المسؤولية بين الفردية والجماعية: رؤية متوازنة

المسؤولية بين الفردية والجماعية: رؤية متوازنة
بقلم/ حلمي أبو طه
طرح أحد السائلين العارفين والمخضرمين من الأصدقاء على صفحته تساؤلًا حول حدود المسؤولية الفردية، معتبرًا أن الإنسان لا يتحمل سوى نتائج أفعاله وتصريحاته الشخصية، وأنه ليس من العدل تحميله تبعات سياسات الدولة التي يقيم فيها أو مواقف الحزب الذي ينتمي إليه. واستند في ذلك إلى "أبجديات علم المحاسبة"، وهذا الاستناد فيه إشارة إلى مبدأ أن كل فرد مسؤول فقط عن سجلاته ومعاملاته. وفي هذا السياق من الضروري توضيح أن هذا الطرح، وإن كان يحمل وجاهة من منظور المسؤولية الشخصية، إلا أني أراه لا ينتمي إلى مجال المحاسبة كعلم متخصص، بل يقع ضمن نطاق الفلسفة الأخلاقية، وعلم الاجتماع، والقانون. فالمحاسبة تُعنى بتسجيل المعاملات المالية وتحليل الأداء الاقتصادي للمنظمات، بينما المسؤولية الأخلاقية والسياسية للفرد تخضع لمعايير مختلفة تتعلق بالمجتمع والهوية والانتماء. أما عن فكرة أن الإنسان مسؤول فقط عن أفعاله ولا يتحمل مسؤولية جماعية، فهي قضية تتداخل فيها عدة أبعاد:
من الناحية الأخلاقية والشرعية، يتحمل الإنسان وزر أفعاله وحده، ولا يُحاسب على ذنوب غيره. وهذا مبدأ قرآني واضح في قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى". فالشخص كفرد مسؤول فقط عن قراراته وسلوكياته الشخصية، وهو غير ملزم بتحمل أخطاء غيره ما لم يكن مشتركًا فيها أو مستفيدًا منها بشكل مباشر. ومن الناحية الاجتماعية والسياسية: الانتماء إلى كيان معين، سواء كان دولة أو حزبًا أو منظمة، يرتب نوعًا من الترابط بين الفرد والكيان، مما قد ينعكس على صورته وسمعته، سواء كان ذلك عن قصد أم لا. وهنا يجب التمييز بين "المواطن" و"الوافد". فالمواطن يرتبط بدولته قانونيًا واجتماعيًا، وبالتالي فإن أفعال الدولة – سواء إيجابية أو سلبية – تُنسب لجميع مواطنيها في نظر المجتمع الدولي والرأي العام. أي أن المواطن قد لا يكون مسؤولًا بشكل مباشر عن أخطاء حكومته، لكنه يتحمل تبعاتها لأنه جزء من هذا الكيان. أما الوافد أو المقيم، فهو ليس جزءًا من المنظومة السياسية للدولة، وبالتالي لا يُنسب إليه سلوكها بشكل مباشر، إلا إذا شارك بوعي في دعم سياساتها أو الاستفادة منها. وهذا لا يعني تحميله المسؤولية المطلقة، ولكن يجعل موقفه مرتبطًا بالسياق العام لهذا الكيان. بالتالي: فإن المبدأ الذي يطرحه السؤال صحيح من حيث الأساس، لكنه قد يكون غير عملي في بعض السياقات، حيث يجد الأفراد أنفسهم مرتبطين - بشكل مباشر أو غير مباشر - بسمعة المؤسسات التي ينتمون إليها. فالانتماء إلى حزب سياسي يختلف عن المواطنة، لأنه اختيار إرادي وليس انتماءً طبيعيًا. فعندما ينضم شخص إلى حزب، فهو يوافق ضمنيًا على سياساته ويمثل جزءًا من صورته العامة. ومن هذا المنطلق، يكون مسؤولًا - ولو بشكل تضامني - عن أفعال الحزب، خاصة إذا كان مؤيدًا نشطًا أو يشغل منصبًا داخله. كما أن القانون يعترف بهذه المسؤولية الجماعية، فمثلًا في النظم السياسية، عندما يرتكب حزب معين مخالفات، فإن أعضاؤه يواجهون العواقب السياسية وحتى القانونية، حسب طبيعة مشاركتهم. ولذلك، يبقى الحل في التوازن بين تأكيد المسؤولية الفردية، مع إدراك أثر الانتماء الجمعي، واتخاذ المواقف التي تعكس القيم والمبادئ الشخصية بوضوح، دون الانجراف إلى التبرؤ المطلق أو تحمل وزر ما لم يكن للفرد يدٌ فيه. لذلك، المسؤولية ليست أمرًا مطلقًا، بل تتغير حسب السياق الذي يوجد فيه الفرد، ومدى مشاركته الفعلية أو الضمنية في القرارات التي تتخذها الجماعات التي ينتمي إليها. وأيضاً القانون يعترف بمبدأ المسؤولية الفردية، حيث لا يُحاسب الفرد عن أفعال أو مواقف غيره. لكن، في بعض السياقات، قد يرتبط الانتماء إلى جماعة معينة بمسؤولية اجتماعية أو سياسية، خصوصًا في حالة دعم أو التشارك في الأفعال أو السياسات التي تؤثر على الآخرين. لذا، من الناحية القانونية، المسؤولية ليست دائمًا فردية بحتة، بل قد تشمل بعض الأبعاد الجماعية بحسب السياق الذي يتم فيه الفعل.
ولنا في هدي القران شاهد فقد تناولت آيات القرآن الكريم المسؤولية الجماعية في عدة مواضع، سواء في العقاب أو في تحمل التبعات الاجتماعية والاقتصادية. ومن أبرز هذه الآيات: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال: 25) وفيها تحذير من أن فساد فئة من المجتمع قد يؤدي لعقاب يشمل الجميع إذا لم يتم التصدي له. وأيضاً المسؤولية الجماعية في القصاص والديات: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام: 164) فتؤكد هذه الآية أن المسؤولية الفردية هي الأصل، فلا يُحاسب أحد بجريرة غيره، لكن في القتل الخطأ تتحمل العاقلة (العشيرة أو القبيلة) الدية دعمًا للتكافل الاجتماعي. وأيضاً ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ (النساء: 92) بحيث تدل الآية على أن دية القتل الخطأ واجبة، وقد فُصِّلت في السنة النبوية بأن العاقلة (أهل القاتل) يشاركون في دفعها.
ولنا في الهدي النبوي الشريف وقفة واشارة فيما يتعلق بتحمل المسؤولية الجماعية والتسبب غير المباشر في الأضرار من خلال مسالة "الزُّبْيَة" وهي حادثة وقعت في عهد النبي ﷺ تتعلق بحكم قضائي صدر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثناء توليه القضاء في اليمن. وتتلخص القصة في (اجتمع قوم حول زُبْيَة بها أسد، فسقط أحدهم ولحقه ثلاثة أخرون محاولين إنقاذه، فقتلهم الأسد. فحكم علي بن أبي طالب: بجمع دية كاملة ونصف دية وثلث دية وربع دية من كافة الحضور الذين شهدوا الحادثة بحيث حكم للقتيل الأول بربع دية لأنه كان سبب بقتل ثلاثة اشخاص بعده، وحكم للثاني ثلث دية لأنه كان سبب بقتل اثنان، وحكم للثالث بنصف دية لأنه سبب قتل شخص، وحكم للرابع بدية كاملة لأنه لم يهلك بعده أحد. وعندما رُفع الحكم للنبي ﷺ، أقره لكنه غيّر جهة تحمُّل الدية، فجعلها مسؤولية كافة قبائل الأشخاص الذين شهدوا الحادثة وليس فقط الأشخاص الذين شهدوا الحادثة وذلك وفق مبدأ العاقلة). ومن هنا تعكس القصة عدالة القضاء الإسلامي، وتبرز مبادئ الاجتهاد، والمسؤولية الجماعية، والتوازن في الأحكام.
بقلم/ حلمي أبو طه
طرح أحد السائلين العارفين والمخضرمين من الأصدقاء على صفحته تساؤلًا حول حدود المسؤولية الفردية، معتبرًا أن الإنسان لا يتحمل سوى نتائج أفعاله وتصريحاته الشخصية، وأنه ليس من العدل تحميله تبعات سياسات الدولة التي يقيم فيها أو مواقف الحزب الذي ينتمي إليه. واستند في ذلك إلى "أبجديات علم المحاسبة"، وهذا الاستناد فيه إشارة إلى مبدأ أن كل فرد مسؤول فقط عن سجلاته ومعاملاته. وفي هذا السياق من الضروري توضيح أن هذا الطرح، وإن كان يحمل وجاهة من منظور المسؤولية الشخصية، إلا أني أراه لا ينتمي إلى مجال المحاسبة كعلم متخصص، بل يقع ضمن نطاق الفلسفة الأخلاقية، وعلم الاجتماع، والقانون. فالمحاسبة تُعنى بتسجيل المعاملات المالية وتحليل الأداء الاقتصادي للمنظمات، بينما المسؤولية الأخلاقية والسياسية للفرد تخضع لمعايير مختلفة تتعلق بالمجتمع والهوية والانتماء. أما عن فكرة أن الإنسان مسؤول فقط عن أفعاله ولا يتحمل مسؤولية جماعية، فهي قضية تتداخل فيها عدة أبعاد:
من الناحية الأخلاقية والشرعية، يتحمل الإنسان وزر أفعاله وحده، ولا يُحاسب على ذنوب غيره. وهذا مبدأ قرآني واضح في قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى". فالشخص كفرد مسؤول فقط عن قراراته وسلوكياته الشخصية، وهو غير ملزم بتحمل أخطاء غيره ما لم يكن مشتركًا فيها أو مستفيدًا منها بشكل مباشر. ومن الناحية الاجتماعية والسياسية: الانتماء إلى كيان معين، سواء كان دولة أو حزبًا أو منظمة، يرتب نوعًا من الترابط بين الفرد والكيان، مما قد ينعكس على صورته وسمعته، سواء كان ذلك عن قصد أم لا. وهنا يجب التمييز بين "المواطن" و"الوافد". فالمواطن يرتبط بدولته قانونيًا واجتماعيًا، وبالتالي فإن أفعال الدولة – سواء إيجابية أو سلبية – تُنسب لجميع مواطنيها في نظر المجتمع الدولي والرأي العام. أي أن المواطن قد لا يكون مسؤولًا بشكل مباشر عن أخطاء حكومته، لكنه يتحمل تبعاتها لأنه جزء من هذا الكيان. أما الوافد أو المقيم، فهو ليس جزءًا من المنظومة السياسية للدولة، وبالتالي لا يُنسب إليه سلوكها بشكل مباشر، إلا إذا شارك بوعي في دعم سياساتها أو الاستفادة منها. وهذا لا يعني تحميله المسؤولية المطلقة، ولكن يجعل موقفه مرتبطًا بالسياق العام لهذا الكيان. بالتالي: فإن المبدأ الذي يطرحه السؤال صحيح من حيث الأساس، لكنه قد يكون غير عملي في بعض السياقات، حيث يجد الأفراد أنفسهم مرتبطين - بشكل مباشر أو غير مباشر - بسمعة المؤسسات التي ينتمون إليها. فالانتماء إلى حزب سياسي يختلف عن المواطنة، لأنه اختيار إرادي وليس انتماءً طبيعيًا. فعندما ينضم شخص إلى حزب، فهو يوافق ضمنيًا على سياساته ويمثل جزءًا من صورته العامة. ومن هذا المنطلق، يكون مسؤولًا - ولو بشكل تضامني - عن أفعال الحزب، خاصة إذا كان مؤيدًا نشطًا أو يشغل منصبًا داخله. كما أن القانون يعترف بهذه المسؤولية الجماعية، فمثلًا في النظم السياسية، عندما يرتكب حزب معين مخالفات، فإن أعضاؤه يواجهون العواقب السياسية وحتى القانونية، حسب طبيعة مشاركتهم. ولذلك، يبقى الحل في التوازن بين تأكيد المسؤولية الفردية، مع إدراك أثر الانتماء الجمعي، واتخاذ المواقف التي تعكس القيم والمبادئ الشخصية بوضوح، دون الانجراف إلى التبرؤ المطلق أو تحمل وزر ما لم يكن للفرد يدٌ فيه. لذلك، المسؤولية ليست أمرًا مطلقًا، بل تتغير حسب السياق الذي يوجد فيه الفرد، ومدى مشاركته الفعلية أو الضمنية في القرارات التي تتخذها الجماعات التي ينتمي إليها. وأيضاً القانون يعترف بمبدأ المسؤولية الفردية، حيث لا يُحاسب الفرد عن أفعال أو مواقف غيره. لكن، في بعض السياقات، قد يرتبط الانتماء إلى جماعة معينة بمسؤولية اجتماعية أو سياسية، خصوصًا في حالة دعم أو التشارك في الأفعال أو السياسات التي تؤثر على الآخرين. لذا، من الناحية القانونية، المسؤولية ليست دائمًا فردية بحتة، بل قد تشمل بعض الأبعاد الجماعية بحسب السياق الذي يتم فيه الفعل.
ولنا في هدي القران شاهد فقد تناولت آيات القرآن الكريم المسؤولية الجماعية في عدة مواضع، سواء في العقاب أو في تحمل التبعات الاجتماعية والاقتصادية. ومن أبرز هذه الآيات: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال: 25) وفيها تحذير من أن فساد فئة من المجتمع قد يؤدي لعقاب يشمل الجميع إذا لم يتم التصدي له. وأيضاً المسؤولية الجماعية في القصاص والديات: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام: 164) فتؤكد هذه الآية أن المسؤولية الفردية هي الأصل، فلا يُحاسب أحد بجريرة غيره، لكن في القتل الخطأ تتحمل العاقلة (العشيرة أو القبيلة) الدية دعمًا للتكافل الاجتماعي. وأيضاً ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ (النساء: 92) بحيث تدل الآية على أن دية القتل الخطأ واجبة، وقد فُصِّلت في السنة النبوية بأن العاقلة (أهل القاتل) يشاركون في دفعها.
ولنا في الهدي النبوي الشريف وقفة واشارة فيما يتعلق بتحمل المسؤولية الجماعية والتسبب غير المباشر في الأضرار من خلال مسالة "الزُّبْيَة" وهي حادثة وقعت في عهد النبي ﷺ تتعلق بحكم قضائي صدر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثناء توليه القضاء في اليمن. وتتلخص القصة في (اجتمع قوم حول زُبْيَة بها أسد، فسقط أحدهم ولحقه ثلاثة أخرون محاولين إنقاذه، فقتلهم الأسد. فحكم علي بن أبي طالب: بجمع دية كاملة ونصف دية وثلث دية وربع دية من كافة الحضور الذين شهدوا الحادثة بحيث حكم للقتيل الأول بربع دية لأنه كان سبب بقتل ثلاثة اشخاص بعده، وحكم للثاني ثلث دية لأنه كان سبب بقتل اثنان، وحكم للثالث بنصف دية لأنه سبب قتل شخص، وحكم للرابع بدية كاملة لأنه لم يهلك بعده أحد. وعندما رُفع الحكم للنبي ﷺ، أقره لكنه غيّر جهة تحمُّل الدية، فجعلها مسؤولية كافة قبائل الأشخاص الذين شهدوا الحادثة وليس فقط الأشخاص الذين شهدوا الحادثة وذلك وفق مبدأ العاقلة). ومن هنا تعكس القصة عدالة القضاء الإسلامي، وتبرز مبادئ الاجتهاد، والمسؤولية الجماعية، والتوازن في الأحكام.
التعليقات