تداعيات وآثار التسخين الأميركي للحدود الروسية الأوكرانية

تداعيات وآثار التسخين الامريكي للحدود الروسية الأوكرانية
بقلم: د. سمير الددا
ما زالت الالة الاعلامية الامريكية الجبارة تفرض التوترات على حدود اوكرانيا الشرقية مع روسيا على واجهة الاحداث الدولية وتعمل على ديمومة تصدرها لبرامج ونشرات اخبار وسائل الاعلام العالمية, كما جندت اهم ساستها ودبلوماسييها جنباً الى جنب ابرز الكوادر السياسية والدبلوماسية لدى حلفائها في حلف شمال الاطلسي (الناتو) بهدف حشد الرأي العام العالمي ضد روسيا رغم ان كل ما تطلبه الاخيرة من الولايات الامريكية وحلفائها هو التعهد بعدم تمدد الحلف شرقاً نحو الحدود الروسية حفاظاً على أمنها القومي, ليس إلا.
في مقال سابق نشر في الخامس من الشهر الجاري حول التصعيد على الحدود الاوكرانية الشرقية أشرنا الى الابعاد التاريخية والإستراتيجية لهذه الازمة الروسية الاطلسية وأسباب تفجرها, وفي هذا المقال سنتطرق الى تداعياتها وتأثيرها على دول العالم المختلفة وخصوصاً في حال انزلاقها نحو اسوأ السيناريوهات أي الحرب رغم انه مستبعد على وفقاُ للمعطيات المتوافرة على الاقل في هذه المرحلة.
في واقع الحال ان الأوضاع المتأججة على الحدود الاوكرانية الروسية هي بالدرجة الاولى ازمة بين الولايات المتحدة وروسيا اكثر منها ازمة بين الاخيرة وأوكرانيا او أي من دول الناتو, وهذا ما تؤكده كل تطورات الازمة بما في ذلك ما تناقلته وسائل الاعلام العالمية الاثنين 21 فبراير الجاري ان هناك موافقة على عقد قمة بين الرئيسين بايدن وبوتين خلال الاسبوع القادم يليها اجتماع بين وزيري الدفاع الامريكي لويد اوستن والروسي سيرجي شويغو.
في الحقيقة ان تمركز روسيا لقواتها داخل اراضيها قبالة الحدود الاوكرانية كان مسمار جحا التي التقطته الولايات المتحدة للتصعيد والعمل بكل طاقتها لاستفزاز الروس وجرهم الى "مواجهة عسكرية" هناك قد تتخذها الولايات المتحدة ذريعة لفرض عقوبات نوعية تؤدي الى عزل روسيا وإنهاكها اقتصادياً ليسهل تدميرها ذاتياً بعد عدد من السنوات, تماماً كما فعلت بكل من الاتحاد السوفيتي 1989 ومن بعده العراق عام 2003, وهذه سياسة امريكية تقليدية خبيثة وعلى درجة عالية من الخطورة سبق ان طبقتها بالإضافة الى الاتحاد السوفيتي والعراق على كل من ليبيا وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وإيران وغيرها, وقد نجحت الى حد كبير في بعض هذه الدول مما ادى الى انهيارها, بينما كان نجاحها نسبياً في دول اخرى فتسببت في تدهور اقتصادياتها وتردي أحوال شعوبها المعيشية وان بقيت متماسكة عسكرياً وسياسياً.
من جهته, الرئيس الاميركي جو بايدن كان قد صرح ان الغزو الروسي لأوكرانيا سيحدث ليلة 16 من الشهر الجاري ولكنه لم يحدث, ومع ذلك صرح مساء الجمعة عقب اجتماع افتراضي له مع زعماء الناتو انه يعتقد ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اتخذ قراراً بغزو اوكرانيا و,اضاف سيحدث ذلك خلال ايام (وفقاً لتقييمات استخبارية), وفي هذا السياق قال وزير الدفاع الامريكي لويد اوستن قبيل محادثاته الاخيرة مع نظيره الروسي سيرجي شويغو اننا مستهدون للدفاع عن اوكرانيا علماً أن الاخيرة ليست حليفة للولايات المتحدة وليست عضواً في الناتو.
للمعلومية, الرئيس بايدن (بخلاف سلفه الرئيس السابق ترامب) لا يستلطف الرئيس بوتين ويتخذ منه موقفاً حاداً وهو لا يخفي ذلك, وتجدر الاشارة في هذا المقام الى المقابلة الشهيرة التي بثتها للرئيس بايدن قناة إيه بي سي نيوز في مارس العام الماضي، والتي قال فيها رداً على سؤال لاحد الصحفيين إن الرئيس الروسي "قاتل" وأضاف موجهاً كلامه للسائل في لغة تفتقر للدبلوماسية: "سترى الثمن الذي سيدفعه قريباً", مما اثار موجة من الاحتجاجات والسجالات بين البلدين وفاقم حدة التوتر بينهما لدرجة استدعاء روسيا لسفيرها في الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف "للتشاور", ومن ناحيته استنكر رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين ما قاله بايدن واعتبره "تهجماً على روسيا وإهانة لشعبها".
يرى معظم المراقبين ان هذه الازمة مفتعلة ولا تستحق كل هذا التهويل الاعلامي والسياسي الذي تقوده واشنطن, وذلك وفقاً لعدة مؤشرات وقرائن, ابرزها ان الرئيس الاوكراني فلادومير زيلينسكي شخصياً صرح اكثر من مرة ان الوضع على الحدود مع روسيا لا يستحق كل هذا التصعيد وطلب من الولايات المتحدة التهدئة وان الوضع في بلده ليس خطيراً الى الحد الذي تحاول الولايات المتحدة تصويره للعالم بدليل سفره بنفسه الى خارج البلاد لحضور مؤتمر ميونخ الامن الذي انعقد في الثامن عشر من الشهر الجاري.
هذا بالاضافة الى ان القادة الروس على كافة المستويات أكدوا عدة مرات ايضاً ان روسيا لا تنوي الاحتكام للقوة العسكرية وكل ما تطالب به موسكو هو تعهد قانوني من الناتو بعدم التمدد نحو حدودها كما اشرنا وذلك تماشياً مع ما تعهدت به الولايات المتحدة وحلفائها اثناء مفاوضات توحيد المانيا مطلع التسعينات.
مجلة "شبيغل" الألمانية نشرت السبت 19 فبراير الجاري وثيقة رسمية تتضمن وعوداً لسياسيين غربيين لموسكو بعدم توسع الناتو شرقاً, ووفقاً للمجلة الالمانية فقد قال الدكتور جوشوا شيفرينسون استاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن : "إنه اكتشف وثيقة أرشيفية سرية عن اجتماع عقده مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية في مدينة بون الالمانية مع نظرائهم في كلاً من وزارة الخارجية البريطانية والفرنسية والألمانية بتاريخ 6 مارس عام 1991 وبموجب هذه الوثيقة فإن الدبلوماسي الألماني يورغن هروبوغ أكد خلال هذا الاجتماع بكل وضوح أن الناتو لن يتوسع شرقاً إلى "ما وراء نهر إلبه"، وبالتالي لا يمكن عرض عضوية الناتو على بولندا أو أي دول أخرى في المنطقة", وشدد المسؤول الالماني انه يمثل موقف المستشار هلموت كول ووزير الخارجية هانس ديتريخ غينشر, ومن جهته قال الدبلوماسي الأمريكي رايموند زايتز إن الدول الغربية "أكدت للاتحاد السوفيتي بوضوح أثناء المفاوضات بصيغة "2+4"، أنها لن تسعى للاستفادة من انسحاب القوات السوفيتية من أوروبا الشرقية", وأضاف أن "الناتو يجب ألا يتوسع شرقا رسميا ولا بشكل غير رسمي", وتجدر الاشارة الى أن المفاوضات في إطار "2+4" كانت تجري في أواخر الثمانينات من القرن الماضي بمشاركة الالمانيتين (الشرقية والغربية) والاتحاد السوفيتي وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة, حول إعادة توحيد شطري ألمانيا, ولكن برغم هذه التعهدات فقد ارتفع عدد اعضاء حلف الناتو بعد ذلك الوقت من 16 الى 30 دولة, أي بزيادة 14 دولة كلها كانت جمهوريات سوفيتية سابقة...!!!!.
يبدو ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يشير الى هذه الوثيقة عندما صرح اكثر من مرة "أن الدول الغربية تعهدت لنا بعدم التوسع شرقاً لكنها لم تفعل, لقد خدعونا"ً,
عسكرياً, في تقديري ان الامريكيين لن يتجرأوا على مواجهة روسيا عسكرياً حتى لو غزت اوكرانيا, لانهم يعرفون ان روسيا تملك أكثر من 7000 رأس نووي وفق تقديرات مراكز ابحاث امريكية بالاضافة الى ترسانة عسكرية مرعبة كفيلة بإزالة العالم كله من الوجود (وليس فقط الولايات المتحدة وحلفائها), والقيادة الروسية لن تتردد في استعمال الاسلحة النووية اذا ما شعروا ان الولايات المتحدة التي تملك حوالي 6000 رأس نووي جادة في استعمال أي منها ضدهم حتى لو ادى ذلك الى تدمير العالم بأسره وقد صرح بذلك بدون مواربة الرئيس بوتين في حوار صحفي شهير في السابع من شهر مارس عام 2018 ردا على سؤال هل سترد روسيا باستعمال السلاح النووي اذا ما فكرت الولايات المتحدة باستعماله مع ان مثل هذا السيناريو قد يؤدي الى تدمير العالم, فقال بحسم "لا حاجة لهذا العالم بدون روسيا", شهدائنا سيذهبون الى الجنة وأما هم فلن يكون لديهم ولو مجرد لحظة واحدة للتفكير وستكون السماء اخر شي يرونه".
يعرف الرئيس بايدن جيداً انه سيكون في منتهى الخطورة "اللعب عسكرياً" مع روسيا التي صنفها "بعدونا الاول" منذ الاسبوع الاول له في البيت الابيض, ولكن جدلاً اذا حصل ذلك (رغم انه مستبعد وفقاً للمعطيات المتوفرة حتى كتابة هذا المقال) فان عليه ان يحسب حساباته بدقة, اذ سيكون عليه في الغالب مواجهة روسيا وحيداً, اذ من الصعب تخيل دخول دول اوروبا الغربية في صراع عسكري ضد روسيا الى جانب الولايات المتحدة لعدة اسباب منها ان أهم حلفائه الاوروبيين لا يمكنهم الاقدام على أي مغامرة من هذا النوع لتداعياتها العسكرية المدمرة على بلدانهم فضلاً عن امكانية توقف امدادات الطاقة الروسية (غاز ونفط) اللازمة لتشغيل كافة منشآتهم الاقتصادية والصناعية والطبية وإنارة وتدفئة بيوتهم وخصوصاً في هذا الشتاء الشديد البرودة.
هذا بالاضافة الى ان أهم اعضاء الناتو الاوربيين لا يثقون تماماً بالنوايا الامريكية, بالأمس القريب قلب الرئيس السابق ترامب لهم رأس المجن طالباً منهم رفع مساهماتهم في ميزانية الحلف وخصوصاً الدول الغنية مقابل حمايتهم عسكرياً واعتبر الحلف عبئاً ثقيلاً على بلاده كونها تدفع النسبة الاكبر من ميزانيته ولا يأبه حتى لو تفكك اذ ان بلاده ليست بحاجة اليه على حد قوله, واضاف ترامب "الدول الاكثر حاجة للحلف ليحميها امنياً وعسكرياً لا تدفع الا القليل واضاف ان الدول الاوروبية الثرية عليها ان تدفع للولايات المتحدة مقابل حمايتها على حد قوله.
اضف الى ذلك ان فرنسا تعرضت منذ عدة اشهر فقط لطعنة امريكية في الظهر وذلك عندما قامت استراليا بالغاء صفقة غواصات فرنسية قيمتها عشرات المليارات, لصالح صفقة غواصات امريكية بالتواطؤ مع البريطانيين, مما ترك اثرا كبيراً على الثقة بين فرنسا والولايات المتحدة كما قال حينها وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان.
هذا, علاوة على ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يولي اولوية قصوى للتحضير للانتخابات القادمة المقررة بعد حوالي شهرين حيث يواجه منافسين اقوياء ويشكلون خطراً حقيقياً على فرص بقائه في قصر الاليزيه, ومن جهته المستشار الالماني اولاف شولتز تسلم مهامه قبل حوالي شهرين ويحتاج مزيداً من الوقت للالمام بتفاصيل الملفات العالمية الساخنة بما فيها الملف الروسي الاوكراني.
بايدن يدرك ان الناتو تعرض لشرخ على يد ترامب, وهو يحاول ترميمه, وهناك مراقبون يرون ان بايدن يهدف من وراء كل هذا التصعيد السياسي والاعلامي الامريكي (ليس مواجهة روسيا) بل توحيد اعضاء الناتو من جديد باستعمال الفزاعة الروسية.
لماذا كل هذا الاهتمام العالمي بما يحصل على الحدود الاوكرانية الروسية:
1- لان أبرز اطرافها اقوى دول في العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي تمتلك اليه اعلامية جبارة سخرتها لبقاء هذه القضية تحت الاضواء على مدار الساعة ولان على الطرف الاخر روسيا وهي بدورها قوى عظمى يحسب لها الف حساب.
2- التداعيات الخطيرة التي يمكن ان تتركها هذه الازمة على الأمن الغذائي الدولي كون حوالي 30% من امدادات القمح العالمية تاتي من روسيا واوكرانيا وخصوصاً من بؤرة هذه الازمة (منطقة الدونباس الحدودية الخصبة) والتخوف من ان تتأثر صادرات القمح مما سيؤدي حتماً الى ارتفاع اسعار الغذاء حول العالم مع الاخذ بالاعتبار مما سيكون لذلك من تداعيات على الامن القومي لكثير من الدول وخصوصاً في منطقة الشرق التي تستورد حوالي 40% من صادرات القمح الاوكرانية والتي شهدت قبل حوالي 10 سنوات اندلاع احداث ما عرف بالربيع العربي اثر زيادة في الاسعار, علماً بأن بعض دول المنطقة من اكبر مستوردي القمح الروسي والاوكراني, فمثلا مصر تستورد منه حوالي 70% من حاجتها من القمح (50% من روسيا و20% من اوكرانيا), وتجدر ان اسعار القمح شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في بورصات القمح العالمية اثر التصعيد الحالي وصل في شهر يناير الماضي الى 7% في بورصة شيكاغو.
3- حال حصول السيناريو المرعب واندلاع حرب في اوكرانيا سيؤدي ذلك الى ازمة غذاء عالمية حيث سيتم بالطبع اغلاق أهم موانئ اوكرانيا (مينائي اوديسا وميكولايف على البحر السود ومينائي بيرديانسك وماريوبول على بحر آزوف) وبالفعل نشرت روسيا يوم الاربعاء التاسع من شهر فبراير الجاري في المياه الاقليمية في تلك المنطقة حوالي 140 سفينة حربية مما سيحد من تدفق القمح الاوكراني والروسي على السواء الى الاسواق العالمية مما سيؤدي الى ارتفاع حاد في الاسعار, مما يذكر بكابوس 2014 حين ارتفعت اسعار القمح عالمياً حوالي 75% عند استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في ذلك العام.
4- اضافة الى القمح, تصدر روسيا منتجات مهمة اخرى أبرزها النيكل وتصدر منه حوالي 50% من صادرات العالم, و40% من صادرات البلاديوم و26% من صادرات الالمونيوم و25% من صادرات الامونيا و17 من صادرات البوتاس و14% من صادرات اليوريا و13% من صادرات البلاتين و10% من صادرات الفوسفات و7% من صادرات الصلب, في حين تصدر اوكرانيا أكثر من 50% من صادرات زيت عباد الشمس بالاضافة الى 18% من صادرات الشعير و16% من صادرات الذرة, وهذه صادرات هامة جداً لمجالات الصناعة والزراعة (الاسمدة) ومن المؤكد ان امداداتها ستتأثر بالتطورات على حدود اوكرانيا مما سيؤدي الى ارتفاع اسعارها وبالتالي ارتفاع اسعار جميع المنتجات تقريباً.
5- روسيا أهم منتج للبترول والغاز عالمياً, ومنها تستورد اوروبا حوالي 40% من احتياجاتها من الغاز و25% من احتياجاتها من البترول, وفي حال انزلاق الاوضاع نحو المواجهة العسكرية ستتعرض هذه الصادرات للتوقف مما سيؤدي الى ارتفاع جنوني في الاسعار (وخصوصاً في حال فرض عقوبات غربية على روسيا) وتوقع خبراء كنديون ان يصل سعر برميل النفط الى حوالي 175 دولار وسعر الغاز الى حوالي 250 دولار لكل ميجاوات ساعة.
أخر الكلام:
القضية الفلسطينية لن تكون في منأى عن تطورات الازمة الاوكرانية, روسيا واوكرانيا صدرتا ملايين اليهود الى فلسطين وهؤلاء لهم حضور كبير في الحياة السياسية الاسرائيلية ولهم احزاب مهمة خاصة بهم تمثلهم, واليوم يعيش في كلا من روسيا واوكرانيا عشرات الالاف من الروس والاوكرانيين الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية, وفي حكم المؤكد ان هؤلاء سيهربوا الى فلسطين في حال تصاعد الازمة, وفي الوقت نفسه سيهاجر الى فلسطين يهود جدد من روسيا واوكرانيا الى فلسطين, أما الشعب الفلسطيني فلن يستفيد شيئاً كيفما انتهت هذه المواجهة.
الخاسر الاكبر من المواجهة العسكرية ان حصلت (رغم ان ذلك مستبعد), سيكون اوكرانيا الحاضر الغائب في هذه الازمة, والسبب ببساطة ان الكبار سيصفون حساباتهم على اراضيها وعلى حساب سيادتها واستقلالها وربما دماء ابنائها.
د. سمير الددا
[email protected]
بقلم: د. سمير الددا
ما زالت الالة الاعلامية الامريكية الجبارة تفرض التوترات على حدود اوكرانيا الشرقية مع روسيا على واجهة الاحداث الدولية وتعمل على ديمومة تصدرها لبرامج ونشرات اخبار وسائل الاعلام العالمية, كما جندت اهم ساستها ودبلوماسييها جنباً الى جنب ابرز الكوادر السياسية والدبلوماسية لدى حلفائها في حلف شمال الاطلسي (الناتو) بهدف حشد الرأي العام العالمي ضد روسيا رغم ان كل ما تطلبه الاخيرة من الولايات الامريكية وحلفائها هو التعهد بعدم تمدد الحلف شرقاً نحو الحدود الروسية حفاظاً على أمنها القومي, ليس إلا.
في مقال سابق نشر في الخامس من الشهر الجاري حول التصعيد على الحدود الاوكرانية الشرقية أشرنا الى الابعاد التاريخية والإستراتيجية لهذه الازمة الروسية الاطلسية وأسباب تفجرها, وفي هذا المقال سنتطرق الى تداعياتها وتأثيرها على دول العالم المختلفة وخصوصاً في حال انزلاقها نحو اسوأ السيناريوهات أي الحرب رغم انه مستبعد على وفقاُ للمعطيات المتوافرة على الاقل في هذه المرحلة.
في واقع الحال ان الأوضاع المتأججة على الحدود الاوكرانية الروسية هي بالدرجة الاولى ازمة بين الولايات المتحدة وروسيا اكثر منها ازمة بين الاخيرة وأوكرانيا او أي من دول الناتو, وهذا ما تؤكده كل تطورات الازمة بما في ذلك ما تناقلته وسائل الاعلام العالمية الاثنين 21 فبراير الجاري ان هناك موافقة على عقد قمة بين الرئيسين بايدن وبوتين خلال الاسبوع القادم يليها اجتماع بين وزيري الدفاع الامريكي لويد اوستن والروسي سيرجي شويغو.
في الحقيقة ان تمركز روسيا لقواتها داخل اراضيها قبالة الحدود الاوكرانية كان مسمار جحا التي التقطته الولايات المتحدة للتصعيد والعمل بكل طاقتها لاستفزاز الروس وجرهم الى "مواجهة عسكرية" هناك قد تتخذها الولايات المتحدة ذريعة لفرض عقوبات نوعية تؤدي الى عزل روسيا وإنهاكها اقتصادياً ليسهل تدميرها ذاتياً بعد عدد من السنوات, تماماً كما فعلت بكل من الاتحاد السوفيتي 1989 ومن بعده العراق عام 2003, وهذه سياسة امريكية تقليدية خبيثة وعلى درجة عالية من الخطورة سبق ان طبقتها بالإضافة الى الاتحاد السوفيتي والعراق على كل من ليبيا وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وإيران وغيرها, وقد نجحت الى حد كبير في بعض هذه الدول مما ادى الى انهيارها, بينما كان نجاحها نسبياً في دول اخرى فتسببت في تدهور اقتصادياتها وتردي أحوال شعوبها المعيشية وان بقيت متماسكة عسكرياً وسياسياً.
من جهته, الرئيس الاميركي جو بايدن كان قد صرح ان الغزو الروسي لأوكرانيا سيحدث ليلة 16 من الشهر الجاري ولكنه لم يحدث, ومع ذلك صرح مساء الجمعة عقب اجتماع افتراضي له مع زعماء الناتو انه يعتقد ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اتخذ قراراً بغزو اوكرانيا و,اضاف سيحدث ذلك خلال ايام (وفقاً لتقييمات استخبارية), وفي هذا السياق قال وزير الدفاع الامريكي لويد اوستن قبيل محادثاته الاخيرة مع نظيره الروسي سيرجي شويغو اننا مستهدون للدفاع عن اوكرانيا علماً أن الاخيرة ليست حليفة للولايات المتحدة وليست عضواً في الناتو.
للمعلومية, الرئيس بايدن (بخلاف سلفه الرئيس السابق ترامب) لا يستلطف الرئيس بوتين ويتخذ منه موقفاً حاداً وهو لا يخفي ذلك, وتجدر الاشارة في هذا المقام الى المقابلة الشهيرة التي بثتها للرئيس بايدن قناة إيه بي سي نيوز في مارس العام الماضي، والتي قال فيها رداً على سؤال لاحد الصحفيين إن الرئيس الروسي "قاتل" وأضاف موجهاً كلامه للسائل في لغة تفتقر للدبلوماسية: "سترى الثمن الذي سيدفعه قريباً", مما اثار موجة من الاحتجاجات والسجالات بين البلدين وفاقم حدة التوتر بينهما لدرجة استدعاء روسيا لسفيرها في الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف "للتشاور", ومن ناحيته استنكر رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين ما قاله بايدن واعتبره "تهجماً على روسيا وإهانة لشعبها".
يرى معظم المراقبين ان هذه الازمة مفتعلة ولا تستحق كل هذا التهويل الاعلامي والسياسي الذي تقوده واشنطن, وذلك وفقاً لعدة مؤشرات وقرائن, ابرزها ان الرئيس الاوكراني فلادومير زيلينسكي شخصياً صرح اكثر من مرة ان الوضع على الحدود مع روسيا لا يستحق كل هذا التصعيد وطلب من الولايات المتحدة التهدئة وان الوضع في بلده ليس خطيراً الى الحد الذي تحاول الولايات المتحدة تصويره للعالم بدليل سفره بنفسه الى خارج البلاد لحضور مؤتمر ميونخ الامن الذي انعقد في الثامن عشر من الشهر الجاري.
هذا بالاضافة الى ان القادة الروس على كافة المستويات أكدوا عدة مرات ايضاً ان روسيا لا تنوي الاحتكام للقوة العسكرية وكل ما تطالب به موسكو هو تعهد قانوني من الناتو بعدم التمدد نحو حدودها كما اشرنا وذلك تماشياً مع ما تعهدت به الولايات المتحدة وحلفائها اثناء مفاوضات توحيد المانيا مطلع التسعينات.
مجلة "شبيغل" الألمانية نشرت السبت 19 فبراير الجاري وثيقة رسمية تتضمن وعوداً لسياسيين غربيين لموسكو بعدم توسع الناتو شرقاً, ووفقاً للمجلة الالمانية فقد قال الدكتور جوشوا شيفرينسون استاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن : "إنه اكتشف وثيقة أرشيفية سرية عن اجتماع عقده مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية في مدينة بون الالمانية مع نظرائهم في كلاً من وزارة الخارجية البريطانية والفرنسية والألمانية بتاريخ 6 مارس عام 1991 وبموجب هذه الوثيقة فإن الدبلوماسي الألماني يورغن هروبوغ أكد خلال هذا الاجتماع بكل وضوح أن الناتو لن يتوسع شرقاً إلى "ما وراء نهر إلبه"، وبالتالي لا يمكن عرض عضوية الناتو على بولندا أو أي دول أخرى في المنطقة", وشدد المسؤول الالماني انه يمثل موقف المستشار هلموت كول ووزير الخارجية هانس ديتريخ غينشر, ومن جهته قال الدبلوماسي الأمريكي رايموند زايتز إن الدول الغربية "أكدت للاتحاد السوفيتي بوضوح أثناء المفاوضات بصيغة "2+4"، أنها لن تسعى للاستفادة من انسحاب القوات السوفيتية من أوروبا الشرقية", وأضاف أن "الناتو يجب ألا يتوسع شرقا رسميا ولا بشكل غير رسمي", وتجدر الاشارة الى أن المفاوضات في إطار "2+4" كانت تجري في أواخر الثمانينات من القرن الماضي بمشاركة الالمانيتين (الشرقية والغربية) والاتحاد السوفيتي وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة, حول إعادة توحيد شطري ألمانيا, ولكن برغم هذه التعهدات فقد ارتفع عدد اعضاء حلف الناتو بعد ذلك الوقت من 16 الى 30 دولة, أي بزيادة 14 دولة كلها كانت جمهوريات سوفيتية سابقة...!!!!.
يبدو ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يشير الى هذه الوثيقة عندما صرح اكثر من مرة "أن الدول الغربية تعهدت لنا بعدم التوسع شرقاً لكنها لم تفعل, لقد خدعونا"ً,
عسكرياً, في تقديري ان الامريكيين لن يتجرأوا على مواجهة روسيا عسكرياً حتى لو غزت اوكرانيا, لانهم يعرفون ان روسيا تملك أكثر من 7000 رأس نووي وفق تقديرات مراكز ابحاث امريكية بالاضافة الى ترسانة عسكرية مرعبة كفيلة بإزالة العالم كله من الوجود (وليس فقط الولايات المتحدة وحلفائها), والقيادة الروسية لن تتردد في استعمال الاسلحة النووية اذا ما شعروا ان الولايات المتحدة التي تملك حوالي 6000 رأس نووي جادة في استعمال أي منها ضدهم حتى لو ادى ذلك الى تدمير العالم بأسره وقد صرح بذلك بدون مواربة الرئيس بوتين في حوار صحفي شهير في السابع من شهر مارس عام 2018 ردا على سؤال هل سترد روسيا باستعمال السلاح النووي اذا ما فكرت الولايات المتحدة باستعماله مع ان مثل هذا السيناريو قد يؤدي الى تدمير العالم, فقال بحسم "لا حاجة لهذا العالم بدون روسيا", شهدائنا سيذهبون الى الجنة وأما هم فلن يكون لديهم ولو مجرد لحظة واحدة للتفكير وستكون السماء اخر شي يرونه".
يعرف الرئيس بايدن جيداً انه سيكون في منتهى الخطورة "اللعب عسكرياً" مع روسيا التي صنفها "بعدونا الاول" منذ الاسبوع الاول له في البيت الابيض, ولكن جدلاً اذا حصل ذلك (رغم انه مستبعد وفقاً للمعطيات المتوفرة حتى كتابة هذا المقال) فان عليه ان يحسب حساباته بدقة, اذ سيكون عليه في الغالب مواجهة روسيا وحيداً, اذ من الصعب تخيل دخول دول اوروبا الغربية في صراع عسكري ضد روسيا الى جانب الولايات المتحدة لعدة اسباب منها ان أهم حلفائه الاوروبيين لا يمكنهم الاقدام على أي مغامرة من هذا النوع لتداعياتها العسكرية المدمرة على بلدانهم فضلاً عن امكانية توقف امدادات الطاقة الروسية (غاز ونفط) اللازمة لتشغيل كافة منشآتهم الاقتصادية والصناعية والطبية وإنارة وتدفئة بيوتهم وخصوصاً في هذا الشتاء الشديد البرودة.
هذا بالاضافة الى ان أهم اعضاء الناتو الاوربيين لا يثقون تماماً بالنوايا الامريكية, بالأمس القريب قلب الرئيس السابق ترامب لهم رأس المجن طالباً منهم رفع مساهماتهم في ميزانية الحلف وخصوصاً الدول الغنية مقابل حمايتهم عسكرياً واعتبر الحلف عبئاً ثقيلاً على بلاده كونها تدفع النسبة الاكبر من ميزانيته ولا يأبه حتى لو تفكك اذ ان بلاده ليست بحاجة اليه على حد قوله, واضاف ترامب "الدول الاكثر حاجة للحلف ليحميها امنياً وعسكرياً لا تدفع الا القليل واضاف ان الدول الاوروبية الثرية عليها ان تدفع للولايات المتحدة مقابل حمايتها على حد قوله.
اضف الى ذلك ان فرنسا تعرضت منذ عدة اشهر فقط لطعنة امريكية في الظهر وذلك عندما قامت استراليا بالغاء صفقة غواصات فرنسية قيمتها عشرات المليارات, لصالح صفقة غواصات امريكية بالتواطؤ مع البريطانيين, مما ترك اثرا كبيراً على الثقة بين فرنسا والولايات المتحدة كما قال حينها وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان.
هذا, علاوة على ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يولي اولوية قصوى للتحضير للانتخابات القادمة المقررة بعد حوالي شهرين حيث يواجه منافسين اقوياء ويشكلون خطراً حقيقياً على فرص بقائه في قصر الاليزيه, ومن جهته المستشار الالماني اولاف شولتز تسلم مهامه قبل حوالي شهرين ويحتاج مزيداً من الوقت للالمام بتفاصيل الملفات العالمية الساخنة بما فيها الملف الروسي الاوكراني.
بايدن يدرك ان الناتو تعرض لشرخ على يد ترامب, وهو يحاول ترميمه, وهناك مراقبون يرون ان بايدن يهدف من وراء كل هذا التصعيد السياسي والاعلامي الامريكي (ليس مواجهة روسيا) بل توحيد اعضاء الناتو من جديد باستعمال الفزاعة الروسية.
لماذا كل هذا الاهتمام العالمي بما يحصل على الحدود الاوكرانية الروسية:
1- لان أبرز اطرافها اقوى دول في العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي تمتلك اليه اعلامية جبارة سخرتها لبقاء هذه القضية تحت الاضواء على مدار الساعة ولان على الطرف الاخر روسيا وهي بدورها قوى عظمى يحسب لها الف حساب.
2- التداعيات الخطيرة التي يمكن ان تتركها هذه الازمة على الأمن الغذائي الدولي كون حوالي 30% من امدادات القمح العالمية تاتي من روسيا واوكرانيا وخصوصاً من بؤرة هذه الازمة (منطقة الدونباس الحدودية الخصبة) والتخوف من ان تتأثر صادرات القمح مما سيؤدي حتماً الى ارتفاع اسعار الغذاء حول العالم مع الاخذ بالاعتبار مما سيكون لذلك من تداعيات على الامن القومي لكثير من الدول وخصوصاً في منطقة الشرق التي تستورد حوالي 40% من صادرات القمح الاوكرانية والتي شهدت قبل حوالي 10 سنوات اندلاع احداث ما عرف بالربيع العربي اثر زيادة في الاسعار, علماً بأن بعض دول المنطقة من اكبر مستوردي القمح الروسي والاوكراني, فمثلا مصر تستورد منه حوالي 70% من حاجتها من القمح (50% من روسيا و20% من اوكرانيا), وتجدر ان اسعار القمح شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في بورصات القمح العالمية اثر التصعيد الحالي وصل في شهر يناير الماضي الى 7% في بورصة شيكاغو.
3- حال حصول السيناريو المرعب واندلاع حرب في اوكرانيا سيؤدي ذلك الى ازمة غذاء عالمية حيث سيتم بالطبع اغلاق أهم موانئ اوكرانيا (مينائي اوديسا وميكولايف على البحر السود ومينائي بيرديانسك وماريوبول على بحر آزوف) وبالفعل نشرت روسيا يوم الاربعاء التاسع من شهر فبراير الجاري في المياه الاقليمية في تلك المنطقة حوالي 140 سفينة حربية مما سيحد من تدفق القمح الاوكراني والروسي على السواء الى الاسواق العالمية مما سيؤدي الى ارتفاع حاد في الاسعار, مما يذكر بكابوس 2014 حين ارتفعت اسعار القمح عالمياً حوالي 75% عند استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في ذلك العام.
4- اضافة الى القمح, تصدر روسيا منتجات مهمة اخرى أبرزها النيكل وتصدر منه حوالي 50% من صادرات العالم, و40% من صادرات البلاديوم و26% من صادرات الالمونيوم و25% من صادرات الامونيا و17 من صادرات البوتاس و14% من صادرات اليوريا و13% من صادرات البلاتين و10% من صادرات الفوسفات و7% من صادرات الصلب, في حين تصدر اوكرانيا أكثر من 50% من صادرات زيت عباد الشمس بالاضافة الى 18% من صادرات الشعير و16% من صادرات الذرة, وهذه صادرات هامة جداً لمجالات الصناعة والزراعة (الاسمدة) ومن المؤكد ان امداداتها ستتأثر بالتطورات على حدود اوكرانيا مما سيؤدي الى ارتفاع اسعارها وبالتالي ارتفاع اسعار جميع المنتجات تقريباً.
5- روسيا أهم منتج للبترول والغاز عالمياً, ومنها تستورد اوروبا حوالي 40% من احتياجاتها من الغاز و25% من احتياجاتها من البترول, وفي حال انزلاق الاوضاع نحو المواجهة العسكرية ستتعرض هذه الصادرات للتوقف مما سيؤدي الى ارتفاع جنوني في الاسعار (وخصوصاً في حال فرض عقوبات غربية على روسيا) وتوقع خبراء كنديون ان يصل سعر برميل النفط الى حوالي 175 دولار وسعر الغاز الى حوالي 250 دولار لكل ميجاوات ساعة.
أخر الكلام:
القضية الفلسطينية لن تكون في منأى عن تطورات الازمة الاوكرانية, روسيا واوكرانيا صدرتا ملايين اليهود الى فلسطين وهؤلاء لهم حضور كبير في الحياة السياسية الاسرائيلية ولهم احزاب مهمة خاصة بهم تمثلهم, واليوم يعيش في كلا من روسيا واوكرانيا عشرات الالاف من الروس والاوكرانيين الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية, وفي حكم المؤكد ان هؤلاء سيهربوا الى فلسطين في حال تصاعد الازمة, وفي الوقت نفسه سيهاجر الى فلسطين يهود جدد من روسيا واوكرانيا الى فلسطين, أما الشعب الفلسطيني فلن يستفيد شيئاً كيفما انتهت هذه المواجهة.
الخاسر الاكبر من المواجهة العسكرية ان حصلت (رغم ان ذلك مستبعد), سيكون اوكرانيا الحاضر الغائب في هذه الازمة, والسبب ببساطة ان الكبار سيصفون حساباتهم على اراضيها وعلى حساب سيادتها واستقلالها وربما دماء ابنائها.
د. سمير الددا
[email protected]
التعليقات