مدى الكرمل يَختتم مؤتمره السنويّ للعام 2023
رام الله - دنيا الوطن
عَقدَ مدى الكرمل - المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، يوم السبت الماضي، السابع والعشرين من أيّار، مؤتمره السنويّ للعام 2023، في فندق "رمادا أوليـﭬـييه" في الناصرة. يداوم مدى الكرمل، منذ سبع سنوات إلى الآن، على عَقْد مؤتمره هذا كلّ عام، ويطرح فيه سنويًّا مسألة أو قضيّة راهنة تتعلّق بواقع الفلسطينيّين في إسرائيل، تجري مُعالجَتها من خلال مقارَبات نقديّة، ومن خلال تنظيرات جديدة يحاول من خلالها مناقشةَ هذا الواقع من عدّة زوايا أو جوانب، منها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وغيرها. في هذا العام، تناوَلَ المؤتمر مسألة يعبّر عنها العنوان: "العلاقات بين الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة: ديناميّات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة".
وكان مدى الكرمل قد عقدَ، عشيّة مؤتمره السنويّ، جلسةً حِواريّة مع الدكتورة آمال بشارة، أستاذة علم الاجتماع في جامعة تافتس بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، حول كتابها "عبور الخطّ: القوانين والعنف والحواجز ضدّ التعبير السياسيّ الفلسطينيّ". عُقِدت الندوة يوم الجمعة، السادس والعشرين من أيّار عبر منصّة زوم، ونُقِلت ببثّ مُباشر عبر منصّة مدى الكرمل في الفيسبوك. افتَتَحت الندوةَ، وحاورت د. بشارة، الدكتورةُ أريج صبّاغ-خوري، الـمُحاضِرة في قسم علم الاجتماع وعلم الإنسان في الجامعة العبريّة، وعضوة لجنة الأبحاث في مدى الكرمل.
أمّا في يوم المؤتمر نفسه، فقد افتُتِح المؤتمر هذا العام بكلمات ترحيبيّة ألقاها كلّ من د. جوني منصور، المؤرّخ وعضو الهيئة الإداريّة في مدى الكرمل، وَد. مهنّد مصطفى، المدير العامّ لمدى الكرمل. طرَحَ د. منصور في كلمته تساؤلات عدّة حول ماهيّة وشكل العلاقة التي تَجْمع المجموعات الفلسطينيّة على طرفَيِ الخطّ الأخضر، تَكونُ هي حجر الأساس الذي تنطلق منه أبحاث المؤتمر. تناولت الأسئلة نوع العلاقات بين هذه الفئات، ودَوْر القضايا السياسيّة في تحفيز الفلسطينيّين على التحرُّك المشترَك، والأثر الذي كان لاتّفاقيّات أوسلو، وقوانين منع لمّ شمل العائلات، وأخيرًا هبّة الكرامة، على هذه العلاقات. ختامًا، طرح د. منصور تساؤلات بشأن إمكانيّة تجاوز كلّ هذه الـمُعيقات، وإعادة بناء مشروع وطنيّ واحد وموحّد لشعب واحد غير مجزَّأ. أمّا د. مهنّد مصطفى، فقد تناول في كلمته السياقات التاريخيّة والسياسيّة المختلفة التي أسهمت في تعزيز البتر والفصل بين أجزاء الشعب الفلسطينيّ، أو تعزيز الوَحدة والتماسك بينها، مبيِّنًا أنّ كلّ فعل استعماريّ قد يُفضي بالضرورة إلى تعزيز أو تراجع الاستعمار، بفعل الواقعين تحته، إمّا من خلال تماهيهم مع التجزئة التي ولّدها الاستعمار (وعمّقتها اتّفاقيّة أوسلو -على سبيل المثال)، وإمّا من خلال نفي وعي البتر (كما أكّدتها انتفاضة الأقصى عام 2000، وهبّة أيّار عام 2021). لذا، شدّد مصطفى على ضرورة السعي في سبيل تحويل العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة من علاقات تضامن أو تواصل أو استهلاك إلى علاقات وَحْدة وتحرُّر للوعي وللواقع السياسيّ على حدّ سواء.
أعقبت الكلماتِ الافتتاحيّةَ قراءةٌ في استطلاع الرأي الذي نهَجَ مدى الكرمل تعميمه على الفلسطينيّين في إسرائيل، وقام بتحليل وعرض نتائجه د. سامي محاجنة، الـمُحاِضرُ الـمشارِكُ في مجالَيِ التربية وعلم النفس في الكلّيّة العربيّة الأكاديميّة "بيت بيرل"، وذلك من خلال مُحاضَرة عنوانها "علاقات على الأطراف: قراءة في استطلاع طبيعة العلاقات بين فئتَيِ المجتمع الفلسطينيّ على طرفَيِ الخطّ الأخضر". تضمّن الاستطلاع في هذا العام ثلاثة محاور:
المحور الأوّل يطرح أسئلة ثابتة بشأن مواقف وتصوُّرات الفلسطينيّين في إسرائيل للوضع السياسيّ القائم في البلاد، ومكانتهم القوميّة والمدنيّة.
المحور الثاني يفحص وتيرة زياراتهم للضفّة الغربيّة، أنماطها وأهدافها ودوافعها، وفيه تبيَّنَ أنّ 34% من المشاركين فيه يزورون الضفّة الغربيّة على الأقلّ مرّة في الشهر، وَ 15% يزورونها مرّة في الأسبوع. أمّا الهدف الأساسيّ للزيارات، فكان من نصيب التجارة والعمل (52%)، فيما احتلّت السياحة والاستجمام المركز الثاني (بنسبة 31%)، والتواصل العائليّ والاجتماعيّ كان له نسبة 9%. وقد أظهرت نتائج البحث أنّ الدافع الأساسيّ لزيارة الضفّة الغربيّة هو متعة الزيارة نفسها، وذلك بنسبة 43%. أمّا كون الأسعار رخيصة فقد حاز على 35% من الأصوات، فيما حاز دافع التضامن السياسيّ والوطنيّ على 21%.
أمّا المحور الثالث والأخير، فقد تناول مواقفهم تجاه إمكانيّة تعزيز العلاقات بين المجموعات الفلسطينيّة المختلفة، وتجاه العمل والتعاون المشترك بينها أيضًا. تشير نتائج البحث إلى أنّ أكثر من ثلثَيِ المشاركين في الاستطلاع يرَوْنَ أنّه ثمّة إمكانيّة وضرورة لتعزيز العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة، والنضالَيْن السياسيّ والاحتجاجيّ المشتركَيْن، بين المجموعات الفلسطينيّة على طرفَيِ الخطّ الأخضر.
يستنتج د. محاجنة من هذا الاستطلاع أنّ هنالك علاقة قائمة ومتواصلة بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر، وإن كانت بنِسَب متفاوتة لدى الفئات الديمـﭼـرافيّة المختلفة. مع ذلك، تتميّز هذه العلاقة بالحذر؛ إذ يتفادى الفلسطينيّون حاملو المواطَنة الإسرائيليّة التواصلَ مع الجانب الآخَر لأغراض نضاليّة سياسيّة، فيما تدفعُه إلى ذلك العواملُ التجاريّة والترفيهيّة والثقافيّة.
كما هو الحال في كلّ عام، كذلك في هذا العام شَاركَ في المؤتمر كوكبةٌ من الأكاديميّين والباحثين والسياسيّين والناشطين، توزّعت مداخلاتهم على جلستين:
الجلسة الأولى، التي حملت العنوان "العلاقات الاقتصاديّة: مُقارَبات اجتماعيّة وسياسيّة"، والتي رَأَسَها د. إمطانس شحادة، مدير وَحدة السياسات في مدى الكرمل، عُرِضت فيها ثلاث مداخلات، هي التالية: مداخلة بعنوان "آفاق التعاون والتكامل الاقتصاديّ الفلسطينيّ عبْر الخطّ الأخضر"، عرَضَها د. رابح مُرّار (مدير البحوث في معهد "ماس" والأستاذ المساعد في الاقتصاد في جامعة النجاح)، ممثِّلًا عن معهد "ماس". في هذه الدراسة، اهتمّ مركز "ماس" ببحث طبيعة العلاقات الاقتصاديّة بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر، وسُبُل تعزيزها وتطويرها، بما يحقّق حالة من التكامل الاقتصاديّ بين الطرفين، التي من شأنها أن تقلّل التبعيّة للاقتصاد الاسرائيليّ. "بيّنت الدراسة أنّه على الرغم من التوسُّع والتنوُّع الذي شهدته العلاقات الاقتصاديّة بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر، لم ترتقِ إلى حدّ التكامل والتنسيق أو تقاسم الأدوار، فقد بقيت العلاقات الاقتصاديّة في ما بينهم على اختلاف أشكالها وأنماطها رهينة للسياسات الإسرائيليّة والحالة الأمنيّة والمنفعة الاقتصاديّة".
ألقت د. عرين هوّاري، مديرة برنامج الدراسات النسويّة في مدى الكرمل، مداخلةً بعنوان "بين شَقَّيْن: شعب يُمارس وَحْدته وانشطاره: العلاقة التجاريّة بين الفلسطينيّين من داخل الخطّ الأخضر ومن جنين". من خلال تحليل روايات المشاركين، لَمَسَتْ د. هوّاري "إنتاج هُويّة إضافيّة خاصّة بالفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر [...] نوع آخر من التقسيم ليس جغرافيًّا ولا هو متعلّق بتركيبات ناتجة عن سيرورات تاريخيّة "طبيعيّة" لدى المجتمع الفلسطينيّ [...] وإنّما إنتاج بُنْية استعماريّة كسرت المسار التاريخيّ وقطعت الجغرافيا فخلقت مجموعتَيْن: "إحنا عرب الـ48" […] مقابل "هم أهل الضفّة" [...] لتبدوَ الضفّة كالآخَر "العالَم الثالثيّ"، وأحيانًا من خلال نظرة معاكسة تنظر برومانسيّة إلى أهل الضفّة الغربيّة الذين حافظوا على بساطتهم في التعامل، مقابل فلسطينيّي الخطّ الأخضر".
في المداخلة الأخيرة من هذه الجلسة، عرضَ السيّد محمّد قعدان، طالب الماجستير في علم الاجتماع بجامعة كوليدج دبلن بإيرلندا، مداخلة بعنوان "الحكم العسكريّ والتهريب وصنع الحدّ: تبعثُر العلاقات الفلسطينيّة وترميمها على خطّ الهدنة". كشفَ قعدان في مداخلته كيف تحوّلت "الحياة اليوميّة الفلسطينيّة، في كلّ ما تعنيه اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، إلى فعلٍ خارج عن القانون، وعلى هذا الأساس جرى الكشف عن طرق وأساليب وأنماط التهريب بوصفه استمرارًا واستكمالًا وكفاحًا من أجل الصمود والحفاظ وضمان استمرار الوجود الاجتماعيّ للفلسطينيّين".
عقّب على هذه الجلسة د. يوسف عواودة، الـمُحاضِر السابق في جامعة النجاح، والرئيس السابق لمجلس كفر كنّا المحلّيّ. استعانَ د. عواودة بمنهجيّة "التجريد والتجسيد" من دراسات الاقتصاد بغية ربط ورقتَيْ كلّ من قعدان وهوّاري، مبيّنًا ضرورة تجريدِ السلوك الاقتصاديّ وردِّهِ إلى شكله الأوّليّ بغية تجسيده مرّة أخرى، أي العودة بهذا الشكل الأوّليّ إلى الواقع الراهن لفهم الشكل الذي صارت إليه هذه العلاقات. من هذا الـمِنبر، رأى د. عواودة أنّ التهريب ليس إلّا علاقات تجاريّة شرعيّة طبيعيّة، أُسقطت عليها تسميةُ التهريب بفعل رسم الحدود التي فُرِضت بمنطق القوّة خلال الحكم العسكريّ، واستحضر عواودة دوافع التهريب، وأسباب الإسرائيليّين لمحاربة هذا التهريب، مرورًا بنهاية الحكم العسكريّ، والنكسة، والانتفاضة الأولى، وتلك كلّها محطّات أسهمت في تشكيل العلاقات التجاريّة الماثلة اليوم بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر؛ كما وصفتها د. هوّاري في مداخلتها.
ترأّست الجلسةَ الثانية، التي حملت العنوان "العلاقات الاجتماعيّة: مُقارَبات تربويّة ونسويّة"، د. هوازن يونس، المحاضِرةُ في "الكلّيّة الأكاديميّة – نتانيا"، وفي كلّيّة "أونو" وَ "مركز الدراسات الأكاديميّ – روبين". تحدّثت فيها د. إسلام أبو أسعد، الباحثة في علم الاجتماع التربويّ بمداخلةٍ عنوانها: "تصوُّرات وتطبيقات التربويّين لسياسات التقويم والاحتواء تجاه التلاميذ الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة في المدارس العربيّة في إسرائيل". كشفت الدراسة عن وجود تناقض جوهريّ بين سياسات الاحتواء والتقويم، التي قد تشير، ظاهريًّا، إلى أنّ جميع التلاميذ، بصرف النظر عن قدراتهم أو خلفيّاتهم، يجري احتواؤهم وإدماجهم في التعليم "العاديّ". مع ذلك، ما هذه المصطلحات إلّا تعبيرات مُلطَّفة يجري استخدامها للتستُّر على نقص الدعم والتسهيلات ذات المغزى لهؤلاء لتلاميذ، بل ثمّة ما هو أكثر عن ذلك: هي تعيد إنتاج التسلسلات الهرميّة العِرْقيّة القائمة من خلال إخفاء الممارسات التمييزيّة على أنّها تبدو محايدة أو تقدُّميّة.
كذلك عرضت د. سهاد ظاهر-ناشف، الـمُحاضِرة في علم اجتماع الصحّة في كلّيّة الطبّ، في جامعة "كيل" بالمملكة المتّحدة، مداخَلةً حول دراسة قامت بها هي وَد. عرين هوّاري، عنوانها: "رحلة جبليّة، رحلة صعبة: التجربة الـمَعيشة للنساء الفلسطينيّات من المناطق المحتلّة عام 1967، المتزوّجات والمقيمات داخل الخطّ الأخضر". بيّنت دراستهنّ "أنّ [النساء الفلسطينيّات المتزوّجات داخل الخطّ الأخضر] ينتقلن من حالة هشاشة ناتجة بالأساس عن الاحتلال الإسرائيليّ لمناطق الضفّة الغربيّة، إلى حالة هشاشة أخرى تتكثّف فيها الممارسات الاستعماريّة بحقّ المجتمع الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر […] يُمكن اعتبار خلق تلك الطبقات المختلفة من الهشاشة سياسة استعماريّة تبتغي خلق عدم وضوح وعدم استقرار، وهو ما يُضعِف المستعمَر/ة ويجعله/ا في حالة رغبة مستمرّة لإرضاء السلطة من أجل تحصيل حقّ إنسانيّ أساسيّ هو الإقامة مع العائلة وبالقرب من الأطفال".
عقّبت على هذه الجلسة السيّدة هيلانا إغباريّة، الناشطة الاجتماعيّة ومديرة مكتب الخدمات الاجتماعيّة في بلديّة أمّ الفحم. في تعقيبها، أشارتْ إغباريّة إلى بعض الملاحظات التي وقفت عليها من خلال عملها، ومنها أنّه في محاولات التربويّين لتطبيق سياسات الدمج ثمّة بُعد إقصائيّ للتلاميذ المهمَّشين؛ إذ إنّ تأطيرهم بمجموعة واحدة يخلق شرخًا بينهم وبين سائر التلاميذ، ولا سيّما عند اعتبارهم ضيوفًا خارجيّين لا جزءًا من المدرسة، وهو ما ينعكس بالممارسات اليوميّة لباقي الأهالي والطلبة. أمّا في ما يتعلّق بنساء الضفّة المتزوّجات من فلسطينيّي الـ48، فقد وضّحت اغباريّة التهميش والضائقة المركّبة التي يعانين منها، وبخاصّة أنّ زواجهنّ يُحْصَر -في الغالب- بالمنظور الخَدَماتيّ لرجال كبار في السنّ أو ذوي احتياجات خاصّة، ممّا يدفعهنّ إلى إلغاء ذواتهنّ الإنسانيّة. وقد يزداد الأمر تعقيدًا عندما يُتوفّى الزوج، أو حين تتعرّض هؤلاء النساء للعنف؛ إذ إنّ الوزارات والمؤسَّسات الرسميّة لا تعترف بهنّ، وبالتالي لا تعترف بتقديم الخدمات الاجتماعيّة لهنّ. لذا، دعت إغباريّة المؤسَّسات المدنيّة والقياديّين إلى أخذ دَوْرهم في مدّ يد العون لهؤلاء النساء، حتّى لا ينتهي الأمر بأبنائهنّ -كما هو عليه الحال- إلى الغضب والنقمة على المجتمع الذي خذلهم وخذل أمّهاتهم.
قام مدى الكرمل ببثّ جميع الجلسات على مواقع التواصل الاجتماعيّ للمركز، فيما يعتزم نشر كتاب يحتوي على جميع دراسات وأبحاث المؤتمر، كجزء من الدور الذي يقوم به المركز في إنتاج ومُراكَمة معرفة جديدة حول الفلسطينيّين في إسرائيل تُسهم هي بدَوْرها في إعادة إنتاج وبَلْوَرة المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، من خلال خلق مِساحات من التفكير والتحليل لمواضيع مركَّبة ومعقَّدة، وإتاحة منصّات حِواريّة لمعالجة قضايا تَمُتّ بِصِلة لواقع الفلسطينيّين في إسرائيل.
في نهاية المؤتمر، قام مدى الكرمل بتوزيع الـمِنَح على طلبة الماجستير والدكتوراة المشارِكين في سمينار طلبة الدراسات العليا لمدى الكرمل، والذين احتفى الجمهور بهم وبإنجازاتهم.
عَقدَ مدى الكرمل - المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، يوم السبت الماضي، السابع والعشرين من أيّار، مؤتمره السنويّ للعام 2023، في فندق "رمادا أوليـﭬـييه" في الناصرة. يداوم مدى الكرمل، منذ سبع سنوات إلى الآن، على عَقْد مؤتمره هذا كلّ عام، ويطرح فيه سنويًّا مسألة أو قضيّة راهنة تتعلّق بواقع الفلسطينيّين في إسرائيل، تجري مُعالجَتها من خلال مقارَبات نقديّة، ومن خلال تنظيرات جديدة يحاول من خلالها مناقشةَ هذا الواقع من عدّة زوايا أو جوانب، منها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وغيرها. في هذا العام، تناوَلَ المؤتمر مسألة يعبّر عنها العنوان: "العلاقات بين الفلسطينيّين في فلسطين التاريخيّة: ديناميّات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة".
وكان مدى الكرمل قد عقدَ، عشيّة مؤتمره السنويّ، جلسةً حِواريّة مع الدكتورة آمال بشارة، أستاذة علم الاجتماع في جامعة تافتس بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، حول كتابها "عبور الخطّ: القوانين والعنف والحواجز ضدّ التعبير السياسيّ الفلسطينيّ". عُقِدت الندوة يوم الجمعة، السادس والعشرين من أيّار عبر منصّة زوم، ونُقِلت ببثّ مُباشر عبر منصّة مدى الكرمل في الفيسبوك. افتَتَحت الندوةَ، وحاورت د. بشارة، الدكتورةُ أريج صبّاغ-خوري، الـمُحاضِرة في قسم علم الاجتماع وعلم الإنسان في الجامعة العبريّة، وعضوة لجنة الأبحاث في مدى الكرمل.
أمّا في يوم المؤتمر نفسه، فقد افتُتِح المؤتمر هذا العام بكلمات ترحيبيّة ألقاها كلّ من د. جوني منصور، المؤرّخ وعضو الهيئة الإداريّة في مدى الكرمل، وَد. مهنّد مصطفى، المدير العامّ لمدى الكرمل. طرَحَ د. منصور في كلمته تساؤلات عدّة حول ماهيّة وشكل العلاقة التي تَجْمع المجموعات الفلسطينيّة على طرفَيِ الخطّ الأخضر، تَكونُ هي حجر الأساس الذي تنطلق منه أبحاث المؤتمر. تناولت الأسئلة نوع العلاقات بين هذه الفئات، ودَوْر القضايا السياسيّة في تحفيز الفلسطينيّين على التحرُّك المشترَك، والأثر الذي كان لاتّفاقيّات أوسلو، وقوانين منع لمّ شمل العائلات، وأخيرًا هبّة الكرامة، على هذه العلاقات. ختامًا، طرح د. منصور تساؤلات بشأن إمكانيّة تجاوز كلّ هذه الـمُعيقات، وإعادة بناء مشروع وطنيّ واحد وموحّد لشعب واحد غير مجزَّأ. أمّا د. مهنّد مصطفى، فقد تناول في كلمته السياقات التاريخيّة والسياسيّة المختلفة التي أسهمت في تعزيز البتر والفصل بين أجزاء الشعب الفلسطينيّ، أو تعزيز الوَحدة والتماسك بينها، مبيِّنًا أنّ كلّ فعل استعماريّ قد يُفضي بالضرورة إلى تعزيز أو تراجع الاستعمار، بفعل الواقعين تحته، إمّا من خلال تماهيهم مع التجزئة التي ولّدها الاستعمار (وعمّقتها اتّفاقيّة أوسلو -على سبيل المثال)، وإمّا من خلال نفي وعي البتر (كما أكّدتها انتفاضة الأقصى عام 2000، وهبّة أيّار عام 2021). لذا، شدّد مصطفى على ضرورة السعي في سبيل تحويل العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة من علاقات تضامن أو تواصل أو استهلاك إلى علاقات وَحْدة وتحرُّر للوعي وللواقع السياسيّ على حدّ سواء.
أعقبت الكلماتِ الافتتاحيّةَ قراءةٌ في استطلاع الرأي الذي نهَجَ مدى الكرمل تعميمه على الفلسطينيّين في إسرائيل، وقام بتحليل وعرض نتائجه د. سامي محاجنة، الـمُحاِضرُ الـمشارِكُ في مجالَيِ التربية وعلم النفس في الكلّيّة العربيّة الأكاديميّة "بيت بيرل"، وذلك من خلال مُحاضَرة عنوانها "علاقات على الأطراف: قراءة في استطلاع طبيعة العلاقات بين فئتَيِ المجتمع الفلسطينيّ على طرفَيِ الخطّ الأخضر". تضمّن الاستطلاع في هذا العام ثلاثة محاور:
المحور الأوّل يطرح أسئلة ثابتة بشأن مواقف وتصوُّرات الفلسطينيّين في إسرائيل للوضع السياسيّ القائم في البلاد، ومكانتهم القوميّة والمدنيّة.
المحور الثاني يفحص وتيرة زياراتهم للضفّة الغربيّة، أنماطها وأهدافها ودوافعها، وفيه تبيَّنَ أنّ 34% من المشاركين فيه يزورون الضفّة الغربيّة على الأقلّ مرّة في الشهر، وَ 15% يزورونها مرّة في الأسبوع. أمّا الهدف الأساسيّ للزيارات، فكان من نصيب التجارة والعمل (52%)، فيما احتلّت السياحة والاستجمام المركز الثاني (بنسبة 31%)، والتواصل العائليّ والاجتماعيّ كان له نسبة 9%. وقد أظهرت نتائج البحث أنّ الدافع الأساسيّ لزيارة الضفّة الغربيّة هو متعة الزيارة نفسها، وذلك بنسبة 43%. أمّا كون الأسعار رخيصة فقد حاز على 35% من الأصوات، فيما حاز دافع التضامن السياسيّ والوطنيّ على 21%.
أمّا المحور الثالث والأخير، فقد تناول مواقفهم تجاه إمكانيّة تعزيز العلاقات بين المجموعات الفلسطينيّة المختلفة، وتجاه العمل والتعاون المشترك بينها أيضًا. تشير نتائج البحث إلى أنّ أكثر من ثلثَيِ المشاركين في الاستطلاع يرَوْنَ أنّه ثمّة إمكانيّة وضرورة لتعزيز العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة، والنضالَيْن السياسيّ والاحتجاجيّ المشتركَيْن، بين المجموعات الفلسطينيّة على طرفَيِ الخطّ الأخضر.
يستنتج د. محاجنة من هذا الاستطلاع أنّ هنالك علاقة قائمة ومتواصلة بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر، وإن كانت بنِسَب متفاوتة لدى الفئات الديمـﭼـرافيّة المختلفة. مع ذلك، تتميّز هذه العلاقة بالحذر؛ إذ يتفادى الفلسطينيّون حاملو المواطَنة الإسرائيليّة التواصلَ مع الجانب الآخَر لأغراض نضاليّة سياسيّة، فيما تدفعُه إلى ذلك العواملُ التجاريّة والترفيهيّة والثقافيّة.
كما هو الحال في كلّ عام، كذلك في هذا العام شَاركَ في المؤتمر كوكبةٌ من الأكاديميّين والباحثين والسياسيّين والناشطين، توزّعت مداخلاتهم على جلستين:
الجلسة الأولى، التي حملت العنوان "العلاقات الاقتصاديّة: مُقارَبات اجتماعيّة وسياسيّة"، والتي رَأَسَها د. إمطانس شحادة، مدير وَحدة السياسات في مدى الكرمل، عُرِضت فيها ثلاث مداخلات، هي التالية: مداخلة بعنوان "آفاق التعاون والتكامل الاقتصاديّ الفلسطينيّ عبْر الخطّ الأخضر"، عرَضَها د. رابح مُرّار (مدير البحوث في معهد "ماس" والأستاذ المساعد في الاقتصاد في جامعة النجاح)، ممثِّلًا عن معهد "ماس". في هذه الدراسة، اهتمّ مركز "ماس" ببحث طبيعة العلاقات الاقتصاديّة بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر، وسُبُل تعزيزها وتطويرها، بما يحقّق حالة من التكامل الاقتصاديّ بين الطرفين، التي من شأنها أن تقلّل التبعيّة للاقتصاد الاسرائيليّ. "بيّنت الدراسة أنّه على الرغم من التوسُّع والتنوُّع الذي شهدته العلاقات الاقتصاديّة بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر، لم ترتقِ إلى حدّ التكامل والتنسيق أو تقاسم الأدوار، فقد بقيت العلاقات الاقتصاديّة في ما بينهم على اختلاف أشكالها وأنماطها رهينة للسياسات الإسرائيليّة والحالة الأمنيّة والمنفعة الاقتصاديّة".
ألقت د. عرين هوّاري، مديرة برنامج الدراسات النسويّة في مدى الكرمل، مداخلةً بعنوان "بين شَقَّيْن: شعب يُمارس وَحْدته وانشطاره: العلاقة التجاريّة بين الفلسطينيّين من داخل الخطّ الأخضر ومن جنين". من خلال تحليل روايات المشاركين، لَمَسَتْ د. هوّاري "إنتاج هُويّة إضافيّة خاصّة بالفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر [...] نوع آخر من التقسيم ليس جغرافيًّا ولا هو متعلّق بتركيبات ناتجة عن سيرورات تاريخيّة "طبيعيّة" لدى المجتمع الفلسطينيّ [...] وإنّما إنتاج بُنْية استعماريّة كسرت المسار التاريخيّ وقطعت الجغرافيا فخلقت مجموعتَيْن: "إحنا عرب الـ48" […] مقابل "هم أهل الضفّة" [...] لتبدوَ الضفّة كالآخَر "العالَم الثالثيّ"، وأحيانًا من خلال نظرة معاكسة تنظر برومانسيّة إلى أهل الضفّة الغربيّة الذين حافظوا على بساطتهم في التعامل، مقابل فلسطينيّي الخطّ الأخضر".
في المداخلة الأخيرة من هذه الجلسة، عرضَ السيّد محمّد قعدان، طالب الماجستير في علم الاجتماع بجامعة كوليدج دبلن بإيرلندا، مداخلة بعنوان "الحكم العسكريّ والتهريب وصنع الحدّ: تبعثُر العلاقات الفلسطينيّة وترميمها على خطّ الهدنة". كشفَ قعدان في مداخلته كيف تحوّلت "الحياة اليوميّة الفلسطينيّة، في كلّ ما تعنيه اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، إلى فعلٍ خارج عن القانون، وعلى هذا الأساس جرى الكشف عن طرق وأساليب وأنماط التهريب بوصفه استمرارًا واستكمالًا وكفاحًا من أجل الصمود والحفاظ وضمان استمرار الوجود الاجتماعيّ للفلسطينيّين".
عقّب على هذه الجلسة د. يوسف عواودة، الـمُحاضِر السابق في جامعة النجاح، والرئيس السابق لمجلس كفر كنّا المحلّيّ. استعانَ د. عواودة بمنهجيّة "التجريد والتجسيد" من دراسات الاقتصاد بغية ربط ورقتَيْ كلّ من قعدان وهوّاري، مبيّنًا ضرورة تجريدِ السلوك الاقتصاديّ وردِّهِ إلى شكله الأوّليّ بغية تجسيده مرّة أخرى، أي العودة بهذا الشكل الأوّليّ إلى الواقع الراهن لفهم الشكل الذي صارت إليه هذه العلاقات. من هذا الـمِنبر، رأى د. عواودة أنّ التهريب ليس إلّا علاقات تجاريّة شرعيّة طبيعيّة، أُسقطت عليها تسميةُ التهريب بفعل رسم الحدود التي فُرِضت بمنطق القوّة خلال الحكم العسكريّ، واستحضر عواودة دوافع التهريب، وأسباب الإسرائيليّين لمحاربة هذا التهريب، مرورًا بنهاية الحكم العسكريّ، والنكسة، والانتفاضة الأولى، وتلك كلّها محطّات أسهمت في تشكيل العلاقات التجاريّة الماثلة اليوم بين الفلسطينيّين على طرفَيِ الخطّ الأخضر؛ كما وصفتها د. هوّاري في مداخلتها.
ترأّست الجلسةَ الثانية، التي حملت العنوان "العلاقات الاجتماعيّة: مُقارَبات تربويّة ونسويّة"، د. هوازن يونس، المحاضِرةُ في "الكلّيّة الأكاديميّة – نتانيا"، وفي كلّيّة "أونو" وَ "مركز الدراسات الأكاديميّ – روبين". تحدّثت فيها د. إسلام أبو أسعد، الباحثة في علم الاجتماع التربويّ بمداخلةٍ عنوانها: "تصوُّرات وتطبيقات التربويّين لسياسات التقويم والاحتواء تجاه التلاميذ الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة في المدارس العربيّة في إسرائيل". كشفت الدراسة عن وجود تناقض جوهريّ بين سياسات الاحتواء والتقويم، التي قد تشير، ظاهريًّا، إلى أنّ جميع التلاميذ، بصرف النظر عن قدراتهم أو خلفيّاتهم، يجري احتواؤهم وإدماجهم في التعليم "العاديّ". مع ذلك، ما هذه المصطلحات إلّا تعبيرات مُلطَّفة يجري استخدامها للتستُّر على نقص الدعم والتسهيلات ذات المغزى لهؤلاء لتلاميذ، بل ثمّة ما هو أكثر عن ذلك: هي تعيد إنتاج التسلسلات الهرميّة العِرْقيّة القائمة من خلال إخفاء الممارسات التمييزيّة على أنّها تبدو محايدة أو تقدُّميّة.
كذلك عرضت د. سهاد ظاهر-ناشف، الـمُحاضِرة في علم اجتماع الصحّة في كلّيّة الطبّ، في جامعة "كيل" بالمملكة المتّحدة، مداخَلةً حول دراسة قامت بها هي وَد. عرين هوّاري، عنوانها: "رحلة جبليّة، رحلة صعبة: التجربة الـمَعيشة للنساء الفلسطينيّات من المناطق المحتلّة عام 1967، المتزوّجات والمقيمات داخل الخطّ الأخضر". بيّنت دراستهنّ "أنّ [النساء الفلسطينيّات المتزوّجات داخل الخطّ الأخضر] ينتقلن من حالة هشاشة ناتجة بالأساس عن الاحتلال الإسرائيليّ لمناطق الضفّة الغربيّة، إلى حالة هشاشة أخرى تتكثّف فيها الممارسات الاستعماريّة بحقّ المجتمع الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر […] يُمكن اعتبار خلق تلك الطبقات المختلفة من الهشاشة سياسة استعماريّة تبتغي خلق عدم وضوح وعدم استقرار، وهو ما يُضعِف المستعمَر/ة ويجعله/ا في حالة رغبة مستمرّة لإرضاء السلطة من أجل تحصيل حقّ إنسانيّ أساسيّ هو الإقامة مع العائلة وبالقرب من الأطفال".
عقّبت على هذه الجلسة السيّدة هيلانا إغباريّة، الناشطة الاجتماعيّة ومديرة مكتب الخدمات الاجتماعيّة في بلديّة أمّ الفحم. في تعقيبها، أشارتْ إغباريّة إلى بعض الملاحظات التي وقفت عليها من خلال عملها، ومنها أنّه في محاولات التربويّين لتطبيق سياسات الدمج ثمّة بُعد إقصائيّ للتلاميذ المهمَّشين؛ إذ إنّ تأطيرهم بمجموعة واحدة يخلق شرخًا بينهم وبين سائر التلاميذ، ولا سيّما عند اعتبارهم ضيوفًا خارجيّين لا جزءًا من المدرسة، وهو ما ينعكس بالممارسات اليوميّة لباقي الأهالي والطلبة. أمّا في ما يتعلّق بنساء الضفّة المتزوّجات من فلسطينيّي الـ48، فقد وضّحت اغباريّة التهميش والضائقة المركّبة التي يعانين منها، وبخاصّة أنّ زواجهنّ يُحْصَر -في الغالب- بالمنظور الخَدَماتيّ لرجال كبار في السنّ أو ذوي احتياجات خاصّة، ممّا يدفعهنّ إلى إلغاء ذواتهنّ الإنسانيّة. وقد يزداد الأمر تعقيدًا عندما يُتوفّى الزوج، أو حين تتعرّض هؤلاء النساء للعنف؛ إذ إنّ الوزارات والمؤسَّسات الرسميّة لا تعترف بهنّ، وبالتالي لا تعترف بتقديم الخدمات الاجتماعيّة لهنّ. لذا، دعت إغباريّة المؤسَّسات المدنيّة والقياديّين إلى أخذ دَوْرهم في مدّ يد العون لهؤلاء النساء، حتّى لا ينتهي الأمر بأبنائهنّ -كما هو عليه الحال- إلى الغضب والنقمة على المجتمع الذي خذلهم وخذل أمّهاتهم.
قام مدى الكرمل ببثّ جميع الجلسات على مواقع التواصل الاجتماعيّ للمركز، فيما يعتزم نشر كتاب يحتوي على جميع دراسات وأبحاث المؤتمر، كجزء من الدور الذي يقوم به المركز في إنتاج ومُراكَمة معرفة جديدة حول الفلسطينيّين في إسرائيل تُسهم هي بدَوْرها في إعادة إنتاج وبَلْوَرة المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، من خلال خلق مِساحات من التفكير والتحليل لمواضيع مركَّبة ومعقَّدة، وإتاحة منصّات حِواريّة لمعالجة قضايا تَمُتّ بِصِلة لواقع الفلسطينيّين في إسرائيل.
في نهاية المؤتمر، قام مدى الكرمل بتوزيع الـمِنَح على طلبة الماجستير والدكتوراة المشارِكين في سمينار طلبة الدراسات العليا لمدى الكرمل، والذين احتفى الجمهور بهم وبإنجازاتهم.
التعليقات