معادلة الخروج الآمن وقرار المقاومة

معادلة الخروج الآمن وقرار المقاومة
معادلة الخروج الآمن وقرار المقاومة

بقلم/ حلمي أبو طه

عبر التاريخ لم تكن المقاومة مجرّد خيار سياسي أو عسكري، بل كانت تعبيرًا عن إرادة الشعوب في مواجهة الظلم وسعيها نحو الحرية والكرامة. وحين تتحول المقاومة إلى تاريخ يُفاخر به الأجيال، فإنها تصير مصدر إلهام يعزز الهوية الوطنية ويدفع بالأمة نحو مستقبل أكثر إشراقًا. وفي المقابل حين تتحول المقاومة إلى عبء ثقيل على شعبها، ويصبح طريقها استنزافًا مستمرًا بلا أفق واضح، يكون لزامًا على القيادة أن تتخذ موقفًا مسؤولًا يعلي قيمة الإنسان فوق أي اعتبار. إن قرار حقن الدماء حين يكون السبيل الوحيد للحفاظ على ما تبقى من الحياة والكرامة لا يُعد خيانة ولا تخليًا عن المبادئ بل هو أسمى درجات الحكمة والشجاعة. وأهالي غزة الذين صبروا واحتملوا كل الأهوال يدركون أن المقاومة الحقيقية ليست فقط في القتال، وسيحترمون ويقدرون مقاومة تدرك متى تقاتل ومتى تعيد الحسابات. والمجتمع الداعم للمقاومة عليه أن يفهم أن البطولة ليست في استمرار النزيف، بل في انتزاع الحقوق بأقل الأثمان والتكاليف. أما من يعادي المقاومة، فليدرك أن قرار السلم والتهدئة لا يعني الاستسلام، بل هو اختيار وطني نابع من إرادة شعب، وليس من إملاءات الخارج أو ضغوط العدو. ولا أرى أي من الأطراف التي تدعم المقاومة أو التي لا تقف بجانبها سيكون من الشامتين او المعايرين أو المخونين لها. بل على العكس ربما تزداد الانقسامات داخل أروقة الاحتلال إذا تبيّن أن ما ظنّه انتصارًا ليس إلا إعادة تموضع ذكية للمقاومة.

نعم في أزمنة الحرب تكون الخيارات صعبة والقرارات أشد مرارة، لكن الحكمة تقتضي التمييز بين الشجاعة والتهور وبين الصمود والمقامرة بمصير الملايين. إن اشتراط خروج آمن للمقاومين وقيادتهم كجزء من اتفاق وقف الحرب قد يبدو للوهلة الأولى خيارًا صعب القبول، لكنه يصبح ضرورة حين يكون الثمن استمرار معاناة أكثر من مليوني إنسان محاصرين بين نيران الموت والدمار ومهددين بالتهجير الطوعي أو القصري، فكلاهما يستوي في القهر والالم. إن المبدأ الذي يجب أن يحكم أي اتفاق هو تحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل الخسائر الممكنة، وهذا يتطلب ضمانات واضحة وآليات صارمة تلزم الاحتلال الإسرائيلي بعدم استغلال الموقف وضمان عدم تكرار العدوان أو استهداف من غادروا ضمن هذا الاتفاق. فالبحث عن خروج أمن وإنقاذ الأرواح هو أولوية أخلاقية ووطنية، تفرض نفسها حين تصبح الخيارات محدودة بين استمرار الإبادة أو البحث عن مخرج يحفظ ما تبقى من الحياة.

التاريخ لا يرحم من لا يقرأ موازينه بعقل وقلب بصيرين فنحن اليوم في منعطف تاريخي وحضاري، حيث تتقاطع التضحية مع الحكمة، والصبر مع البصيرة. ولنا في الهدي النبوي نورٌ يرشدنا، وفي سيرة خالد بن الوليد في مؤتة درس حين قرر إعادة تموضع جيشه تفاديًا لخسائر جسيمة، فبارك النبي ﷺ ذلك القرار قائلاً: "ليسوا بالفرار، بل هم الكرار". وهذه هي الحكمة التي تحتاجها مقاومتنا اليوم. فليس كل انسحاب ضعفًا وهزيمة، بل قد يكون خطوة استراتيجية تحمي الأرواح، وتفوت الفرصة على المتربصين، وتؤسس لجولة جديدة أكثر قوة. غزة التي لم تنكسر رغم الحصار والعدوان، تدرك أن حماية شعبها أمانة، وأن الوفاء لدماء الشهداء لا يكون فقط بمواصلة القتال، بل بالقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب.

إن مبادئ الإسلام تجمع بين القوة والرحمة والحكمة، ومنها صون الأرواح وحفظ الدماء، كما قال النبي ﷺ: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم بغير حق". وفي صلح الحديبية، قبل النبي ﷺ بشروط ظاهرها لم يكن في صالح المسلمين، لكنه رأى فيها مصلحة بعيدة المدى، وأثبت التاريخ أن قراره كان في محله. ومن هنا وبعد النزوح السابع ومن قلب المعاناة التي تتجدد نلتمس من حكمة وعدالة المقاومة قبول ما هو مطروح، ولو لم يكن يلبي كل الطموحات، إذا كان ذلك يحقق مصلحة الأمة ويحفظ الأرواح، لأن الصراع طويل، والأيام دول، والمعادلة اليوم ليست بين الانتصار أو الهزيمة فقط بل بين إنقاذ الأرواح والحفاظ على ما تبقى، وبين الاستمرار في معركة قد يطول أمدها دون أفق واضح. والنصر قد يأتي على أيدي أجيال لم تولد بعد. فوعد الله آتٍ، فإن لم يكن النصر اليوم، وربما ليس بيد هذا الجيل، لكننا على يقين أن الله قد وعد عبادًا سيحققون ذلك يومًا ما: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ ٱلْأخِرَةِ لِيَسُـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًۭا﴾ فحافظوا على نسل غزة، ليكون منهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأحفاد يشرفون الأمة يوم القيامة، وقد كتبهم الله في اللوح المحفوظ ممن سيحققون هذا الوعد. كما أن الهجرة من مكة لم تكن تخليًا عن الرسالة، بل كانت إعادة تموضع لبناء قوة جديدة. ومثلما كانت تلك الهجرة بداية عهدٍ أقوى، قد يكون الانسحاب أحيانًا جزءًا من استراتيجية النصر. فالنصر لا يقاس بالمعركة وحدها، بل بالقدرة على الاستمرار حتى تتحقق الغاية الكبرى. لذا فإن القرارات التي تُتخذ اليوم يجب أن تكون جسراً يعبر بالأمة نحو مستقبل أكثر قوة ووعيًا، حيث تبقى المقاومة عنوان الكرامة، ولكن بحكمة تحفظ الأرض والإنسان معًا. تحفظ الأرض والإنسان معًا. تحفظ الأرض والإنسان معًا. تحفظ الأرض والإنسان معًا.

التعليقات