مشهد من هذا العصر: ما بين مثلث العلم.. والجهل.. والتفاهة

مشهد من هذا العصر: ما بين مثلث العلم، والجهل، والتفاهة
بقلم/ حلمي أبو طه
في كل عصر تمرّ الأمم بمفترق طرق، تتصارع فيه القيم مع المصالح، ويحتدم فيه النزاع بين النخب الحقيقية وصُنّاع التفاهة. ففي أزمنة الاضطراب، وحين تختلط المعايير وتُبدل القيم، يبرز مشهد غريب تتجلى فيه مفارقات غريبة فباتت المعادلة واضحة لمن يمتلك بصراً وبصيرة: فهذه كانت مقدمة نتاج ما كتب أحدهم على صفحات التواصل الاجتماعي فاسترعت انتباهي حيث كتب فقرأت: (كلما زاد علمك، اقتربت من السجن؛ وكلما زاد جهلك، اقتربت من السلطة؛ وكلما زادت تفاهتك، اقتربت من الشهرة). هذه الثلاثية ليست مجرد حكم أخلاقي على واقع مشوه؛ بل هي انعكاس دقيق لمعادلات إدارية وسياسية وشعبوية تُعيد تشكيل المجتمع، من خلال صياغتها في مختبرات ومراكز الإعلام والإدارة والسياسة. وكأننا أمام إعادة صياغة لفلسفة جديدة لصناعة "من يملك التأثير" في هذا الزمن الحديث.
في علم السياسة والاجتماع والإدارة، تتكامل هذه المعادلات مع سلوكيات النظام الإقليمي والدولي، فهناك ما يشبه التواطؤ غير المعلن، من حيث تُدار الشعوب بسياسات توازن بين إبقائها في حالة وعي جزئي يمنع الانفجار، وحالة جهل جماعي ممنهج، يُدار بدقة، ليُنتج مواطناً مستسلماً، يرى في الطاعة فضيلة، وفي السؤال تهديداً. ولم تعد الإدارة فقط فن التنظيم، بل أصبحت فن التوجيه الخفي، فالمهارة الحقيقية والإدارة الكفؤة تتراجع أمام ثقافة الولاء الأعمى. فلم يعد المعيار هو الكفاءة بل مدى الطاعة، حتى أصبحت المناصب تؤول لمن يقول "نعم" أكثر ممن يقول "لماذا؟". وهكذا يتم تبجيل الطاعة العمياء ويغدو الجاهل مسؤولاً، وأكثر استعداداً لاعتلاء مناصب القرار، لأن الجهل مطواع سهل انقياده، يسبح بحمد كل سلطة دون سؤال. ويُقصى العقلاء الذين يكشفون المستور إلى الهامش أو يُدفع نحو المنفى الداخلي. فقد بات المثقف الحقيقي مصدر قلق للسلطات. فعلمه الذي من المفترض أن يكون ذخيرة للأوطان، أصبح مدعاة ريبة وخوف. فالمعرفة تفضح الفساد، والعقل الواعي يُسقط الأقنعة.
والشيء بالشيء يذكر فحين يصبح الخطاب الديني أداة في يد السلطة، ويتسلل الانتهازيون إلى المساجد فتفقد رسالة الدين جوهرها الأخلاقي وتتحول إلى تبرير للوضع القائم. فالدين في أصله دعوة للعدل والكرامة والمعرفة لكنه حين يُختطف، يُستخدم لتثبيت الجهل وإسباغ الشرعية على التفاهة. فانقسم المجتمع بين من يستخدم الدين سيفاً وقناعاً للسيطرة، ومن يراه درعاً يحتمي به ضد تسلط الدولة أو طغيان الحزب. بحيث تُرفع التفاهة إلى مصاف القداسة، ويُحتفى بالمهرجين، وتُضخ لهم الأموال، وتُفتح لهم المنصات. لأن التفاهة تلهي الشعوب عن التفكير، وتحول القضايا الكبرى إلى مواضيع تافهة تتداولها الألسن دون وعي أو فهم. وبهذا اختُزل الدين العظيم الذي جاء لتحرير الإنسان إلى شعارات تخدم قوى الهيمنة السياسية.
لم تتوقف المفارقات هنا، بل اتسعت حتى أصبحت التفاهة، ذلك المرض العضال الذي يصيب المجتمعات في لحظة انحدارها، جواز السفر إلى الشهرة. ففي عصر الشعبوية، لم تعد الشهرة وليدة النبوغ أو ثمار الجهد، بل باتت متاحة لمن يتقن الصراخ أكثر من الإقناع، ومن يجيد الإثارة أكثر من الإبداع. صرنا نرى أقزام الفكر والمعرفة عمالقة في ميادين الضوء والأضواء، فيما يتوارى العمالقة الحقيقيون في ظلال النسيان. وأضحت الجماهير تهتف لمن يضحكها، لا لمن يفكر معها. تسير خلف من يعدها بالوهم لا من يكشف لها الحقائق المرة. هكذا أصبحت التفاهة طريقاً إلى الشهرة، بينما غدا العقلاء غرباء في أوطانهم.
وسط هذا الركام، لم يعد غريباً أن تُستبدل راية الدولة براية الحزب والطائفة، وأن يصبح الانتماء جزئياً لا كلياً. وعندما يعلو ولاء الحزب أو الطائفة فوق الوطن، تفقد الدولة طبيعتها الدستورية، وتتحول إلى مجرد كيان شكلي يتآكل من داخله. حينها يدرك المواطن أن وطنه الحقيقي حيث يجد حقوقه، وحيث تُصان كرامته ويحقن دمه، وأن المواطنة الحقة ليست شعاراً يُرفع بل عقداً اجتماعياً يُحترم. ولسنا هنا لنبكي على الأطلال، بل لنرصد بدقة اتجاه الرياح. فالحقائق مهما كُتمت تتسرب. فالعلم وإن اقترب من السجن يبقى مشعلاً. والجهل وإن اقترب من عرش السلطة يبقى هشاً. والتفاهة وإن اقتربت من الشهرة، فهي كفقاعات الهواء، لا تلبث أن تتلاشى.
بقلم/ حلمي أبو طه
في كل عصر تمرّ الأمم بمفترق طرق، تتصارع فيه القيم مع المصالح، ويحتدم فيه النزاع بين النخب الحقيقية وصُنّاع التفاهة. ففي أزمنة الاضطراب، وحين تختلط المعايير وتُبدل القيم، يبرز مشهد غريب تتجلى فيه مفارقات غريبة فباتت المعادلة واضحة لمن يمتلك بصراً وبصيرة: فهذه كانت مقدمة نتاج ما كتب أحدهم على صفحات التواصل الاجتماعي فاسترعت انتباهي حيث كتب فقرأت: (كلما زاد علمك، اقتربت من السجن؛ وكلما زاد جهلك، اقتربت من السلطة؛ وكلما زادت تفاهتك، اقتربت من الشهرة). هذه الثلاثية ليست مجرد حكم أخلاقي على واقع مشوه؛ بل هي انعكاس دقيق لمعادلات إدارية وسياسية وشعبوية تُعيد تشكيل المجتمع، من خلال صياغتها في مختبرات ومراكز الإعلام والإدارة والسياسة. وكأننا أمام إعادة صياغة لفلسفة جديدة لصناعة "من يملك التأثير" في هذا الزمن الحديث.
في علم السياسة والاجتماع والإدارة، تتكامل هذه المعادلات مع سلوكيات النظام الإقليمي والدولي، فهناك ما يشبه التواطؤ غير المعلن، من حيث تُدار الشعوب بسياسات توازن بين إبقائها في حالة وعي جزئي يمنع الانفجار، وحالة جهل جماعي ممنهج، يُدار بدقة، ليُنتج مواطناً مستسلماً، يرى في الطاعة فضيلة، وفي السؤال تهديداً. ولم تعد الإدارة فقط فن التنظيم، بل أصبحت فن التوجيه الخفي، فالمهارة الحقيقية والإدارة الكفؤة تتراجع أمام ثقافة الولاء الأعمى. فلم يعد المعيار هو الكفاءة بل مدى الطاعة، حتى أصبحت المناصب تؤول لمن يقول "نعم" أكثر ممن يقول "لماذا؟". وهكذا يتم تبجيل الطاعة العمياء ويغدو الجاهل مسؤولاً، وأكثر استعداداً لاعتلاء مناصب القرار، لأن الجهل مطواع سهل انقياده، يسبح بحمد كل سلطة دون سؤال. ويُقصى العقلاء الذين يكشفون المستور إلى الهامش أو يُدفع نحو المنفى الداخلي. فقد بات المثقف الحقيقي مصدر قلق للسلطات. فعلمه الذي من المفترض أن يكون ذخيرة للأوطان، أصبح مدعاة ريبة وخوف. فالمعرفة تفضح الفساد، والعقل الواعي يُسقط الأقنعة.
والشيء بالشيء يذكر فحين يصبح الخطاب الديني أداة في يد السلطة، ويتسلل الانتهازيون إلى المساجد فتفقد رسالة الدين جوهرها الأخلاقي وتتحول إلى تبرير للوضع القائم. فالدين في أصله دعوة للعدل والكرامة والمعرفة لكنه حين يُختطف، يُستخدم لتثبيت الجهل وإسباغ الشرعية على التفاهة. فانقسم المجتمع بين من يستخدم الدين سيفاً وقناعاً للسيطرة، ومن يراه درعاً يحتمي به ضد تسلط الدولة أو طغيان الحزب. بحيث تُرفع التفاهة إلى مصاف القداسة، ويُحتفى بالمهرجين، وتُضخ لهم الأموال، وتُفتح لهم المنصات. لأن التفاهة تلهي الشعوب عن التفكير، وتحول القضايا الكبرى إلى مواضيع تافهة تتداولها الألسن دون وعي أو فهم. وبهذا اختُزل الدين العظيم الذي جاء لتحرير الإنسان إلى شعارات تخدم قوى الهيمنة السياسية.
لم تتوقف المفارقات هنا، بل اتسعت حتى أصبحت التفاهة، ذلك المرض العضال الذي يصيب المجتمعات في لحظة انحدارها، جواز السفر إلى الشهرة. ففي عصر الشعبوية، لم تعد الشهرة وليدة النبوغ أو ثمار الجهد، بل باتت متاحة لمن يتقن الصراخ أكثر من الإقناع، ومن يجيد الإثارة أكثر من الإبداع. صرنا نرى أقزام الفكر والمعرفة عمالقة في ميادين الضوء والأضواء، فيما يتوارى العمالقة الحقيقيون في ظلال النسيان. وأضحت الجماهير تهتف لمن يضحكها، لا لمن يفكر معها. تسير خلف من يعدها بالوهم لا من يكشف لها الحقائق المرة. هكذا أصبحت التفاهة طريقاً إلى الشهرة، بينما غدا العقلاء غرباء في أوطانهم.
وسط هذا الركام، لم يعد غريباً أن تُستبدل راية الدولة براية الحزب والطائفة، وأن يصبح الانتماء جزئياً لا كلياً. وعندما يعلو ولاء الحزب أو الطائفة فوق الوطن، تفقد الدولة طبيعتها الدستورية، وتتحول إلى مجرد كيان شكلي يتآكل من داخله. حينها يدرك المواطن أن وطنه الحقيقي حيث يجد حقوقه، وحيث تُصان كرامته ويحقن دمه، وأن المواطنة الحقة ليست شعاراً يُرفع بل عقداً اجتماعياً يُحترم. ولسنا هنا لنبكي على الأطلال، بل لنرصد بدقة اتجاه الرياح. فالحقائق مهما كُتمت تتسرب. فالعلم وإن اقترب من السجن يبقى مشعلاً. والجهل وإن اقترب من عرش السلطة يبقى هشاً. والتفاهة وإن اقتربت من الشهرة، فهي كفقاعات الهواء، لا تلبث أن تتلاشى.
التعليقات