاني القائم على التطبيع المشروط، الذي يمكن – إذا أُحسن توظيفه – أن يُستخدم كورقة ضغط سياسي تفرض على إسرائيل التزامات واضحة، مثل وقف الاستيطان، والاعتراف بحدود 1967، وضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. ويُعيد إشراك الدول العربية في التأثير على مسار الصراع. يُعيد الاعتبار للحق الفلسطيني، ويُجبر إسرائيل على التعامل مع البيئة العربية لا كفضاء استراتيجي آمن، بل كساحة مشروطة بالعدل والحقوق. لذلك، فإن مناهضة كل أشكال التطبيع دون تمييز، قد تؤدي عملياً إلى خسارة أدوات التأثير، بل وحتى إلى عزل الفلسطينيين عن الحاضنة العربية الفاعلة. فالمطلوب ليس التطبيع بحد ذاته، بل كيفية توظيفه في خدمة القضية، وضمان ألا يتحوّل من وسيلة ضغط إلى جائزة مجانية.

الرأي العام العربي اليوم، كما أظهرت بعض استطلاعات حديثة بات أكثر وعياً بالفارق بين "تطبيع من أجل مصالح آنية"، و"تطبيع مشروط يخدم القضية". ويميل إلى تأييد الانفتاح المشروط الذي يخدم الفلسطينيين، ويرفض التطبيع المجاني الذي يُهمشهم. وقد بدأت بعض الحكومات العربية في تبنّي مواقف أكثر حذراً، تُحجم فيها عن التقدم العلني دون مقابل سياسي واضح، كما هو الحال في موقف السعودية، الذي أكد مراراً أن التطبيع لن يتم دون حل عادل للقضية الفلسطينية. مما أرسل رسالة مفادها أن التطبيع ليس هدفاً بحد ذاته، بل أداة تفاوض ذات سقف سياسي واضح.  كما أن مناهضة كل أشكال التطبيع دون تمييز، قد تُفضي إلى عزل الفلسطينيين عن الحاضنة العربية الفاعلة، بدل أن تكون رافعة لهم. ومن الحكمة في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة، أن نتحلى بقدرٍ من البراغماتية السياسية، التي لا تنسف الثوابت، بل توظف الممكن لتحقيق ما هو ضروري.
رفض التطبيع بشكل عاطفي ومطلق، دون طرح أدوات ضغط بديلة أو مواقف سياسية عملية، يُضعف فرص الفلسطينيين في أي تسوية مستقبلية. كما أنه يُتيح لإسرائيل بناء شبكة علاقات بديلة مع قوى إقليمية ودولية دون الحاجة للرضوخ لأي مطالب حقوقية. فالتطبيع مع إسرائيل يجب ألا يكون هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة تُوظف في إطار خطة سياسية مدروسة لخدمة القضية الفلسطينية. وبدلاً من أن نُدين الدول التي تُطبع، يجب أن نُطالب بأن يكون تطبيعها مشروطاً ومرتبطاً بمكتسبات للفلسطينيين.

الواجب السياسي والإداري اليوم هو إعادة هندسة العلاقة العربية مع إسرائيل، عبر توظيف أدوات التأثير المتاحة، وتحويل التطبيع – إن جرى – إلى ورقة تفاوضية ملزمة، يُشترط فيها تحقيق مطالب فلسطينية محددة. يمثل خياراً واقعياً يستحق الدراسة لا الإدانة المطلقة. ولتكن رسالتنا واضحة: لسنا ضد السلام، بل ضد الاستسلام، ولسنا ضد العلاقات المشروطة، بل ضد تقديم الجوائز السياسية بالمجان. والقضية اليوم بحاجة إلى عقل سياسي، يوازن بين الثوابت والفرص، بين المبادئ والتكتيك، ويُدير معركة الوعي والسياسة بعين على الهدف الأسمى: فلسطين حرة، ذات سيادة، ومعترف بها في وجدان الأمة كما في خرائط العالم.

التعليقات