غزة والصفقة المؤجلة.. دور مصر الحاسم في التفاوض

غزة والصفقة المؤجلة.. دور مصر الحاسم في التفاوض
جواد العقاد يكتب: غزة والصفقة المؤجلة.. دور مصر الحاسم في التفاوض 

بقلم: جواد العقاد/ كاتب وباحث من غزة 

يبدو أن المشهد الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزة، بات يقترب من نقطة مفصلية، تقف عندها كل الحسابات الإقليمية والدولية على حافة القرار: إمّا انتزاع هدنة تحفظ ما تبقّى من كرامة الإنسان الفلسطيني، أو الاستمرار في جريمة إبادة تُنفَّذ على مرأى العالم وصمته.

يعوّل الفلسطيني في غزة على مصر، لا فقط كجارٍ يربطه بنا الدم والجغرافيا، بل كقلبٍ عربيٍّ ما زال، رغم الضغوط، يحاول أن يحمي شقيقه الفلسطيني من مخالب التهجير ومخططات الإبادة. فمصر اليوم تقف أمام لحظة امتحان تاريخية: إمّا أن تنجح في كسر قيد الحصار وتفتح نافذة جديدة للحياة، أو تترك غزة تنزف في عزّ الصمت.

الوضع الإنساني في غزة بلغ حافة الانهيار. منذ ما يزيد عن شهرين، والمعابر مغلقة، والناس تحت الحصار المزدوج: قصف وجوع. لا غذاء، لا دواء، لا مأوى، لا ماء نقي، والمخيمات تفيض بالبؤس. المخاوف تتصاعد من أنّ ما يحدث ليس حرب فقط، بل تنفيذ متسارع لمشروع تهجير جماعي، لا يُخفي الاحتلال وحلفاؤه نواياهم فيه.

عاد الحديث عن وساطة مصرية جديدة، وعن وفد من حركة حماس، برئاسة خليل الحية، سيصل إلى القاهرة غداً السبت، بحسب ما كشفه موقع "واللا" العبري، للتباحث حول المقترح المصري. المقترح يتضمن وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، لمدة تصل إلى خمسين يوماً، مقابل الإفراج عن ثمانية أسرى إسرائيليين أحياء، إضافة إلى تسليم جثث قتلى إسرائيليين في غزة.

المثير في الأمر أن "واللا" نقل عن مصادر إسرائيلية أن هناك تقارباً حقيقياً بين القاهرة وتل أبيب في ما يتعلق بتفاصيل الصفقة، وأن إسرائيل قدّمت ردها وتنتظر الآن جواب حركة حماس. كما كشفت التسريبات عن تعهّد أمريكي بتقديم ضمانات تُلزم إسرائيل بالتفاوض الجاد على إنهاء الحرب في حال وافقت حماس على المبادرة المصرية.

لكن، هل تكفي هذه الوعود؟ لا يمكن الحديث عن أي صفقة أو هدنة خارج سياق الحقيقة الكبرى: ما يريده الشعب الفلسطيني ليس هدنة مؤقتة، بل وقف دائم للعدوان، فتح المعابر، إعادة النازحين، وإنهاء حالة الاحتلال، لا إعادة ترتيبها.

التجربة علمتنا أن الاحتلال يُراوغ، وأن الإدارة الأمريكية تُعطي الضمانات لتسحبها لاحقاً، وأن المشاريع السياسية لا تولد من طاولة التفاوض وحدها، بل من الصمود على الأرض. وهذا ما فعله شعبنا في غزة، حين حوّل خيام النزوح إلى معاقل للكرامة، وواجه الطائرات، والخذلان، والخيانة، بقلبٍ لا ينكسر.

الخشية اليوم أن تتحوّل الهدنة إلى فخّ، وأن يتم استغلالها لتمرير صفقة سياسية تؤسس لحالة طويلة من اللاسلم واللاحرب، تُبقي غزة محاصَرة وتُبعد عنها ملفّ الدولة والوحدة الوطنية.

وفي خضمّ هذا المشهد الإنساني والسياسي المعقّد، برزت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي ماكرون للجرحى الفلسطينيين في المستشفيات المصرية كصورة رمزية مزدوجة المعاني: رسالة تضامن إنساني لا تخلو من دلالات سياسية. الزيارة تعبّر، من جانب، عن إدراك دولي لحجم الكارثة في غزة، واعترافٍ صريحٍ بأن ما يجري ليس "نزاع" بل جرح مفتوح في الضمير الإنساني. كما تجسد من جانب آخر، رغبة مصر في الحفاظ على دورها التاريخي كحاضنة للشعب الفلسطيني، في وجه سياسات العزل والتهميش. أمّا فرنسا، فربما أرادت أن تظهر بمظهر الشريك الأوروبي المتوازن، القادر على مدّ الجسور بين الضحية والمجتمع الدولي.

لكن، وبرغم هذا الظهور التضامني، فإن أهل غزة لا يريدون فقط مواساة رمزية، بل موقفًا سياسيًا فاعلًا يوقف المجزرة، ويدفع باتجاه حلٍّ جذري يعيد للفلسطيني كرامته ووطنه.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك لحظة ممكنة تلوح في الأفق، إن استُثمرت جيداً. هذه الهدنة، إن تمّت، يجب ألا تكون "صفقة تبادل" فقط، بل مدخلاً لإنهاء الكارثة الإنسانية، وإعادة تعريف العلاقة مع العالم، الذي اكتشف - أخيراً - أن ما يحدث في غزة ليس حرباً، بل مذبحة.

غزة لا تطلب المستحيل، تطلب فقط ما يطلبه أي إنسان: أن لا تموت مرتين، تحت القصف وتحت الجوع. أن لا تُدفَن وهي تنظر إلى معابر مغلقة ومجتمع دولي يُفرّق بين دم ودم.

وحتى تتضح معالم هذه المبادرة، يبقى الفلسطيني معلّقاً بين انتظار الصفقة، وانتظار الفرج من الله. في كل الأحوال، ستبقى غزة هي الصرخة، وهي الفكرة، وهي الامتحان الأكبر للعالم. ومن رحم هذا الألم، سيولد النصر، ولو بعد حين.

التعليقات