غزة: بين إرادة الشارع ورهان التغيير

غزة: بين إرادة الشارع ورهان التغيير
بقلم/ حلمي أبو طه
إن إرادة الشارع ووعيه في غزة يمثلان صمام الأمان الحقيقي لمقاومة الاحتلال وتحقيق التحرير. فوعي الجماهير ليس مجرد أداة ضغط، بل هو قوة دافعة قادرة على تصويب المسار وتصحيح الأخطاء، وبناء موقف وطني جامع يحمي قضيتنا من الاستغلال أو التمييع. وفي ظل هذا الواقع المأزوم، نشهد هذه الأيام بداية تحركًا لافتًا للشارع الغزي، بدءًا من خروج أهالي بيت لاهيا في شمال غزة، مطالبين بخروج قيادات حركة حماس من القطاع ومن المشهد السياسي. هذا الموقف العفوي، الذي جاء بعد أكثر من سنة ونصف من حرب مدمرة، يعكس حالة الإحباط واليأس التي يعيشها الشارع الفلسطيني نتيجة التصعيد العسكري المستمر وما خلّفه من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وتفاقم الأوضاع المعيشية. لكن يبقى السؤال المحوري: هل سينجح هذا الحراك في تحقيق واقع جديد؟؟ في تقديري من غير المرجح أن يتمكن الشارع الغزي من قلب الموازين والضغط على حركة حماس لإجبارها على الخروج من المشهد السياسي ومن غزة. وذلك لثلاثة أسباب رئيسية تدعم هذا التقدير:
اولاً: غياب القيادات المؤثرة واستنزاف الشارع، حيث يفتقر الشارع الغزي إلى شخصيات نخبوية أو حركات وأحزاب قوية تمتلك القدرة على توجيه الحراك الشعبي وتنظيمه بشكل فعّال، ما يجعله مشتتًا وعرضة للانطفاء قبل تحقيق أي تغيير حقيقي. فغياب قيادة واضحة تعيق إمكانية تحويل الغضب الشعبي إلى قوة منظمة قادرة على فرض واقع جديد. إلى جانب ذلك، فإن النفس القصير لمن يخرج إلى الشارع يشكّل عقبة أمام استمرارية الحراك. فالمواطن الغزي مثقل بالأوجاع اليومية ومتطلبات الحياة القاسية. هذه الضغوط المعيشية تضعف قدرة الأفراد على الصمود طويلًا في أي حراك، ما يؤدي إلى انحسار الاحتجاجات قبل أن تحقق أهدافها المرجوة.
ثانياً: قدرة حماس على ضبط الشارع فهي تمتلك أدوات قوية تمكّنها من إحكام السيطرة على الشارع الغزي وإجهاض أي تحركات معارضة بفعالية. فبنيتها التنظيمية الراسخة وامتدادها الفكري والعقائدي يمنحانها قاعدة جماهيرية جاهزة للدفاع عن مواقفها والتصدي لأي حراك مخالف. وتعتمد الحركة على شبكة إعلامية واسعة، تشمل وسائل التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية الموالية، لتوجيه الرأي العام وزعزعة مصداقية المعارضين عبر خطاب ممنهج يوظف الشعارات الدينية والنصوص الشرعية، وصولًا إلى اتهام المعارضين بالخيانة أو السعي لشق الصف الوطني. وإلى جانب التأثير الإعلامي، تفرض حماس هيمنة أمنية قوية وتمارس سيطرة فعالة على الموارد والخدمات الأساسية، ما يجعلها قادرة على احتواء أي محاولات ضغط، وإجهاض أي حراك يهدد نفوذها.
ثالثا: الأجندة الاستراتيجية الإسرائيلية والتي تتبنى تفريغ غزة وشق الصف الفلسطيني، بحيث ترى في خروج حماس مكسبًا سياسيًا مرحليًا، ولكنها استراتيجيتها تتجاوز هذا الهدف الضيق نحو مخطط أكثر خطورة. فإسرائيل لا تسعى إلى مجرد إضعاف حماس، بل تعمل على تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتقويض بنيته الديموغرافية والاقتصادية، في إطار خطة طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي الفلسطيني. والغاية الكبرى من هذا المخطط هي تسهيل السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، عبر تحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، تدفع سكانها إلى الهجرة القسرية أو العيش في ظروف خانقة تُفقدهم القدرة على المقاومة. وفي هذا السياق، تدرك إسرائيل أن دعم أي حراك شعبي ضد حماس قد يبدو ظاهريًا وكأنه يخدم مصالحها، لكنه لا يتماشى مع أولوياتها الاستراتيجية الكبرى. لذلك، تلجأ إلى المناورة الإعلامية، وتستخدم محلليها ومنصاتها الدعائية لتوجيه الخطاب العام، متبنية هذا الحراك في الظاهر تحت شعار "فرق تسد"، بينما تعمل فعليًا على تأجيج الصراع الداخلي الفلسطيني، ودفع الأوضاع نحو مواجهة بينية تستنزف الطاقات وتفكك أي جبهة موحدة ضد الاحتلال. بهذه الطريقة، تحاول إسرائيل توظيف أي توتر داخلي لخدمة أهدافها الكبرى، دون أن تقدم دعمًا حقيقيًا لأي طرف، بل تضمن استمرار الفوضى بما يعزز قبضتها على الأرض والموارد.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي الغزي عبر التحرك الشعبي أمر بعيد المنال في الوقت الحالي. ولكن الأهم: هل تمتلك القيادة السياسية لحماس ومن قبلها القيادة العسكرية للقسام القدرة على قراءة هذا الحراك الشعبي بوعي ومسؤولية، والاستجابة له بقرارات شجاعة تتجاوز حسابات السلطة والنفوذ؟
نجاح هذا الحراك في تحقيق أهدافه يعتمد على مرونة ردة فعل قيادات حماس العسكرية والسياسية فهي الحكم والجلاد في هذه الحالة. فالتعامل مع هذا المشهد يتطلب إدارة حكيمة للأزمة، خاصة من قيادة كتائب القسام، تتسم بالمرونة والحكمة في التعامل مع معطيات المرحلة، وتتخذ قرارات جريئة تراعي نبض الشارع وتحمي المشروع الوطني من محاولات الاستغلال والاختراق. وهذا يتطلب رؤية استراتيجية واضحة توازن بين المطالب الشعبية وضغوط الواقع السياسي، وتراعي التحديات الداخلية والخارجية، وتحافظ على وحدة الصف الوطني، وتمنع الانزلاق في مسارات قد يستغلها الاحتلال لتفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني (وهذا ما بدء به فعليا) وفرض وقائع جديدة على الأرض. وهنا انصح حماس بالتشاور مع حليفها التركي حيث نجح الرئيس رجب طيب أردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001 بعد انشقاقه عن حزب الرفاه الإسلامي، ما سمح له بالتكيف مع البيئة السياسية التركية والدولية.
بقلم/ حلمي أبو طه
إن إرادة الشارع ووعيه في غزة يمثلان صمام الأمان الحقيقي لمقاومة الاحتلال وتحقيق التحرير. فوعي الجماهير ليس مجرد أداة ضغط، بل هو قوة دافعة قادرة على تصويب المسار وتصحيح الأخطاء، وبناء موقف وطني جامع يحمي قضيتنا من الاستغلال أو التمييع. وفي ظل هذا الواقع المأزوم، نشهد هذه الأيام بداية تحركًا لافتًا للشارع الغزي، بدءًا من خروج أهالي بيت لاهيا في شمال غزة، مطالبين بخروج قيادات حركة حماس من القطاع ومن المشهد السياسي. هذا الموقف العفوي، الذي جاء بعد أكثر من سنة ونصف من حرب مدمرة، يعكس حالة الإحباط واليأس التي يعيشها الشارع الفلسطيني نتيجة التصعيد العسكري المستمر وما خلّفه من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وتفاقم الأوضاع المعيشية. لكن يبقى السؤال المحوري: هل سينجح هذا الحراك في تحقيق واقع جديد؟؟ في تقديري من غير المرجح أن يتمكن الشارع الغزي من قلب الموازين والضغط على حركة حماس لإجبارها على الخروج من المشهد السياسي ومن غزة. وذلك لثلاثة أسباب رئيسية تدعم هذا التقدير:
اولاً: غياب القيادات المؤثرة واستنزاف الشارع، حيث يفتقر الشارع الغزي إلى شخصيات نخبوية أو حركات وأحزاب قوية تمتلك القدرة على توجيه الحراك الشعبي وتنظيمه بشكل فعّال، ما يجعله مشتتًا وعرضة للانطفاء قبل تحقيق أي تغيير حقيقي. فغياب قيادة واضحة تعيق إمكانية تحويل الغضب الشعبي إلى قوة منظمة قادرة على فرض واقع جديد. إلى جانب ذلك، فإن النفس القصير لمن يخرج إلى الشارع يشكّل عقبة أمام استمرارية الحراك. فالمواطن الغزي مثقل بالأوجاع اليومية ومتطلبات الحياة القاسية. هذه الضغوط المعيشية تضعف قدرة الأفراد على الصمود طويلًا في أي حراك، ما يؤدي إلى انحسار الاحتجاجات قبل أن تحقق أهدافها المرجوة.
ثانياً: قدرة حماس على ضبط الشارع فهي تمتلك أدوات قوية تمكّنها من إحكام السيطرة على الشارع الغزي وإجهاض أي تحركات معارضة بفعالية. فبنيتها التنظيمية الراسخة وامتدادها الفكري والعقائدي يمنحانها قاعدة جماهيرية جاهزة للدفاع عن مواقفها والتصدي لأي حراك مخالف. وتعتمد الحركة على شبكة إعلامية واسعة، تشمل وسائل التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية الموالية، لتوجيه الرأي العام وزعزعة مصداقية المعارضين عبر خطاب ممنهج يوظف الشعارات الدينية والنصوص الشرعية، وصولًا إلى اتهام المعارضين بالخيانة أو السعي لشق الصف الوطني. وإلى جانب التأثير الإعلامي، تفرض حماس هيمنة أمنية قوية وتمارس سيطرة فعالة على الموارد والخدمات الأساسية، ما يجعلها قادرة على احتواء أي محاولات ضغط، وإجهاض أي حراك يهدد نفوذها.
ثالثا: الأجندة الاستراتيجية الإسرائيلية والتي تتبنى تفريغ غزة وشق الصف الفلسطيني، بحيث ترى في خروج حماس مكسبًا سياسيًا مرحليًا، ولكنها استراتيجيتها تتجاوز هذا الهدف الضيق نحو مخطط أكثر خطورة. فإسرائيل لا تسعى إلى مجرد إضعاف حماس، بل تعمل على تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتقويض بنيته الديموغرافية والاقتصادية، في إطار خطة طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي الفلسطيني. والغاية الكبرى من هذا المخطط هي تسهيل السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، عبر تحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، تدفع سكانها إلى الهجرة القسرية أو العيش في ظروف خانقة تُفقدهم القدرة على المقاومة. وفي هذا السياق، تدرك إسرائيل أن دعم أي حراك شعبي ضد حماس قد يبدو ظاهريًا وكأنه يخدم مصالحها، لكنه لا يتماشى مع أولوياتها الاستراتيجية الكبرى. لذلك، تلجأ إلى المناورة الإعلامية، وتستخدم محلليها ومنصاتها الدعائية لتوجيه الخطاب العام، متبنية هذا الحراك في الظاهر تحت شعار "فرق تسد"، بينما تعمل فعليًا على تأجيج الصراع الداخلي الفلسطيني، ودفع الأوضاع نحو مواجهة بينية تستنزف الطاقات وتفكك أي جبهة موحدة ضد الاحتلال. بهذه الطريقة، تحاول إسرائيل توظيف أي توتر داخلي لخدمة أهدافها الكبرى، دون أن تقدم دعمًا حقيقيًا لأي طرف، بل تضمن استمرار الفوضى بما يعزز قبضتها على الأرض والموارد.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي الغزي عبر التحرك الشعبي أمر بعيد المنال في الوقت الحالي. ولكن الأهم: هل تمتلك القيادة السياسية لحماس ومن قبلها القيادة العسكرية للقسام القدرة على قراءة هذا الحراك الشعبي بوعي ومسؤولية، والاستجابة له بقرارات شجاعة تتجاوز حسابات السلطة والنفوذ؟
نجاح هذا الحراك في تحقيق أهدافه يعتمد على مرونة ردة فعل قيادات حماس العسكرية والسياسية فهي الحكم والجلاد في هذه الحالة. فالتعامل مع هذا المشهد يتطلب إدارة حكيمة للأزمة، خاصة من قيادة كتائب القسام، تتسم بالمرونة والحكمة في التعامل مع معطيات المرحلة، وتتخذ قرارات جريئة تراعي نبض الشارع وتحمي المشروع الوطني من محاولات الاستغلال والاختراق. وهذا يتطلب رؤية استراتيجية واضحة توازن بين المطالب الشعبية وضغوط الواقع السياسي، وتراعي التحديات الداخلية والخارجية، وتحافظ على وحدة الصف الوطني، وتمنع الانزلاق في مسارات قد يستغلها الاحتلال لتفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني (وهذا ما بدء به فعليا) وفرض وقائع جديدة على الأرض. وهنا انصح حماس بالتشاور مع حليفها التركي حيث نجح الرئيس رجب طيب أردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001 بعد انشقاقه عن حزب الرفاه الإسلامي، ما سمح له بالتكيف مع البيئة السياسية التركية والدولية.
التعليقات