هكذا تكتب حكايات النازحين بمخيمات النزوح في غزة

هكذا تكتب حكايات النازحين بمخيمات النزوح في غزة
هكذا تكتب حكايات النازحين بمخيمات النزوح في غزة

حلمي أبو طه

في رحلة الحج إلى بيت الله الحرام (2014)، نلت شرف مرافقة والديّ وأختيّ أم أحمد وأم يوسف وأخي علي أبو محمد. كانت رحلة ملؤها الإيمان والسكينة، لكن ما لفت انتباهي هو شغف أختي أم أحمد بتوثيق كل لحظة من تلك الرحلة. كتبت دفترين من الحجم المتوسط، سجّلت فيهما كل حيثيات الرحلة وما صاحبها من أحداث ومشاعر. وحين سألتها عن سرّ هذا التوثيق، قالت: "أريد أن أحتفظ بها للذكرى، لأعيشها من جديد كلما قرأتها، ولأورثها لأحفادي ليعيشوا معي نفحات هذه الرحلة المباركة".

تأملت في كلماتها، وكيف يمكن للإنسان أن يحفظ الذكريات بمداد القلم، ليُبقي الزمن حيًا في سطورٍ لا تشيخ. لكنني شعرت في ذات اللحظة شعور أولئك الذين لا يكتبون ذكريات الفرح، بل يسجّلون فصولًا من الألم والمعاناة؛ هنا في مخيمات النزوح، حيث تتقاطع قصص الصمود واليأس. ارتفعت أقلامٌ مثقلة بالأحزان لتخط حكايات منسية خلف أسوار البؤس. كتب البعض ليحفظوا ذاكرتهم من النسيان، ليورثوا أحفادهم حكايات الأرض التي ضاقت بهم يومًا، علّهم يتمسكون بها ولا يتركوها مهما اشتدت قسوة الحياة. وآخرون كتبوا بمداد الدموع، لا ليقرأ أحد، بل لتُدفن الكلمات معهم في قبورهم، علّها تكون شفيعةً لهم عند الله على ما تحمّلوه من وجع المرض، والفقد والحرمان. هكذا كتب ألاف النازحين، فكتبت أختي نهى، وكتب الشاب المؤنس أنس أمين، وكتبت الطفلة ملك، ابنة أخي. كتبوا بألمٍ لم تُسعفهم الكلمات على وصفه، ثم رحلوا جميعًا، تاركين حروفهم أمانةً بين دفاترهم، وشهادةً كتبها الملكان عند رب العالمين. رحلوا ليحكوا حكايتهم لله، وهو أعلم بها منهم. ليقفوا بين يديه شاكينَ ما لاقوه من قسوة البشر، ليبكوا أمام رسوله الحبيب الشفيع الأمين ما فعله بهم إخوانهم من العرب والمسلمين، وكيف أداروا ظهورهم لأوجاعهم. ليشهدوا على ما اقترفه أبناء القردة والخنازير من ظلمٍ وجبروت، وكيف تكالبت عليهم الأمم بلا رحمة. غادروا الدنيا وبقيت كلماتهم تنبض بالحزن، ترتعش فيها أنفاسهم الأخيرة، تصرخ للسماء بعد أن خذلتهم الأرض. هكذا أُغلقت دفاترهم، لكن حكاياتهم لم تُغلق بعد؛ ستظل شاهدةً على وجعٍ لا يُمحى، وألمٍ يتردد صداه في جنبات الذاكرة، إلى أن يلتقوا بمن لا يُضام عنده مظلوم.

هكذا يكتب الكاتبون عن واقع مخيمات النزوح، عن وجوه أرهقها الانتظار وقلوب أنهكها الجحود من الجهات المسؤولة. وهكذا يكتبون كيف تُدار المخيمات بعشوائية تزيد من قسوة الحياة داخلها، وكيف تُستغل المساعدات الإغاثية كأدوات استعراض ومكاسب شخصية، بينما يبقى النازحون أسرى لحظات الألم المستمر. ليست هذه مجرد كلمات، بل صرخة إنسانية تطالب العالم بألّا يغض الطرف عن مأساة حقيقية، وألّا يُدفن صوت الحق تحت ركام الخيام. فالفوضى في إدارة المساعدات لم تكن وليدة صدفة، بل نتاج غياب التنسيق الحقيقي والعدالة في التوزيع، حيث تُختطف الجهود لصالح أجندات شخصية، ويُستغل ضعف المحتاجين لتحقيق مكاسب ذاتية، بينما يظل المحتاج هو الحلقة الأضعف.

هذا الواقع المأساوي دفعني منذ اللحظة الأولى إلى أعتزل العمل الإغاثي، كي لا أكون شاهد زورٍ أو شريكًا في خنق وإذلال الإنسان الذي كرّمه الله، أو مساهمًا، ولو بغير قصد، في دوامة فساد الفاسدين والتي تحوّل المساعدات في كثير من الأحيان إلى تجارة اختلاس وسرقة المساعدات وإعادة بيعها للنازحين، فيزداد آخرون تخمةً من أموالٍ مغمّسة بآلام المظلومين. إنّ المأساة الحقيقية للنازحين لا تقتصر على فقدان الأمن والمأوى، بل تمتد إلى ما هو أعمق: غياب العدالة والفوضى الإدارية واستغلال معاناتهم لحسابات ضيقة. لقد تحوّلت المساعدات إلى أداة للنفوذ والمحسوبية، بدلاً من أن تكون حقًا إنسانيًا مُقدّسًا، وأصبح توزيعها رهناً باعتبارات جغرافية ومصالح فئوية، مما يزيد النازح شعورًا بالغربة في وطنه، وكأنه ضيف ثقيل في بيته. وفي ظل هذه الظروف القاسية لم يعد النزوح مجرد تجربة لفقدان المأوى، بل أصبح معركة يومية من أجل البقاء والكرامة. فالنازح الذي اقتُلع من منزله، وهُدّمت ذكرياته تحت جنازير الدبابات، وعاثت في بيته أيادي اللصوص لا يموت فقط من القهر، بل يُحرم حتى من لقب "شهيد" في الدنيا، رغم أن الله قد يشهد على مظلمته. هكذا وجدتُ بين دفترَي أختي ودفاتر النازحين قاسمًا مشتركًا؛ كلاهما يكتب للذكرى، لكن شتّان بين ذكرى تُروى بابتسامة وأخرى تُروى بدمعة.

التعليقات