زهرتا الأمل الحزين: وفاءً للشهيد أحمد شامية.. ووفاءً لغزة

زهرتا الأمل الحزين: وفاءً للشهيد أحمد شامية.. ووفاءً لغزة
زهرتا الأمل الحزين: وفاءً للشهيد أحمد شامية.. ووفاءً لغزة

بقلم/ حلمي أبو طه

في كل عمل فني، تُولد رموز تُعبّر عن صاحبها أكثر مما تنطق الكلمات. وفي رسومات المهندس أحمد شامية، كانت هناك دائماً زهرتان بلون برتقالي مشرق، ثلاث بتلات تُشبه الدموع في انحناءاتها، تنبتان على أرضٍ تبدو ساكنة، لكنها تنبض بما لا يُقال. نادراً ما خلت لوحاته منهما. لم تكن الزهرتان مجرد تفاصيل عابرة، بل كانتا، كما يبدو، مرآة لأحلامه، ونافذة أمل من قلب المعاناة.

تشهد ميادين وشوارع غزة الرئيسة في عمر المختار والوحدة والجلاء واليرموك والثلاثيني، وعلى طول ساحل وكرنيش غزة، على بصمات مهندس معماري مبدع، سخر علمه وخبرته وفنه لتجميل وجه المدينة والارتقاء بعمارتها. فقد أبدع في تصميم وتنفيذ العمارات والابراج السكنية الحديثة، والفلل الفاخرة، والشاليهات، والمولات والمراكز التجارية، ذات الطابع المميز. فكانت مشاريعه انعكاساً لرؤية معمارية أصيلة تمزج بين الجمال والوظيفة، وبين الحداثة وروح المكان. ليست تلك المباني مجرد كتل إسمنتية، بل هي حكايات معمارية تنبض بالحياة، تحاكي تطلعات الأهالي، وتُجسّد الحلم الفلسطيني في بيئة سكنية راقية تحفظ للناس خصوصيتهم وكرامتهم، فلامست قلوب أهالي غزة وعبّرت عن وجدانهم، كأن كل لوحة تهمس بما يختلج في النفس من شجن وأمل.

ربما أراد أحمد أن يزرع الأمل في وجدان كل من يراه، لكن على طريقته الخاصة... "أملٌ حزين"، كما يمكننا أن نصفه. فحين تُرسم الزهور بدمعة، وتُلوّن بالدفء لا بالبهجة، فإنها تحمل قصة أرضٍ تنزف، وقلوب تصرّ أن تنبت رغم الركام. تلك الأرض كانت غزة، وكان أحمد ابنها، وصوتها، وريشتها التي لم تستسلم. وقد جمع أحمد بين الإبداع الفني والرؤية العلمية، فكانت خبرته مصدر إلهام للطلبة في كليات الهندسة المعمارية، ومحوراً لرسائل علمية وأبحاث أكاديمية، تزينت بها قاعات المحاضرات ومدرجات الجامعات الفلسطينية في غزة، ليبقى عطاؤه ممتداً من حجرٍ يُبنى إلى فكرٍ يُغرس في أجيال قادمة.

على المستوى الشخصي، لم يكن لي شرف معرفة هذا المبدع العبقري عن قرب، لكن شيئاً ما في روحه وفنه بعد موته دفعني لمحبة خالصة، وللدعاء له بالرحمة من أعماق القلب. فقد فارق الحياة تاركاً خلفه أثراً لا يُنسى. فتتبعت سيرته من خلال من عملوا معه من الحرفيين والبنّاءين والمقاولين وأصحاب المشاريع والأعمال التي أشرف عليها، وكذلك من خلال المنشورات التي نعته على مواقع التواصل الاجتماعي، فوجدت إجماعاً عجيباً على حسن سيرته وعلوّ خلقه. لم يكن ذلك مجرد ثناء عابر، بل شهادات صادقة تنبض بالحب والتقدير، مما زاد يقيني أن الشعور الذي دفعني للكتابة لم يكن شعوراً عادياً، بل هو نداء من القلب، وإلهام من الله. لقد استشعرت أن الله أحب أحمد شامية، فحبّبه إلى أهل السماء، ثم ألقى محبته في قلوب أهل الأرض، فصار ذكره طيباً وسيرته عطرة، وبقيت أعماله شاهدة على نقاء سريرته وصفاء نيته. وكأن الله أراد أن يكرمه بلقاء كريم، في لحظة يختار الله فيها من يشاء، لتستقبله ملائكة الرحمة في دار البقاء، ودار الخلود، في جنة عرضها السماوات والأرض. فهي كرامة لمن أخلص، ورسالة لمن تأمل، بأن من زرع الجمال والإتقان في الدنيا، يلقَ بإذن الله مقاماً كريماً في الآخرة، شهيداً مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

إذا كان الساسة ورجالها يعشقون أضواء الكاميرات والفضائيات والتصريحات، فإن أمثال الشهيد أحمد أحبّوا الوطن بصمت… وطنٌ بلا فلاشات، لا يتصدرون المشهد، ولا يتزاحمون على العناوين، لأنهم ببساطة يكتبونها من الداخل، بحبر الإخلاص، وبصوتٍ لا يسمعه إلا من عرف معنى الانتماء الحقيقي. في مشهد اعتاد الضوضاء والادّعاء، اختار أحمد أن يكون الاستثناء... فكان الصمت خياره النبيل، وكان الفعل منطقه، والوطن غايته. استُشهد كما عاش، بعيداً عن الضجيج، قريباً من الله، عميقاً في جذور الأرض التي أحبها حد التضحية. رحل جسده، وبقيت روحه شاهدة على زمنٍ قلّ فيه الصادقون… أمثال أحمد لا يموتون، بل يتحولون إلى نبضٍ في ذاكرة الوطن، وإلى ظلالٍ وارفة في درب الأمل، وإلى أسماء لا تُنسى في دفاتر الخلود.

اليوم، بعد رحيل المهندس أحمد شامية، تبقى الزهرتان رمزاً خالداً. أكثر من مجرد رسمة. إنهما توقيعه العاطفي على الحياة، رسالة باقية لكل من أحبوه ولكل من عرفوا قضيته وفنه وإنسانيته. ونحن كمحبي أحمد، مدعوون الآن لحمل هذه الرسالة. اجعلوا من هاتين الزهرتين شعاراً للأمل، كما أحب. أحيوا رسمهما وتشكيلهما في كل لوحة، في كل منشور، في كل جدارية أو تصميم. ليس فقط وفاءً لأحمد، بل وفاءً لكل نبضة حياة في غزة لا تزال تقاوم بالفكر والقلم وريشة رسام. فالفن لا يموت. والرمز لا يُمحى. رحمك الله يا أحمد رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وجعل ذكراك نبراساً يُهتدى به، وعطائك الممتد في الأرض شاهد صدق على روح عظيمة رحلت، ولكن أثرها باقٍ لا يزول. وما دام فينا من يزرع زهرة على جدار، سيبقى الأمل حياً... وإن كان حزيناً.


التعليقات