أوكرانيا تستجلب التعاطف وغزة تغرق في التجاهل

أوكرانيا تستجلب التعاطف وغزة تغرق في التجاهل
أوكرانيا تستجلب التعاطف، وغزة تغرق في التجاهل

بقلم: حلمي ابوطه

كل زعماء أوروبا اليوم يقفون خلف الرئيس الأوكراني، خاصة بعد التطورات الأخيرة في البيت الأبيض وتراجع الحماس الأمريكي تجاه دعم كييف، حيث تحول الدعم إلى ضغط متزايدة على أوكرانيا للقبول بتسوية تنهي الحرب مع روسيا. هذا التحول الأمريكي دفع العواصم الأوروبية إلى التحرك بقوة، ليس فقط لمطالبة واشنطن بالحفاظ على التزامها، ولكن أيضًا لتوحيد صفوفها ضد روسيا، في محاولة لملء أي فراغ قد ينشأ نتيجة تغير الموقف الأمريكي. ولهذا، نرى قادة أوروبا، من الرئيس الفرنسي إلى رئيس وزراء بريطانيا ورئيسة وزراء إيطاليا، ينشطون في الاتصالات والبيانات، يحشدون وسائل الإعلام، ويضغطون عبر المؤسسات الدولية، في مسعى لإظهار دعمهم المطلق لكييف، وللتأثير على واشنطن حتى لا تتراجع عن موقفها الداعم لكيف. لكن هذه الحماسة الأوروبية ليست مجرد دفاع عن "المسكينة" أوكرانيا، التي تُصوَّر على أنها ضحية للعدوان الروسي، بل تعكس مصالح استراتيجية عميقة. فالدعم الأوروبي لأوكرانيا لا ينبع فقط من مبادئ إنسانية، بل هو جزء من صراع أوسع على النفوذ، حيث تخشى أوروبا أن يؤدي أي انسحاب غربي إلى ترك فراغ تملؤه الصين وروسيا، ما يضعف موقعها العالمي، خاصة في مجالات الطاقة والتجارة. كما أن تجربة ترامب الأولى، التي هددت علاقة واشنطن بحلف الناتو، دفعت الأوروبيين إلى التفكير في سيناريوهات أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة. لذا ورغم التحديات الاقتصادية والضغوط الداخلية، تدرك أوروبا أن التراجع عن دعم أوكرانيا الآن قد تكون له عواقب كارثية على أمنها القومي وهيبتها السياسية. لهذا، تستمر في مساندة كييف، حتى لو قلّ الزخم مقارنة بالمراحل الأولى من الحرب، وذلك في محاولة لحماية مصالحها وتعزيز موقفها في النظام العالمي المتغير.

في غزة، يموت الأطفال جوعًا، تُدمر البيوت فوق رؤوس ساكنيها، تُقصف المستشفيات والمدارس والمساجد، وتُحاصر المساعدات الإنسانية، ومع ذلك، لا نرى ذات الهبّة الدولية التي رأيناها مع أوكرانيا. لا ضغوط دبلوماسية حقيقية، ولا مقاطعات اقتصادية، ولا دعم عسكري، بل مجرد بيانات جوفاء ووقفات احتجاجية متفرقة لا تحرك ساكنًا، ولا يُبنى عليها أي أمل. وهنا يبقى السؤال مطروحًا: من المسؤول عن هذا الضعف والتقصير في خلق حالة تضامن دولية قوية؟ أين الفاعلية السياسية العربية؟ لماذا لم تتشكل هبّة جماهيرية ضاغطة تجبر الحكومات على اتخاذ مواقف حقيقية؟ هل المشكلة في الشعوب التي تعبت من الشعارات، أم في الأنظمة التي لا تريد تجاوز حدود الإدانة؟ إن العجز عن خلق حالة تضامن عالمية ليس مجرد تقصير، بل كارثة يدفع ثمنها الأبرياء في غزة كل يوم. فإلى متى نبقى في دائرة التنديد دون فعل؟ وأين الصوت العربي الحقيقي القادر على تحريك المعادلة؟

وبالعودة إلى حرب أوكرانيا، ولكن ضمن مقارنة سريعة مع ما يحدث في غزة: منذ اندلاع الحرب منذ بدء الحرب في أوكرانيا عام (2022)، قُتل ما يقارب (10) الاف مدني وفق الأمم المتحدة، وهُجّر حوالي (6) ملايين شخص. في المقابل، خلال أقل من سنة ونصف فقط من العدوان الإسرائيلي على غزة، قُتل أكثر من (55) ألف فلسطيني، أكثر من (70%) منهم نساء وأطفال، وأُصيب أكثر من (120) ألف بجروح مروعة. كما تم تدمير أكثر من (75%) من المباني، وأصبحت غزة مدينة أشباح بلا مستشفيات، بلا مدارس، بلا كهرباء أو ماء أو طعام. ومع ذلك، لا نرى القادة الأوروبيين يتسابقون لعقد مؤتمرات دعم لغزة، ولا نرى الصحف الغربية تخصص صفحاتها الأولى لصرخات الأطفال تحت الأنقاض، كما فعلت مرارًا لأوكرانيا. وهنا ربما يُبرر البعض هذا الدعم لأوكرانيا بالمصالح المشتركة، لكن ماذا عن الإنسانية التي يتغنون بها؟ أليست الضحية ضحية بغض النظر عن جنسيتها أو دينتها؟ أليست معاناة أم فلسطينية فقدت أطفالها تحت القصف مساوية، إن لم تكن أعظم، من معاناة أم أوكرانية؟ أم أن قيمة الإنسان تُحدد بناءً على موقعه الجغرافي وجواز سفره؟

وفي ظل هذا الواقع، لا نتوقع من القمة العربية الكثير لغزة. فقد اعتدنا أن تكون اجتماعاتهم بلا أثر، وقممهم مجرد مناسبات لالتقاط الصور، دون قرارات حاسمة أو خطوات فعلية توقف نزيف الدم الفلسطيني. ومع ذلك، نحن الفلسطينيين، وخاصة أهل غزة، ننظر إليها ببقايا أمل، رغم إدراكنا أن بيانات الشجب والتنديد لن تردع الاحتلال، ولن تعيد من رحلوا تحت الأنقاض.

ما نحتاجه ليس كلمات جوفاء، بل أفعال تليق بحجم المأساة، أفعال تعيد للإنسانية معناها الحقيقي، وتُنهي هذه الازدواجية الفاضحة، حيث تُسمع صرخات أوكرانيا في كل محفل، بينما يُخنق بكاء أطفال غزة في العتمة. هذه اللحظات لا تكشف فقط زيف النظام الدولي، بل ترسم ملامح المستقبل. فقد تجاهل العالم نضال الهند وجنوب إفريقيا والجزائر في وجه الاستعمار، لكنه عاد ليسجل أسماءهم في كتب العزة والحرية. واليوم، قد يصمت العالم عن غزة، لكن التاريخ لن يصمت. سيذكر صمودها كما ذكر صمود الأحرار قبلها، وسيكتب في صفحات العار أسماء أولئك الذين تواطؤوا، وسكتوا، وبرروا الإبادة الجماعية. يومها، لن تشفع لهم مصالحهم، حين يُكشف زيف إنسانيتهم على الملأ.

في المقابل، نحن الفلسطينيون، وخاصة أهالي غزة، ننظر إلى القمة العربية بأمل، رغم أننا ندرك جيدًا أن بيانات الشجب والتنديد لا تردع الاحتلال. ما نحتاجه ليس فقط خطابات، بل أفعالًا تعيد للإنسانية معناها الحقيقي، أفعالًا تُنهي هذه الازدواجية الفاضحة، وتجعل صرخات أطفالنا تصل إلى آذان العالم، بنفس القوة التي تصل بها صرخات أوكرانيا. نعم هذه اللحظات تكشف حقيقة النظام الدولي، لكنها أيضًا ترسم معالم المستقبل. ربما اليوم يتجاهلنا العالم، لكننا نعلم أن صمود غزة سيسجل في التاريخ، تمامًا كما سجل نضال الشعوب في الهند وجنوب افريقيا وفي الجزائر ضد الاستعمار والظلم. أما أولئك الذين برروا الإبادة الجماعية، وسكتوا عن المجازر، فسيُكتب اسمهم في صفحات العار، حيث لا تنفعهم مصالحهم حين يُكشف زيف إنسانيتهم.

التعليقات