رفح.. سيف العزة ودرع الأمة تُعاقب وحدها

رفح.. سيف العزة ودرع الأمة تُعاقب وحدها
بقلم/ حلمي أبو طه
مهما كتبت لن أملّ، ولن أوفيها حقها...فكل حرف يخط ويُكتب عن رفح، هو أقل مما تستحق، وكل كلمة تُقال، لا تلامس عظمة صمودها. وإن قصّرتُ، فالعذر منكم، فالتقصير مني، لأن رفح أعظم من أن تُختصرها الكلمات. وإن أوفيت، فهي العزة، وهي المجد، وهي التي لا تُقهر. فرفح، جوهرة الجنوب الفلسطيني، لم تكن يومًا مجرد مدينة على الخريطة، بل كانت القلب النابض لغزة، والسيف الذي دافع عن كرامة الوطن، والدرع الذي احتضن الجميع. على مرّ التاريخ، فلطالما كانت رفح عنوانًا للمقاومة والعزة، فمنها انطلقت حركات وطنية كبرى، بدءًا بولادة حركة الجهاد الإسلامي في مسجد السلام، مرورًا بتأسيس شبيبة فتح بقيادة أبو علي شاهين، ووصولًا إلى قيادة لجان المقاومة الشعبية. كما لعبت دورًا محوريا في الانتفاضة الأولى، حيث شكلت قاعدة الدعم والإسناد، تمدّ القطاع بالمال والسلاح، وتحفظ لثورته جذوتها. ولم تكن فقط ميدانًا للنضال، بل كانت أيضًا شريان الحياة لغزة كلها. من أنفاقها تدفقت المواد التموينية زمن الحصار، ومن معبرها التجاري دخلت مقومات الحياة إلى القطاع، حتى استحقت لقب "سلة الغذاء". ولم يكن ذلك فحسب، فقد احتضنت رفح مطار غزة الدولي، ووقفت كجسر عبور للعالم عبر معبر رفح البري، فكانت بوابة الأمل للفلسطينيين العالقين خلف الأسلاك الشائكة.
وحين اشتد العدوان، كانت رفح الملجأ الأخير، فتحت أبوابها لمن شُرّدوا من الشمال والوسطى وخان يونس، تقاسمت اللقمة والماء والخيام، واحتضنت أهلها المهجّرين بصبر ومحبة، رغم شُحّ الموارد وضيق الحال. لكنها اليوم تجد نفسها وحيدة، المدينة التي تُعاقب على احتضانها للجميع، والتي لا يزال أهلها أسرى التهجير، أسرى الخيام التي لا تردّ حرًا ولا بردًا، أسرى الجوع والعطش والمرض. وكأنهم يُعاقَبون لأنهم حملوا الوطن في قلوبهم، وكانوا السيف الذي ذاد عن كرامته، والدرع الذي صان مشروعه الوطني، وما زالوا كذلك، واقفين كالجبل، موحّدين رغم الألم، يدركون أن للصبر حدودًا، وشعارهم "اتقِ شرّ الحليم إذا غضب".
رفح ليست مجرد درع يحمي الوطن أو سيف يشهر في وجه المعتدين، بل هي أيضًا القوة الناعمة التي تجسّد روح غزة الثقافية والفنية والرياضية. فمن قلبها النابض خرج قطبا كرة القدم الغزية، شباب رفح وخدمات رفح، ليصنعا مجد الملاعب ويرفعا اسم المدينة عاليًا. وفيها ولد الإبداع الفني، فأنجبت الموسيقار ياسر عمر وعبد الفتاح النجيلي، والمخرجين السينمائيين إياد حجاج وأسامة مبارك، والدكتور عز الدين الشلح رئيس مهرجان القدس السينمائي، والفنان الصقر بن خماش، الذين حملوا صوت رفح إلى الشاشات العربية والعالمية. ومن شوارعها وأزقتها، صدحت قصائد الشعراء محمد الدبعي، وعمر حرب، وعادل حجاج، وجمعة عبد العال، وهدى النواجحة، تنثر الإبداع وتروي عطش القلوب. وفي مسابقة أمير الشعراء، علت أشعار فارس صالح في نشيد الخلود، فأبدع وأطرب، ونال الرضا والسعادة، وفاز فوزًا عظيمًا، محفوفًا بالمجد والتقدير. بينما وثّق الكاتب محمد الشيخ علي ومحمود جودة حكايات المدينة بمداد أقلامهم. وأنجبت الكاتب المفكر عبد الكريم الحشاش والصديق الحبيب محمد أبو قريبة، ولم يكن المشهد الثقافي ليكتمل دون صالون حلمي الثقافي، الذي جمع بين الأدب والفكر، ليبقى منبرًا للإبداع والتنوير، ومجمع الكرامة الثقافي الذي حافظ على الإرث الثقافي الشعبي، رفح ليست مجرد مدينة، بل هي قصة تُحكى، وحضارة تُكتب، وروح لا تنكسر.
واليوم رغم كل هذا الجمال والمجد، تبقى رفح حزينة ووحيدة. فرغم أن اتفاق وقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ، إلا أن رفح ما زالت تنزف تحت القصف، ترزح تحت الحصار، تعاني ويلات الاجتياح. الاحتلال لم يخرج منها، بل يواصل قتل أهلها وتدمير ما تبقى منها، حيث وثّقت التقارير استشهاد أكثر من 40 مدنيًا منذ بدء الهدنة، في خرق واضح لكل الاتفاقات. ومع ذلك، لم يتحرك أحد لضمان عودتهم، رغم أن المرحلة الثانية من الاتفاق نصّت صراحةً على ذلك. أهالي رفح اليوم يتساءلون: أين الالتزام؟ أين الضمانات؟ ولماذا الصمت على جريمة تهجيرنا؟ ولماذا لم تمارس مصر، التي تملك حق الضغط القانوني على إسرائيل بموجب اتفاقية كامب ديفيد، دورها في ضمان انسحاب الاحتلال؟ ومن المحزن المبكي في 27 مايو 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا يلزم إسرائيل بوقف فوري لهجومها العسكري على رفح، وعلى إثر هذا القرار أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن الحكم ملزم بموجب ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة، مشيرًا إلى عزمه إحالة القضية إلى مجلس الأمن الدولي لضمان التنفيذ. إلى جانب ذلك، حذّر خبراء الأمم المتحدة من أن اجتياح رفح يشكل انتهاكًا صارخًا لالتزامات إسرائيل كقوة احتلال، مشيرين إلى أن اجتياح رفح لا يتوافق مع القانون الدولي الإنساني. ورغم كل هذه القرارات والتحذيرات الأممية، واصلت إسرائيل عملياتها العسكرية، ولم يعد يُذكر قرار محكمة العدل الدولية في المحافل الدبلوماسية ولا في القنوات الفضائية، مما أثار قلق أهالي رفح من إمكانية تجاهل حقوقهم ومعاناتهم المستمرة. إن هذا التجاهل لا يمثل فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل يكشف عن عجز المجتمع الدولي في فرض التزاماته وضمان تنفيذ قراراته.
رسالتنا من رفح لن تكون مجرد كلمات... فهي ستُرى قبل أن تُسمع. إلى كل من يملك القرار، إلى كل من يجلس على طاولة التفاوض، إلى كل من يعتقد أن رفح ستبقى وحدها تحت الركام... نقولها بوضوح وقوة: رفح لن تُترك للموت، ولن تكون أسيرة النسيان. إذا كان الصمت هو سيد الموقف، فليعلم الجميع أن في رفح رجالًا ونساءً لا يعرفون الانكسار، يعرفون حقوقهم، يعرفون معنى العزة، ويدركون أن التاريخ لا يرحم من يخذل الأوفياء. نحن لا نطلب المستحيل، لا نطلب معروفًا ولا صدقة، بل نطالب بحقنا المقدس في العودة إلى ديارنا حتى وهي ركام. اجعلوا قضية رفح الأولوية المطلقة على طاولة المفاوضات، حتى قبل المعونات الاغاثية. وإذا كان الانسحاب الكامل من رفح صعبًا في هذه المرحلة، فإن الخيار الأنسب هو الانسحاب إلى شرق معبر رفح بشكل مبدئي، مما يتيح العودة إلى ديارنا بأمان. هذا الحل فقط لان أهالي رفح لا يريدون خلق زريعة لإعادة الحرب من جديد، وهو حلاً يوفر الفرصة لإنهاء معانات النازحين ويضمن بدء مرحلة جديدة من الاستقرار. ليتم بعد ذلك استكمال الانسحاب بما يضمن الحفاظ على السلام والأمن للمنطقة. فكل أهالي رفح اليوم أسرى في مخيمات النزوح، يعانون الغربة والحرمان. وإذا لم يُحقق هذا الحق بالسلام، فإن رفح تعرف طريقها جيدًا لاستعادة حقها، فـ "اتقِ شر الحليم إذا غضب". فرفح ليست مدينة تُحاصر، ولا رقماً في نشرات الأخبار، بل أسطورة تُخطّ بالدم، وتُسطَّر بالصبر. هي عنوان للصمود، وقلعة لا تُهدم، مهما اشتد الحصار، ومهما حاولوا طمس هويتها، ستظل رفح بوابة العزة التي لا تُغلق، وكلمة الفصل التي لا تُمحى.
مهما كتبت لن أملّ، ولن أوفيها حقها...فكل حرف يخط ويُكتب عن رفح، هو أقل مما تستحق، وكل كلمة تُقال، لا تلامس عظمة صمودها. وإن قصّرتُ، فالعذر منكم، فالتقصير مني، لأن رفح أعظم من أن تُختصرها الكلمات. وإن أوفيت، فهي العزة، وهي المجد، وهي التي لا تُقهر. فرفح، جوهرة الجنوب الفلسطيني، لم تكن يومًا مجرد مدينة على الخريطة، بل كانت القلب النابض لغزة، والسيف الذي دافع عن كرامة الوطن، والدرع الذي احتضن الجميع. على مرّ التاريخ، فلطالما كانت رفح عنوانًا للمقاومة والعزة، فمنها انطلقت حركات وطنية كبرى، بدءًا بولادة حركة الجهاد الإسلامي في مسجد السلام، مرورًا بتأسيس شبيبة فتح بقيادة أبو علي شاهين، ووصولًا إلى قيادة لجان المقاومة الشعبية. كما لعبت دورًا محوريا في الانتفاضة الأولى، حيث شكلت قاعدة الدعم والإسناد، تمدّ القطاع بالمال والسلاح، وتحفظ لثورته جذوتها. ولم تكن فقط ميدانًا للنضال، بل كانت أيضًا شريان الحياة لغزة كلها. من أنفاقها تدفقت المواد التموينية زمن الحصار، ومن معبرها التجاري دخلت مقومات الحياة إلى القطاع، حتى استحقت لقب "سلة الغذاء". ولم يكن ذلك فحسب، فقد احتضنت رفح مطار غزة الدولي، ووقفت كجسر عبور للعالم عبر معبر رفح البري، فكانت بوابة الأمل للفلسطينيين العالقين خلف الأسلاك الشائكة.
وحين اشتد العدوان، كانت رفح الملجأ الأخير، فتحت أبوابها لمن شُرّدوا من الشمال والوسطى وخان يونس، تقاسمت اللقمة والماء والخيام، واحتضنت أهلها المهجّرين بصبر ومحبة، رغم شُحّ الموارد وضيق الحال. لكنها اليوم تجد نفسها وحيدة، المدينة التي تُعاقب على احتضانها للجميع، والتي لا يزال أهلها أسرى التهجير، أسرى الخيام التي لا تردّ حرًا ولا بردًا، أسرى الجوع والعطش والمرض. وكأنهم يُعاقَبون لأنهم حملوا الوطن في قلوبهم، وكانوا السيف الذي ذاد عن كرامته، والدرع الذي صان مشروعه الوطني، وما زالوا كذلك، واقفين كالجبل، موحّدين رغم الألم، يدركون أن للصبر حدودًا، وشعارهم "اتقِ شرّ الحليم إذا غضب".
رفح ليست مجرد درع يحمي الوطن أو سيف يشهر في وجه المعتدين، بل هي أيضًا القوة الناعمة التي تجسّد روح غزة الثقافية والفنية والرياضية. فمن قلبها النابض خرج قطبا كرة القدم الغزية، شباب رفح وخدمات رفح، ليصنعا مجد الملاعب ويرفعا اسم المدينة عاليًا. وفيها ولد الإبداع الفني، فأنجبت الموسيقار ياسر عمر وعبد الفتاح النجيلي، والمخرجين السينمائيين إياد حجاج وأسامة مبارك، والدكتور عز الدين الشلح رئيس مهرجان القدس السينمائي، والفنان الصقر بن خماش، الذين حملوا صوت رفح إلى الشاشات العربية والعالمية. ومن شوارعها وأزقتها، صدحت قصائد الشعراء محمد الدبعي، وعمر حرب، وعادل حجاج، وجمعة عبد العال، وهدى النواجحة، تنثر الإبداع وتروي عطش القلوب. وفي مسابقة أمير الشعراء، علت أشعار فارس صالح في نشيد الخلود، فأبدع وأطرب، ونال الرضا والسعادة، وفاز فوزًا عظيمًا، محفوفًا بالمجد والتقدير. بينما وثّق الكاتب محمد الشيخ علي ومحمود جودة حكايات المدينة بمداد أقلامهم. وأنجبت الكاتب المفكر عبد الكريم الحشاش والصديق الحبيب محمد أبو قريبة، ولم يكن المشهد الثقافي ليكتمل دون صالون حلمي الثقافي، الذي جمع بين الأدب والفكر، ليبقى منبرًا للإبداع والتنوير، ومجمع الكرامة الثقافي الذي حافظ على الإرث الثقافي الشعبي، رفح ليست مجرد مدينة، بل هي قصة تُحكى، وحضارة تُكتب، وروح لا تنكسر.
واليوم رغم كل هذا الجمال والمجد، تبقى رفح حزينة ووحيدة. فرغم أن اتفاق وقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ، إلا أن رفح ما زالت تنزف تحت القصف، ترزح تحت الحصار، تعاني ويلات الاجتياح. الاحتلال لم يخرج منها، بل يواصل قتل أهلها وتدمير ما تبقى منها، حيث وثّقت التقارير استشهاد أكثر من 40 مدنيًا منذ بدء الهدنة، في خرق واضح لكل الاتفاقات. ومع ذلك، لم يتحرك أحد لضمان عودتهم، رغم أن المرحلة الثانية من الاتفاق نصّت صراحةً على ذلك. أهالي رفح اليوم يتساءلون: أين الالتزام؟ أين الضمانات؟ ولماذا الصمت على جريمة تهجيرنا؟ ولماذا لم تمارس مصر، التي تملك حق الضغط القانوني على إسرائيل بموجب اتفاقية كامب ديفيد، دورها في ضمان انسحاب الاحتلال؟ ومن المحزن المبكي في 27 مايو 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا يلزم إسرائيل بوقف فوري لهجومها العسكري على رفح، وعلى إثر هذا القرار أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن الحكم ملزم بموجب ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة، مشيرًا إلى عزمه إحالة القضية إلى مجلس الأمن الدولي لضمان التنفيذ. إلى جانب ذلك، حذّر خبراء الأمم المتحدة من أن اجتياح رفح يشكل انتهاكًا صارخًا لالتزامات إسرائيل كقوة احتلال، مشيرين إلى أن اجتياح رفح لا يتوافق مع القانون الدولي الإنساني. ورغم كل هذه القرارات والتحذيرات الأممية، واصلت إسرائيل عملياتها العسكرية، ولم يعد يُذكر قرار محكمة العدل الدولية في المحافل الدبلوماسية ولا في القنوات الفضائية، مما أثار قلق أهالي رفح من إمكانية تجاهل حقوقهم ومعاناتهم المستمرة. إن هذا التجاهل لا يمثل فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل يكشف عن عجز المجتمع الدولي في فرض التزاماته وضمان تنفيذ قراراته.
رسالتنا من رفح لن تكون مجرد كلمات... فهي ستُرى قبل أن تُسمع. إلى كل من يملك القرار، إلى كل من يجلس على طاولة التفاوض، إلى كل من يعتقد أن رفح ستبقى وحدها تحت الركام... نقولها بوضوح وقوة: رفح لن تُترك للموت، ولن تكون أسيرة النسيان. إذا كان الصمت هو سيد الموقف، فليعلم الجميع أن في رفح رجالًا ونساءً لا يعرفون الانكسار، يعرفون حقوقهم، يعرفون معنى العزة، ويدركون أن التاريخ لا يرحم من يخذل الأوفياء. نحن لا نطلب المستحيل، لا نطلب معروفًا ولا صدقة، بل نطالب بحقنا المقدس في العودة إلى ديارنا حتى وهي ركام. اجعلوا قضية رفح الأولوية المطلقة على طاولة المفاوضات، حتى قبل المعونات الاغاثية. وإذا كان الانسحاب الكامل من رفح صعبًا في هذه المرحلة، فإن الخيار الأنسب هو الانسحاب إلى شرق معبر رفح بشكل مبدئي، مما يتيح العودة إلى ديارنا بأمان. هذا الحل فقط لان أهالي رفح لا يريدون خلق زريعة لإعادة الحرب من جديد، وهو حلاً يوفر الفرصة لإنهاء معانات النازحين ويضمن بدء مرحلة جديدة من الاستقرار. ليتم بعد ذلك استكمال الانسحاب بما يضمن الحفاظ على السلام والأمن للمنطقة. فكل أهالي رفح اليوم أسرى في مخيمات النزوح، يعانون الغربة والحرمان. وإذا لم يُحقق هذا الحق بالسلام، فإن رفح تعرف طريقها جيدًا لاستعادة حقها، فـ "اتقِ شر الحليم إذا غضب". فرفح ليست مدينة تُحاصر، ولا رقماً في نشرات الأخبار، بل أسطورة تُخطّ بالدم، وتُسطَّر بالصبر. هي عنوان للصمود، وقلعة لا تُهدم، مهما اشتد الحصار، ومهما حاولوا طمس هويتها، ستظل رفح بوابة العزة التي لا تُغلق، وكلمة الفصل التي لا تُمحى.
التعليقات