غزة تجاوزت عض الأصابع.. ولحظة كسر العظم

غزة تجاوزت عض الأصابع.. ولحظة كسر العظم
بقلم/ حلمي أبو طه
في غزة لم نعد نعيش مرحلة "عض الأصابع"، فقد عبرناها منذ زمن. كما تجاوزنا لحظة "كسر العظم" بكل ما فيها من وجع وألم وخذلان. فلم يعد هناك لحم يُؤكل ولا جلد يُسلخ. فقد صار الجرح مكشوفاً على الهواء، والدماء تسيل كأنها طقس يومي مقدّر لا مفَرّ منه. لم نعد نهاب الموت، بل نتمناه بأي هيئة كانت، فقد بلغنا مرحلة الفراغ، حيث تتساوى الأشياء، ويتلاشى المعنى. الأمن صار وهماً يتهاوى، والأمان ذكرى منقرضة، والمستقبل كلمة جوفاء تُردّد في نشرات الأخبار بينما يغيب أثرها عن واقع مليوني ونصف إنسان محاصر، يغالبون وجعهم في صمتٍ وعجزاً عن الصراخ. وكأنّ إنسانية غزة عُزلت عن جغرافيا الاهتمام.
تجاوز الاحتلال الإسرائيلي كل حدود الممكنة للبشاعة. يُمارس القتل والتهجير والتدمير بشكل ممنهج، وبأسلوبٍ موثق، أمام أعين العالم. أكثر من ستين ألف شهيد خلال أشهر قليلة، نصفهم من الأطفال والنساء، بحسب تقارير موثوقة للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. مدن كاملة مسحت، مستشفيات دُمّرت، مدارس وجامعات تحولت إلى ركام، وجثث تُنتشل من تحت الأنقاض، ومن أزقة الطرقات والساحات بصمتٍ صارخ، يفضح عجز العالم، ويشهد على وحشية لا يشبهها شيء. والولايات المتحدة، راعية ما يُسمّى "السلام"، باتت الممول الأول للمجزرة، لا شريكاً في السياسة بل شريكاً في الدم. تزوّده بالسلاح والغطاء السياسي، وتمنع وقف إطلاق النار عبر فيتوهات لا تخجل. إنها شراكة موثقة بالأرقام وموقعة بالدم، شراكة باردة كالصقيع.
لكن الألم الأكبر لا يأتي فقط من العدو… بل يتسلّل من قيادات تدير الصمود من فنادق العواصم، وتخطب عن النصر من أمام الكاميرات، بينما تنهار غزة حجراً حجراً، وطفلاً تلو طفلاً. قيادة سياسية ترفض المراجعة. تلك القيادات التي اعتلت الشجرة منذ اليوم الأول، وما زالت تتشبث بأغصانها رغم احتراق الجذور. وكأن حياة أهالي غزة مرهونة بكبريائهم السياسي أو أوهام النصر المؤجل. لقد آن الأوان لكسر دائرة الوهم، والاعتراف بأن المقاومة لا تنمو في الفراغ، ولا تُدار بالعناد. فغزة لا تحتاج لمتحدثين باسمها، بل لأمناء على جرحها. ولا لمن يدير الدماء كإنجاز، بل لمن يصون الكرامة كأولوية.
اليوم نعيش مأزقاً مكتملاً: عدو لا يعرف للرحمة سبيلاً، يعيش لحظة علوه واستكباره. وحليف عربي واسلامي أُطفئت بصيرته قبل بصره، لا يسمع أنيناً ولا يتحرك لنصرة. أما المجتمع الدولي، فيقف على جثث أطفال غزة ليوازن بين المصالح والكلمات. وعلى الصعيد الداخلي، تعاني غزة من قيادة بلا بوصلة، لا تمتلك رؤية ولا مشروعاً، تدير الموت بالشعارات، والألم بالبيانات، وكأن الصوت العالي يعوّض غياب الفعل. شعبٌ تُرك وحده: يدفن أبناءه بيد، ويبحث عن حياةٍ باليد الأخرى. شعبٌ أعزل إلا من الكرامة، محاصر إلا من الصبر، ومُنهك إلا من الإيمان بأن ليل الدم – مهما طال – سينكسر.
لقد فضحت غزة، دون كثير عناء، عجز المنظومة السياسية في كل مستوياتها: فلسطينياً، عربياً، ودولياً. فشلت حماس في تقديم إدارة سياسية راشدة، وعجزت الفصائل الأخرى عن تقديم بديل وطني جامع. استهلكت القيادات وقتها في صراعات فصائلية، ونسيت أن الشعب ليس وقوداً بلا نهاية. المنظومة العربية لم تتجاوز بيانات باردة، فيما سقط القناع عن "الإنسانية" الدولية، وانكشفت انتقائية القانون وازدواجية المعايير. فغزة اليوم مرآة حقيقية: تعكس خذلان العربي، وعجز الفلسطيني، ونفاق الدولي.
ما يحدث في غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل فضيحة أخلاقية وفشل مريع لـ"النظام الدولي"، الذي يُفترض أن يحمي المدنيين. أكثر من 90% من سكان غزة أصبحوا نازحين، وفق تقارير وكالة الأونروا، في واحدة من أضخم موجات التهجير القسري في القرن الحادي والعشرين. إنها نكبة جديدة، لا تُروى في كتب التاريخ فقط، بل تُبثّ مباشرةً على شاشات العالم… بالصوت والصورة، فلا يتحرك ضمير، ولا تهتز مؤسسات، ولا تُراجع الأمم ادعاءاتها. ما نحتاجه اليوم ليس خطاباً نارياً، بل مراجعة وطنية شاملة، تنطلق من الاعتراف بالأخطاء، لا دفنها تحت ركام العناد. وتفتح الباب أمام إدارة وطنية رشيدة، موحدة، ذات كفاءة وشرعية، تحترف السياسة كما تحترف الإنسانية، وتدير العلاقات الإقليمية والدولية بعقلانية وواقعية. وتتفاعل معه بذكاء ومرونة، لا بردود الفعل ولا بمنطق التحدي الفارغ. قيادة تعرف أن التحرر لا يكون فقط بالمقاومة والبندقية، بل أيضاً ببناء مؤسساته، وخلق رواية عادلة تُقنع العالم وتحرّك ضمائر شعوبه. فالوقت لم يعد يسمح بالمراوغة، فالقضية دخلت حافة التحلل… إما أن نلملم شتاتنا وننهض بمشروع وطني جامع، أو نترك التاريخ يكتب عنا أننا كنّا أمة تفرّقت حتى وهي تنزف.
لسنا بحاجة إلى شعارات جديدة، ولا نطلب من القيادات أن تُنهي الاحتلال غداً، بل أن تُنهي وهم السيطرة وأن ترفع يدها عن رقاب الناس. وأن تكفّ عن التعامل مع غزة كأداة أو ورقة تفاوض أو ساحة لتصفية الحسابات. وأن تنزل عن الشجرة التي اعتلتها منذ سنوات، وكأن الزمن لا يتغير. فغزة لم تُخلق لتكون مسرحاً للبطولات الزائفة، ولا صندوق بريد للرسائل الساخنة. غزة تريد أن تعيش، تريد كرامة الإنسان، وحرية التنفس، وأبسط مقومات الحياة، كما كل شعوب الأرض. فإن لم يكن اليوم هو يوم الحقيقة والمراجعة، والانتصار للناس قبل أي شيء، فمتى؟ وإن لم تتحرك الضمائر الآن، في وجه المجزرة والخذلان والتواطؤ، فمتى؟ غزة لا تطلب الكثير... فقط أن تُترك لتعيش. لا تطلب أن تُحكم بالبندقية، ولا أن تُستنزف باسم "المشروع"، ولا أن تُباد باسم "المقاومة". فغزة اليوم تقول للعالم كله: لسنا طلاب موت... نحن طلاب حياة.
في غزة لم نعد نعيش مرحلة "عض الأصابع"، فقد عبرناها منذ زمن. كما تجاوزنا لحظة "كسر العظم" بكل ما فيها من وجع وألم وخذلان. فلم يعد هناك لحم يُؤكل ولا جلد يُسلخ. فقد صار الجرح مكشوفاً على الهواء، والدماء تسيل كأنها طقس يومي مقدّر لا مفَرّ منه. لم نعد نهاب الموت، بل نتمناه بأي هيئة كانت، فقد بلغنا مرحلة الفراغ، حيث تتساوى الأشياء، ويتلاشى المعنى. الأمن صار وهماً يتهاوى، والأمان ذكرى منقرضة، والمستقبل كلمة جوفاء تُردّد في نشرات الأخبار بينما يغيب أثرها عن واقع مليوني ونصف إنسان محاصر، يغالبون وجعهم في صمتٍ وعجزاً عن الصراخ. وكأنّ إنسانية غزة عُزلت عن جغرافيا الاهتمام.
تجاوز الاحتلال الإسرائيلي كل حدود الممكنة للبشاعة. يُمارس القتل والتهجير والتدمير بشكل ممنهج، وبأسلوبٍ موثق، أمام أعين العالم. أكثر من ستين ألف شهيد خلال أشهر قليلة، نصفهم من الأطفال والنساء، بحسب تقارير موثوقة للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. مدن كاملة مسحت، مستشفيات دُمّرت، مدارس وجامعات تحولت إلى ركام، وجثث تُنتشل من تحت الأنقاض، ومن أزقة الطرقات والساحات بصمتٍ صارخ، يفضح عجز العالم، ويشهد على وحشية لا يشبهها شيء. والولايات المتحدة، راعية ما يُسمّى "السلام"، باتت الممول الأول للمجزرة، لا شريكاً في السياسة بل شريكاً في الدم. تزوّده بالسلاح والغطاء السياسي، وتمنع وقف إطلاق النار عبر فيتوهات لا تخجل. إنها شراكة موثقة بالأرقام وموقعة بالدم، شراكة باردة كالصقيع.
لكن الألم الأكبر لا يأتي فقط من العدو… بل يتسلّل من قيادات تدير الصمود من فنادق العواصم، وتخطب عن النصر من أمام الكاميرات، بينما تنهار غزة حجراً حجراً، وطفلاً تلو طفلاً. قيادة سياسية ترفض المراجعة. تلك القيادات التي اعتلت الشجرة منذ اليوم الأول، وما زالت تتشبث بأغصانها رغم احتراق الجذور. وكأن حياة أهالي غزة مرهونة بكبريائهم السياسي أو أوهام النصر المؤجل. لقد آن الأوان لكسر دائرة الوهم، والاعتراف بأن المقاومة لا تنمو في الفراغ، ولا تُدار بالعناد. فغزة لا تحتاج لمتحدثين باسمها، بل لأمناء على جرحها. ولا لمن يدير الدماء كإنجاز، بل لمن يصون الكرامة كأولوية.
اليوم نعيش مأزقاً مكتملاً: عدو لا يعرف للرحمة سبيلاً، يعيش لحظة علوه واستكباره. وحليف عربي واسلامي أُطفئت بصيرته قبل بصره، لا يسمع أنيناً ولا يتحرك لنصرة. أما المجتمع الدولي، فيقف على جثث أطفال غزة ليوازن بين المصالح والكلمات. وعلى الصعيد الداخلي، تعاني غزة من قيادة بلا بوصلة، لا تمتلك رؤية ولا مشروعاً، تدير الموت بالشعارات، والألم بالبيانات، وكأن الصوت العالي يعوّض غياب الفعل. شعبٌ تُرك وحده: يدفن أبناءه بيد، ويبحث عن حياةٍ باليد الأخرى. شعبٌ أعزل إلا من الكرامة، محاصر إلا من الصبر، ومُنهك إلا من الإيمان بأن ليل الدم – مهما طال – سينكسر.
لقد فضحت غزة، دون كثير عناء، عجز المنظومة السياسية في كل مستوياتها: فلسطينياً، عربياً، ودولياً. فشلت حماس في تقديم إدارة سياسية راشدة، وعجزت الفصائل الأخرى عن تقديم بديل وطني جامع. استهلكت القيادات وقتها في صراعات فصائلية، ونسيت أن الشعب ليس وقوداً بلا نهاية. المنظومة العربية لم تتجاوز بيانات باردة، فيما سقط القناع عن "الإنسانية" الدولية، وانكشفت انتقائية القانون وازدواجية المعايير. فغزة اليوم مرآة حقيقية: تعكس خذلان العربي، وعجز الفلسطيني، ونفاق الدولي.
ما يحدث في غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل فضيحة أخلاقية وفشل مريع لـ"النظام الدولي"، الذي يُفترض أن يحمي المدنيين. أكثر من 90% من سكان غزة أصبحوا نازحين، وفق تقارير وكالة الأونروا، في واحدة من أضخم موجات التهجير القسري في القرن الحادي والعشرين. إنها نكبة جديدة، لا تُروى في كتب التاريخ فقط، بل تُبثّ مباشرةً على شاشات العالم… بالصوت والصورة، فلا يتحرك ضمير، ولا تهتز مؤسسات، ولا تُراجع الأمم ادعاءاتها. ما نحتاجه اليوم ليس خطاباً نارياً، بل مراجعة وطنية شاملة، تنطلق من الاعتراف بالأخطاء، لا دفنها تحت ركام العناد. وتفتح الباب أمام إدارة وطنية رشيدة، موحدة، ذات كفاءة وشرعية، تحترف السياسة كما تحترف الإنسانية، وتدير العلاقات الإقليمية والدولية بعقلانية وواقعية. وتتفاعل معه بذكاء ومرونة، لا بردود الفعل ولا بمنطق التحدي الفارغ. قيادة تعرف أن التحرر لا يكون فقط بالمقاومة والبندقية، بل أيضاً ببناء مؤسساته، وخلق رواية عادلة تُقنع العالم وتحرّك ضمائر شعوبه. فالوقت لم يعد يسمح بالمراوغة، فالقضية دخلت حافة التحلل… إما أن نلملم شتاتنا وننهض بمشروع وطني جامع، أو نترك التاريخ يكتب عنا أننا كنّا أمة تفرّقت حتى وهي تنزف.
لسنا بحاجة إلى شعارات جديدة، ولا نطلب من القيادات أن تُنهي الاحتلال غداً، بل أن تُنهي وهم السيطرة وأن ترفع يدها عن رقاب الناس. وأن تكفّ عن التعامل مع غزة كأداة أو ورقة تفاوض أو ساحة لتصفية الحسابات. وأن تنزل عن الشجرة التي اعتلتها منذ سنوات، وكأن الزمن لا يتغير. فغزة لم تُخلق لتكون مسرحاً للبطولات الزائفة، ولا صندوق بريد للرسائل الساخنة. غزة تريد أن تعيش، تريد كرامة الإنسان، وحرية التنفس، وأبسط مقومات الحياة، كما كل شعوب الأرض. فإن لم يكن اليوم هو يوم الحقيقة والمراجعة، والانتصار للناس قبل أي شيء، فمتى؟ وإن لم تتحرك الضمائر الآن، في وجه المجزرة والخذلان والتواطؤ، فمتى؟ غزة لا تطلب الكثير... فقط أن تُترك لتعيش. لا تطلب أن تُحكم بالبندقية، ولا أن تُستنزف باسم "المشروع"، ولا أن تُباد باسم "المقاومة". فغزة اليوم تقول للعالم كله: لسنا طلاب موت... نحن طلاب حياة.
التعليقات