انسحاب الأحزاب من المشهد السياسي الفلسطيني: هل يحقق تسوية مع إسرائيل؟

انسحاب الأحزاب من المشهد السياسي الفلسطيني: هل يحقق تسوية مع إسرائيل؟
بقلم/ حلمي أبو طه
قبل الخوض في الإجابة المباشرة من الضروري تفكيك المشهد السياسي والتاريخي لفلسطين في سياقه الأوسع، إذ أن أي قراءة سطحية قد تفضي إلى استنتاجات متسرعة وغير دقيقة. ولتكن البداية من حيث المشروع الصهيوني، والذي لم يكن وليد لحظة تأسيس "إسرائيل" عام (1948)، بل هو امتداد لمخطط استعماري مدعوم من القوى العظمى. فقبل البحث عن أرض فلسطين، عُرضت على اليهود عدة مناطق لإقامة دولتهم، مثل أوغندا في افريقيا، وبعض مناطق روسيا حيث تم بالفعل تأسيس دولة لهم وسميت "بيروبيدجان" سنة (1934)، والأرجنتين في أمريكا الجنوبية، إلا أن القيادة الصهيونية رفضت جميع هذه العروض، وأصرت على فلسطين تحديدًا، بزعم أنها "أرض الميعاد" التي أقاموا عليها مملكة داوود وسليمان عليهما السلام. هذا المشروع كان يسير وفق خطط مرحلية واضحة، مدعومًا بالهجرة اليهودية المكثفة خلال حقبة الانتداب البريطاني، حيث قدمت بريطانيا غطاءً كاملاً لتوطين اليهود وتهجير الفلسطينيين تدريجيًا. ويكشف وعد بلفور عام (1917)، الذي منح اليهود "وطنًا قوميًّا" في فلسطين، عن مدى التواطؤ الدولي لإنجاح هذا المخطط.
في هذه الحقبة من التاريخ الفلسطيني ورغم وجود عدة أحزاب سياسية في فلسطين إلا أنها لم ترقى إلى المفهوم التنظيمي حيت كانت غالبًا مرتبطة بسلطة ونفوذ العائلات البارزة مما حدّ من استقلاليتها السياسية. لذا برزت القوى الفلسطينية التقليدية والتي مثلتها العائلات الفلسطينية كقوى سياسية واجتماعية مؤثرة، نظرًا لما كانت تتمتع به من مكانة اقتصادية واجتماعية وتاريخية، مما مكّنها من لعب دور محوري في تشكيل مواقف المجتمع الفلسطيني وتوجيهه سياسيًا واجتماعيًا خلال تلك الحقبة الحرجة. والتي كان على رأسها عائلتي الحسيني والنشاشيبي، التي بقيت صاحبة اليد العليا في المشهد السياسي الفلسطيني آنذاك. حيث تبنت كل منهما توجهًا مختلفًا تجاه قضية الهجرة اليهودية: فعائلة الحسيني بقيادة المفتي الحاج "أمين الحسيني"، رفضت بشكل قاطع الهجرة اليهودية واعتبرتها مقدمة للاستيلاء على فلسطين وهو ما دفع المفتي إلى قيادة ثورات ومواجهات، أبرزها ثورة (1936-1939). في حين عائلة النشاشيبي بقيادة "راغب النشاشيبي"، انتهجت موقفًا أكثر مرونة معتبرةً أن اليهود يمكن دمجهم كأقلية ضمن المجتمع الفلسطيني، مثل الأرمن والدروز والشركس، دون الاعتراف بهم ككيان سياسي مستقل. هذا التباين بين الحسينيين والنشاشيبيين لم يكن مجرد خلاف داخلي، بل كان مؤشرًا مبكرًا للانقسامات الفلسطينية التي مهد لها الانتداب البريطاني واستغلها الاحتلال لاحقًا تحت شعار "فرق تسد".
إذا أسقطنا هذا السجال التاريخي على واقع اليوم، نجد المشهد يعيد نفسه، لكن بوجوه مختلفة؛ فقد تحولت العائلات التقليدية إلى حركات حزبية كلاسيكية، وأصبحت فتح وحماس تمثلان وجهتي نظر متناقضتين تجاه التعامل مع الاحتلال. ويتكرر ذات السيناريو الاستعماري الصهيوني، حيث تُستخدم نفس الاستراتيجيات التاريخية المبنية على مبدأ "فرّق تسد"، لتأجيج الانقسامات الداخلية واستغلالها لصالح المشروع الصهيوني. ولعل ما يحدث اليوم من تسليط الضوء على الأطراف المتشددة واستدراجها نحو مواجهات غير متكافئة، ليس سوى تكتيك لإضعاف أي وحدة فلسطينية محتملة. هذا هو الواقع المسكوت عنه والحقيقة التي لا مفر منها هي أن الاستراتيجية الصهيونية منذ نشأتها قامت على تصور أن "هذه الأرض لا تتسع إلا لشعب واحد وكيان واحد"، رافضةً أي صيغة للتعايش أو التقسيم، كما يتضح من تجاهلها قرارات الشرعية الدولية بدءًا من قرار التقسيم عام (1947) ومرورًا بقرار (242)، الذي قبل به العرب ورفضته إسرائيل حتى اليوم.
وهنا قد يتساءل البعض: "كيف تدعي ذلك وماذا عن اتفاقية أوسلو؟" بدايةً، أشكر السائل على انتباهه وتركيزه، وهنا أوضح أن إسرائيل ذهبت إلى أوسلو لسببين رئيسيين. الأول هو سعي حزب العمل الإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء إسحاق رابين إلى إظهار رغبة إسرائيل في تسوية القضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي. والثاني هو محاولة إثبات أن الفلسطينيين يرفضون السلام، بناءً على تجارب سابقة كرفض مبادرة أبو رقيبة والمبادرة المصرية في كامب ديفيد. لكن المفاجأة التي لم تتوقعها قيادات إسرائيل كانت قبول القيادة الفلسطينية بما هو مطروح، رغم أنه لم يكن يلبي أدنى طموحات الشعب الفلسطيني، بل كان أقل مما اقترحته المبادرات السابقة. عندها، أدركت إسرائيل أن ما حدث يُعدّ بداية لقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وهو ما يتعارض جذريًا مع الثوابت الصهيونية. لذلك، جاء اغتيال رابين عام (1995)، وتراجع دور حزب العمل، وصعود المجرم أرئيل شارون الذي أعاد ترتيب الأولويات الإسرائيلية وفق مخطط "إسرائيل الكبرى". في خضم هذا السيناريو، جاء قرار شارون ووزير دفاعه موشيه موفاز بالانسحاب الأحادي من غزة ضمن خطة "فك الارتباط في 2005"، ما أثار حفيظة قيادات الليكود واليمين المتطرف. ولعل الجميع يتذكر لقاء شارون مع قيادات الليكود بحضور نتنياهو، حيث بدا بوضوح عدم رضا نتنياهو عن هذا النهج. المفاجأة الكبرى جاءت بعدها، عندما دخل شارون في حالة غيبوبة غامضة، ما اعتبره البعض إبعادًا مدبرًا لرجل تجاوز الحدود المرسومة، ليصعد نتنياهو إلى الواجهة ويعيد توجيه البوصلة نحو أجندة أكثر تشددًا وتطرفًا، مجسدًا رؤية المشروع الصهيوني الحقيقية.
والآن نصل إلى التساؤل المحوري: "هل يمكن أن يحقق انسحاب الأحزاب والحركات السياسية مثل حماس وفتح من المشهد السياسي تسوية حقيقية مع إسرائيل؟" إجابة هذا السؤال قد تبدو معقدة، والسؤال يبقى مفتوحًا لتأمل أعمق، والقرار في النهاية لكم.
قبل الخوض في الإجابة المباشرة من الضروري تفكيك المشهد السياسي والتاريخي لفلسطين في سياقه الأوسع، إذ أن أي قراءة سطحية قد تفضي إلى استنتاجات متسرعة وغير دقيقة. ولتكن البداية من حيث المشروع الصهيوني، والذي لم يكن وليد لحظة تأسيس "إسرائيل" عام (1948)، بل هو امتداد لمخطط استعماري مدعوم من القوى العظمى. فقبل البحث عن أرض فلسطين، عُرضت على اليهود عدة مناطق لإقامة دولتهم، مثل أوغندا في افريقيا، وبعض مناطق روسيا حيث تم بالفعل تأسيس دولة لهم وسميت "بيروبيدجان" سنة (1934)، والأرجنتين في أمريكا الجنوبية، إلا أن القيادة الصهيونية رفضت جميع هذه العروض، وأصرت على فلسطين تحديدًا، بزعم أنها "أرض الميعاد" التي أقاموا عليها مملكة داوود وسليمان عليهما السلام. هذا المشروع كان يسير وفق خطط مرحلية واضحة، مدعومًا بالهجرة اليهودية المكثفة خلال حقبة الانتداب البريطاني، حيث قدمت بريطانيا غطاءً كاملاً لتوطين اليهود وتهجير الفلسطينيين تدريجيًا. ويكشف وعد بلفور عام (1917)، الذي منح اليهود "وطنًا قوميًّا" في فلسطين، عن مدى التواطؤ الدولي لإنجاح هذا المخطط.
في هذه الحقبة من التاريخ الفلسطيني ورغم وجود عدة أحزاب سياسية في فلسطين إلا أنها لم ترقى إلى المفهوم التنظيمي حيت كانت غالبًا مرتبطة بسلطة ونفوذ العائلات البارزة مما حدّ من استقلاليتها السياسية. لذا برزت القوى الفلسطينية التقليدية والتي مثلتها العائلات الفلسطينية كقوى سياسية واجتماعية مؤثرة، نظرًا لما كانت تتمتع به من مكانة اقتصادية واجتماعية وتاريخية، مما مكّنها من لعب دور محوري في تشكيل مواقف المجتمع الفلسطيني وتوجيهه سياسيًا واجتماعيًا خلال تلك الحقبة الحرجة. والتي كان على رأسها عائلتي الحسيني والنشاشيبي، التي بقيت صاحبة اليد العليا في المشهد السياسي الفلسطيني آنذاك. حيث تبنت كل منهما توجهًا مختلفًا تجاه قضية الهجرة اليهودية: فعائلة الحسيني بقيادة المفتي الحاج "أمين الحسيني"، رفضت بشكل قاطع الهجرة اليهودية واعتبرتها مقدمة للاستيلاء على فلسطين وهو ما دفع المفتي إلى قيادة ثورات ومواجهات، أبرزها ثورة (1936-1939). في حين عائلة النشاشيبي بقيادة "راغب النشاشيبي"، انتهجت موقفًا أكثر مرونة معتبرةً أن اليهود يمكن دمجهم كأقلية ضمن المجتمع الفلسطيني، مثل الأرمن والدروز والشركس، دون الاعتراف بهم ككيان سياسي مستقل. هذا التباين بين الحسينيين والنشاشيبيين لم يكن مجرد خلاف داخلي، بل كان مؤشرًا مبكرًا للانقسامات الفلسطينية التي مهد لها الانتداب البريطاني واستغلها الاحتلال لاحقًا تحت شعار "فرق تسد".
إذا أسقطنا هذا السجال التاريخي على واقع اليوم، نجد المشهد يعيد نفسه، لكن بوجوه مختلفة؛ فقد تحولت العائلات التقليدية إلى حركات حزبية كلاسيكية، وأصبحت فتح وحماس تمثلان وجهتي نظر متناقضتين تجاه التعامل مع الاحتلال. ويتكرر ذات السيناريو الاستعماري الصهيوني، حيث تُستخدم نفس الاستراتيجيات التاريخية المبنية على مبدأ "فرّق تسد"، لتأجيج الانقسامات الداخلية واستغلالها لصالح المشروع الصهيوني. ولعل ما يحدث اليوم من تسليط الضوء على الأطراف المتشددة واستدراجها نحو مواجهات غير متكافئة، ليس سوى تكتيك لإضعاف أي وحدة فلسطينية محتملة. هذا هو الواقع المسكوت عنه والحقيقة التي لا مفر منها هي أن الاستراتيجية الصهيونية منذ نشأتها قامت على تصور أن "هذه الأرض لا تتسع إلا لشعب واحد وكيان واحد"، رافضةً أي صيغة للتعايش أو التقسيم، كما يتضح من تجاهلها قرارات الشرعية الدولية بدءًا من قرار التقسيم عام (1947) ومرورًا بقرار (242)، الذي قبل به العرب ورفضته إسرائيل حتى اليوم.
وهنا قد يتساءل البعض: "كيف تدعي ذلك وماذا عن اتفاقية أوسلو؟" بدايةً، أشكر السائل على انتباهه وتركيزه، وهنا أوضح أن إسرائيل ذهبت إلى أوسلو لسببين رئيسيين. الأول هو سعي حزب العمل الإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء إسحاق رابين إلى إظهار رغبة إسرائيل في تسوية القضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي. والثاني هو محاولة إثبات أن الفلسطينيين يرفضون السلام، بناءً على تجارب سابقة كرفض مبادرة أبو رقيبة والمبادرة المصرية في كامب ديفيد. لكن المفاجأة التي لم تتوقعها قيادات إسرائيل كانت قبول القيادة الفلسطينية بما هو مطروح، رغم أنه لم يكن يلبي أدنى طموحات الشعب الفلسطيني، بل كان أقل مما اقترحته المبادرات السابقة. عندها، أدركت إسرائيل أن ما حدث يُعدّ بداية لقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وهو ما يتعارض جذريًا مع الثوابت الصهيونية. لذلك، جاء اغتيال رابين عام (1995)، وتراجع دور حزب العمل، وصعود المجرم أرئيل شارون الذي أعاد ترتيب الأولويات الإسرائيلية وفق مخطط "إسرائيل الكبرى". في خضم هذا السيناريو، جاء قرار شارون ووزير دفاعه موشيه موفاز بالانسحاب الأحادي من غزة ضمن خطة "فك الارتباط في 2005"، ما أثار حفيظة قيادات الليكود واليمين المتطرف. ولعل الجميع يتذكر لقاء شارون مع قيادات الليكود بحضور نتنياهو، حيث بدا بوضوح عدم رضا نتنياهو عن هذا النهج. المفاجأة الكبرى جاءت بعدها، عندما دخل شارون في حالة غيبوبة غامضة، ما اعتبره البعض إبعادًا مدبرًا لرجل تجاوز الحدود المرسومة، ليصعد نتنياهو إلى الواجهة ويعيد توجيه البوصلة نحو أجندة أكثر تشددًا وتطرفًا، مجسدًا رؤية المشروع الصهيوني الحقيقية.
والآن نصل إلى التساؤل المحوري: "هل يمكن أن يحقق انسحاب الأحزاب والحركات السياسية مثل حماس وفتح من المشهد السياسي تسوية حقيقية مع إسرائيل؟" إجابة هذا السؤال قد تبدو معقدة، والسؤال يبقى مفتوحًا لتأمل أعمق، والقرار في النهاية لكم.
التعليقات