البيت الأبيض: منبرٌ للإدارة وصنع القرار أم ميدانٌ للهيمنة والإذلال؟

البيت الأبيض: منبرٌ للإدارة وصنع القرار أم ميدانٌ للهيمنة والإذلال؟
البيت الأبيض: منبرٌ للإدارة وصنع القرار أم ميدانٌ للهيمنة والإذلال؟

بقلم/ حلمي أبو طه

في زمن باتت فيه القوة الغاشمة تتوارى خلف الأقنعة الدبلوماسية، تحول البيت الأبيض إلى مسرحٍ لاستعراض الهيمنة وإهانة الرموز السياسية. فلم يعد المشهد السياسي الأمريكي محكوماً بأعراف الاحترام المتبادل، بل انحدر إلى منطق العربدة السياسية والابتزاز العلني، حيث لم يعد البيت الأبيض مجرد مقر للحكم أو مركز لصنع القرار، بل أصبح في ظل الإدارات الأمريكية المتعاقبة — لا سيما خلال عهد دونالد ترامب— إلى ساحة مفتوحة لاستعراض القوة وإذلال القادة والزعماء، حيث غدت الدعوات الرسمية التي توجهها إدارة البيت الأبيض لضيوفها ليست إلا فخاخاً معدّة بعناية، ولم تعد تُفهم كبروتوكولات شرف، بل باتت تُقرأ ككمائن ناعمة هدفها فرض الهيمنة بأسلوب الإهانة والتصغير، أمام عدسات الكاميرات وعلى الهواء مباشرة. فمن الثابت أن نهج ترامب في الإدارة يميل إلى العربدة السياسية القائمة على البلطجة والابتزاز والتهديد، حيث تم اختزل العمل الدبلوماسي إلى عروض استقواء مدروسة أمام أنظار العالم. 

لم تكن سياسة ترامب تجاه ضيوف البيت الأبيض مجرد زلات لسان أو سلوكيات فردية تنمّ عن شخصيته المتغطرسة، بل كانت منهجاً مدروساً يعتمد على استراتيجيات تعزز إظهار التفوق الأمريكي بالقوة الناعمة والخشنة، حيث يعمد ترامب إلى التقليل من شأن القادة الآخرين ليعزز صورة الولايات المتحدة كالقوة المطلقة التي لا تقبل الندّية، كرسالة واضحة مفادها: لا مكان للاحترام المتبادل في حضرة القوة الأمريكية المطلقة. ولهذا نراه يستخدم الضغط النفسي والإعلامي ففي كل لقاء يجمعه بزعماء الدول يكون ميداناً لابتزاز سياسي مكشوف، حيث يستغل عدسات الإعلام ليظهرهم في موقف ضعف أو تبعية. كما يستخدم أسلوب فرض الولاء عبر الإذلال العلني، فهو يدرك أن الكثير من الرؤساء والملوك مجبرون على التعامل مع واشنطن، لذلك يتعمد ممارسة سياسة "ليّ الذراع" أمام الجمهور، في رسالة مفادها: لا مكان للكرامة في حضرة أمريكا.

ما نشهده اليوم ليس مجرد تعالٍ سياسي عابر، بل تحول استراتيجي في بنية النظام العالمي، حيث لم تعد العلاقات الدولية قائمة على الاحترام المتبادل أو المصالح المشتركة، بل أصبحت محكومة بمنطق القوة المطلقة الذي يعتمده ترامب ومن يسيرون على نهجه. وهذه السياسة تدفع العالم نحو مرحلة جديدة تُشبه عصور الإقطاع السياسي، حيث تتحكم قوة عظمى في مصائر الآخرين، دون أدنى اعتبار لمكانتهم أو سيادتهم الوطنية. لكن ما يجري لا يمكن فصله عن سنن التاريخ وقوانينه، وآراه يدخل نطاق سنن الله، وهي سنن لن تتغير أو تتبدل، ولا تحابي أحداً فقد قيل: "من مدّ حبلاً من الهيمنة سيشنق نفسه به عاجلاً أم آجلاً". فرغم نجاح هذا الأسلوب في المدى القصير، إلا أن العجرفة السياسية غالباً ما تكون لها نتائج عكسية، تؤدي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد. فالدول التي تُهان اليوم قد تسعى غداً لبناء تحالفات جديدة تقلب الطاولة، والتاريخ في سنن الله مليء بشواهد على أن الاستكبار الأعمى هو بداية لانحدار الأمم وتفكك الإمبراطوريات.

إن ما شهدناه مؤخراً في لقاءات ترامب ونائبه مع العديد من ملوك ورؤساء العالم، لم يكن التزاماً بأعراف البروتوكولات الدبلوماسية، ولا تصرفات عفوية طارئة، بل كان استعراضاً فجا لنهج متكامل يقوم على العربدة السياسية واستغلال رمزية البيت الأبيض كأداة للإذلال وفرض الإرادة، في مشهد يناقض كل ما تدّعيه الولايات المتحدة من قيم الديمقراطية واحترام الكرامة الإنسانية. والمستقبل لا يُبنى بالاستعلاء، بل بالشراكة، ولا يُحترم فيه من يفرض إرادته، بل من يُحسن استخدام قوته لخدمة الاستقرار والكرامة الإنسانية. وإن كانت الإدارة الأمريكية قد اختارت خطاب السيطرة، فإن الشعوب والدول التي ذاقت مرارة التبعية ستُنتج، عاجلاً أو آجلاً، أدوات المواجهة والصعود. فكما أن لكل قوة طاغية لحظة مجد، فإن لها أيضاً لحظة سقوط. وما نراه اليوم في مشهد الهيمنة الأمريكية ليس إلا تمهيداً لتحول تاريخي قادم... تتحرر فيه الإرادات، وتستعيد فيه الدول كرامتها، وتُغلق فيه أبواب البيت الأبيض أمام كل من أراد تحويله إلى منصة إذلال... لا إلى منبر حوار.

التعليقات