دور النخب في صياغة المشهد الفلسطيني

دور النخب في صياغة المشهد الفلسطيني
حلمي أبو طه
في ظل مشهد سياسي مضطرب، ووسط معاناة النازحين على تخوم رفح، يبرز سؤال ملحّ ومشروع من سعادة الدكتور أحمد يوسف، أحد أبرز المفكرين والمثقفين وكبار الكُتّاب في فلسطين: ما هو دور النخب في صياغة المشهد السياسي لليوم التالي؟ تساؤل يعكس وعيًا عميقًا بمسؤوليات المرحلة المقبلة، ويأتي من رجل وشخصية مرموقة لها باع طويل في إثراء الفكر والنقاش، حيث تبرز شخصيته في عشرات المؤلفات والمقالات والندوات التي شارك فيها أو أدارها، إضافة إلى دوره كرئيس لبيت الحكمة. ومن هذا المنطلق، أود أن أسلط الضوء على هذا التساؤل المحوري، راجيًا من الله التوفيق في تقديم إجابة شافية من خلال مسيرتي وتجربتي على مدار (120) جلسة لصالون حلمي الثقافي.
فمن خلال هذه الجلسات، تبلورت أمامي صورة دقيقة لواقع النخب في فلسطين اليوم. فرغم وجود حالات فردية تستحق كل التقدير والاحترام لإخلاصها ووضوح رؤيتها، إلا أن تأثيرها يبقى محدودًا؛ فلا يمكن لليد الواحدة أن تصفق وحدها. فالناظر للمشهد العام، يرى بوضوح مؤلم هشاشة النخب في أداء دورها المفترض. تلك النخب التي كان يُفترض أن تكون بوصلة للمجتمع ومصدرًا للرؤية المستقبلية، تحولت إلى ظلال باهتة بلا تأثير حقيقي أو رؤية واضحة. لقد تاهت في دهاليز المصالح الشخصية والحسابات الضيقة، وتخلّت عن دورها الريادي، تاركة الساحة لعشوائية التوجهات وضبابية المواقف. هذا التراجع لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة تهميش ممنهج من القيادات الحزبية التي رأت في بروز النخب تهديدًا لمكانتها، فأقصت كل من يحمل فكرًا ناقدًا أو رؤية جريئة. وفي المقابل، رضخت جل هذه النخب لإغراءات السلطة، سواء عبر وعود زائفة، أو مكاسب مالية، أو مناصب وظيفية هامشية في وزارات أو مؤسسات لا تمت بصلة لكفاءاتهم. وهكذا، ضاعت أصوات العقل والفكر في زحام المصالح والولاءات، مما عمّق أزمة المشهد السياسي وزاد من تعقيداته. كما تتجلى هشاشة النخب أيضًا في ظل سياسة "فرق تسد" التي يتقنها الساسة وأشباه القيادات، الذين لا همّ لهم سوى تعزيز سيطرتهم وإشباع رغباتهم السلطوية، وتكديس الثروات، لتعويض نقصٍ في شخصياتهم بسُلطة زائفة على عقول المثقفين. وللأسف، نجح هؤلاء في تمزيق الصفوف وتشتيت الأصوات عبر خداعٍ متقن وشعارات برّاقة لا تحمل من الحقيقة شيئًا. والأسوأ أن بعض هذه النخب انقادوا وراء هذه الأوهام، فتخلوا عن دورهم الريادي واستبدلوا أقلامهم الحرة بولاءات فارغة. إن هذا الانقياد لم يؤدِ فقط إلى تشويه المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي، بل أسهم أيضًا في تكريس الانقسام وتعميق الأزمة الفكرية والسياسية. ومن أبرز صور تردي واقع النخب ما يُمسك عنه غالبًا: الحسد، والنرجسية، وتمجيد الذات. فقد بات من النادر أن يعترف أحدهم بأفضلية زميلٍ له أو بأحقيته في تقدم الصفوف، مما يُشعل نيران المكائد والدسائس. فمن خلال معاشرتي للكثير ممن يُفترض أنهم يمثلون النخب، رأيتُ بكل أسف مجتمعًا لا يخلو من الفساد الخفي، والتنافس غير الشريف، والتحزبات الضيقة، والعربدة الفكرية التي تُقصي كل صوتٍ مختلف. كيف يمكن لنخبٍ بهذا الحال أن تقود طليعة التغيير أو أن تُرشد المجتمع نحو مستقبل أفضل؟ إن غياب النزاهة والتنافس الشريف جعلها عائقًا أمام التقدم، بدلاً من أن تكون قوة دافعة نحو الإصلاح. ومن وسط هذا المشهد المضطرب، يتجلى جليًا النفس القصير الذي تعاني منه النخب، حيث تبرز القناعات الضيقة التي لا ترى أبعد من مصالحهم الشخصية. فأصبح لسان حالهم "بدنا نعيش" وكأنهم يعجزون عن رؤية الصورة الأكبر أو تحمل المسؤولية الوطنية. هذا الشعور يعكس عجزًا داخليًا عن التفاعل مع التحديات الكبرى، مما يجعلهم أسرى اللحظة الراهنة بدلًا من أن يكونوا قادة للمستقبل.
سعادة الدكتور لا أريد أن أثقل على مجتمع النازحين من أبناء غزة، لكنها الحقيقة الثقيلة فمن زمن لم تعد هناك شخصية عامة أو نقابة أو مؤسسة تمثل المجتمع المدني يمكن التعويل عليها لتشكيل المشهد السياسي أو توجيهه. فقد فشلت في المشهد الثقافي والاجتماعي، وتحولت هذه الكيانات إلى أصوات خافتة، عاجزة عن قراءة الواقع أو استشراف المستقبل. أما المواطن، ذلك "الحليم" الذي لطالما راهنّا على حكمته، فقد بات حائرًا، ممزقًا بين وعود جوفاء وتفسيرات متناقضة، يبحث عن ذاته فلا يجدها، وعن هويته فلا يلمسها. فهذا الضياع والانقسام لم يأتيا من فراغ؛ بل هما نتيجة مباشرة لهشاشة النخب وعجزها عن ممارسة القيادة الحقيقية. لقد تراجعت هذه النخب من قوى ناعمة إلى مواقع التردد والعجز، وتحولت من قوى تغيير إلى أعباء تُثقل المشهد السياسي بدلاً من أن تكون منارات يُهتدى بها. فاليوم يصرخ الواقع في وجه الجميع: "لا بوصلة ولا اتجاه"، وكأننا في بحر هائج بلا رُبّان. والأسوأ من ذلك، أن الضبابية تزداد كثافة، والحيرة تتعمق أكثر فأكثر. في هذا المشهد المأزوم، بات من الواضح أن انتظار الخلاص من هذه النخب ضربٌ من الوهم، وأن التغيير الحقيقي لن يأتي إلا من صحوة تُعيد رسم الأدوار والمواقف الريادية المدروسة التي تسهم في تصحيح المسار وتفعيل دورها القيادي. من حيث فتح قنوات حوار وتواصل مع المجتمع، وتبني قيمٍ حقيقية في القيادة، وأن تتحد النخب حول قضايا وطنية شاملة، بعيدًا عن الانقسامات الضيقة أو الأيديولوجيات المتناقضة. ومن الضروري أيضًا تمكين الشباب المبدعين من تولي المناصب القيادية لضمان تجدد الأفكار ودمج طاقاتهم في عملية صنع القرار، ودعم بيئة الابتكار والإبداع. من خلال إعداد برامج تدريبية وتثقيفية لتعزيز القدرات القيادية لديهم. مما يعزز الثقة المجتمعية ويضمن الالتزام بالقيم الوطنية. فقط من خلال هذه اجراءات متكاملة، يمكن للنخب استعادة دورها الريادي والمساهمة الفعّالة في قيادة المجتمع نحو مستقبل أكثر أمناً واستقرارًا وتقدمًا، تلعب المساءلة والشفافية والنزاهة فيه دوراً محورياً، فيتشكل لدينا مجتمع متكامل الأركان.
حلمي أبو طه
في ظل مشهد سياسي مضطرب، ووسط معاناة النازحين على تخوم رفح، يبرز سؤال ملحّ ومشروع من سعادة الدكتور أحمد يوسف، أحد أبرز المفكرين والمثقفين وكبار الكُتّاب في فلسطين: ما هو دور النخب في صياغة المشهد السياسي لليوم التالي؟ تساؤل يعكس وعيًا عميقًا بمسؤوليات المرحلة المقبلة، ويأتي من رجل وشخصية مرموقة لها باع طويل في إثراء الفكر والنقاش، حيث تبرز شخصيته في عشرات المؤلفات والمقالات والندوات التي شارك فيها أو أدارها، إضافة إلى دوره كرئيس لبيت الحكمة. ومن هذا المنطلق، أود أن أسلط الضوء على هذا التساؤل المحوري، راجيًا من الله التوفيق في تقديم إجابة شافية من خلال مسيرتي وتجربتي على مدار (120) جلسة لصالون حلمي الثقافي.
فمن خلال هذه الجلسات، تبلورت أمامي صورة دقيقة لواقع النخب في فلسطين اليوم. فرغم وجود حالات فردية تستحق كل التقدير والاحترام لإخلاصها ووضوح رؤيتها، إلا أن تأثيرها يبقى محدودًا؛ فلا يمكن لليد الواحدة أن تصفق وحدها. فالناظر للمشهد العام، يرى بوضوح مؤلم هشاشة النخب في أداء دورها المفترض. تلك النخب التي كان يُفترض أن تكون بوصلة للمجتمع ومصدرًا للرؤية المستقبلية، تحولت إلى ظلال باهتة بلا تأثير حقيقي أو رؤية واضحة. لقد تاهت في دهاليز المصالح الشخصية والحسابات الضيقة، وتخلّت عن دورها الريادي، تاركة الساحة لعشوائية التوجهات وضبابية المواقف. هذا التراجع لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة تهميش ممنهج من القيادات الحزبية التي رأت في بروز النخب تهديدًا لمكانتها، فأقصت كل من يحمل فكرًا ناقدًا أو رؤية جريئة. وفي المقابل، رضخت جل هذه النخب لإغراءات السلطة، سواء عبر وعود زائفة، أو مكاسب مالية، أو مناصب وظيفية هامشية في وزارات أو مؤسسات لا تمت بصلة لكفاءاتهم. وهكذا، ضاعت أصوات العقل والفكر في زحام المصالح والولاءات، مما عمّق أزمة المشهد السياسي وزاد من تعقيداته. كما تتجلى هشاشة النخب أيضًا في ظل سياسة "فرق تسد" التي يتقنها الساسة وأشباه القيادات، الذين لا همّ لهم سوى تعزيز سيطرتهم وإشباع رغباتهم السلطوية، وتكديس الثروات، لتعويض نقصٍ في شخصياتهم بسُلطة زائفة على عقول المثقفين. وللأسف، نجح هؤلاء في تمزيق الصفوف وتشتيت الأصوات عبر خداعٍ متقن وشعارات برّاقة لا تحمل من الحقيقة شيئًا. والأسوأ أن بعض هذه النخب انقادوا وراء هذه الأوهام، فتخلوا عن دورهم الريادي واستبدلوا أقلامهم الحرة بولاءات فارغة. إن هذا الانقياد لم يؤدِ فقط إلى تشويه المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي، بل أسهم أيضًا في تكريس الانقسام وتعميق الأزمة الفكرية والسياسية. ومن أبرز صور تردي واقع النخب ما يُمسك عنه غالبًا: الحسد، والنرجسية، وتمجيد الذات. فقد بات من النادر أن يعترف أحدهم بأفضلية زميلٍ له أو بأحقيته في تقدم الصفوف، مما يُشعل نيران المكائد والدسائس. فمن خلال معاشرتي للكثير ممن يُفترض أنهم يمثلون النخب، رأيتُ بكل أسف مجتمعًا لا يخلو من الفساد الخفي، والتنافس غير الشريف، والتحزبات الضيقة، والعربدة الفكرية التي تُقصي كل صوتٍ مختلف. كيف يمكن لنخبٍ بهذا الحال أن تقود طليعة التغيير أو أن تُرشد المجتمع نحو مستقبل أفضل؟ إن غياب النزاهة والتنافس الشريف جعلها عائقًا أمام التقدم، بدلاً من أن تكون قوة دافعة نحو الإصلاح. ومن وسط هذا المشهد المضطرب، يتجلى جليًا النفس القصير الذي تعاني منه النخب، حيث تبرز القناعات الضيقة التي لا ترى أبعد من مصالحهم الشخصية. فأصبح لسان حالهم "بدنا نعيش" وكأنهم يعجزون عن رؤية الصورة الأكبر أو تحمل المسؤولية الوطنية. هذا الشعور يعكس عجزًا داخليًا عن التفاعل مع التحديات الكبرى، مما يجعلهم أسرى اللحظة الراهنة بدلًا من أن يكونوا قادة للمستقبل.
سعادة الدكتور لا أريد أن أثقل على مجتمع النازحين من أبناء غزة، لكنها الحقيقة الثقيلة فمن زمن لم تعد هناك شخصية عامة أو نقابة أو مؤسسة تمثل المجتمع المدني يمكن التعويل عليها لتشكيل المشهد السياسي أو توجيهه. فقد فشلت في المشهد الثقافي والاجتماعي، وتحولت هذه الكيانات إلى أصوات خافتة، عاجزة عن قراءة الواقع أو استشراف المستقبل. أما المواطن، ذلك "الحليم" الذي لطالما راهنّا على حكمته، فقد بات حائرًا، ممزقًا بين وعود جوفاء وتفسيرات متناقضة، يبحث عن ذاته فلا يجدها، وعن هويته فلا يلمسها. فهذا الضياع والانقسام لم يأتيا من فراغ؛ بل هما نتيجة مباشرة لهشاشة النخب وعجزها عن ممارسة القيادة الحقيقية. لقد تراجعت هذه النخب من قوى ناعمة إلى مواقع التردد والعجز، وتحولت من قوى تغيير إلى أعباء تُثقل المشهد السياسي بدلاً من أن تكون منارات يُهتدى بها. فاليوم يصرخ الواقع في وجه الجميع: "لا بوصلة ولا اتجاه"، وكأننا في بحر هائج بلا رُبّان. والأسوأ من ذلك، أن الضبابية تزداد كثافة، والحيرة تتعمق أكثر فأكثر. في هذا المشهد المأزوم، بات من الواضح أن انتظار الخلاص من هذه النخب ضربٌ من الوهم، وأن التغيير الحقيقي لن يأتي إلا من صحوة تُعيد رسم الأدوار والمواقف الريادية المدروسة التي تسهم في تصحيح المسار وتفعيل دورها القيادي. من حيث فتح قنوات حوار وتواصل مع المجتمع، وتبني قيمٍ حقيقية في القيادة، وأن تتحد النخب حول قضايا وطنية شاملة، بعيدًا عن الانقسامات الضيقة أو الأيديولوجيات المتناقضة. ومن الضروري أيضًا تمكين الشباب المبدعين من تولي المناصب القيادية لضمان تجدد الأفكار ودمج طاقاتهم في عملية صنع القرار، ودعم بيئة الابتكار والإبداع. من خلال إعداد برامج تدريبية وتثقيفية لتعزيز القدرات القيادية لديهم. مما يعزز الثقة المجتمعية ويضمن الالتزام بالقيم الوطنية. فقط من خلال هذه اجراءات متكاملة، يمكن للنخب استعادة دورها الريادي والمساهمة الفعّالة في قيادة المجتمع نحو مستقبل أكثر أمناً واستقرارًا وتقدمًا، تلعب المساءلة والشفافية والنزاهة فيه دوراً محورياً، فيتشكل لدينا مجتمع متكامل الأركان.
التعليقات