أبو عمّار القائد.. الوجه الآخر

أبو عمّار القائد.. الوجه الآخر
منجد صالح
أبو عمّار القائد ... الوجه الآخر

بقلم السفير منجد صالح

تمُرّ علينا في كل عام، في ال 11 من تشرين ثاني (نوفمبر)، ذكرى إستشهاد أبي الوطنية الفلسطينية، أبو عمّار، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنّاته، وإنّا لله وإنا إليه راجعون.

أبو عمّار رجل إستثنائي بكل ما في الكلمة من معنى، حفر إسمة في مسيرة التاريخ والخلود الى جانب القادة والزعماء الكبار: جمال عبد الناصر وهوّاري بومدين وجميلة بوحيرد ونكروما وجوزبف بروز تيتو وغاندي وجواهر لال نهرو وإنديرا غاندي وأحمد سوكارنو وسوهارتو ونلسون مانديلا وبريجينيف وفيدل كاسترو روز وتشي غيفارا وهوشي منه والجنرال جياب وماو تسي تونغ وعمر توريّخوس وسلفادور ألّيندي وإيفو موراليس ولولا دا سيلفا وصلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد وخالد بن الوليد.

مسيرته النضالية ناصعة البياض ومعروفة، فقد نقل وحوّل الفلسطيني اللاجيء المشرّد في الخيام في الشتات، من وضعه وصفته المأساوية، الى مناضل من أجل الحرية، من أجل تحرير فلسطين من البحر الى النهر، فتمنّطق رجال الفتح بسلاح الفدائيين في الوغى والوقائع. وأطلق الرصاصة الأولى في الفاتح من يناير (كانون ثاني عام 1965)، إمتدادا لعملية البراق عام 1930،عملية الأبطال الثلاثة عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، إمتدادا لثورة ال36 والثورة والكفاح منذ مطلع القرن الماضي، كفاح الشيخ عزالدين القسام وعبد القادر الحسيني.

وفي مسيرة وسيرة أبي عمّار القائد نستطيع أن نكتب مجلّدات في كفاحه ونضاله العسكري والسياسي، ويُمكننا أن نقول حكايات وروايات عن بطولته وقيادته للنضال الفلسطيني على مدى عقود، لكن ما أودّ أن أورده في هذه الفسحة هي بعض المواقف الإنسانية والطريفة للراحل الشهيد أبي عمّار.

# لم يكن قد مضى على وصولي إلى تونس قرابة الثلاث شهور، عام 1988، للعمل إلتزاما مع منظمة التحرير في أحد المكاتب التابعة للقائد العام. وعام 1988 هو العام الذي إغتيل فيه الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، في 16 نيسان، على أيدي رجال الموساد الإسرائيلي في ضاحية سيدي بوسعيد في العاصمة التونسية.

جاءني الى المكتب الذي أعمل به أحد قادة حركة فتح والمنظمة، يبحث عنّي، يُريدني في عمل عاجل، وقال لي:

-        "إركب في السيّارة".

فركبت. وتوجّهت بنا السيارة مباشرة إلى مطار تونس قرطاج الدولي. وفي الطريق أسّر لي وأفهمني أن ضيفا كبيرا وعزيزا قادما من البيرو لزيارة أبي عمّار. على بركة الله وأهلا وسهلا بالضيف.

وكان هذا الضيف هو السيّد برّانتيس، زعيم جبهة اليسار المتّحد البيروفي آنذاك، المناصر والمُؤيّد للقضية الفلسطينية، والذي سبق أن تعرّفت عليه في العاصمة البيروفية "ليما" قبل عام أثناء إنعقاد مؤتمر للجاليات الفلسطينية في الأمريكتين، في ليما عام 1987.

السيد برّانتيس شخصية يسارية ثورية مثقّف، قصير القامة، ذو ملامح هندية حمراء.

بجانب سلم الطائرة على أرض المطار إستقبلناه. كان المسؤول يقف أولا وأنا أقف الثاني في صف المستقبلين. وعندما نزل الضيف وبحكم معرفته لي، إندفع نحوي يسلّم علي أوّلا ويعانقني، فأشرت له بيدي بلطف وأفهمته أن فلان هو المسؤول على رأس وفد المستقبلين.

أوصلناه إلى الفندق وكان له لقاء مُرتّب في اليوم التالي مساء مع أبي عمّار في مقر مكتب منظمة التحرير (السفارة)، الواقعة في شارع د. إرنست كونسي في العاصمة التونسية.

وصلنا الى مقر مكتب المنظمة وصعدنا الى الطابق الأول حيث مكتب السفير الذي يتواجد فيه أبو عمّار وعدد من القادة. المكتب طويل بشكل مستطيل في طرفه الباب وفي عمقه المكتب، الطاولة الكبيرة والكراسي.

دخلنا، الضيف وأنا، وكان أبو عمّار يجلس في صدر المكتب. وما أن دخلنا خطوتين داخل المكتب، وكان الضيف يحمل في يده هديّة لأبي عمّار عبارة عن "عصا القيادة لزعيم الهنود الحمر في البيرو"، وكانت ملفوفة بإحكام بالورق المقوّى واللاصق، وتبدو "الكعبورة" الملفوفة كالطابة في رأس العصا.

ما أن رأى مرافقوا أبي عمّار منظر العصا حتى "هجموا" على الضيف وعلي وعلى العصا. "ربما منظر العصا الملفوفة شكّل ريبة أمنية للمرافقين".

فإستدرك أبو عمّار الموقف على الفور وقال للمرافقين" "سيبوهم". وتقدّم نحو الضيف يعانقه، الذي بادر بمناولته العصا، عصا القيادة لزعيم الهنود الحمر يُسلّمها لأبي عمّار تيمّنا بقيادته وإعترافا بزعامته.

أخذ أبو عمّار بيديه ينزع اللاصق والورق المقوّى عن العصا. وساعدناه في ذلك فالّلفة كانت محكمة كي تتحمّل وتقاوم السفر بالطائرة من العالم الجديد إلى العالم القديم.

وبدأ الضيف يشرح لأبي عمّار، بالإسبانية، عن العصا وأهميّتها ورمزيّتها. وبدأت أنا أترّجم إلى العربية لأبي عمّار.

كانت رهبة الموقف تتملّكني، وكنت أترجم بصوت مسموع "ربما"، لكنني من هول الموقف في حضور ابي عمّار، للمرة الأولى مباشرة على بُعد متر، لم يكن بالأمر الهيّن ولا السهل، فلم أكن أسمع صوتي، أسمع ترجمتي.

رفعت نظري مباشرة إلى أبي عمّار "كي أستطلع أمري وأمر ترجمتي"، فوجدته مبتسما إبتسامة عريضة ويومىء براسه إستحسانا، فقلت في سرّي الحمد لله، الأمور تسير على ما يُرام، .. وبدأت أسمع صوتي.

# بعد شهرين تقريبا زارنا في تونس وزير خارجية إسبانيا حينذاك فرانسيسكو فرنانديز أوردونيّز، وزير خارجية مبدع ولطيف للغاية ومُحب للشعب الفلسطيني. إجتمع مع أبي عمّار في مكتب المنظمة. وكان اللقاء لطيفا وحميما وكان يتعامل مع أبي عمّار بمنتهى الإحترام والقيافة. وكنت أنا أترجم اللقاء عربي إسباني. وكان الوزير من وقت لآخر يعود ويُعيد ويسأل أبا عمّار: "ماذا يمكننا أن نقدّم للقضية الفلسطينية؟". كان متعاطفا جدا. أبو عمّار كان مبتهجا وحنونا مع الضيف. وأصّر على وداعه حتى سيارته في الشارع أمام مكتب السفارة. وعندما عُدنا للمكتب وقد حضر اللقاء عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية، توجه أبو عمار نحوي سائلا:"منجد، كيف كان اللقاء مع الوزير؟" فاجيته: رائع يا أخ أبا عمّار". فإحتجّ أحد الحاضرين من القيادة وقال لأبي عمّار:"لماذا تسأل منجد ولا تسألنا؟" ولسان حاله يقول أن منجد هو أصغرنا. لكن أبا عمّار بعقلية القائد الفذ الذي يحترم ويقدّر كوادره قال له بالحرف الواحد: "لا تغلط، ف منجد أكثر واحد قادر على تقييم اللقاء لأنه يتقن اللغتين ويفهم الثقافتين والحضارتين".

# عام 1989، زار وفد من "حركة بوليفيا الحرّة"، برئاسة زعيمها أنطونيو أرانيبار كيروغا، ونائبه أوسكار من أصل لبناني، مقر منظمة التحرير في تونس وإلتقى بأبي عمّار. كان اللقاء في البيت الكبير، مقر بيت السفير، في ضاحية قرطاج - قمرت على شاطيء البحر. جدير بالذكر ان هذا البيت كان مقر الحاكم العام العسكري الفرنسي أيّام الإنتداب الفرنسي لتونس، أهدته الحكومة التونسية لمنظمة التحرير في بادرة كرم عربي أصيل من حكومة وشعب تونس.

جلس أبو عمار في الصالون الدائري الفسيح والى جانبه الضيف البوليفي، وأنا الى جانبه. وبدأ الضيف يشرح لأبي عمّار عن أحوال الشعب البوليفي وثوراته. كان أبو عمّار خلال ذلك يتناول من "جاط" فواكه أمامه حبة كلامنتينا، يُقشّرها باصابعه ويأخذ منها سنّا واحدا فقط ويقسمها نصفين، نصف يُناوله للضيف والنصف الثاني يُناوله لي. والضيف مستمر في الشرح حول حركته وأن معظم المنتسبين والمُؤيّدين لها من الفلاحين والعمّال، وأنّ الفلاحين البوليفيين يعتاشون على زراعة نبتة الكوكا (التي يصنّع منها الكوكائين).  

توقّف أبو عمار فجأة عن تقشير وتوزيع الكلامنتينا علينا حين ذكر الضيف نبتة الكوكا، وأخذ يتملّمل في جلسته، وبدت على وجهه ملامح الإستغراب والإنزعاج.

لمعت في ذهني فكرة قلتها مباشرة ودون تردد وشرحتها لأبي عمار بأن نبة الكوكا تشبه العنب، فإذا أكلنا العنب طازجا فهو فاكهة مفيدة وإذا صنّعناه إلى نبيذ اصبح خمرا مُسكرا. كذلك نبتة الكوكا، فمنذ سنوات يستخدمها الهنود الحمر بغلي أوراقها كالميرمية او البابونج، فهي منعشة وصحّية وتُكافح تأثير أعراض الإرتفاعات الشاهقة، كإرتفاع لاباز عاصمة بوليفيا. أما إذا ما صنّعناها فتتحوّل الى كوكائين مخدّر.

إنفرجت أسارير أبي عمار وعادت بسمته العريضة تزيّين وجهه وشدّ على يدي وقال لي: "ريّحتني الله يريّحك". وإستمر في تقشير الكلامنتينا بيدية وأخذ سن واحد منها ومنحنا النصفين.

رحمك الله يا أبا عمّار رحمة واسعة وأسكنك فسيح جنّاته، عاش عظيما ومات عظيما، فلم يحدث قبله في التاريخ وربما لن تتكرر ثانية بعده أن يُقام لزعيم ثلاث جنازات رسمية في ثلاث قارات على وجه هذه المعمورة، إلا لأبي عمّار.

فقد كانت الجنازة الأولى الرسمية في باريس، في فرنسا، في أوروبا. والجنازة الثانية الرسمية في القاهرة، في مصر، في أفريقيا. والجنازة الثالثة الكبرى الرسمية والشعبية في رام الله، في فلسطسن، في آسيا.

كاتب ودبلوماسي فلسطيني     

   

 

 

التعليقات