الحب زمن الحرب في غزة: بين لهيب المعاناة ولهفة القلوب

الحب زمن الحرب في غزة: بين لهيب المعاناة ولهفة القلوب
الحب زمن الحرب في غزة: بين لهيب المعاناة ولهفة القلوب

بقلم/ حلمي أبو طه

الحرب رغم قسوتها، صنعت منا عشاقاً للحياة بقلوب لم تعرف هذا العمق من قبل، وقادرة على كشف أعمق المشاعر داخل الإنسان. ومن وسط الدمار والنزوح وهدير الطائرات المحملة بالموت، تتهاوى الحواجز المصطنعة، وتولد روابط جديدة تتجاوز الفروق والاختلافات فتتغير القلوب، وتولد روابط لم تكن لتنشأ في أوقات السلم. كأن الألم يعيد ترتيب الأولويات، ليضع المشاعر الإنسانية في الصدارة، فيصبح القرب من الآخرين ضرورة لا مجرد اختيار، ويصبح الحب طوق نجاة يخفف من وطأة الفقدان. فالحب في زمن الحرب يشبه زهرة تنبت بين الركام هشّة في مظهرها، لكنها متجذر بقوة، تنمو رغم العتمة ورغم الدمار لتمنح القوة للاستمرار. فقد كشفت لحظات القصف أن العلاقات، سواء بين الأفراد أو الدول، تتغير وفقاً للمصالح والمحن. فحين يشتد البلاء، تنشأ لغة إنسانية جديدة تتجاوز الصراعات التقليدية، فيلتقي المختلفون في نقطة البقاء. فالحب هنا ليس مجرد مشاعر، بل أداة تأثير، وهو القوة الناعمة التي تعيد رسم المشهد وسط الدمار. 

فالحرب رغم فجائعها، تُعيد تشكيل النسيج الاجتماعي. سيما لحظات القصف فتنهار الحواجز بين الأفراد، ويتشكل إحساس جمعي بالمصير المشترك، فيصبح الحب رابطاً اجتماعياً يُعوّض غياب الاستقرار والأمان. إنها لحظة نادرة حيث يختبر الإنسان جوهره الحقيقي بعيداً عن الزيف والتكلف، وحيث يُعيد الألم تعريف الهوية الجماعية برابط أقوى من الدم واللغة والجغرافيا. كما في ظل الأزمات، تتغير طبيعة العلاقات بين البشر. فيصبح التعاون فطرة، والتكاتف قانوناً غير مكتوب يحكم الجميع. فالمسؤولية لم تعد فردية، بل تحولت إلى التزام جماعي، حيث يتشارك الناس الأحمال، لا عن ترف، بل لأنهم يدركون أن النجاة لا تأتي فرادى.

إي بالله فالحرب، رغم قبحها، تصنع شكلاً جديداً من العلاقات التي تقوم على الثقة المتبادلة والشعور بالاحتياج الحقيقي للآخرين. فلم يعد الحب مجرد إحساس فردي، بل تحول إلى قوة دافعة، لتتغير نظرة الناس لبعضهم. فخلافات الأمس واللحظة تتلاشى أمام الواقع الجديد، حيث تصبح المشاعر أكثر صدقاً، والعلاقات أكثر وضوحاً، فوسط الفوضى والأزمة تظهر لغة إنسانية جديدة، لا تُعبّر عنها الكلمات بقدر ما تُترجمها الأفعال. فالمشهد الذي كان يوماً أو قل قبل لحظات مزدحماً بالمصالح والصراعات، يتحول إلى مساحة يتلاقى فيها الجميع عند نقطة واحدة: البقاء والاستمرار.

مع كل هذا التقارب، يولد خوف من انتهاء الحرب، ومن اليوم التالي لها، ليس فقط مما قد تكشفه من دمار لم يُحصَ بعد، بل لأن نارها وقباحتها صنعت حالة استثنائية من الحب والتكاتف، فرغم قسوتها، أذابت جليد المسافات وصهرت القلوب في بوتقة واحدة وكشفت حقيقة القلوب وتكاثفها وتعاضضها. فكيف سيكون المشهد بعد أن تهدأ المدافع، ويعم الهدوء سماء غزة؟ هل ستبقى الأيدي التي امتدت للعون مشبوكة كما كانت؟ أم أن هذا الحب الذي اشتعل في العتمة ووسط الأزمة، سيتلاشى مع أول ضوء للسلام؟ ربما وحدها الأيام ستحمل الإجابة، لكن القلوب التي خاضت المحنة معاً ستظل تبحث عن ذلك الدفء، حتى لو تبدلت الفصول وتغيرت الملامح.

التعليقات