الجذور في مواجهة العاصفة

الجذور في مواجهة العاصفة
الجذور في مواجهة العاصفة

جواد العقاد

مع الحرب الوحشية التي عشناها في غزة، نشأت معاناة لا توصف، حيث اضطررنا للنزوح نحو أماكن يُفترض أن تكون إنسانية آمنة، وفي الحقيقة إن هذه الأماكن تفتقر لكل مقومات الحياة الإنسانية، فهي امتداد أرض فقدت كل معالم الأمان وغرقت في القهر اليومي. لكن الفلسطيني الذي يتعرض للقتل والتهجير والموت، لا ينكسر، بل يمارس حقه في الحياة تحت شبح الموت: يفرح، يحزن، يتعلم، يزرع الأمل في وقت تُصادر فيه الحياة. ولكن، بعيداً عن هذه اللحظات العابرة، ما يعيشه الفلسطيني هو معركة مستمرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وجرح.

منذ وطأت أقدامنا هذه الأرض، شكلت فكرة الأرض في الوعي الفلسطيني مقدساً لا يمكن التفريط فيه. كتبنا لها قصائد بالدم، لا يمكن أن يُخلى منها الفلسطيني مهما كانت تحديات البقاء، فإن كل ما مر به من تهجير ودمار، هو جزء من معركة وجودية، وهي الحقيقة التي يدركها الفلسطينيون جيداً.

التاريخ يعلمنا أنه لا يمكن فصل الفلسطيني عن أرضه. هجرة البعض في فترات معينة قد تكون نتيجة الظروف القاسية، لكنها لا تعني أن الفلسطيني سيتخلى عن جذوره. فالجذور الفلسطينية عميقة، عصية على الاقتلاع من الأرض التي زرعنا فيها وعشنا تحت سمائها، ورسمنا عليها حكايات المقاومة والصمود. الناس الذين عادوا إلى بيوتهم في مناطق متعددة من قطاع غزة، عادوا لا ليعيشوا حياة عادية، بل ليصمدوا ويقاوموا فوق ركام منازلهم، مع إنهم يعيشون تحت سقف قد يسقط في أي لحظة. هؤلاء الناس لا يتركون الأرض ولا يرحلون، يتمسكون بما تبقى لهم من ذكريات وجذور، قبضوا عليها وكأنهم يقبضون على جمر من العذابات.

هل يمكن لهؤلاء أن يرحلوا؟! بالطبع لا. في أعماقهم يكمن إيمانهم العميق بأنهم أبناء هذه الأرض، وأن الحرب التي شنت عليهم لن تنجح في اقتلاعهم منها. هكذا كان الفلسطينيون عبر العصور، يواجهون التهجير والموت بأمل في العودة والبقاء. فكيف يتوقع العالم منا أن نغادر، ونحن نعلم جيداً أن هويتنا هي هذه الأرض؟!

أنا واحد من شعراء الجذور، حين أكتب: أمزج الأرض بالدم، حيث تصير السنابل شهوداً على الحكايات المنسية، في هذا السياق، تتجلى كلماتي، يصبح الحصاد فعل تحدٍّ، وتتحول الأرض إلى نص مقدس يضيء درب الحرية:

"يا وطني

دمي بعدَ السنابلِ يضيءُ الشمس

وطينُ البلادِ يفجرُ ينبوعًا حيثُ نمشي

نحن أنبياءُ السلام

قمح ُالأرضِ المقدس يحبُّنا ..

أغنياتُ الحصادِ تبتزُ أعداءَنا

وتجمع ُشملَ الزعترِ البلدي."

لنعد للحديث عن حربنا المسعورة، هذه الحرب التي جعلتنا نعيش في دائرة من الألم والدمار المستمر، ما بين انتفاضة وأخرى، وهجوم وحصار. ولعل ما يزيد من معاناتنا هو تلاعب الأطراف الدولية بمصيرنا، وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية الجديدة، بقيادة دونالد ترامب. هذه الإدارة لم تخفِ انحيازها التام لإسرائيل، وقد حاولت فرض حلول لا تمت للعدالة بصلة. تصريحات ترامب تدعو إلى تهجير الفلسطينيين إلى دول أخرى، مُنكراً بذلك تاريخنا الطويل على هذه الأرض، وحقوقنا المشروعة في العيش بحرية وكرامة.

لقد أصبح من الواضح أن ترامب لا يسعى إلى تحقيق السلام، بل إلى إلغاء وجودنا على هذه الأرض، فإن دعوته المتكررة لتهجير الفلسطينيين بمثابة إعلان عن تخلي الإدارة الأمريكية عن خيار حل الدولتين، وهو الخيار الذي كان حتى وقت قريب يُعتبر مخرجاً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن هذه الدعوات لم تجد صدى في الشعب الفلسطيني، الذي يعلم تماماً أن الأرض هي حقه الأبدي، وأنه لن يتنازل عن هذا الحق مهما كانت الظروف.

الحرب ليست معركة عسكرية على الأرض فقط، بل هي أيضاً حرب وجودية ضدَّ الوعي الفلسطيني، تفرض على الفلسطينيين مواجهة كل أشكال القمع والتشريد والموت. لكن يظل البقاء هو الخيار الأوحد، ولن يرضخ الفلسطينيون للتهجير أو لفرض الحلول الجائرة عليهم.

الصراع من أجل البقاء هو أكبر معركة نخوضها، إذ يجعلنا نواجه تحديات عديدة، على الصعيدين الداخلي والخارجي. فالوضع الداخلي في غزة، مع صعوبة الظروف، لا يزال يمثل أملاً في استعادة حقوقنا. رغم التدمير، ورغم أن كثيرين يواجهون صعوبة في الحصول على أبسط مقومات الحياة، إلا أن الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد لمواجهة هذا التحدي. وإذا كانت الحرب على الأرض واحدة من أسوأ مآسينا، فإن التحدي الأكبر يكمن في التمكين السياسي والتنسيق العربي والضغط على المجتمع الدولي لدعم حقوق الفلسطينيين.

إن منظمة التحرير، تمثل الأمل الأخير في الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتحقيق العدالة، لكننا بحاجة إلى الضغط على الجميع لتمكين مؤسساتها لتؤدي دورها الفاعل في التفاوض والدفاع عن حقوقنا، خاصة في ظل الظروف الحالية التي يسعى فيها البعض لإعادة رسم خريطة المنطقة على حساب حقوق الفلسطينيين.

وفي النهاية، لابد أن نعرف بأن الحرب على فلسطين ليست حرباً على الأرض فقط، بل حرب على الذاكرة والهوية. فالفلسطيني الذي فقد بيته، فقد جزءاً من روحه، ولكنه في نفس الوقت يظل متمسكاً بالأمل.

إن شعبنا على الرغم من كل ما مر به، لن يترك أرضه. سيبقى صامداً، حتى وإن كانت الأرض قد فقدت الكثير من ملامحها.

نحن هنا، لن نغادر، ولن نستسلم. الأرض الفلسطينية ستظل في الوعي الفلسطيني مقدساً لا يقبل التأويل.

التعليقات