عباس في إفريقيا.. حينما تُقاوِم الكلمات التهجير وتُصارِع الحقيقة النسيان

عباس في إفريقيا.. حينما تُقاوِم الكلمات التهجير وتُصارِع الحقيقة النسيان
عباس في إفريقيا.. حينما تُقاوِم الكلمات التهجير وتُصارِع الحقيقة النسيان 

بقلم: جواد العقّاد - كاتب وشاعر من غزة 

وقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام قادة القارة السمراء، لا ليُعيد تكرار الخطابات الدبلوماسية المنمّقة، بل ليُعيد التذكير بجُرح يتجدد مع كل فجر يُخضّبُه الدّم الفلسطيني. في القمة الثامنة والثلاثين للاتحاد الإفريقي، كان صوته امتداداً لصوت الحصار في غزّة، لصدى البيوت المهدّمة في الضفّة، ولأنين اللاجئين الذين أُغلقت دونهم أبواب العودة سبعين عاماً وأكثر.

لم يكن الرجل الذي بلغ الثمانين طاعناً في العمر بقدر ما كان طاعناً في القهر، يحمل على كتفيه أوجاع وطن مجروح ووصايا الشهداء الذين لم يُغلقوا أعينهم على وطنٍ محرّر. وقف مؤكّداً أن كلّ حديثٍ عن تهجير شعبه ليس إلا سراباً لا يُمكن أن يُفرَض بالقوّة، وأن فلسطين حقٌّ ممتدّ من البحر إلى النهر، ومن زهر اللوز في الجليل إلى قباب القدس العتيقة.

كان واضحاً في حديثه عن غزّة، ذلك الجرح النازف في خاصرة الوطن، فقال إن المكان الوحيد الذي يعود إليه لاجئوها هو مدنهم وقراهم التي اقتُلعوا منها عام 1948. قالها وكأنه يُذكّر العالم بأن فلسطين ليست جغرافيا تنهشها أطماع المحتل فقط، بل ذاكرةٌ متوارثة، وهويةٌ عصيّة على الشطب، ومسيرةٌ لا تتوقف حتى يعود الحق إلى أصحابه.

في خطابه يستند إلى قرارات الشرعية الدولية، مُذكّراً بأن الحلّ العادل يمر عبر تنفيذ قراري 242 و338، والاعتراف الكامل بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهو ما سيُطرح في المؤتمر الدولي للسلام المزمع عقده في يونيو القادم. لكنه، في الوقت ذاته، لم يُغفل التحذير من التفريط أو التأجيل، لأن الاحتلال يتقن لعبة الوقت، والتسويف في القضايا المصيرية لا يعني سوى مزيدٍ من الاستيطان، مزيدٍ من التهويد، ومزيدٍ من النكبات المستحدثة.

ورغم أنه كان يُخاطب القادة الأفارقة، إلا أن خطابه كان موجّهاً، بشكل غير مباشر، إلى كل من يظن أن فلسطين قد تصبح عبئاً زائدًا على السياسة الدولية، أو قضيةً قابلة للتفاوض على طاولة المصالح. ذكّرهم بأن الاحتلال كارثة أخلاقية تهدد استقرار العالم، وأن التخاذل أمام جرائم الاستعمار لن يُنتج سوى مزيدٍ من التطرف والعنف العابر للحدود.

إنها جولة أخرى من النضال الدبلوماسي، يخوضها الرئيس الفلسطيني في ميادين السياسة بعدما ضاقت ميادين الأرض بالمجازر والحصار. يعرف أن المعركة ليست عادلة، وأن الخصوم لا يلتزمون بالقوانين، لكنه يقف رغم ذلك، مستنداً إلى إرثٍ طويل من النضال الفلسطيني، إلى أصوات الأمهات اللواتي ما زلن يحتفظن بمفاتيح البيوت المسلوبة، إلى قصائد الوطن، وإلى وصيّة شيخ عجوز في مخيمات الشتات يقول لحفيده قبل أن ينام: "إذا ضاعت غزّة.. ضاعت القضية".

التعليقات